الأخبار
إعلام إسرائيلي: إسرائيل تستعد لاجتياح رفح "قريباً جداً" وبتنسيق مع واشنطنأبو عبيدة: الاحتلال عالق في غزة ويحاول إيهام العالم بأنه قضى على فصائل المقاومةبعد جنازة السعدني.. نائب مصري يتقدم بتعديل تشريعي لتنظيم تصوير الجنازاتبايدن يعلن استثمار سبعة مليارات دولار في الطاقة الشمسيةوفاة العلامة اليمني الشيخ عبد المجيد الزنداني في تركيامنح الخليجيين تأشيرات شنغن لـ 5 أعوام عند التقديم للمرة الأولىتقرير: إسرائيل تفشل عسكرياً بغزة وتتجه نحو طريق مسدودالخارجية الأمريكية: لا سبيل للقيام بعملية برفح لا تضر بالمدنييننيويورك تايمز: إسرائيل أخفقت وكتائب حماس تحت الأرض وفوقهاحماس تدين تصريحات بلينكن وترفض تحميلها مسؤولية تعطيل الاتفاقمصر تطالب بتحقيق دولي بالمجازر والمقابر الجماعية في قطاع غزةالمراجعة المستقلة للأونروا تخلص إلى أن الوكالة تتبع نهجا حياديا قويامسؤول أممي يدعو للتحقيق باكتشاف مقبرة جماعية في مجمع ناصر الطبي بخانيونسإطلاق مجموعة تنسيق قطاع الإعلام الفلسطينياتفاق على تشكيل هيئة تأسيسية لجمعية الناشرين الفلسطينيين
2024/4/25
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

"العَصَا والمِسْبَحة"...بقلم :شريف الجهني

تاريخ النشر : 2014-08-30
"العَصَا والمِسْبَحة"...بقلم :شريف الجهني
لم أرَ جَدَّي ولكن قيل لي أنه كان من الصالحين الزُهاد، لا يترك قيام الليل أبدا، كل ما بقي من رائحته مسبحة خَرَزاتها خشبية، وعصا غير كاملة الاستقامة كعجوزٍ حناها الدهر، أخبرنا أبى _رحمة الله عليه_ أن جَدَّي كان يطلق على العصا لقب "المُصفّحة"، وعلى المِسبحة "المُضيئة" .."ولا هذه مصفحة ولا تلك مضيئة" قالها أخي الأكبر ساخرًا وهو يضحك ويهُز العصا المِعوجّة بيده اليُمني، ويمسك المسبحة يطوحها فتلتف حول معصم يده اليُسرى..حين مات أبى توزعت بيننا التّرْكة بما شَرع الله ،ولم يبق إلا العَصَا والمِسبحة، فأعطاني أخي المِسبحة، وألقى العَصَا خلف البابِ بغير اكتراثٍ، بطبعي أخشى تُهمة الرياء؛ لذلك لم استعمل مِسبحة جَدَّي إلا مرةً واحدةً.. أخذتها وأنا في طريقي لتأدية فريضة ظُهر الجمعة، ولم تغادر جيب جلبابي الأبيض، فكنت أمرر إصبعيّ على حَباتها و يدي مندسة داخل جيبي، فالمسبحة كانت طويلة جدًا، ولن أسلم من سخرية الأصدقاء، أو ظن الظانين بي الرياء ،فآثرت السلامة، ولم أُخرجها، وعند عودتي علقتها بمسمارين في حائط حجرة أطفالي الصغار ، ونسيتها..وفى ليلة متتابعة النَسَمَاتّ كنا نتسامر فوق سطح المنزل أنا وزوجتي وأولادي ،وفجأة أظلمت الدنيا بانقطاع الكهرباء، فزادت النجومُ لَمعانًا وألقًا، وصارت السماء كسجادةٍ سوداء تبعثرت عليها نُتف الثلج المضئ ..الله ..الله ما أروعهُ من منظرٍ.. قلت لزوجي وولديّ : انقطاع الكهْرُباء جيد في مثل تلك الليالي.. انظروا إلى مَلكوت الله وجمال صّنْعة الخالق...كنا جميعًا ننظر للسماء بتدبرٍ،وإذ بزوجتي تَصيح فَجأة وتَقول : بنيتي نائمة بالأسفل، ولو استيقَظتْ في الظلام ستَموت رُعبًا، وهمّت بالنزول ..فقلت لها وأنا أُسرع نحو درجات السُلم: ابقي مع الأولاد سأنزل إليها،أسرعتُ إلى غرفة طفلتنا المُصابة برهاب الظلام.. وإذا بضوءٍ أبيضٍ متذبذبٍ يتسرب من أسفل الباب، فدفعتُ البابَ لاهثًا مرتابًا ينازعني الخوف، فأبصرتُ طفلتي متربعة على سريرها تنظر مُبتسمة للمِسبحة المُضيئة التي بدأ نورها يخبو رويدًا رويدًا بمجرد ولوجي إلى الغرفة ..حتى أظلمت علينا الغُرفة وأنا مُحتضن طفلتي المبتسمة مشدوهًا فاغر الفاه
......................."2"...........................
في اليوم التالي قَصصتُ على أخي الأكبر ما كان من أمر الِمسبحة، فأخذته الدهشة ووجم طويلاً، ثم نهض وتناول عَصا جَدَّي المُهمّلة خَلف البَاب، وأخذ يتأملها ثم قبّلها وكأنه يَعتذر إليها، وقال لي وهو يَمسح عَليها مُتبركا بها : تلك من رائحة جدّنا الوليّ، ويجب إكرامها ، لم أدرك معنى "إكرامها" إلا عصر اليوم التالي.. فحين عُدته وجدته أتى بنجارٍ حاذقٍ، وصَنع للمُصفّحة المِعْوَجّة صُندوق خَشبي، ولأن العصا معوجَّة أو شِبه مُقوسة كان الصُندوق عَريضًا كأنه نعش صغير، ومن الداخل كان مكسوًا بالقطيفة الحمراء، وموشى من الخارج بصفائح معدنيةٍ مطليةٍ بماء الذَهَب، وكُتب عليه بخط الثُلُث "ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون"، وقد وَضع الصندوق الخَشبي فَوق مِنْضَدةٍ – توسطت الغرفة- عليها مفرش من الحرير الأخضر الغامق، ثم أخرج قنِينة المِسْك وأخذ ينثرهُ على العَصا بسخاءٍ... بَدت الغُرفة كأنها ضَريحٌ لأحد أولياء الله الصَالحين.. واعتلتني الدَهشةُ رغم عِلمي بنزعةِ أخي الصوفية، فهو من محبي آل البيت، ومن شدادي الرُحل.. لا يترك "مولد" في الجوار أو قَصِي إلا وتجده بداخل ساحة الذِكر يميل بجسدهِ يمنًة ويسرًة، ولكن من كثرة ما كانت المسبحة "المضيئة ،والعصا "المصفحة" مثارًا لسخريته ما ظننتُ أن يوليها هذا القدّر من القَداسة، ولكن حقيقة الأمر أن سُخريته القديمة من بقية الجدّ كانت نابعة من شئ ما وقر في قلبه من جدّنا الذي عاصره في أُخريات سنواته، وكان حينها شابًا يافعًا، جَدَّي كان من مَشَايخ الطريقة الرِفاعيّة، يمنح العهدَ لمن شاء من مُريديه، وحين مدّ لهُ أخي الأكبر يدهُ أمام مريديه –كما يحكى- ليأخذ العَهْدَّ منه قَبض جَدَّي كفه وقال له : يا ولدي لست من أهلها والعهد ثَقيل عَليك ..ربما هذه الحَادثة لم تَخرج من قلبهِ رغم مرور عَشرات السنين.. حتى أنني كنتُ أظن أن ولعهُ بالمنهج الصوفي، وصُحبته لأهل الحضرة كان منبعهما رغبته الشديدة ليثبت لنفسه أنه من أهلها وأهل لها ..تسللت تلك الأفكار لرأسي وأنا أقف بمحاذاة العصا ورائحة المسك تغزوني، وأخي ينظر للصندوق بفخرٍ، أو خشوع مصطنع ..مجرد محاولتي إبداء اعتراضي على ما يفعل قوبلت بردٍ حاسمٍ منه، واتهام مُبطن بالجفاء ..وأنهى حديثه الحاد معي وهو يشير بسبابته ناحيتي كأنه سيُطلق رَصاصة من إصبعهِ ويقول: هل نسيتَ حديث "من عادى لي وليا فقد آذنته بحرب " ؟! فانصرفتُ وتركته لحاله فنبرته لم تكن تنبئ بخير
أمست العصا حديث القرية، وعلى استحياءٍ كل ليلة يذهب فردٌ أو ثلاثةٌ لاستئذان أخي في النظرِ إليها، والبعض يذهب للسخرية فيكتم أمامه الضحكات في جوفه ، لينفجر بها في أقرب منتدى.. بدأ عدد مريدي العصا يتزايد حتى أن أخي فتح لحجرة العصا بابا من خارج البيت، وأغلق الباب الداخلي بالطوب الأحمر؛ مما كدّر على أسرته عيشهم فلم يكن منزلهم متسعًا.. وتسربت إشاعة ما لبثت أن انتشرت في القرية عن زوجة حسن القصاب التي لم تَحمل منذ إحدى عشرة سنة، وكان حملها بعد أن مسّت العصا المباركة، فصارت حجرة العصا مقصدًا للنسوةِ العواقر، وأحد كهول القرية من المعمّرين قال بنبرة العارف: أن تلك العصا هي عصا نبي الله موسى، وقد حملها البحرُ إلى جَدَّي وهو يتوضأ لصلاة الفجر في إحدى الليلات المباركة..كان في القرية بعض شُبان السلفية الذين ابدوا اِعتراضًا شديدًا على ما يحدث تطور إلى حد التشاجر بالأيدي مع أخي ومناصريه أمام مسجد القرية ونعتِهم بالمشركين ..حدث ذلك بعد صلاةِ ظهر الجُمعة على مرأى ومسمع من رجالات القرية..انفضت المشاجرة بعد تدخل العُقلاء، ولكن شُبان السلفية كانت تملؤهم الحَماسة واضمروا في أنفسهم أمرا، وعَقدوا العزم على التَخلص من تِلك العَصا مهما كلفهم الأمر، فاستقلوا عربة "نوفل الحشاش" نصف النقل متجهين إلى بيت أخي، فكان صندوق العربة مكدسًا بالجلابيب البيض واللحى المستطالة، والنبابيت المشرعة، واتجهوا إلى بيت أخي مهللين مكبرين ..حاول بعض أهل القرية إثنائهم بلا فائدة، ويبدو أن نوفل الحشاش قد أثقل العيار في تلك الليلة في غرزة عطا تعميرة، فانقلب بحمولته في الرشّاح، فمات من مات وأُصيب من أُصيب، واحتسب أهل القرية تلك كرامة عظيمة للعصا، فتضاعفت أعداد الزوار بشكل مفاجئ، وذاع صِيت العَصا المبُاركة في القُرى المجاورة، والتف المنتفعون حول أخي ونَصّبوه نقيبًا للعصا، فقلب منزله زاوية وذهبت زوجه بأولادها إلى بيت أبيها مغاضبة تطلب الطلاق، كرامات العصا كانت تتوالد وتتكاثر في أذهان الناس..الغريب في الأمر أن المسؤول الكبير دخل قريتنا المنسية لأول مرة منذ توليه منصبه الهام، وجَدَّير بالذكر أن قريتنا تعانى من تهالك في البنية التحتية، وكثيرا ما يختلط ماء الشرب بماء الصرف الصحي، ومشهد النسوة وهن يحملن فوق رؤوسهن القوارير المملوءة بالماء من القرى المجاورة مشهدًا متكررا ومألوفا، لم يأت المسؤول لحل مشكلة نقص الماء أو انقطاع التيار الكهربائي المتكرر أو الانتهاء من المدرسة التي توقفت أعمال البناء فيها منذ سنوات لوجود خلاف مادي بين المحافظة والمقاول.. لم يأت لكل هذه الأمور، بل جاء لينظر العصا المباركة فالتف حوله المخرفون، وأخذوا يقصون عليه كرامات العصا، وقال له أحد المَهابيل بعد أنْ أقسم بالله ومسح مُخاطه بطرف جِلبَابه أنه رآه في الرؤيا وهو يُمْسِك العصا "المصفحة" بيده ويشير بها للصحراء الجرداء فتتحول إلى خَضَار، وطالبوه بتخصِيص قِطعة أرض لهم يبنون عليها مسجدًا وساحة ومُقاما للعصا المباركة، والغريب أنه انصرف مبتهجًا بعد أن لبى مطلبهم وأمر بتخصيص قِطعة أرض ألف وخمسمائة متر مربع - حق انتفاع - في التقسيم الخَارجي للمدينة، وانتهت إجراءات التخصيص في سرعةٍ، فلا أحد يُريد أن يكون سببًا في تَعطيل مسيرة "المٌصفَّحة" فهم لا ينسون ما حدث لشبان السلفية، عَلمتُ بنية أخي بيع الفدانين اللذين ورثَهما عن أبينا،حتى يبنى مُقاما وساحة يليقان بالعصا، فذهبتُ إليه أراجعه في الأمر بعد أن استنجدت بي زوجته خوفا على مستقبل أولادها، فصنع رفقاؤه حائلا بيني وبين الدخول عليه، حاولت الدخول عنوة فتكاثروا عليَّ وشجوا رأسي وتراكلوني بأقدامهم الحافية فانكسر لي ضلعين وتقطعت ملابسي..وقال لي شيخ المسجد وهو يخلصني من بين أرجلهم :ما لك أنت..دع المُلك للمالك الناس يُحبون العصا..عُدتُ إلى منزلي مترنحًا مستندًا على جدران البيوت الخشنة وأنا أقطر دمًا، وتلك الجملة تتردد في رأسي كبندول الساعة"إنهم يحبون العصا...إنهم يحبون العصا" احتجت لشهر لأتعافى.. في تلك الفترة شيدوا على قطعة الأرض المخصصة زاوية بداخلها حجرة ملحقة بها صندوق زجاجي للعصا، وساحة بجواره كاستراحة لاستقبال المريدين، وخصصت الدولة نوبة حراسة شُرطّية حول مقام العصا، وكل يوم يتزايد أعداد المريدين للعصا، وأصبح لها "مولد" سنوي تقام فيه السُرادقات وتُذبح فيه الأُضحيات ..أكتب لكم قصتي ولا أعرف هل ستصلكم أم لا، فقد أتوا بي ذوي الأحذية الثَقيلة إلى هذا المكان الرَطْب بعد أن تسللت خِفية محاولاً إحراق العصا، وتخليص الناس من تلك الخرافة، ولتوه خرج من عندي رجل مشتت النظرات "بوهيمي" الهيئة.. كان يسألني وهو يلف القلم بين إصبعيه، وينظر لعيني بارتيابٍ، عن عددِ أيام الأسبوع، وأسماء شهور السنة، وعدد ساعات اليوم، وللدجاجةِ كم رِجل.. أتدرون.. حين سألني عن عدد أرجل الدجاجة ارتبكتُ وتسرعتُ وقلتُ له : أربعة.. ثم تداركت الأمر وضحكتُ كأنني كنت أمزح، ولكنه لم يبتسم ومنحني قلما وأوراقا بِيض وقال لي: اٌرْسُم ما يروق لك.. فكتبتُ لكم قصتي مع العَصا والمِسبحة، فإذا استطعتُ تسريبها ووصلتكم ـ وما أظنهُ سيحدث ـ انشروها حتى يعلم الجميع أن العصا خُرافة يَجب القضاء عليها قبل أن تَتفشي وتَصير إلهًا
توقيع:صابر منصور محروس
المكان: لا أعلم
التاريخ : ساعة ما من مارس 1966م
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف