الأخبار
ارتفاع درجات الحرارة يفاقم معاناة النازحين في غزة ويزيد من البؤس اليوميالأمم المتحدة: إزالة الركام من قطاع غزة قد تستغرق 14 عاماًتصاعد الاحتجاجات الطلابية في الجامعات الأميركية ضد الحرب الإسرائيلية على غزةتفاصيل المقترح المصري الجديد بشأن صفقة التبادل ووقف إطلاق النار بغزةإعلام إسرائيلي: إسرائيل تستعد لاجتياح رفح "قريباً جداً" وبتنسيق مع واشنطنأبو عبيدة: الاحتلال عالق في غزة ويحاول إيهام العالم بأنه قضى على فصائل المقاومةبعد جنازة السعدني.. نائب مصري يتقدم بتعديل تشريعي لتنظيم تصوير الجنازاتبايدن يعلن استثمار سبعة مليارات دولار في الطاقة الشمسيةوفاة العلامة اليمني الشيخ عبد المجيد الزنداني في تركيامنح الخليجيين تأشيرات شنغن لـ 5 أعوام عند التقديم للمرة الأولىتقرير: إسرائيل تفشل عسكرياً بغزة وتتجه نحو طريق مسدودالخارجية الأمريكية: لا سبيل للقيام بعملية برفح لا تضر بالمدنييننيويورك تايمز: إسرائيل أخفقت وكتائب حماس تحت الأرض وفوقهاحماس تدين تصريحات بلينكن وترفض تحميلها مسؤولية تعطيل الاتفاقمصر تطالب بتحقيق دولي بالمجازر والمقابر الجماعية في قطاع غزة
2024/4/27
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

واجتاحني حب كارون 56 بقلم: فؤاد سلسبيل – أبورسالة

تاريخ النشر : 2014-09-17
واجتاحني حب كارون 56 بقلم: فؤاد سلسبيل – أبورسالة
إني وكما أسلفت كنت أعرف المرحوم صالح عبد النبي والد الشهيد علي، وكنت أعرف بأنه كان من أهالي جزيرة صلبوخ ، وكان يعمل موظف بدالة في شركة نفط عبادان في حقبة الخمسينات وبداية الستينات من القرن العشرين، وكان مناضلا أحوازيا له نشاط سياسي من أجل وطنه رغم أنه موظف حكومي قبل أن يضطر إلى اللجوء إلى العراق الشقيق على أثر نشاطه السياسي هذا مع الشهداء القادة الثلاث محيي الدين آل ناصر وعيسى المذخور ودهراب شميل، بعد أن تم كشف تنظيمهم وكشف بعض عناصره وكان هو أحدهم - حسب ما قال لي هو -  بنفسه رحمه الله.

بعد أن تعرفت على الشهيد علي صالح عبد النبي رحمه الله، عرفت إنه هو من سيرافقني إلى بغداد، لأنه كان من سكنة بغداد، عندها سلّمت على الشاب وحيّيته بأجمل تحية وتكلمت معه عن والده كثيرا، ومن خلال حديثي معه عرفت بأنه مثقف ومسيطر تماما على اللغة العربية، وعندما سألته عن تحصيله الدراسي قال لي بأنه حاصل على بكالوريوس ( ليسانس ) هندسة وإنه ينوي الإستمرار في الدراسة بنفس الإختصاص كي يحصل على الماجستير ومن ثم الدكتوراه وكان جاداً في ذلك...  لكن لكن لكن... ولقصة استشهاده حين تم إعدامه من قبل نظام الإحتلال الفارسي حديث مطول؟؟؟؟

 بعد أن تعرفت عليه أكثر فأكثر وطال الحديث بيننا في أمور عدة حان وقت الغداء، فتغدينا سوية في غرفة كانت مخصصة للضيوف من الأحوازيين وغيرهم من الذين كانوا يزورون هذا المكان.

بقينا معا في غرفة الثقافة والإعلام حتى الساعة الخامسة عصرا، عندها قال لي يجب أن نذهب إلى محطة القطار والتي لم تبعد عن المكان الذي كنا فيه سوى أقل من نصف كيلومتر، فذهبت إلى الغرفة التي كان يجلس فيها عمي المرحوم الحاج مكي الفيصلي وعمي المرحوم الحاج عبد الكريم الفيصلي وإبن عمي الذي يكبرني سننا ومعهم كان يجلس الشهيد حامد صالح السهر الزويدات وأيضا المرحوم سيد هادي وإبنه المرحوم سيد مصطفى وعدد من الأحوازيين، فقلت لعمي أبو فيصل الحاج مكي الفيصلي رحمه الله:

عمي أنا أترخص منك لأني يجب أن أذهب إلى بغداد لتنفيذ مهمتي الوطنية.

قال لي وهو متباهياً بي:

يا ولدي أريدك أن لا تخيّب ظننا بك وأن تكون على مستوى الحدث وتمثيلك لشعبك وهذا اليوم هو يومك، إذهب وفي أمان الله.

من ثم ودعت الجميع، فكان توديعاً مؤثراً احتشد من حولنا الأحبة مشجعين وداعمين، فذهبت إلى محطة القطار بمعية الشهيد علي صالح عبد النبي .

شعرت من الشهيد علي صالح عبد النبي الحرص على مهمتي الوطنية - الإعلامية وهو حرص على ثورة وشعب، وأيضا قوة الألم من الغدر الايراني ضد طموحات الشباب الأحوازي الذي كان ينتظر خيرا من ثورة ساهم بها بالتضحيات المالية والروحية، وهو يردد وصاياه التي أراحتني من أنّ من يرافقي هو شاب أحوازي على مستوى عالٍ من المسؤولية والثقافة والإصالة الأحوازية العربية .

فكانت وصاياه كثيرة خصوصية وعمومية، مركِّزاً على أن أكون عند حسن ظن الجميع، فوعدته بذلك، مشدِّداً على إعادة الكلمة عدة مرات واستيعاب المطاليب فيها، بكل دقةٍ ووضوح، وعدم الإستعجال فيها،  لأنه رحمه الله شخّص حالة الإستعجال عندي، فصارحني بها، فكان يقول لي:

 أنت مستعجل دائما .. أريدك أن تترك هذه الحالة يا أخي لأنها سوف تكلفك الكثير...

نعم لقد كان تشخيصه في محله رحمه الله وصدق في ما قاله لي وأحسن التشخيص.

قال: توكل  على الله سبحانه وتعالى ، فالله خيرٌ حافظاً وهو أرحم الرحمين...

 تبيّن لي بمرور الوقت إن هذا الشاب ملتزما أخلاقياً ومتديناً ومثقفاً وحريصاً، وثورية مشروعه كصفة الثورة الأحوازية عبر التاريخ، فارتاحت نفسي له كون وجدت نفسي برفقة إنسانٍ واعٍ ومثقف .

باتجاه بغداد لأول مرة:

إنطلق القطار من مدينة البصرة الفيحاء باتجاه بغداد عاصمة الرشيد، ومدينة التاريخ والأحرار، ولم يبق حتى تغرب الشمس إلا وقت قليل جداً وكان الشهيد علي صالح عبد النبي جالس على يساري وأنا كنت أجلس بجانب النافذة التي كنت أطلّ منها على القرى والأرياف التي كنا نمر عليها وكنت أشاهدها لأول مرة في حياتي ونحن في طريقنا إلى محافظة ذي قار ومدينة الناصرية التي يردد التاريخ اوّل حديث للنبي ( ص)، حول معركة ذي قار وانتصار العرب فيها:

(  الْيَوْمُ أَوَّلُ يَوْمٍ انْتَصَفَتْ فِيهِ الْعَرَبُ مِنَ الْعَجَمِ وَبِي نُصِروا... )...

الناصرية المدينة التي كنت أسمع عنها ولم أرها في حياتي من قبل، وكما قلت تملكتني قصيدة الجواهري فبتّ أرددها في همسٍ منتظراً أن أشاهد بغداد، وأردفُ معها من شعري الشعبي عن العراق والاخوة والوفاء وعن بغداد الحبيبة .

والله وصدگ صارت... إلچ راح اوصل إلچ بغداد

يا تاريخ العرب يا صوتهم يا أم الامجاد

الزارچ يفتختر ويصيح زرت ام الحضارة وديرة الضاد

وعلى ما يبدو كان الشهيد علي صالح عبد النبي متعبا، لأنني رأيته حالَما انطلق القطار استند إلى ظهر الكرسي واسترخى تماما حتى تغلب عليه سلطان النوم، فقلت له في نفسي ( بالعافية ). عندها قررت أن أستفيد من هذه الفرصة، لذا أخرجت من حقيبتي، قلماً ودفتراً صغيراً، وبدأت بإعادة شريط الأحداث المؤلمة التي جرت على شعبي في مجزرة الأربعاء السوداء في مدينة المحمرة على يد جزار العصر أحمد مدني في مخيلتي، حتى إني تخيلت بأنني في ساحة المعركة لحظتها، ومثل هذه الحالات هي التي تسهِّل نظم الشعر على الشاعر كما يعرف اساتذتنا الشعراء، لأن الشعر وأنت تعيش الحدث سواءً كان ابتهاجاً أو حزناً أو ألماً أو فرحاً يَسهِل على الشاعر خاصة المبتدئ الهاوي مثلي، لأني لم أصل إلى ذلك المستوى في نظم الشعر حتى يقال عني شاعر، لكني استذوق وأهوى الشعر وبعض الأحيان أنظم منه ما تجود به القريحة وهو قليل جدا.

نعم جعلتني أحداث المحمرة التي قمت بإعادة شريطها في مخيلتي والتي جرت قبل أقل من شهر من ذلك التاريخ الذي كنت فيه في القطار وهو يوم الخميس المصادف 27/6/1979.

 إن العدو ارتكب مجزرة الأربعاء السوداء في المحمرة يوم الأربعاء المصادف 30/5/1979 والتي كنا واقعين في خطأ كبير في تدوينها حين كنا نذكر تاريخ وقوعها أي وقوق مجزرة الأربعاء السوداء هو الأربعاء 29/5/1979 والصحيح هو الأربعاء الثلاثين من أيار  ( ما يو ) ألف وتسعمائة وتسعة وسبعون جعلتني أن أكتب الشعر الذي أول من أثّر فيه هو أنا -  وأعوذ بالله من كلمة أنا - ايّما تأثير حيث كنت أحس حين كنت أقرأ أي بيت من تلك القصيدة بأنه يؤثر فيّ بحيث كان يقشعر بدني وتنهمر دموعي .

فأخذت أسرد الأحداث شعرا في هذه القصيدة، وكذلك ضمّنتها أشعاراً حماسية وجدتها ضرورية لكي يسمعها أبناء شعبي حتى لا ينسوا تلك المجزرة والأحداث والمآسي التي خلفها نظام الإحتلال الفارسي على يد أحمد مدني وسالت فيها دماء العرب فوق أديم مدينة المحمرة الحمراء  التي تحمّرت بدماء أبنائها، حتى يبقوا مستمرين في ثورتهم على الباطل من خلال مقاومة الإحتلال في انخراطهم في صفوف المقاومة الشعبية، التي أوقفناها بعد نجاح ثورتنا ضد الشاه، واذا بخميني وأزلام نظام خميني يغدرون بنا، لتنطلق هذه المقاومة من جديد بعد مجزرة الأربعاء السوداء مباشرة، حتى أصبحت مقاومة بمجاميع منظمة، للتنظيم والتوعية والتحشيد .

استخدمت في قصيدتي أقوى العبارات والكلمات التي كنت أراها حتما ستؤثر في المتلقي خاصة وأن تلفزيون العراق كان ينوّه على أنه سوف يقوم بالبث المباشر لفعاليات التجمع الجماهيري الذي سيقام عصر في ملعب الشعب الدولي في بغداد يوم السبت المصادف 30/6/1979 تأييدا ونصرة للشعب العربي الأحوازي ( العربستاني )، وكذلك بقية الشعوب غير الفارسية في جغرافية إيران لما يتعرضون له من إبادة جماعية على يد نظام الخمينية وتيارها العنصري في طهران، وكنت متأكدا ومتيقنا من أن أغلب أبناء الشعب الأحوازي كانوا يتابعون يوميا تلفزيون العراق وما يبثه من أخبار عن مجزرة الأربعاء السوداء وما تلاها من صمود بطولي بصدور عارية لأبناء شعبنا العربي الأحوازي الصابر الأبي، وإنهم ينتظرون تلك اللحظة ليروا ماذا سيجري في هذا التجمع، ومن هو الذي سيطل عليهم من شاشات التلفزة ليمثلهم أمام الحشود الجماهيرية العربية والعراقية والأحوازية، التي سوف تزحف إلى ملعب الشعب عسى أن يحذوا بقية العرب حذو العراق في نصرة القضية الأحوازية، لذا كنت على قدر كبير من الدقة في اختيار الكلمات والموضوع في تلك القصيدة التي كتبتها على الطريقة الكلاسيكية جدا وهي طريقة ( الشعر المربع ) لكني وللأسف الشديد فقدت تلك القصيدة إلى يومنا هذا ولا أحفظ منها إلا بيتا واحدا من الشعر وذلك بسبب هروبنا من بيتنا في بغداد مضطرين عام 2006 ، عندما قامت المليشيات المرتبطة بإيران بفيلق القدس الإيراني تصفية عدد من الأحوازيين وبقية العرب من غير العراقيين في العراق مثل الفلسطينيين والمصريين والسودانيين واليمنيين والأردنيين رغم إن أغلبهم كانوا طلبة في الجامعات العراقية ليس إلا، وكذلك أولئك الذين كانوا معروفين لديهم ولا يمكن لهم إخفاء أنفسهم بسبب ظهورهم المتكرر أمام الجماهير من خلال أنشطتهم السياسية والثقافية والإعلامية، وكنت أحد هؤلاء الذين كانوا صيداً سهلاً للمليشيات الإيرانية، لذا تركت الكثير الكثير من الوثائق والملفات والدفاتر التي كانت بحوزتي وتحتوي على أشعاري القديمة لكنها موضوعة في خزانات بعيدة عن متناول يدي إلا القليل من الدفاتر التي تمكنت من جلبها معي لأنها كانت أمام عيني، وأيضا هناك الكثير من الأشرطة الصوتية التي كانت تحتوي على أشعار وطنية بصوتي وتمثيليات خاصة بالقضية الأحوازية تركتها بسبب ضيق الوقت، خاصة بعد أن قاموا بحرق بيتنا حين كنا خارج البيت، وأدركت بأن عليّ وعائلتي ترك البيت بما فيه والخروج بسرعة منه قبل أن يدركنا العدو ويفتك بي وبعائلتي وأطفالي خاصة ولديّ طفل معوّق وهو ( حسين ) والذيلا يقوي على الحركة مثل أي إنسان طبيعي ويحتاج منا جهدا كثيرا في تنقلاته التي أعاننا الله بها من أجله حتى لا يتعذب وكان عمره آنذاك ما يقارب العشر سنين فقط، وقد هبّ الشرفاء العراقيين خاصة الذين تربطني بهم صلة دم ونسب كعادتهم لمساعدتنا وإنقاذنا وإخفائنا عن الأنظار في محل عملهم وهو عبار عن بيت فيه بضاعة أحد التجار يعملون عنده، وهكذا فعل أغلب الأحوازيين حين غيّروا أماكن سكناهم وهربوا بعيدا عن أنظار مليشيات فيلق القدس الفارسي، والذي عاث فسادا بالعراق من خلال الإغتيالات في صفوف الوطنيين والأطباء والعلماء والشباب، لإحداث الرعب والإرهاب في الشعب العراقي العظيم، وقد كان عملاء هذا الفيلق يحملون معهم قوائم بأسمائنا من أجل تصفيتنا جميعا.

نعم فقدت تلك القصيدة التي لا أحفظ منها سوى هذا البيت، سائلا المولى القدير ان أتذكرها في يوم من الأيام أو أحصل عليها من أناس يحفظونها ممن سمعوها آنذاك من التلفزيون العراقي:

 

ذول موش اسلام ما عدهم فهم

عنصرية اعلى العرب شَدَّو حزم

لا حمية وغيرة عدهم لا حلم

ذول اخسّ الناس ذول اشرارها

 وأما البيت الآتي فقد زودني به أحد الاخوة المناضلين الأحوازيين الذي بقي يحفظه منذ ذلك الحين أطال الله بعمره وهو:

شرده اوصفلك يعربي يا غيور

بالمحمرة أطفال متيتمه وتدور

شكثر من شبان تشبه للبدور

تسبح بدمها وسمعت اخبارها

لم يستفيق الشهيد علي من النوم إلا بعد ساعتين تقريبا من انطلاق القطار من محطة البصرة الحبيبة، وآنذاك كنت قد كتبت من القصيدة أكثر من سبعة أبيات وتركتها لأتحدث مع الشهيد عن أمور عدة منها المحافظات العراقية التي يمر عليها القطار حتى يصل الى بغداد وهي: ذي قاروأشهر مدنها عاصمتها ( الناصرية ) - المثنى وأشهر مدنها عاصمتها ( السماوة ) - القادسية وأشهر مدنها عاصمتها ( الديوانية ) - بابل وأشهر مدنها ( الحلة ) ومن ثم بغداد عاصمة العراق.

 تحدثنا كذلك عن بغداد وعن أماكنها الجميلة، لأنه خبير بها وبالعراق حيث أنه دخل العراق وهو في سن صغيرة، وأيضا سألته عن المكان الذي يريد أن يأخذني إليه، فأكد لي بأن هناك من موظفي وزارة الثقافة والإعلام سوف يوضّحون لنا كيفية إجراء هذا البرنامج التضامني ..

بعد ساعات قليلة وعندما حل الظلام الدامس علينا والقطار يطوي المسافات وبعد أن تناولنا عشاءنا في مطعم القطار، وفي صحبة وحوار لا يُملّ بيني وبين الشهيد علي، أخلد إلى النوم مرة أخرى بسبب تعبه الظاهر عليه دون أن أسأله عن ذلك، وعُدت أنا إلى كتابة القصيدة من جديد. بعد أن أكملت القصيدة وكانت مكوّنة من أربعة عشر بيتا من النوع المربع، كما ذكرت سلفا، وأصبحت مرتاح البال منها، أخلدت إلى النوم أنا أيضا، لكنني لم يطول نومي إلا بضع ساعات فقط واستيقظت قبل شروق الشمس عكس أخي الشهيد علي الذي لم يستيقظ حتى أشرقت شمس العراق علينا قبل أن نصل إلى مدينة الحلة.

لحظات الوصول إلى بغداد الأحرار والسلام:

قبل الوصول إلى بغداد كان يعرّفني الشهيد علي بالمناطق التي لا تبعد كثيرا عن بغداد وعندما وصلنا إلى المحمودية قال لي لم يبق لنا حتى نصل إلى محطة بغداد المركزية سوى إننا نمر على منطقة الدورة والوشاش والطوبجي.

وصل القطار بنا إلى محطة بغداد المركزية والساعة كانت تشير تقريبا إلى ما بين التاسعة والعاشرة صباحاً، واستنشقت هواء بغداد لأول مرّة، رغم أني كنت قد قرأت عنها في الكتب، وسمعت عنها في أحاديث الأهل والمجالس والخطباء على المنابر، وكنت أتمنى أن يأتي ذلك اليوم الذي تطأ قدماي أرض مدينة السلام وتراث ألف ليلة وليلة وسندباد البحري وعمو بابا وأربعين حرامي والقصص والأساطير الكثيرة وعاصمة الرشيد وذكريات الشاعر الأحوازي المعروف ( أبو نؤاس ) ومقالب البهلول أيام الخلافة العباسية ووووووووووووووووووو......

إذاً هذه هي بغداد أمامي بشروق شمسها ونسائم الطبيعة كأنها همسات غزلها على وجهي ترحب بي لأول مرةٍ كترحيب أهلها الأصلاء الكرماء، بغداد أم التأريخ وعاصمة المجد التليد التي تغنى بها الشعراء وكتب عنها الأدباء والمؤرخون، وإحدى مدارس التراث والعلم واللغة كما يؤرخها المؤرخون الى جانب مدرسة الكوفة والبصرة ...

فور نزولي من عربة القطار أخذت أردد بعض أبيات قصيدة الإخوان الرحباني وتلحينهم وغناء فيروز العرب بصوتها الرائع فأبدعت:

بغداد و الشعراء و الصور = ذهب الزمان و ضوعه العطرُ

يا ألف ليلة يا مكملة الأعراس يغسل وجهك القمر

بغداد هل مجد و رائعة = ما كان منك إليهما سفر

أيام أنت الفتح ملعبه = أنّا يحطّ جناحه المطر

عيناك يا بغداد أغنية = يَغنى الوجود بها ويُختصر

لم يُذكرِ الأحرار في وطنٍ = إلا وأهلوك العُلى ذكروا

ذهب الشهيد علي إلى كابينة الهاتف العمومي الموجود في محطة القطار وكان معه رقم هاتف اتصل بالجهة التي نريد أن نذهب اليها – هي جهة إعلامية ثقافية كما أخبرني عنها من قبل - وقال لهم: لقد وصلنا للتو إلى محطة بغداد المركزية، مسافة الطريق ونكون عندكم إن شاء الله.

خرجنا من محطة القطار باتجاه الشارع الذي يطل على منطقة (علاوي الحلة) حيث يوجد هناك موقف خاص بسيارات الأجرة التي تنتظر وصول القطارات من البصرة والموصل، فتوجه الشهيد علي صالح عبد النبي إلى إحدى تلك السيارات، وقال لسائقها:

 نريدك أن توصلنا إلى هذا العنوان الذي في الورقة هذه ..

 وصلنا إلى العنوان المنشود، ودخلنا إلى استعلامات البناية وتلقينا ترحيبا عراقيا رائعا في الإستعلامات، وبعد وصولنا بعشر دقائق تقريبا تم تجهيز مائدة الفطور الصباحي على شرفنا.

بعد ذلك الفطور استأذن الشهيد علي صالح عبد النبي من الحاضرين ليذهب الى بيته، كي يتركني مع الأخوة هؤلاء لاستكمال اجراءات الحشد الجماهيري لنصرة الأحوازيين، فبادرته بالشكر على ما قام به تجاهي ومساعدته لي طوال الأمس حتى هذه اللحظة.

بعد أن ودعنا الشهيد علي تبادلت أطراف الحديث مع الأخوة الإعلاميين الذين كانوا هم أعضاء في اللجنة التنسيقية لهذا الحشد الجماهيري المزمع إقامته، حيث طلبت منهم أن يعطوني فكرة موجزة عن هذا التجمع الكبير وكيف تكون ترتيب الكلمات ومتى ألقي كلمتي، في بداية أعماله أو في النهاية، وكم هو الوقت المحدد لي لألقاء كلمتي أمام الجماهير...

قال لي أحدهم: إنك سوف تلقي كلمتك بعد كلمة حزب البعث العربي الإشتراكي مباشرة لأن الذي يقيم هذا التجمع من أجل نصرة الشعب الأحوازي ( العربستاني ) وبقية الشعوب غير الفارسية في جغرافية إيران هو الحزب والمنظمات الجماهيرية التابعة له، وهو حزب يؤمن بتحرير جميع الأراضي العربية المغتصبة من قبل الأجانب بما فيها الأحواز ( عربستان ) العربي ولن يألوا جهدا في دعم الأحوازيين ( العربستانيين ) من أجل تحرير هذه الأرض العربية المغتصبة وكذلك نصرة بقية الشعوب المضطهدة، وأما بالنسبة للوقت فإنه مفتوح لك وأنت من يقدّر كيف يكون عليه وقتك وقدرتك على الكلام الذي تراه يؤثر في الجماهير الحاضرة وأيضا يؤثر في الجماهير العربية التي تتابع فعاليات ذلك اليوم من خلال شاشات التلفزة العراقية والعربية التي سوف تقوم ببث الفعاليات مباشرة من ملعب الشعب الدولي، فالوقت ليس محدد بالنسبة لك، إستثمر هذه الفرصة الإعلامية خير استثمار من أجل صالح وطنك وقضيتك وشعبك والتأثير فيه لأنه حتما سيتابعك من خلال التلفزيون، فعليك أن تؤثر من خلال كلمتك وأشعارك وإلقائك الحماسي في هذا الشعب الذي يواجه الآلة العسكرية لنظام الإحتلال الإيراني بهمة وتصميم وإرادة لن تلين.

بعد الإنتهاء من إعطائي فكرة عن التجمع قال لي شخص من الحاضرين: أكيد حضرتك متعب الآن من السفر وتريد أن تأخذ قسطا من الراحة، لذا هيأنا لك سيارة مع سائق يأخذك إلى الفندق الذي تم اختياره لتنزل فيه...

قلت له: شكرا أخي العزيز، نعم أنا بحاجة إلى أخذ قسطا من الراحة كي أستعد للقاء الجماهير استعداداً تاماً...

إتصل هذا الشخص بالسائق وقال له: أخي ( أبو حيدر ) خذ ( إبن عمنا ) إلى الفندق كي يرتاح.

شكرتهم على حسن الإستقبال والضيافة ونزلت مع السائق إلى الكراج حيث السيارة ورأيتها سيارة نوع بيجو موديل ( 505 ) لون أبيض، ركبنا فيها واتجهنا صوب الفندق...

ملاحظة:

إن الذي جلب انتباهي آنذاك وحتى بعد ذلك بسنين حين كنت مقيما في العراق هو إنّ أغلب الأشقاء العراقيين يفضلون اللون الأبيض لسياراتهم، خاصة أهالي بغداد الحبيبة... لا أعرف هل لأن عاصمة العراق هي دار السلام واللون الأبيض يرمز إلى السلام، أم لأن اللون الأبيض يلائم الأجواء الحارة أكثر من غيره من الألوان؟

الله أعلم... وأتمنى للعراق ودار السلام أن يحل فيها السلام بدلا من الحروب والقتل والدمار الموجود في هذا البلد الشقيق حاليا.

في الحلقة القادمة نكمل الحديث وإياكم عن تلك اللحظات قبل يومين من إلقاء الكلمة في ملعب الشعب الدولي في بغداد.

حتى ذلك الحين السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 ملاحظة:من أجل تزويدنا بمعلومات، أو تصحيح معلومة، أو تزويدنا بأسماء الشهداء أو بقية المناضلين الذين لربما ننساها ولا نذكرها مع الأسماء التي نذكرها في الحلقات، أو من أجل أي استفسار تودون أن تستفسروه منا، يرجى التواصل معنا عبر الأيميل التالي[email protected]
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف