الأخبار
"قطاع غزة على شفا مجاعة من صنع الإنسان" مؤسسة بريطانية تطالب بإنقاذ غزةأخر تطورات العملية العسكرية بمستشفى الشفاء .. الاحتلال ينفذ إعدامات ميدانية لـ 200 فلسطينيما هي الخطة التي تعمل عليها حكومة الاحتلال لاجتياح رفح؟علماء فلك يحددون موعد عيد الفطر لعام 2024برلمانيون بريطانيون يطالبون بوقف توريد الأسلحة إلى إسرائيلالصحة تناشد الفلسطينيين بعدم التواجد عند دوار الكويتي والنابلسيالمنسق الأممي للسلام في الشرق الأوسط: لا غنى عن (أونروا) للوصل للاستقرار الإقليميمقررة الأمم المتحدة تتعرضت للتهديد خلال إعدادها تقرير يثبت أن إسرائيل ترتكبت جرائم حربجيش الاحتلال يشن حملة اعتقالات بمدن الضفةتركيا تكشف حقيقة توفيرها عتاد عسكري لإسرائيلإسرائيل ترفض طلباً لتركيا وقطر لتنفيذ إنزالات جوية للمساعدات بغزةشاهد: المقاومة اللبنانية تقصف مستوطنتي (شتولا) و(كريات شمونة)الصحة: حصيلة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة 32 ألفا و490 شهيداًبن غافير يهاجم بايدن ويتهمه بـ"الاصطفاف مع أعداء إسرائيل"الصحة: خمسة شهداء بمدن الضفة الغربية
2024/3/28
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

عويل الصمت في زنزانة بقلم: انتصار السراي

تاريخ النشر : 2014-11-01
عويل الصمت في زنزانة
انتصار السراي

كنت بينهن بمحض إرادتي زائرة، طارئة، طرقتُ عالمهن الغريب عن مخيلتي بكل تفاصيله، كُنّ أشبه ببركان يغلي، مع عشق ملح للحياة الذي سلبته الأنا، يُفكرن ويتمنين أن تسنح لهن فرصة الولادة من جديد..
حلم اليقظة كان المواسي الوحيد لشقائهن وغربتهن.. دنوت أكثر فأكثر، وجدت عندهن أوجاع وآمال، حذرات من تقرّبي من دون موعد، إلا إني أشعرتهن بأمومتي الحانية.
رويداً رويداً لامست جراحهن، فنطق زمانهن عن خبايا ألم، دكّ صباهن الضائع في متاهات ذو القربى، فصاح بصوتٍ عال سمعته جدران موت بطيء أسمه (ملجأ): أنا إنسان!
فتحن قلوبهن بتلقائيّة وأفرغن سنين الحرمان على أوراقي، فتحدثنّ هامسات واحدة تلو الأخرى بمعلوماتٍ، صيّرتها قصص لسان حالهن إذ اخترت عدد منهن لنشره، والباقي بين طيّات مفكّرتي، وهو أمرُّ بكثير مما أعرضه الآن عليكم.

سرور:
مات والدي وتركنا، أنا وأختي وأخ صغير، كُنّا له الأب والأم معاً، نجود بطعامنا اليسير لنبلّ ريقه حتى ينمو، تنقلنا للعيش في أكثر من مكان عند أقاربنا، نتدحرج بينهم مثل الكرة بين أقدام اللاعبين، فيرمينا بعضهم لبعض بقوّة للتخلُّص منّا، حتى شبَّ أخي وكسب رزقه من مهنة الحِدادة التي تعلّمها عند أحد أصدقاء والدي، الذي أشفق علينا بتعليمه إيّاها، واستطعنا بفضل الله أن نستقر في بيت بائس للإيجار، لكنه أفضل حال مما كُنّا نتذوّقه من مرارة العشرة مع أناس يُحسَبون علينا، وأنهم من لحمنا ودمنا كما يُقال، حتى جاء ذلك اليوم الذي قرّر فيه أخي الارتباط بزوجة كما هو حال أغلب الشباب في عمره وتزوّج بالفعل.. كانت في بداية طلّتها على بيتنا الخرب، ناعمة الملمس، إلى أن تمكّنت من غزو كل شيء في أخي، وتجعل حياتنا أوهن من بيت العنكبوت..
اتهامات معلّبة بأبشع القصص المُلفّقة، جوع، آلم، ضرب متواصل، حتى مَلّت الحرباء وجودنا معها، فطالبت أخي أن يتخلّص منّا بأيّة طريقة حتى لو كانت في وكر لــ(الدعارة)، وما كان عليه إلا الطاعة العمياء، ربما أسعفته ذاكرته بأيام خلّت كنا لحمه، ودمه، فجاد علينا بهذا المكان (الملجأ).
في الأشهر الأولى من دخولنا إلى هذه الزنزانة، كان يأتي لزيارتنا ويتأسّف لعدم فعله شيء أمام إصرار زوجته التي كُنّا عندها خادمات، ومربيّات أطفال، حتى قطع تواصلنا، كما يقطع النهار عتمة الليل. وها نحن نقبع بين هذه الجدران القاسية التي لم تجب عن أسئلة كثيرة نحتاج إجابتها لماذا وإلى أين؟ وعلى الرغم من تخليه عنّا نشتاق أخينا وأطفاله اشتياق الطير المهاجر لأوكاره، ونُمنّي النفس أن يأتي يوماً ما ونلتقيه. إنه وجع الأمنيات!

بلبل: تفوح منها شقاوة الطفولة ومرح الصبا:
اشترطت المرأة التي اختارها أبي للزواج بعد وفاة والدتي بأن يتخلّى عنّي، فأقنعني بالمجيء إلى هذه الدار على أمل أن يرجع لأخذي بعد فترة وجيزة، علّه يُغيّر رأي زوجته، وها هي أيامي تمتدّ عسيرة ولم أرَ خيال والدي، ولا أحسن الظن بعودته يوماً ما، عوّدت نفسي أن أعيش كما أريد بين جدران هذا القفص، أشغل وقتي بصنع المقالب، بهدف استرزاق الضحك مع البائسات صحبتي في هذا السجن الذي يُسمّى عبثاً (ملجأ).
كان لجمالي الأثر السريع في زواجي، بشخص فقير الحال، حيث عادة ما يقبل مثله على الزواج من أمثالنا (زواج مجاني) ومابين وجع عالمي الذي أعيشه، والقبول بزواج أشبه بصحراء قاحلة، إذ لا يعدو كونه وقت للهو نقضيه ونرجع إلى أوكارنا نفرح بشيء، ونأسف لأشياء كثيرة، وبين هلوسات الماضي الذي ترك وشاح ضيمه بكل جزئيّة في نفسي وتفاصيل وجودي، وآلم فجيعة الطلاق، والعودة بحنين يملئ أحشائي، يبقى مستقبلي مُعتم.. والحق أقول أن الماضي مهما اشتدّ وجعه، يبقى لنا به حنين، لأنه أهون من حاضر (مخبوص) ومستقبل يعلن إفلاسه بصرخات عالية!

ماجدة:
بعد وفاة والدي لم يبقَ لي أنا وأخي الذي يكبرني بسنوات عدة، غير عمّتي التي رفضت رعايتي في بيتها لصغر سنّي، ولأنها تخشى من مشاكل البنات وصعوبة تربيتهن كما تدّعي. اكتفت عندها ببقاء أخي الذي يعيل نفسه، ويجود عليها بما يكسب بعد أن تترك له فتات المال.. رمتني إلى هذه الجدران بيد أخي، أتسلّى بأيامها الموحشة بأن اصنع قصصاً من نسج خيالي الطامح بحلو الحياة وبهجتها، كما أشاهدها من خلال شاشة التلفاز، لتكون (المورفين) الذي يبعدني عن يوميّاتي المُملّة، والخوف من المجهول الذي أجهله، وعلى الرغم من مجيء أخي لزيارتي بين فترة وأخرى وجلبه لي الحلوى والمعجنّات والفاكهة، إلا أن هاجساً بداخلي ينبض بشدّة أنه سيأتي يوم وينسى طريق هذا الدار الذي سجنني فيها برغبة عمّتي.

سوسن:
غُرّر بي وأنا في المدرسة المتوسطة من قبل رفيقات سوء، فتبعتهن إلى أرذل المسالك في دروب الحضيض، حتى جزعت روحي من قذارة ما وضعت نفسي فيه، فلقد اقشعر بدني الطري مما ارتكبته من جريمة بحقّه، وبما أن العودة للأهل تعني نهاية حياتي بقانون الأعراف العشائريّة، اهتديت إلى هذا المكان المتّسم بالوحشة المقيتة، وكأنه يعاقبني على إزهاق روحي على يد الذئاب البشريّة التي لاكتها بنهم. لا أعرف السبيل إلى قضاء بقيّة أيام عمري في (حبس) نلجأ إليه بإرادتنا لكنه أحلى مرّ!

زكيّة:
مُذْ وطأت قدماي هذا الملجأ، وأنا أشمّ رائحة نتنة تملئ أرجائه، تقرّبت أكثر وإذا بي أشاهد سيل من الذباب حول سرير قذف في أحدى ممرّاته، وصوت صراخ عال، مع ألفاظ نابية، وجارحة سألت النزيلات فأجبن بحسرة يشوبها جزع مما وصلت بهن الحال فقالت أحداهن:
جلبوا لنا هذا الشابة المُقعّدة بعد أن تخلّى عنها ذويها في أحد المستشفيات، وبما أن حالتها لا ينفع معها أي علاج، قذفوها على أيامنا الحالكة لتزيدها ظلمة، نحن (نتعاجز) من خدمة أنفسنا في هذا المكان المُقفر، ويكفينا ما نحن فيه، ثم يرمون لنا بمتاعب الدهر أمثالها! فهذه زكيّة لا تبخس علينا بما نريد نسيانه، أو نغفو عنه كي نسهو عن جراحنا بعض الشيء. وعلينا أن نردّ عليها بالأكل والشرب والعناية المتواصلة طوال اليوم.

المكان: ملجأ للأيتام في بغداد
الزمان: 2004
الأسماء : مستعارة
**
من قرأ بتمعن تلك القصص التي اخترتها من بين كم هائل من شكاوى البنات في المجتمع العراقي، بسبب تنامي ظواهر وأزمات ما بعد الاحتلال، يلاحظ أن هناك عدّة مشتركات جمعت بينهن في تلك الدار (الملجأ) منها على سبيل المثال:
* إنهنّ غير متزوّجات، باستثناء بلبل التي تزوّجت فيما بعد عن طريق الدار، وهو زواج لم يمكث طويلاً، لأنه محكوم بالفشل سلفاً.
* لسن بلقيطات، بل لديهن أهل وأقارب، وبالتالي ينتمين لعشيرة.
* لم يلجأن للدار برغبتهن، بل جلبهن ذويهن إليها قسراً. وقد يقول قائل أن (سوسن) جاءت بمحض إرادتها إلى الملجأ، والجواب: أين كان الأهل منها في زمن لعين لا ثقة عمياء فيه؟ أين هم من الصديقة، المدرسة، الوقت، التأخير، والمتابعة وأشياء أخرى كثيرة؟!
* البنات يحلمن بغدٍ يجمعهن بالأهل، على الرغم مما لاقوه من نكران لوجودهن، ورميهن إلى مخالب الدنيا التي لا ترحم، في ظل تغيّر أجواء النسيج المجتمعي العراقي.
* الخوف من المستقبل يسيطر على أرواحهن، ولا من مغيث يسمع ندائهن سوى أوراقي.
هذا غيض من فيض جعبتي، وما أحمله من وجع بنات بعمر الورود يمتلكن قدراً لا بأس به من الوعي، والجمال، لكن العجب كلّه بسؤال يدور في رأسي وهو:
إن تنكّر لهنّ الأهل، فما بال الأقارب؟ ألم يسألوا عن (أعراضهم) المرمية في جدران لا حامي لهنّ - كما شاهدت عيناني - غير الله؟
ومن خلال ما شاهدته وسمعته ولمسته في جولتي، عرفت أن هناك الكثير من ضعاف النفوس، يتربّصون بــ(الملجأ) لغايات دنيئة، تارة بحجّة الزواج من إحدى الفتيات، وأخرى بهدف التبنّي، يحدث هذا وسط إهمال الأهل، وصمت المؤسسة الدينيّة عن تلك الظاهرة، وكذلك لا مبالاة منظمّات المجتمع المدني وحقوق الإنسان.
أعلم أن دعوتي للجميع ستبقى مفتوحة، ولكن عسى أن تجد صدى عند من يرمون الإصلاح، بمجتمع خائر القوى، لا يتهاون بعض أفراده من أن يقوموا برمي نسائهم في مكان يفتقر لأبسط مقوّمات العيش بكرامة!
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف