الأخبار
إعلام إسرائيلي: إسرائيل تستعد لاجتياح رفح "قريباً جداً" وبتنسيق مع واشنطنأبو عبيدة: الاحتلال عالق في غزة ويحاول إيهام العالم بأنه قضى على فصائل المقاومةبعد جنازة السعدني.. نائب مصري يتقدم بتعديل تشريعي لتنظيم تصوير الجنازاتبايدن يعلن استثمار سبعة مليارات دولار في الطاقة الشمسيةوفاة العلامة اليمني الشيخ عبد المجيد الزنداني في تركيامنح الخليجيين تأشيرات شنغن لـ 5 أعوام عند التقديم للمرة الأولىتقرير: إسرائيل تفشل عسكرياً بغزة وتتجه نحو طريق مسدودالخارجية الأمريكية: لا سبيل للقيام بعملية برفح لا تضر بالمدنييننيويورك تايمز: إسرائيل أخفقت وكتائب حماس تحت الأرض وفوقهاحماس تدين تصريحات بلينكن وترفض تحميلها مسؤولية تعطيل الاتفاقمصر تطالب بتحقيق دولي بالمجازر والمقابر الجماعية في قطاع غزةالمراجعة المستقلة للأونروا تخلص إلى أن الوكالة تتبع نهجا حياديا قويامسؤول أممي يدعو للتحقيق باكتشاف مقبرة جماعية في مجمع ناصر الطبي بخانيونسإطلاق مجموعة تنسيق قطاع الإعلام الفلسطينياتفاق على تشكيل هيئة تأسيسية لجمعية الناشرين الفلسطينيين
2024/4/26
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

فؤاد قنديل عصر واوا 5 بقلم: حسين سرمك حسن

تاريخ النشر : 2014-11-19
فؤاد قنديل عصر واوا 5  بقلم: حسين سرمك حسن
رواية "عصر واوا" للروائي "فؤاد قنديل" :
       إستشراف الهدير .. في ميدان التحرير (5)
-----------------------------------------------
 
              د. حسين سرمك حسن
                بغداد المحروسة
                21/9/2014
 (9)
الآن ، يُلقى شريف معصوب العينين في حضرة "الباشا" اللواء السابق في الجيش وتاجر المخدّرات الحالي . تتبع ذلك الكثير من المشاهد المُصمّمة "سينمائياً" يبدو أن ثقافة فؤاد قنديل السينمائية الوافرة قد ألحّت عليه بها ، وأسعفته بمادّتها . نحن كقرّاء عرب "سمّمت" السينما المصريّة ، ولعقود طويلة جداً ، عقولنا بمثل هذه المشاهد المكرّرة التي صارت ممجوجة حيث ترمي المصادفة إنساناً بريئاً في درب "الباشا" أو "القرش" فيفسد إحدى صفقاته .. ويبدأ الصراع المُكرّر والمُمل .
والكيفية التي رمى بها القدر شريف في درب الباشا ، وجعله يُفسد صفقة عمره بالهيروين الذي تحوّل إليه من الحشيش ووضع فيها كل ما يملكه ، هي مصادفة عجيبة . فالوحش الذي اغتصب "سلوى" هو شخص اسمه "واوا" .. هذا الشخص كان مُكلّفاً بنقل شحنة الهيروين لتسليمها إلى الباشا . لكنه قام بتصرّف أربك العملية كلّها ، وقلب مساراتها ، ودمّر حياة الباشا ، وذلك حين قام بفعله الدنيء واغتصب "سلوى" ، ووقوعه في قبضة العدالة . ولكي تعود العمليّة إلى مسارها المرسوم ، ويطمئن الباشا على أمواله التي استثمرها في الصفقة ( 10 ملايين دولار) ، صار لزاماً إجبار شريف على التنازل عن الدعوى التي رفعها ضد "واوا" لكي يُطلق سراح هذا الأخير ويوصل المخدّرات إلى الباشا .
وها أنتَ ترى – سيّدي القارىء – أنّه سيناريو ارتحل بثيمة الرواية بعيداً عن دوائرها الرائعة والخطيرة التأثير التي رسمها فؤاد قنديل بمهارة .. دوائر الفساد السياسي والإنحطاط الإجتماعي والفوضى السلوكية ، وخصوصاً الكيفية الفذّة التي أوصلنا بها فؤاد – من خلال محنة شريف طبعاً – إلى القناعة بأن الإنسان – وحسب الوصف الأرسطي الموفّق – هو "حيوان سياسي" وليس حيواناً ناطقاُ أو اجتماعياً حسب بالرغم من أهمّية تلك التعريفات . الدرس الأعظم هو أن الإنسان في هذه البلاد يصبح سياسيّاً "بالضرورة" .. وكلّما ابتعد عن السياسة مُطمئناً ذاته بحسن الظن بالأيام ، وتمسّك بأهداب التفاؤل ، وسار وفق قواعد "المنطق" كما فعل شريف ، ليُبعد نفسه عن السياسة ، فإن غولة السياسة التي يتفنّن في غلق الأبواب في وجهها ، ستدخل عليه من الشبابيك ، ليس بعد أن تطرقها أو تفتحها بهدوء خبيث ، بل بتحطيمها وتهشيم كل ما يقف في طريقها ، مشعلة النيران في قلوب سكان البيت قبل أثاثه ، ومخرّبة مجريات حياتهم ، وسالبة وجودهم .
وبالنسبة لكارثة شريف "الإنسان الغير مزعج" كما وصفه نقيب الشرطة "سليمان الملط" بمعنى أن لا شأن له في السياسة ، ولهذا لا يسبّب إزعاجاً للدولة ، هي نتاج وضع سياسي فاسد ومُختل . فالنظام السياسي الطغياني الذي يحتقر الإنسان ويمسخ إنسانيته هو الذي ينجب مثل هذه الوحوش البشرية أمثال "واوا" . والنظام السياسي القائم على الكذب والتزوير والإستغلال هو الذي يطوّح بأخلاقيات البشر ومواضعاتهم الإنسانية التي جبلهم عليها الله ويسحقها ليضع بدلا منها أخلاقيات جديدة قائمة على احتقار الإنسان واستغلاله وهدر كرامته بلا رحمة . وحتى بعد أن أفلح النقيب "سليمان" – وبنخوة عجيبة أدهشت شريف – في القبض على هذا الوحش ، تبرّع حماة العدالة لتزوير العدالة وتخليصه بشتى الأدلّة المزوّرة ، ليحيلوا قضيّة تحطيم وجود سلوى المسكينة إلى "رغي" قضائي وثرثرة جلسات تدوم شهورا وسنوات بلا طائل . وهذا نتاج تزوير النظام السياسي لإرادة القضاء واستخفافه بها في بلد صارت فيه أعداد الجرائم تفوق عدد السكان في البلاد .
صارت الجريمة أنموذجاً سلوكيّاً يُقتدى للعيش والرفاه .. كانت في السابق مصدر عار ، وصارت الآن مصدر فخار .. يرفل مقترفها بالأبّهة والعز ويلعب بالأموال .. والسبب الأكبر سياسي ، وهو أن المُجرم الأكبر – أبو المجرمين ورأس "الواوات" - والأشدّ خطورة منهم كلّهم موجود " هناك " .. نعم " هناك " فوق .. فوق .. فوق الجميع . مُحصّن ومحمي ومرفوع على الأكتاف والهامات .. إحدى الدول العربية التي عصف بها إعصار الربيع / الخريف الدموي العربي ، كانت مدينة بما يقارب 30 مليار دولار ، وظهر بعد سقوط رئيسها أن ثروته 70 ملياراً من الدولارات .. الأمّة مقيّدة .. والشعب جائع .. وهو لا يصرف دولاراً لمساعدة هؤلاء الجياع وإنقاذهم وإنقاذ عوائلهم من السقوط والتشرّد .. شوّهوا معنى القيادة كتضحية ، ومعنى المسؤولية كأمانة .. شوّهوا كلّ ما قاله الله عن ولي الأمر .. وكل ما أوصى به محمد والمسيح عن الأخوة والإنسانية .. يُحذّر منهم لأن نعمهم وافرة .. " وما رأيتُ نعمة وافرة إلّا وكان بجانبها حقّ مُضيّع " كما يقول علي بن ابي طالب .. ضربوا للناس أبشع قدوة في الكيفية التي يقوم بها المسؤول الذي يسلمه الوطن دفة قيادته ومركب ثرواته في تدمير هذا الوطن وسلب ثرواته واحتقار مواطنه المسكين (أو الأحمق) الذي أودعهم ثقته .
فما هي نسبة الباشا المجرم الذي يطارد شريف إلى هؤلاء المجرمين الرؤساء والملوك الخنازير ؟!
وما معنى أن يغتصب "واوا" سلوى المسكينة ، والحاكم ينيك الأمّة الأم ويغتصبها علناً أمام أعين أبنائها كلّ لحظة ؟!
لقد اغتصب واوا سلوى في طريق مظلم وولّى هارباً .. في حين أن الحاكم يغتصب أمّنا كل لحظة في الساحات العامة وأمام أنظارنا !!
هذا هو الدرس الأعظم من " عصر واوا " ، وأعتقد أن هذا السعي المخلص هو الذي لمسته في أغلب أعمال فؤاد قنديل القصصية والروائية . وقد أفلح في هذا العمل الروائي أن يوسّع الإيحاءات المباشرة والدلالات الرمزية لهذا الصراع بصورة مؤثّرة تهزّ الأعماق . فشريف يقف الآن أمام "الباشا" ؛ اولأخير لواء شرطة سابق من رموز السلطة العسكرية القمعية التي تتقاعد لا لتريح وتستريح ، ولكن لتوظّف كل المهارات والخِبَر التي اكتنزتها في وظيفتها الرسمية لقيادة وإنجاح ما كانت تحاربه والغتجار به ، وهو أخطر المخاطر على عقول الشعب – خصوصاً شبابه – وشخصيّته من خلال تهديم وجوده بالمخدرات التي يعدّ الكيان الصهيوني اللقيط من أكبر المروّجين لها . والباشا يرشي وكيل الوزارة ، وهذا يرشي الوزير .. سلسلة من السفلة العاهرين .. وتصوّر أن الرشوة كانت قروشاً وجنيهات ، فصارت – هلى يد الباشا وفي ظلّ الديمقراطية – وهي ديمقراطية الخنازير الأمريكان الفعليّة الذين تقاسموا جسد العراق كالضباع المسعورة – صارت عمارات وعِزّباً وفيللاً وجنينات !!
وأمام هذا الباشا المجرم المستهتر بكل قيمة ، يقف إنسان صغير حيث يضع الله قدرته في أضعف خلقه .. إنسان بسيط يسير في "الحائط" وتحت الرصيف .. هو شريف .. استاذ التاريخ .. يا لروعتك يا فؤاد قنديل حبيبي .. جعل التاريخ كلّه وهو أوراق ومحابر وذكريات يقف أمام الباشا رمز الفساد والطغيان المحصّن بالحرّاس الوحوش .. في البداية وقد ألقي شريف على السلم الحجري معصوب العينين ومقيّد اليدين ، كان صاحبنا يوهم نفسه :
(تخلّص من غضبه الذي كان عليه حتى قبل دقيقة ، ومعاملتهم له كأنه مجرم مع أنهم لا شكّ يعرفون أنّه استاذ ... لا ... هم لا يعرفون ، وإلّأ ما كانوا قد أحضروني هنا .. الأمر به لبس واضح لأن مثل هؤلاء الرجال يكونون في العادة – كي يُحسنوا الخدمة – بهائم ) (ص 78) .
ولم يقم فؤاد بعرض شريف كبطل خارق ، بل جعل مقاومته وموقفه الرافض ينموان بصورة طبيعية مثلما يحصل الأمر لدى أيّ إنسان عادي بيننا : يجبن ويضعف وينخذل ، ثم يصرخ ويزعق وينسعر في وجه السلطة مهما كانت قدرتها الباطشة ، ليعود ينكسر ، تمهيداً لموجة رفض جديدة . كان شريف مُحاطاً بمجموعة من البهائم البشرية التي مسك الباشا بأعنّة قلوبها لا وجودها فصارت لعبة بيده .. طلب منه الباشا أن يقوم بسحب البلاغ الذي قدّمه ضد واوا ، ولم يكن شريف يفهم عن أي بلاغ وأيّ واوا يتكلّم الباشا ، فاعتقد الباشا بأن شريف يلعب معه ويناور ، وبدأ بشتمه ووصفه بالصرصار والحشرة . وحين أخبره الباشا بأنه يقصد بلاغه ضد "أنور القرش" صعق وانذهل وعرف من هو المقصود ، وأن المطلوب التنازل عن الدعوى ضدّ من اغتصب زوجته الحبيبة :
(دارت الدنيا بالفتى الوحيد ، إذ تذكّر مقوّض أحلامه .. مصدر تعاسته الأوحد .. كان يتمنى أن يموت هذا المجرم كيّاً بالنار ، على أن تعود إليه الحياة ، ثم يُدخل في مؤخرته خازوق لا يخرج إلّا من رأسه ليموت اياماً ، وبعدها يموت تمزيقا بقطع الزجاج .. ثم بالكهرباء .. ثم بالزفت المغلي ) (ص 79)
هكذا كان يتخيّل ميتات لا نهائية لمغتصب زوجته ، وإذا بالباشا يطلب منه التنازل عن البلاغ ضده وإطلاق سراحه من أجل صفقة العشرة مليون دولار .
أعلن شريف للباشا بأنه يرفض سحب البلاغ .. فابتدأت رحلة التعذيب .. لكن شريف اصرّ على أن يعرف السبب أوّلا .. وهي حركة التفافية جريئة منه .. اضطر الباشا لإخباره .. رفض شريف من جديد فعادت دوّامة التعذيب .. كانوا يغطّونه ببرميل خمر ممزوج بسوائل استحمام الباشا .. وبين نفس طالع ونفس هابط كان شريف يهزّ رأسه رافضاً .. كان الباشا يكشّر عن أنيابه محتقن الوجه ، وكان الرجال القساة يشفقون على هذا الولد العنيد من سوء ما سيلقاه . تجتاح شريف – والروائي يعبّر عن تحوّلات نفس إنسان أمام الرعب وليس سوبرماناً – مشاعر بالضآلة الحقيقية والخوف . أدرك وهو السادر سابقا في مراهنته على طيبة البشر ، أن الإنسان يمكن أن يتحوّل إلى وحش في ايّ لحظة .. أدرك أنّ عليه أن لا يقيم تقييماته للبشر على أساس مجموعة المدرّسين والطلبة والناس البسطاء الذين يسيرون في الشوارع . لقد تبيّن جهله التام حتى برسالة الإنسان على الأرض ، فإلى جانب رسالته المقدّسة الشهيرة التي يدرّسونها للتلاميذ في المدارس ، هناك رسالة أخرى ينهض بها العتاة أمثال سعادة الباشا (ص 84) .
إن جولة التعذيب والمهانة والإذلال هذه حملت في طيّاتها عمليّة " غسيل دماغ " حقيقية لمعتقدات شريف ومبادئه السابقة القائمة على الأحكام النظريّة بسلامة النيّة ؛ صار يشعر بأن رسالة التخويف والقهر والسيطرة ضرورية حتى يتم تحقيق التوازن المطلوب بين الخير والشر ، ويبدو أن غلبة الخير بالصورة التي كان يتخيّلها سوف تكون نهاية سينمائية بلا معنى . لقد انقلبت ثوابته الفلسفية التي عجز شمعة والآخرون عن زحزحتها جذريّاً ، وقفزت أفكاره إلى مناطق أخرى بدأ معها يجد معنى للعبارات التي كان يسمع عنها مثل السمك الكبير والقطط السمان ورجال الدولة وحماة النظام .. لم يعد الجيش والمخابرات حماة النظام .. الحيتان والغيلان وأمثالهم هم الحماة الحقيقيون (ص 84) ..
لقد "تطهّر" شريف .. نعم .. لم يعد شريف ذاك الكائن المسحور بالتوازنات الدقيقة التي رسمتها الإرادة الإلهية ، وعجائب الخلق المدهشة التي تذهله وهو يلاحق حركات البط والأرانب والحمام على السطح .. أدرك أن اللاتوازن والتجبّر والقسوة هي نواميس الحياة المحيطة به والتي لم يكن يرى روحها السوداء ، وأن القوّة ، لا " المنطق " ، هي التي تسيّر هذه النواميس .. وأخيراً :
(... وأخيراً .. وبعد رحلة الأفكار المدهشة والإكتشافات المرعبة التي دامت نصف دقيقة ... لا يعرف أحد ، ولا شريف نفسه كيف قال بثقة شيطانية وغير شرعية :
-    إذا كنتَ أنتَ لواء ........ فأنا أستاذ ) (ص 84) .
وبهذا الموقف التاريخي من أستاذ تاريخ ، تكون كل سبل التراجع قد أغلقت .. ولا خطوة واحدة إلى الوراء .. قوّة مجهولة كانت تحرّك أستاذ التاريخ الضئيل هذا ليقول للباشا وبحدّة :
-    أنتَ لا تملك أي شيء !!
والقوّة المجهولة هذه – كما صمّم فؤاد قنديل ذلك – هي قوّة التاريخ . نعم .. قوة التاريخ .. في أيّ لحظة يؤمن فيها الإنسان – أي إنسان ، ومهما كان – بأنه " أستاذ تاريخ " فإنه سوف يتحوّل إلى قوّة تاريخية . أتذكر أن الكلب هنري كيسنجر كان يطلب من الوفد المصري المفاوض في عام 1973 أن لا يحدّثه عن مصر القوة التاريخية ذات التأثير المعنوي لأن هذه مفاهيم لا يمكن "حسابها" ، بل عن مصر القدرات والإمكانات الواقعية المحسوبة ، لأنه يعلم أن مصر الإمكانات المحسوبة محصورة ومدمّرة ، بينما مصر التاريخ قوّة عظمى .. وكلّنا – وهذا درس مُضاف هائل الأبعاد والمرامي من فؤاد – نتحوّل بالتاريخ إلى قوى عظمى مثل أولئك الشباب الذين غيّروا وجه التاريخ في ميدان التحرير مثلاً . ولهذا تخطط أنظمة القهر والفساد دائماً لجعل الإنسان يفكّر بوجوده ضمن دائرته المادية المباشرة التي ستضيق لتصبح دائرة حيوانية .. إنّها تبذل المستحيل كي لا يرفع رأسه ليرى آماد التاريخ في الخارج على أرض البلاد ، ولا ينظر عميقاً في ذاته ليتعرّف على اللقى التي أودعها التاريخ في سمائها التي أظلمت بفعل المهانة وضغط ضرورات البقاء . نعم ، " القوّة المجهولة " هي التي جعلت هذا الإنسان النحيف الذي كانت زوجته سلوى تحسب أضلاعه حين تفرك ظهره في الحمّام ، والذي انرعب من فكرة أن يتصوّر نفسه سجيناً سياسياً مثل شمعة هو الذي كاد يُجنّ لأنه في أثناء عمليّة الزائدة قضى ليلة بكاملها ممدّداً على ظهره ومستيقظاً حتى الصباح وحيداً ، إلى أن جاءت زوجته ظهر اليوم التالي (ص 56) ، يصرخ في وجه الباشا :
- أنت لا تملك اي شيء ..
لقد كسر شريف حاجز الخوف بعد أن وقف أمام غولة القهر وجهاً لوجه ، وعرف ما الذي تبغيه منه ، وما الذي ستفعله به إن هو تراجع أو بقى على قناعاته المغيّبة السابقة . لم يعد – بعدُ - مثل أولئك الذين يدخلون المغارة المرعبة في إحدى الحكايات الخرافية ويخرجون وقد فقدوا القدرة على النطق . لقد قام الغيلان بأقصى وأقسى ما في جعبتهم .. لقد اغتصبوا زوجته .. ودمّروا حياته إلى الأبد .. فما معنى أن يهدّده الباشا بأن 26 من رجاله القساة سوف يغتصبونه ، فيضمنون تخصيبه لينجب بعد تسعة أيام لا تسعة شهور ؟! .. فعلاً تهديد سخيف بالنسبة لشخص هو أستاذ في التاريخ ينظر من فوق كتف الباشا السافل أو رأسه ليرى ذاته وهو يحدّث تلاميذه عن عرابي :
(أخطر شيء يا إخوتي إرضاء شخص أو اشخاص على حساب المبادىء ، ولو تأمّلنا حركة التاريخ سنلاحظ إن الذي يحرّكها ويحتل أنصع الصفحات فيها هم من دافعوا عن المبادىء ، لأنها الكرامة . ولو دقّقنا النظر في كل الأحداث التي يسجّلها التاريخ لن نجده يقيم وزناً إلّا لكل حركة كانت تسعى لتحقيق الكرامة ، مثلاً أحمد عرابي ... دوره النضالي محدود ومع ذلك فقولته " لا " الشهيرة في وجه الخديوي توفيق جعلت التاريخ يحتفي به ... لابدّ من " لا " عالية واضحة وغير مُخنّثة أو تقبل المساومة ... عبد الناصر قال " لا " مدوّية للتخلف وللرجعية والإستعمار والفقر .. " لا " للجهل وللتمزّق ) (ص 86) .
لقد دمّر الأشرار وجود شريف .. واجتثّوا وجود زوجته الحبيبة سلوى .. ومزّقوا حياتهما العائلية شرّ ممزّق .
وفي النهاية التي رسمها فؤاد لسلوى دروس وعبر وعمل رمزي بليغ ، فقد جُنّت سلوى وصُعِقت يوم أحست بتأخر مجيء دورتها الشهريّة . ولاحظ كيف نقل لنا الروائي هذه المعلومة . لقد أوصلها إلينا عبر حركة هادئة جميلة اسهمت في إنزال قارعة الصحوة . استخدم فؤاد مشهدا مألوفاً وأليفاً من الحياة اليومية ليضعنا في مقابلة مع احتدام خرابي عصف بوجود سلوى :
(كانت تصنع لها فنجاناً من القهوة .. سمعت طفلاً لا يستطيع التحكّم في فيض ضحكاته .. تحوّلت إلى نافذة المطبخ ، وكانت عليها ستائر رقيقة ترقص وتعانق نفسها بمداعبة الهواء) (ص 106)
وكأنّ فؤاد قنديل ، الحكيم ، يريد أن يذكّرنا كل لحظة بما قدّرته الآلهة علينا من أن نحيا تحت وطأة هذا الصراع المزمن الذي لا يكلّ هدير رحاه بين الموت والحياة .. الحياة ممثلة بضحكات هذا الطفل – الذي لم تنضج قواه العقلية بعدُ ليمسك بزمام انفعالاته فتراه لا يستطيع السيطرة على ضحكاته مثلنا . وحتى حركة الستائر وطبيعة مادّتها جعلها خدرة منشغلة بذاتها مثل هذا الكائن الذي لم يشعر بوخزات الفناء حتى الآن فانطلق يضحك في وجه الحياة بلا حساب . وسلوى المثكولة المُهدّمة الروح والمكسورة القلب تقف الآن تطل من النافذة على المشهد وكأنها تنحني بأسى على مشهد حياتها الصغير الغائب والمعطّل : الإنجاب وضحكات الطفل المُنتظر الذي حُرمَتْ منه :
(من وراء الستار أطلّت سلوى .. رأت أمّاً تلاعب وليدها في الشرفة ، تكاد تُجنّ به ، ولا أحد في الدنيا غيرهما)
وجنون الأمّ المجهولة ، الظاهر ، بطفلها ، وانشغافها به حدّ نسيان العالم المُحيط بها بأكمله ، هو شكل موازٍ لجنون مكتوم في أعمق أعماق سلوى بالطفولة المفقودة التي انتظرتها طويلاً .. وهو ، أيضاً ، مقلوب حالة جنون ستجتاح سلوى بعد قليل رفضاً لطفولة ستُفرض عليها قسراً لتكون وصمة عار سبّبها الأنذال ممثلين بواوا الوحش الذي اغتصبها والذي – كما تعتقد – قد علقت منه نُطفة دنيئة برحمها البكر الطاهر :
(حملت الأمّ وليدها ودخلت ، وضعتْ كوب القهوة الفارغ واستدارت عائدة إلى الشقّة لتُفاجأ بذاكرتها ترفع أمامها علم الطمث الأحمر ... الطمث ؟! .. يا نهار أسود) (ص 106) .
لقد أمضت سنوات طويلات وهي تنتظر مثل هذه البشارة ؛ أن ينقطع طمثها الشهري علامة على بدء بوادر الحمل العزيز .. بشارة نذرت عمرها كلّه لها .. لكنها الآن - وبعد فاجعة اغتصابها - لم تعد بشارة .. إنّها نذير شؤم .. وزلزال مرعب .. كان غيابه لو حدث قبل شهر .. شهر واحد فقط يعني أروع حدث في العالم .. لكنه الآن – وبعد شهر من الحادث المشؤوم – يعني كارثة الكوارث . وليس غير الله تعاتبه هو القادر المقتدر على كلّ شيء فكيف يسمح بهذه المفارقة التي لا يزنها عقل ولا منطق :
(هل هذه إرادتك يا ربّ ؟ .. إرادتكَ أن يمرّ على زواجي أكثر من سبع سنين فلا أحمل من زوجي الذي أحبّه ، ولا أتمنى رجلاً في الدنيا سواه .. وأحملُ من هذا الجلِف القذر .. لا أظنّك ترضى بهذا يا ربّ ؟ ) ( ص 106) .
خوف .. ورعب .. وتمزّق .. ويأس وألم .. والإرادة العليا تتفرّج عليها من علّيين ، ولكنها لا تنفض يديها من تراب الأمل . فقد تربّت على سلسلة من المعجزات الكبرى التي يجترها الجميع ، ولا تنتظر سوى "مُعجزة" صغيرة جدا .. بالعكس هي ليست معجزة بل إجراء بسيط يفكّ عقدتها الخانقة . قد تحدث المفاجأة الإلهية وتكتشف أنها الآن نائمة ، وأن كل ما أرعبها وجثم على روحها هو أضغاث أحلام وكوابيس . لكن لا أحلام ولا كوابيس .. وصخرة الواقع المُسننة تضرب جبينها كل لحظة لتثبت لها أن طمثها قد انقطع وأن كارثة أخرى أكبر ممثلة بحملها من الواوا المجرم ستنتصب على رأس جبل الكارثة السابقة الممثلة باغتصابه لها .. وتقف أمّها أمامها الآن لتؤكّد لها أن دورة النساء يمكن أن تتأخر ، وهو أمر معروف علميّاً وتؤكّده التجربة . ولكن الأم كانت تعرف أنها تكذب وابنتها تعرف أن أمّها تكذب ، وأنّهما ما تخدعان إلّا نفسيهما لتعطيل هبوط الطعنة المميتة .. كانت أمّها  - وبالعادة ووفق محدّدات تربيتها المعروفة – ترى أنّ الله موجود وهو قادر على حلّ كلّ العُقد المستعصية . ما قيمة هذه المحنة تجاه محنة يونس الذي ابتلعه الحوت ؟! هكذا يعلموننا منذ نعومة أظفارنا .. وسلوى ليست مثل شمعة الذي يريد قلب النظام وتغيير الحكّام . مشكلتها لا يمكن أن تُعلن ابداً .. هي مشكلة ورجاء منكسر ولكنه مصيري بينها وبين الله . ولهذا سرعان ما جدّفت – بسذاجة اليائسين - وأعلنت شكّها في الجهة التي يأتي منها الحلّ فدعتها أمّها للإستغفار والهدوء . ولكن أمّها بالرغم من مكابرتها كانت - بدورها - تنهار في الداخل وتتهدّم إرادتها وتتخلخل ركائز موثقاتها الإيمانية :
(انكسر قلب الأمّ الصامد لنشيج ابنتها . فرّت الدموع من عينيها وهي ترى ابنتها تتمزّق أمامها .. انكفأت سلوى على السرير .. لم تحاول أمّها أن تواسيها . بدا لها الأمر لا يحتاج إلى مواساة ولكنه في حاجة ماسّة لبكاء لا يتوقف ، فانهارت هي الأخرى باكية يمزّقها شعور بالأسى والإشفاق على ابنتها مشوبٌ بسؤال لا تجسر على توجيهه إلى الله) (ص 109) ..
ولكن هذا السؤال المرعب الذي لا تجسر عليه قد تمّ توجيهه وانتهى الأمر بمجرد طوافه سريعاً في سماء الذهن كخاطر نضحه وجدان مكلوم . لقد أطلقه اللاشعور الناقم وتقبّله الشعور المهزوم ، ولن يُردّ إلى مواضعه أبداً ، ولكن يمكن أن يُلحق بالإستغفار وما أيسره على الروح الجريح التي تشفّت من مصدر الخذلان :
(- ألم يكن يكفي أن زوجها حرمها من الولد حتى تصيبها هذه المصيبة فتهدد حياتها إلى نهاية العمر ؟!
حاولت أن تطرد هذا السؤال الغاضب بما فيه من شبهة اعتراض على حكمة الخلّاق العظيم .. عادت إلى قواعدها الدينية على عجل قائلة وهي تمسح دموعها التي بلغت شفتيها وشربت منها بضع قطرات :
-    أستغفرك يا ربّ ) (ص 110) 
لكن بقي هناك طرف آخر اكتسحت وجوده الكارثة وقد يكون القارىء قد غاب عن ذهنه الإلتفات إليه ، وهو العم فريد الذي أفهمنا الروائي أنّه اختصاص نكات ، وأنّه سيطلق النكات والطرائف حتى وهم يدفعونه يوم القيامة إلى جهنم ، محاولين أن ينزعوا معطفه الأسطوري !! لقد أجهزت الشدّة الفاجعة على روحه المشاكس وحوّلته إلى "بؤجة" ملابس مُهملة .. مُظلم الوجه باهت الملامح لا ينطق بحرف ولا يأتي بحركة ، وكان لا يفتأ يداعب الذباب الذي يقف على وجهه (ص 110) ..
لقد دمّرت فعلة واوا الجميع .. مثلما دمّرت فعلات واوا الأكبر - بدءاً من الباشا – أمّة كاملة وتعيد تدمير روحها كل لحظة ، فصارت أمّة مظلمة الوجه باهتة الملامح لا تنطق بحرف ولا تأتي بحركة ، وتكتفي بمداعبة الذباب الذي يقف على وجهها منتظرة الفرج . وحتى الله لا يرضى بمثل هذا الإنتظار ! وقد أفلح فؤاد قنديل في تمزيق معاذير هذا الإنتظار وركل هذه الروح الإعتمادية القميئة ، بقوّة ، على لسان أو في أعماق الجميع . نفضت سلوى يديها من موضوعة الإنتظار السلبي لتدخّل الآلهة ، وتبعتها أمّها .. ثم أبوها .. أمّا شريف فها هو يعيد الكرّة عليه وقد ألقى به رجال الباشا مقيّداً في حفرة نائية مظلمة يلقون عليه صفائح القمامة والبول بين وقت وآخر فتتراكم على وجهه أسراب الذباب الدبق الذي يقف على عينيه وأنفه وأذنيه .. والفئران تتسلّل إلى صدره بلا تحفّظ وتقضم أطرافه وأذنيه ، أو تركب على شفتيه وتأخذ بلعقهما بخفّة موجعة ومقزّزة . ووسط دوّأمة العجز واحتقار الذات ونكوص الإرادة تشتعل مديات التفكير السحري وتتسع فيتساءل شريف ممسكاً باذيال الأب الأكبر :
(ألا أستحق ان يهبط ملك من السماء فينقذني من الشياطين ؟ ينزل حصان لا مرئي أمتطيه ويحملني بعيداً ، فيُنقذ إنساناً من بطش أخيه ؟!
لماذا لم تعدّ تحدث هذه المواقف العظيمة للبسطاء من البشر الذين لا يملكون إلّا قلباً طاهراً ؟ هل لابدّ أن يكون نبيّاً حتى يحظى بالرضا والمساعدات المتميّزة ؟ لم يعد هناك أنبياء ... وها أنذا وحدي مع البشر السادة ؟ ) (ص 115) .
والبشر السادة الذين يتبوّلون على رأس أستاذ التاريخ شريف صاروا هم أصحاب المعجزات ويمسكون بأيديهم مفاتيحها مع مفاتيح سياراتهم الحديثة .. وحوش سفلة نصّبوا أنفسهم بديلاً عن الله يتحكّمون في مصائر البشر ويسحقونهم كالصراصير ، وها هم يتبوّلون على أستاذ التاريخ الذي أمضى عمره يحسب الأمور بذرّات المنطق وبمثاقيل العقل الذهبيّة ، فإذا به يُفاجأ أنّ هذا العقل الذي يعتبره وكيل الله صار أداة للشيطان :
(جاء ثان وصبّ على رأسه ملء دلو من سائل اصفر .. كان الدلو مملوءاً بالبول .. هل يمكن أن يكون الإنسان قد وصل إلى هذا الحدّ من البشاعة ؟ وأجاب على سؤاله بأن الفضل كلّه للعقل الذي منحه الله للإنسان .. تملّكه الغيظ الذي لا يقدر على تفجيره .. فتحدّث إلى نفسه عن العقل الذي حوّل مساره ، وبدلاً من أن يكون مثل جرّار يصعد بعربات البشرية إلى أعلى ، فإنه يتجه إلى أسفل .. أسفل مكان ومكانة ! هل لهذا كلّه من نهاية ؟ ومن الذي يتعيّن عليه أن يضع النهاية ؟ لعلّه الله ... مؤكدٌ أنه هو .. إذن لماذا يتفرّج علينا ونحن نتردّى ؟ ما الذي يجده فينا من جمال وتسلية ؟) (ص 112 و113) .
ووفق هذه الخطة الإستدراجية المُحكمة والصبور "ينظّف" فؤاد قنديل شخوصه الأساسيين ، وخصوصاً بطله الرئيسي : شريف ، من هذا الإعتماد الإتكالي المتوارث على الماورائيات المعطّلة .. ينظّفهم من أي اختلاجة أمل بخلاص ٍ يأتي من خارج نفوسهم ، وتسهم فيه جهة أخرى مهما تعالت واقتدرت وأعجزت ؛ بدء بسلوى ، ومرّ بأمّها وأبيها ، وانتهى بشريف .. والأخير هو أسّ التغيير ، لأنّ أستاذ التاريخ لابدّ أن ينفض يديه من أيّ عوامل تفسّر التاريخ وتحوّلاته بقوى خارج إرادة الإنسان الحديدية مهما كانت فرادة هذه العوالم ودرجة الإتفاق الجمعي عليها . وهنا تتجلى رؤية مُضافة محسوبة لفؤاد قنديل حين جعل بطله مختصّاً بمادة التاريخ وأزاحه بصبر ولكن بخشونة وعنف من تعلّقاته السلبيّة السابقة بالمنطق البارد والحسابات العقليّة الباهتة وحتميّات الطيبة البشرية المُضلّلة وأقدار التغيير التي ترسمها الإرادات الخارقة المتعالية ، ليوصله إلى سدّة الرؤية السديدة الصافية وإلى منبع كلّ تغيير : نفسه الحرّة الغير هيّابة ، وإرادته العزوم ، وكانت آخر محطة توقف عندها قبل أن يرتقي سدّة النضال بلا تراجع هي محطة التساؤلات الفلسفية التحرّشية الأخيرة التي ثارت بعد أن أُصيب بكارثة الإنثكال الأخرى التي جعلها فؤاد قنديل قرباناً وضريبة دم وفداء على شريف أن يدفعه ليصل إلى المستوى الإنساني المقاوم الجديد . فقد كان في رعاية رَحِم دائم منعم تكفّل بكل حاجاته النفسية والاجتماعية والعقلية .. من الرحم الأمومي .. إلى "رحم" الرعاية الزوجيّة الذي وفّرته سلوى الحبيبة ، فرحم الأنموذج السياسي الممثل بعبد الناصر ، و"رحم" الإستكانة المعرفيّة والنفسيّة الذي لا تزعجه أي تساؤلات ، والذي من دون هذه التساؤلات يصبح فردوسا للتفاؤل ولتحقّق الفروض السلوكية اللاشعورية "المنطقيّة" : أنا طيّب .. أمّي ترضى عنّي ، والتي لخّصها حين فكر بغضبة عبد الرحمن شمعة بعد خروج الأخير من السجن :
(أحسّ أنه مرفّه برغم تواضع حالته المادّية ، وتأكّد أن أفكاره رغم جسارتها لن تُفضي به إلى الصدام مع النظام ، ولا مع أيّ إنسان .. أمّأ شمعة فيستحق أن يقلق من أجله ، لأنه مقاتل عنيد من أجل أبسط الأمور ، ولا يقبل الحلول الوسط) (ص 57) ..
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف