رُغم ما أصاب مصر من تدهور سياسى فى أواخر القرن الثامن عشر ، إلا أنها ظلت سوقًا للمتاجر الواردة إليها من الشرق والبحر الأحمر ، وذلك بسبب تمتعها بموقع جغرافى هام ومتميز بين البحر المتوسط وآسيا وإفريقيا وأوروبا والهند ، فظلت مركزًا للمواصلات والتجارة حول العالم .
ومنذ أواخر القرن السابع عشر ، وطوال القرن الثامن عشر ، حظيت الواردات المصرية من فرنسا بنصيب الأسد من التجارة المصرية مع دول أوروبا ، فقد شملت هذه الواردات المنسوجات ، والأوراق ، والنحاس ، والحديد ، والقصدير ، والإبر غير أن الأقمشة – خاصةً أقشمة لانجدوك ومارسيليا – شَكَّلت أهم صادرات فرنسا إلى مصر ، وكان الطلب عليها كبيرًا من جانب بكوات المماليك .
وقد كتب القنصل الفرنسى فى مصر ليرنكور Lencour فى عام 1748م أن”أقمشة لانجدوك أساس تجارة فرنسا فى مصر ، وأن الأقمشة الفرنسية من الجوخ ، تُمثل أحدث صيحات الموضة فيها” .
وقد بلغ ما استوردته مصر من هذه الأقمشة سنويًا حوالى من 350 إلى 400 بالة بيعت فى القاهرة ، و 12 بالة فى رشيد ، ومن 6 – 8 بالات فى الإسكندرية ، وقد نافست المنسوجات الإنجليزية الأقمشة الفرنسية ، وكتب ليرنكور فى هذا الصدد حيثُ قال”الأقمشة الفرنسية أقل فى الثمن ، وألوانها أفضل ، لكن الأقمشة البريطانية تمتاز بالمتانة” .
وقد قدّر فولنى Volney عندما زار مصر أرباح التجار الفرنسيين من بيع أقمشة لانجدوك –900 أو 1000 بالة – بحوالى من 35 – 40 % .
وفى عام 1785م - بعد قيام السلطان العثمانى بتحريم الملاحة فى البحر الأحمر لغير المسلمين (الإفرنج) – أرسل السفير الفرنسى فى الآستانة ضابطًا فرنسيًا يُدعى تروجيه Truget لعقد سلسلة من المعاهدات التجارية مع المماليك ، واعتمد تروجيه فى هذه المفاوضات على تاجر فرنسى يُدعى ماجالون Magalon ؛ لصلته القوية بمراد بك ، الأمر الذى أدّى إلى عقد عدة اتفاقيات مع المماليك ، استطاع الفرنسيون بموجبها استخدام موانئ البحر الأحمر ، كما عقد اتفاقًا مع يوسف كسّاب ملتزم الجمارك المصرية ، واتفاقًا ثالثًا مع الشيخ ناصر شديد لحماية القوافل التى تحمل البضائع الفرنسية ، ونقلها بأمان من السويس إلى القاهرة.
واستمر الوضع هكذا من تفوق للتجارة الفرنسية مع مصر ، حتى عام 1798م ، عندما هُزم الأسطول الفرنسى على يد الأسطول الإنجليزى فى موقعة أبى قير البحرية ، وآل التفوق لصالح التجارة الإنجليزية ؛ نتيجة سيطرتها على البحر المتوسط ، ولم يستطع الفرنسيون منذ ذلك الوقت إعادة مركزهم القديم على الساحة التجارية ، وظل التفوق الإنجليزى طوال القرن التاسع عشر ، بل كان فى ازدياد ، حتى أصبح من العسير على أى دولة منافسة إنجلترا فى هذا الميدان .
عندما تولى محمد على حكم مصر 1805م ، كانت الأوضاع الاقتصادية غير مُستقرة بسبب التهديد المستمر للطرق والأسواق ، من قِبل المماليك والبدو وقطَّاع الطرق ، الأمر الذى حدا بالأسعار إلى الارتفاع بشكل جعل الجبرتى يرصد ذلك فى عام 1217هـ / 1802م .
ومن هذه الأسباب أيضًا اختلال نظام النقد ، وعدم ثبات قيمة العملة ، فقد عرفت مصر العديد من العملات مثل: الذهبية ، والفضية ، والبندقى ، والريال الإسبانى ، والريال الفضة الهولندى ، والريال النمساوى ، وقد كان لهذه العملات احترام كبير بين المصريين ، بيَّن هذا الاحترام الجبرتى فى كتابه “عجائب الآثار” حين قال”عز وجود الفرانسة لرغبة الناس فيه ، ولسلامته من الغش والنقص ، لأن جميع معاملة الكفار سليمة من الغش والنقص ، بخلاف معاملة المسلمين فإن الغالب على جميعها الزيف والخلط والغش والنقص” .
لذا كان على محمد على بذل المزيد من الجهد من أجل تغيير شامل فى هذا النظام ، الذى كان عماد استقلال محمد على عن التبعية العثمانية .
بدأ محمد على هذا التطوير – أو التغيير – فى المجال الزراعى ، حيث استقدم العديد من أصناف البذور الغير معروفة فى مصر ، كما استقدم لزراعة هذه البذور خبراء ومشرفين من العديد من الدول ، من سوريا والشام وأرمينيا ، وقام بتوسيع الرُقعة الزراعية لأصناف أخرى معروفة لدى الزارع ، وقد كان لهذا التطوير مفعول السحر فى المجالين التجارى والصناعى .
ومن جهة أخرى وبتطبيقه لنظام الاحتكار منذ عام 1812م أصبح محمد على الزارع الوحيد ، وقد جنى من ورائه أرباحًا طائلة ؛ نتيجة قدرته هو وحده على التعامل مع التجار ، لإنه كان يجب على الفلاحين فى ضوء هذا النظام تسليم محاصيلهم لأشوان الحكومة .
ولأنه كان تاجرًا فيما سبق فقد أدار محمد على البلاد بعقلية التاجر ، من هنا وجب عليه اتباع العديد من الطرق فى تعامله مع التجار – حتى يَتسّنى له تحقيق المزيد من الأرباح – وذلك بسبب احتياجه الدائم للأموال – لتكوين جيش قوى يخوض به حروبه المختلفة – تمثَّلت هذه الطرق فى البيع فى الخارج لحساب الحكومة ، والبيع بالنسيئة ، والبيع بالمزايدة ، وأخيرًا البيع للتجار الأجانب فى مصر ، وتُخبرنا العديد من الوثائق عن هذه الطرق – وخاصةً البيع للتجار الأجانب – الذى استساغ محمد على التعامل به ؛ لإنه كان يُوفر له الوقت فى أوقات الشدة – عند احتياجه للأموال من أجل مشروعاته الحربية – أولى هذه الوثائق ، تُوضح لنا الأسلوب الذى كان يتعامل به محمد على مع التجار الدائنين له – أو للحكومة – حيث تقول”بقى مايه كيسة ومايتين وزيادة وأقل دينًا على بعض التجار ، وأن أغلبهم مُفلسين ، ورغبة المجلس بيع أملاكهم حتى الملبوسات ، وخصم أثمان ذلك من المطلوب منهم للميرى ، ومعاملتهم فيما يتبقى عليهم بعد ذلك بمقتضى قانون أوروبا الجارى ترجمته ، ويُشير بأن قياس هذا لا يليق ، لأن أهالى أوروبا باتفاق آرائهم وضعوا لكل شئ قواعد وأصول للسير على مقتضاه ، لذا يلزم إبعاث من يكون مديونًا بأكثر من ماية كيسة ، ولا اقتدار له على سداد ذلك بالتقسيط ولا ضامن له إلى الليمان مدة حياته ، ومن يكون مديونًأ بمقدار أكم قرش يُرسل بمدة معينة بنسبة دينه إلى الليمان أيضًا” .
وثيقة أخرىتُورد نفس المحتوى السابق ، حيث قالت ، أن محمد على قد أمر بوغوص بك بالتحقيق فى أمر الأشخاص المديونين للميرى الحماية ، والذين سيتم تقسيط دينهم البالغ قدره ثمانمائة ألف قرش وكسور ، وقد كان هذا الدين على المدعو سابا كحيل حماية سردينيا ، وامتناعه عن سداد الدين ، كما يمتنع القنصل عن إرساله لكى يُسدد دينه ، لذا فقد أمر محمد على “بتعيين قوّاص مخصوص للقبض عليه” .
وثيقة ثالثة تُشير إلى طريقة أخرى اتبعها محمد على فى تعامله مع التجار ، وهى البيع بالمزاد العلنى حيث تُورد، أنه تم فسخ عقد مبايعة الكتّان والغلال والصمغ المُنعقد مع الخواجة توسيجه ، والمسيو باترسيه ، والخواجة صولينويه ، وقد طلب الخواجات طوربورن(ثيربورن) ، وهارس مُحبى مصر مبيع سائر الأصناف بالمزايدة ، لذا لا بأس من مبيع محصولات القطر بالمزاد العمومى .
وثيقة رابعة لها علاقة بالوثيقة السابقة تشير إلى ، أنه قبل فسخ عقد الخواجة توسيجه ، حيث تُوضح لنا الشروط التى كان يفرضها محمد على ، من أجل حصول التجار على أصناف مُعينة فى سنة مُحددة .
فقالت أنه”قد أُجريت بيع كافة محصولات أقطان وكتان ، سنة 59 إلى الخواجة توسيجه فيه قنطار القطن بتسعة ريالات ونصف ، وقنطار الكتان بماية وخمسة وثلاثون قرشًا ، بشرط أن يكون هو الملزوم برسم الكمرك والمصاريف ، فيلزم تسلمه تلك المحصولات إليه ومحاسبته بهذه الصفة” .
من الوثائق السابقة ، يُمكن ملاحظة أن ، محمد على لا يتوانى إطلاقًا عن مُعاقبة من يتهرب عن دفع الأقساط التى يدين بها إلى الحكومة ، أو يتكاسل عن مواعيد السداد ، حتى مع أصدقائه التجار الذين لهم باع طويل مع الحكومة فى البيع والشراء ، عندما يُقصِّروا فى الشروط التى قبلوها ، حين قرروا شراء المحاصيل من أشوان الحكومة ؛ إذن تعامل محمد على مع هؤلاء التجار بالأسلوب الذى يتوافق مع مصلحته الشخصية ، دون النظر إلى علاقات أو روابط ، قد تُثير الدول الأوروبية ورعاياها .
وهذه كانت سياسته دائمًا ، مصلحته أولاً ، ثم المصالح الأخرى ، طالما لا تضر بأهدافه وطموحاته – مبدأ غريب لكن أتى ثماره على مدار ثلاثين عامًا وأكثر منذ بداية حكمه – إلى أن تكالبت الدول الأوروبية عليه فى عام 1841م ، وقامت بتقييد أحلامه وطموحاته ، عندما قلصت سلطاته وعدد جيشه إلى 18.000 جندى .
وعلى الرغم من سعى محمد على الدائم إلى التعامل مع فرنسا فى المجالات المختلفة – خاصةً الحربية والتعليم – إلا أنه فى الميدان التجارى كان نشاطه الأكبر مُتجهًأ نحو إنجلترا ؛ ربما بسبب سيطرة إنجلترا على البحر المتوسط ، واستعمارها للعديد من المناطق ، الأمر الذى أدَّى إلى احتياجها الدائم للموارد والخامات الأولية ، وحاجتها لفتح أسواق جديدة تستطيع من خلالها تصريف منتجاتها ، كل ذلك كان من شأنه ظهور علاقة وطيدة متنامية تجارية ربطت محمد على بإنجلترا طوال فترة حكمه ، وهى نفسها التى قامت بتدميره فى النهاية .
بدأت هذه العلاقة التجارية عام 1809م ، عندما أرادت إنجلترا شراء القمح المصرى ؛ نتيجة لاستمرار الحروب النابليونية وحاجتها لتوفير المؤن للقوات البريطانية ، كما تعرض أهالى جنوب أوروبا لسنواتٍ من القحط والجفاف تزامنت مع هذه الحروب ؛ لذا قامت الحكومة البريطانية بتعيين وكلاء تُجاريين لها لشراء القمح ، وأيقن الباشا أن تجارة الغلال ستعود عليه بالربح الوفير ، فتجاهل قليلاً أوامر الباب العالى فى أن يُرسل الغلال إلى الأقاليم العثمانية التى تعرضت للجفاف ، وأدّى ذلك إلى نشوب علاقة توتر بينهما ، كان محمد على يُخفف من حدتها مُتعللاً بقلة الغلال الموجودة فى الأشوان تارة ، وتارةً أخرى بأنه لا يمكن أن يتأخر على الآستانة فى أى مطلب ، وقصد من ذلك إثبات حُسن نواياه تجاه الباب العالى ، حتى لا يقف عائقًا فى طريق مُتاجرته مع إنجلترا وباقى الدول الأوروبية .
ثم جاءت زراعة القطن – الذى اكتشفه جوميل Jumel فى حديقة محو بك الأورفلى – عام 1820م ، كفاتحة خير على محمد على وخزانته ، ومرة أخرى تتعامل إنجلترا معه ولكن هذه المرة بنهم كبير – بسبب جودة هذا القطن واحتياج مصانعها فى لانكشير Lancashire له – وقد لعبت محاصيل أخرى دورًا فى هذه الصادرات ، أشارت إليها وثيقتين ، من ذلك وثيقة تورد أن محمد على قد أمر بتحصيل 112 قرش جمركًا على صنف الأرز ، والذى يتم تصديره إلى الخارج .
وثيقة ثانية تُخبرنا بأنه قد أمر بتحصيل نفس الجمرك السابق (112 قرش) على كل من بذر الكتّان والسمسم وسائر الحبوب .
وبرغم سيطرة محمد على على تجارة الصادرات ، إلا أنه لم تكن له نفس هذه والسيطرة على تجارة الواردات ، بل كان هو نفسه المستورد الأول فى البلاد ، كما كان للحكومة نصيب كبير من واردات البلاد فى عام 1836م بلغ 40% .
من ذلك نرى وثيقتان تتحدثان فى هذا الشأن ، حيث تُشير الوثيقة الأولى إلى لزوم استيراد 19 ألف دستة مبارد إنجليزى لورشة المهمات.
وتُورد الوثيقة الثانية أن ناظر ورشة العمليات، طلب رسوم لآلات الوابورات الضخمة مثل آلات ورش إنجلترا ، التى سبق التوصية عليها لجلبها ، وقد قام محمد على باستيراد كل الأقمشة القطنية والبضائع المعدنية ، والزجاج ، وبعض الخامات الأخرى اللازمة للأغراض الحربية .
وقد فطن الباشا إلى أنه إذا أراد للتجارة أن تزدهر ، فيجب عليه تطوير الوسائل الأخرى التى قد تُساهم فى ازدهار هذا القطاع ، فأولى منذ توليه الحكم اهتمامًا شديدًا بعملية صك النقود ، وحاول توحيد فئاتها المختلفة فى حركة البيع والشراء ، كما حارب كل من سوّلت له نفسه وقام بالغش فى عملية صكها أو تداولها .
كما قام ببناء العديد من السفن للأغراض التجارية ، وبعد أن فرض سيطرته على البحر المتوسط – بعد فشل حملة فريزر – ويُخبرنا الجبرتى بهذا الأمر فى كتابه عجائب الآثار حيث يقول”استهل شهر ذى الحجة بيوم الأحد سنة 1224هـ / 1808م ، فيه شرع الباشا فى إنشاء مراكب ببحر القلزم(السويس) فطلب الأخشاب الصالحة لذلك ، وأرسل المعنيين لقطع التوت والنبق من القطر المصرى القبلى والبحرى ، وغيرها من الأخشاب المجلوبة من الروم ، وجعل بساحل بولاق ترسانة وورشات ، وجمعوا الصُنَّاع والنجارين والنشارين فهيؤوها ، وتحمل أخشابًا على الجمال ويُركبها الصناع بالسويس سفينة، ثم يقفلونها ويُبيضونها ويُلقونها فى البحر ، فعملوا أربعة سفائن كبار تُسمى الإبريق ، وخلاف ذلك أدوات لحمل السفّار والبضائع ” .
كما عمل على الاهتمام بالمكاييل والموازين وتوحيدها ، والضرب على أيدى من يقومون بالغش فيها ، وحاول أيضًا تنظيم وتنظيف الأشوان ، وجعلها صالحة للتهوية من أجل تخزين المحاصيل فيها ، إلى أن يتم نقلها للتجار ، وقام بالتفتيش عليها بين الحين والآخر ، من أجل مراقبة موظفيها ومنعهم من السرقة أو التزوير.
وأحيا الطريق البرى ، الذى كان رائدًا فى إحيائه توماس واجهورن Thomas Fletcher Waghorn(1800 – 1850) ، الذى سافر فى عام 1829م من لندن إلى بومباى فى رحلة استغرقت أربعين يومًا ونصف اليوم ، وهو رقم قياسى فى ذلك الوقت ، وفى عام 1837م بدأت الرحلات التجارية المنظمة ، بين إنجلترا والإسكندرية وبين السويس وبومباى .
كان النظام الاحتكارى الذى طَبقه محمد على 1812م على النشاط الاقتصادى للدولة (من زراعة وتجارة) ، من أهم العوامل التى ألّبت عليه الدول الأوروبية الكبرى وخاصةً إنجلترا – التى كانت تأخذ فى ذلك الوقت بمبدأ الحماية التجارية لكنها أبت على محمد على أن يتخذ هذه السياسة لحماية اقتصاده ، فقامت بالضغط على الباب العالى ليعقد اتفاقية بلطة ليمان التجارية 1838م معها ، لتفرض من خلالها على محمد على إلغاء هذا النظام – كان هذا هو السبب المعلن – أما عن السبب الخفى أو غير المعلن ، فقد تَمّثل فى فتح أسواق جديدة لتصريف منتجاتها ؛ نتيجة لزيادة السلع المعروضة وقلة الطلب عليها ، وبإنشاء محمد على لصناعة متميزة منذ عام 1816م ، شَكّل ذلك خطرًا وتهديدًا مباشرًا على إنجلترا ، على الرغم من أن هذه الصناعات قد أُنشئت فى الأساس للأغراض الحربية ، لكنه قد استقدم لها العديد من الخبراء ، واستورد مقادير كبيرة من المواد الأولية ، والآلات والماكينات اللازمة لإدارة هذه المصانع ، كما تنوعت هذه الصناعات فكان منها صناعة السكر ، وصناعة الجوخ ، وصناعة الأرز ، وصناعة الزجاج ، وصناعة الحرير ، وصناعة سبائك الحديد ، وأخيرًا الصناعة التى نافست من بعيد المنتجات الإنجليزية وهى صناعة المنسوجات القطنية .
لذا صار عام 1838م بمثابة بداية النهاية لاستقلال محمد على الاقتصادى ، فقد وافق الباب العالى على توقيع معاهدة بلطة ليمان التجارية ، والتى نَصَّت على إلغاء الاحتكار وجعل التجارة حرة فى كافة أنحاء الامبراطورية ، كما حددت الرسوم الجمركية على كلٍ من الصادرات والواردات بقيمة 12% و 5% على التوالى .
وقد قاوم محمد على وبشدة تنفيذ هذه المعاهدة ، لما لها من آثار سلبية كبيرة على خزينة الدولة واقتصادها ، ولكن تحت إلحاح وضغط إنجلترا الشديدين ، وافق محمد على فى النهاية على تنفيذها فى عام 1842م ، وبدأ بالقطن الذى جعل تجارته حرة مع بداية جنى المحصول الجديد فى 10 أكتوبر 1842م ، ثُمَّ كانت الضربة القاضية لمحمد على بعقد الدول الكبرى معاهدة لندن 1841م ، والتى قلصت عدد الجيش إلى 18.000 جندى وقد أدّى ذلك إلى القضاء على الصناعة الناشئة - لاعتمادها على تصنيع منتجات لخدمة الجيش والأسطول – الأمر الذى نتج عنه فتح الباب على مصراعيه للواردات الأجنبية ، وأضعف الصناعة المحلية .
لقد شعر محمد على بضرورة سيطرته وسيطرة دولته على كل وسائل الإنتاج الموجودة فى ذلك الوقت ، حتى يتمكن من تطويرها و وضعها فى خدمة النظام الذى أنشأه فى مصر ، و لكن آلت هذه التجربة إلى الزوال ، بعدما سارعت إنجلترا إلى الحد من طموح هذا الرجل ، وكان لها ما أرادت .
و فى ختام حديثى عن النشاط الاقتصادى المصرى المتميز فى عهد محمد على ، لابد أن أشير إلى وثيقة هامة أرسلها قنصل بريطانيا العام فى مصر إلى حكومته ، فى 5 أغسطس 1849م نذكر الفقرات التالية منها ” إن تَعلُق كل طبقات مصر باسم محمد على ، و احترامها له يُشكل جنازة أفخم مما كان بإمكان حفيده أن يوفره ، فالسكان المتقدمون فى السن يتذكرون الفوضى التى أنقذ هذه البلاد منها ، و يتكلمون عنها ، فى حين يقارن السكان صغار السن حكمه المتميز بحكومة خلفه التى يجرفها الهوى و التردد ” .
” لقد شق طريقه إلى السلطة و الشهرة بشجاعته الفذة ، و بدأبه و ذكائه ، فحين تولى الحكم كانت مصر مقطعة الأوصال نتيجة للنزاعات و الشيع ، كما كانت تتعرض للسلب و النهب على أيدى عصابات جوالة من المغامرين ، كما كانت ماليتها و تجارتها مستنزفتين ، و فى كل محافظة كانت الحياة و الأملاك تحت رحمة أصحاب السطوة ، كما لا يجب علينا أن نشتّد فى انتقاده حين كان يضطر أحيانًا ، بهدف القضاء على عوامل الشر المستشرية ، لدى شعب لا يعترف بقانون سوى قانون القوة والعنف ، إذ يُقر الجميع بأن محمد على لو حكمنا عليه بمقياس كونه عثمانيًا لم يتصف بالقسوة ، إذ أن العقوبات التى نفذها كانت مع بعض الاستثناءات القليلة لازمة لأمنه أو للمحافظة على السلام العام ، و على الرغم من حبه للشهرة و السلطة إلا أن مطامحه لم يلوثها الجشع ، و رغم شدة غضبه إلا أنه لم يستمر طويلاً ” .
تلك كانت شهادة ألد خصومه فيه ، و قد قال ذات مرة لصديقه دكتور بورنج ” لا تعجب إذا رأيتنى أحيانًا عجولاً قليل الصبر ، فقد كنت فى حياتى كلها موفقًا ميمون النقيبة ، لابد أنى ولدت و الطالع سعيد و النجم مبتسم ، ثم لم تفارقنى بعد سعادة الطالع و ابتسامة النجم ” .
و فى رأيى أن ما ذكره القنصل الإنجليزى صحيح ، فقد كان محمد على و بحق مؤسس مصر الحديثة ، فقد أدخل زراعات جديدة و صناعات جديدة ، و عَبَّدْ الطرق من أجل تسيير حركة التجارة ، و قام بتدريب الأيدى العاملة ، وجعل للمصريين شخصية مستقلة تطورت مع مرور الزمن ، نعم كان لحكمه عيوب عديدة ، تمثلت معظمها فى إرهاق الفلاحين بضرائب باهظة وضعها فوق كاهلهم ، و إعطائه الأيدى العاملة أجور زهيدة مقابل عملهم بالمصانع ، لكن و على الرغم من كل ذلك فقد أنعش خزانة الدولة ، بموارد النشاط التجارى المتميز الذى تبادله مع الدول الأوروبية ، وخاصةً إنجلترا حتى أنها و بنهاية عهده قد أمدت مصر بحوالى ثلث وارداتها ، كما صَدَّرت لها مصر نصف صادراتها الكلية .
يسرا محمد سلامة
باحثة دكتوراه تاريخ حديث ومعاصر
كلية الآداب/جامعة الإسكندرية
عضو الجمعية المصرية للدراسات التاريخية
ومنذ أواخر القرن السابع عشر ، وطوال القرن الثامن عشر ، حظيت الواردات المصرية من فرنسا بنصيب الأسد من التجارة المصرية مع دول أوروبا ، فقد شملت هذه الواردات المنسوجات ، والأوراق ، والنحاس ، والحديد ، والقصدير ، والإبر غير أن الأقمشة – خاصةً أقشمة لانجدوك ومارسيليا – شَكَّلت أهم صادرات فرنسا إلى مصر ، وكان الطلب عليها كبيرًا من جانب بكوات المماليك .
وقد كتب القنصل الفرنسى فى مصر ليرنكور Lencour فى عام 1748م أن”أقمشة لانجدوك أساس تجارة فرنسا فى مصر ، وأن الأقمشة الفرنسية من الجوخ ، تُمثل أحدث صيحات الموضة فيها” .
وقد بلغ ما استوردته مصر من هذه الأقمشة سنويًا حوالى من 350 إلى 400 بالة بيعت فى القاهرة ، و 12 بالة فى رشيد ، ومن 6 – 8 بالات فى الإسكندرية ، وقد نافست المنسوجات الإنجليزية الأقمشة الفرنسية ، وكتب ليرنكور فى هذا الصدد حيثُ قال”الأقمشة الفرنسية أقل فى الثمن ، وألوانها أفضل ، لكن الأقمشة البريطانية تمتاز بالمتانة” .
وقد قدّر فولنى Volney عندما زار مصر أرباح التجار الفرنسيين من بيع أقمشة لانجدوك –900 أو 1000 بالة – بحوالى من 35 – 40 % .
وفى عام 1785م - بعد قيام السلطان العثمانى بتحريم الملاحة فى البحر الأحمر لغير المسلمين (الإفرنج) – أرسل السفير الفرنسى فى الآستانة ضابطًا فرنسيًا يُدعى تروجيه Truget لعقد سلسلة من المعاهدات التجارية مع المماليك ، واعتمد تروجيه فى هذه المفاوضات على تاجر فرنسى يُدعى ماجالون Magalon ؛ لصلته القوية بمراد بك ، الأمر الذى أدّى إلى عقد عدة اتفاقيات مع المماليك ، استطاع الفرنسيون بموجبها استخدام موانئ البحر الأحمر ، كما عقد اتفاقًا مع يوسف كسّاب ملتزم الجمارك المصرية ، واتفاقًا ثالثًا مع الشيخ ناصر شديد لحماية القوافل التى تحمل البضائع الفرنسية ، ونقلها بأمان من السويس إلى القاهرة.
واستمر الوضع هكذا من تفوق للتجارة الفرنسية مع مصر ، حتى عام 1798م ، عندما هُزم الأسطول الفرنسى على يد الأسطول الإنجليزى فى موقعة أبى قير البحرية ، وآل التفوق لصالح التجارة الإنجليزية ؛ نتيجة سيطرتها على البحر المتوسط ، ولم يستطع الفرنسيون منذ ذلك الوقت إعادة مركزهم القديم على الساحة التجارية ، وظل التفوق الإنجليزى طوال القرن التاسع عشر ، بل كان فى ازدياد ، حتى أصبح من العسير على أى دولة منافسة إنجلترا فى هذا الميدان .
عندما تولى محمد على حكم مصر 1805م ، كانت الأوضاع الاقتصادية غير مُستقرة بسبب التهديد المستمر للطرق والأسواق ، من قِبل المماليك والبدو وقطَّاع الطرق ، الأمر الذى حدا بالأسعار إلى الارتفاع بشكل جعل الجبرتى يرصد ذلك فى عام 1217هـ / 1802م .
ومن هذه الأسباب أيضًا اختلال نظام النقد ، وعدم ثبات قيمة العملة ، فقد عرفت مصر العديد من العملات مثل: الذهبية ، والفضية ، والبندقى ، والريال الإسبانى ، والريال الفضة الهولندى ، والريال النمساوى ، وقد كان لهذه العملات احترام كبير بين المصريين ، بيَّن هذا الاحترام الجبرتى فى كتابه “عجائب الآثار” حين قال”عز وجود الفرانسة لرغبة الناس فيه ، ولسلامته من الغش والنقص ، لأن جميع معاملة الكفار سليمة من الغش والنقص ، بخلاف معاملة المسلمين فإن الغالب على جميعها الزيف والخلط والغش والنقص” .
لذا كان على محمد على بذل المزيد من الجهد من أجل تغيير شامل فى هذا النظام ، الذى كان عماد استقلال محمد على عن التبعية العثمانية .
بدأ محمد على هذا التطوير – أو التغيير – فى المجال الزراعى ، حيث استقدم العديد من أصناف البذور الغير معروفة فى مصر ، كما استقدم لزراعة هذه البذور خبراء ومشرفين من العديد من الدول ، من سوريا والشام وأرمينيا ، وقام بتوسيع الرُقعة الزراعية لأصناف أخرى معروفة لدى الزارع ، وقد كان لهذا التطوير مفعول السحر فى المجالين التجارى والصناعى .
ومن جهة أخرى وبتطبيقه لنظام الاحتكار منذ عام 1812م أصبح محمد على الزارع الوحيد ، وقد جنى من ورائه أرباحًا طائلة ؛ نتيجة قدرته هو وحده على التعامل مع التجار ، لإنه كان يجب على الفلاحين فى ضوء هذا النظام تسليم محاصيلهم لأشوان الحكومة .
ولأنه كان تاجرًا فيما سبق فقد أدار محمد على البلاد بعقلية التاجر ، من هنا وجب عليه اتباع العديد من الطرق فى تعامله مع التجار – حتى يَتسّنى له تحقيق المزيد من الأرباح – وذلك بسبب احتياجه الدائم للأموال – لتكوين جيش قوى يخوض به حروبه المختلفة – تمثَّلت هذه الطرق فى البيع فى الخارج لحساب الحكومة ، والبيع بالنسيئة ، والبيع بالمزايدة ، وأخيرًا البيع للتجار الأجانب فى مصر ، وتُخبرنا العديد من الوثائق عن هذه الطرق – وخاصةً البيع للتجار الأجانب – الذى استساغ محمد على التعامل به ؛ لإنه كان يُوفر له الوقت فى أوقات الشدة – عند احتياجه للأموال من أجل مشروعاته الحربية – أولى هذه الوثائق ، تُوضح لنا الأسلوب الذى كان يتعامل به محمد على مع التجار الدائنين له – أو للحكومة – حيث تقول”بقى مايه كيسة ومايتين وزيادة وأقل دينًا على بعض التجار ، وأن أغلبهم مُفلسين ، ورغبة المجلس بيع أملاكهم حتى الملبوسات ، وخصم أثمان ذلك من المطلوب منهم للميرى ، ومعاملتهم فيما يتبقى عليهم بعد ذلك بمقتضى قانون أوروبا الجارى ترجمته ، ويُشير بأن قياس هذا لا يليق ، لأن أهالى أوروبا باتفاق آرائهم وضعوا لكل شئ قواعد وأصول للسير على مقتضاه ، لذا يلزم إبعاث من يكون مديونًا بأكثر من ماية كيسة ، ولا اقتدار له على سداد ذلك بالتقسيط ولا ضامن له إلى الليمان مدة حياته ، ومن يكون مديونًأ بمقدار أكم قرش يُرسل بمدة معينة بنسبة دينه إلى الليمان أيضًا” .
وثيقة أخرىتُورد نفس المحتوى السابق ، حيث قالت ، أن محمد على قد أمر بوغوص بك بالتحقيق فى أمر الأشخاص المديونين للميرى الحماية ، والذين سيتم تقسيط دينهم البالغ قدره ثمانمائة ألف قرش وكسور ، وقد كان هذا الدين على المدعو سابا كحيل حماية سردينيا ، وامتناعه عن سداد الدين ، كما يمتنع القنصل عن إرساله لكى يُسدد دينه ، لذا فقد أمر محمد على “بتعيين قوّاص مخصوص للقبض عليه” .
وثيقة ثالثة تُشير إلى طريقة أخرى اتبعها محمد على فى تعامله مع التجار ، وهى البيع بالمزاد العلنى حيث تُورد، أنه تم فسخ عقد مبايعة الكتّان والغلال والصمغ المُنعقد مع الخواجة توسيجه ، والمسيو باترسيه ، والخواجة صولينويه ، وقد طلب الخواجات طوربورن(ثيربورن) ، وهارس مُحبى مصر مبيع سائر الأصناف بالمزايدة ، لذا لا بأس من مبيع محصولات القطر بالمزاد العمومى .
وثيقة رابعة لها علاقة بالوثيقة السابقة تشير إلى ، أنه قبل فسخ عقد الخواجة توسيجه ، حيث تُوضح لنا الشروط التى كان يفرضها محمد على ، من أجل حصول التجار على أصناف مُعينة فى سنة مُحددة .
فقالت أنه”قد أُجريت بيع كافة محصولات أقطان وكتان ، سنة 59 إلى الخواجة توسيجه فيه قنطار القطن بتسعة ريالات ونصف ، وقنطار الكتان بماية وخمسة وثلاثون قرشًا ، بشرط أن يكون هو الملزوم برسم الكمرك والمصاريف ، فيلزم تسلمه تلك المحصولات إليه ومحاسبته بهذه الصفة” .
من الوثائق السابقة ، يُمكن ملاحظة أن ، محمد على لا يتوانى إطلاقًا عن مُعاقبة من يتهرب عن دفع الأقساط التى يدين بها إلى الحكومة ، أو يتكاسل عن مواعيد السداد ، حتى مع أصدقائه التجار الذين لهم باع طويل مع الحكومة فى البيع والشراء ، عندما يُقصِّروا فى الشروط التى قبلوها ، حين قرروا شراء المحاصيل من أشوان الحكومة ؛ إذن تعامل محمد على مع هؤلاء التجار بالأسلوب الذى يتوافق مع مصلحته الشخصية ، دون النظر إلى علاقات أو روابط ، قد تُثير الدول الأوروبية ورعاياها .
وهذه كانت سياسته دائمًا ، مصلحته أولاً ، ثم المصالح الأخرى ، طالما لا تضر بأهدافه وطموحاته – مبدأ غريب لكن أتى ثماره على مدار ثلاثين عامًا وأكثر منذ بداية حكمه – إلى أن تكالبت الدول الأوروبية عليه فى عام 1841م ، وقامت بتقييد أحلامه وطموحاته ، عندما قلصت سلطاته وعدد جيشه إلى 18.000 جندى .
وعلى الرغم من سعى محمد على الدائم إلى التعامل مع فرنسا فى المجالات المختلفة – خاصةً الحربية والتعليم – إلا أنه فى الميدان التجارى كان نشاطه الأكبر مُتجهًأ نحو إنجلترا ؛ ربما بسبب سيطرة إنجلترا على البحر المتوسط ، واستعمارها للعديد من المناطق ، الأمر الذى أدَّى إلى احتياجها الدائم للموارد والخامات الأولية ، وحاجتها لفتح أسواق جديدة تستطيع من خلالها تصريف منتجاتها ، كل ذلك كان من شأنه ظهور علاقة وطيدة متنامية تجارية ربطت محمد على بإنجلترا طوال فترة حكمه ، وهى نفسها التى قامت بتدميره فى النهاية .
بدأت هذه العلاقة التجارية عام 1809م ، عندما أرادت إنجلترا شراء القمح المصرى ؛ نتيجة لاستمرار الحروب النابليونية وحاجتها لتوفير المؤن للقوات البريطانية ، كما تعرض أهالى جنوب أوروبا لسنواتٍ من القحط والجفاف تزامنت مع هذه الحروب ؛ لذا قامت الحكومة البريطانية بتعيين وكلاء تُجاريين لها لشراء القمح ، وأيقن الباشا أن تجارة الغلال ستعود عليه بالربح الوفير ، فتجاهل قليلاً أوامر الباب العالى فى أن يُرسل الغلال إلى الأقاليم العثمانية التى تعرضت للجفاف ، وأدّى ذلك إلى نشوب علاقة توتر بينهما ، كان محمد على يُخفف من حدتها مُتعللاً بقلة الغلال الموجودة فى الأشوان تارة ، وتارةً أخرى بأنه لا يمكن أن يتأخر على الآستانة فى أى مطلب ، وقصد من ذلك إثبات حُسن نواياه تجاه الباب العالى ، حتى لا يقف عائقًا فى طريق مُتاجرته مع إنجلترا وباقى الدول الأوروبية .
ثم جاءت زراعة القطن – الذى اكتشفه جوميل Jumel فى حديقة محو بك الأورفلى – عام 1820م ، كفاتحة خير على محمد على وخزانته ، ومرة أخرى تتعامل إنجلترا معه ولكن هذه المرة بنهم كبير – بسبب جودة هذا القطن واحتياج مصانعها فى لانكشير Lancashire له – وقد لعبت محاصيل أخرى دورًا فى هذه الصادرات ، أشارت إليها وثيقتين ، من ذلك وثيقة تورد أن محمد على قد أمر بتحصيل 112 قرش جمركًا على صنف الأرز ، والذى يتم تصديره إلى الخارج .
وثيقة ثانية تُخبرنا بأنه قد أمر بتحصيل نفس الجمرك السابق (112 قرش) على كل من بذر الكتّان والسمسم وسائر الحبوب .
وبرغم سيطرة محمد على على تجارة الصادرات ، إلا أنه لم تكن له نفس هذه والسيطرة على تجارة الواردات ، بل كان هو نفسه المستورد الأول فى البلاد ، كما كان للحكومة نصيب كبير من واردات البلاد فى عام 1836م بلغ 40% .
من ذلك نرى وثيقتان تتحدثان فى هذا الشأن ، حيث تُشير الوثيقة الأولى إلى لزوم استيراد 19 ألف دستة مبارد إنجليزى لورشة المهمات.
وتُورد الوثيقة الثانية أن ناظر ورشة العمليات، طلب رسوم لآلات الوابورات الضخمة مثل آلات ورش إنجلترا ، التى سبق التوصية عليها لجلبها ، وقد قام محمد على باستيراد كل الأقمشة القطنية والبضائع المعدنية ، والزجاج ، وبعض الخامات الأخرى اللازمة للأغراض الحربية .
وقد فطن الباشا إلى أنه إذا أراد للتجارة أن تزدهر ، فيجب عليه تطوير الوسائل الأخرى التى قد تُساهم فى ازدهار هذا القطاع ، فأولى منذ توليه الحكم اهتمامًا شديدًا بعملية صك النقود ، وحاول توحيد فئاتها المختلفة فى حركة البيع والشراء ، كما حارب كل من سوّلت له نفسه وقام بالغش فى عملية صكها أو تداولها .
كما قام ببناء العديد من السفن للأغراض التجارية ، وبعد أن فرض سيطرته على البحر المتوسط – بعد فشل حملة فريزر – ويُخبرنا الجبرتى بهذا الأمر فى كتابه عجائب الآثار حيث يقول”استهل شهر ذى الحجة بيوم الأحد سنة 1224هـ / 1808م ، فيه شرع الباشا فى إنشاء مراكب ببحر القلزم(السويس) فطلب الأخشاب الصالحة لذلك ، وأرسل المعنيين لقطع التوت والنبق من القطر المصرى القبلى والبحرى ، وغيرها من الأخشاب المجلوبة من الروم ، وجعل بساحل بولاق ترسانة وورشات ، وجمعوا الصُنَّاع والنجارين والنشارين فهيؤوها ، وتحمل أخشابًا على الجمال ويُركبها الصناع بالسويس سفينة، ثم يقفلونها ويُبيضونها ويُلقونها فى البحر ، فعملوا أربعة سفائن كبار تُسمى الإبريق ، وخلاف ذلك أدوات لحمل السفّار والبضائع ” .
كما عمل على الاهتمام بالمكاييل والموازين وتوحيدها ، والضرب على أيدى من يقومون بالغش فيها ، وحاول أيضًا تنظيم وتنظيف الأشوان ، وجعلها صالحة للتهوية من أجل تخزين المحاصيل فيها ، إلى أن يتم نقلها للتجار ، وقام بالتفتيش عليها بين الحين والآخر ، من أجل مراقبة موظفيها ومنعهم من السرقة أو التزوير.
وأحيا الطريق البرى ، الذى كان رائدًا فى إحيائه توماس واجهورن Thomas Fletcher Waghorn(1800 – 1850) ، الذى سافر فى عام 1829م من لندن إلى بومباى فى رحلة استغرقت أربعين يومًا ونصف اليوم ، وهو رقم قياسى فى ذلك الوقت ، وفى عام 1837م بدأت الرحلات التجارية المنظمة ، بين إنجلترا والإسكندرية وبين السويس وبومباى .
كان النظام الاحتكارى الذى طَبقه محمد على 1812م على النشاط الاقتصادى للدولة (من زراعة وتجارة) ، من أهم العوامل التى ألّبت عليه الدول الأوروبية الكبرى وخاصةً إنجلترا – التى كانت تأخذ فى ذلك الوقت بمبدأ الحماية التجارية لكنها أبت على محمد على أن يتخذ هذه السياسة لحماية اقتصاده ، فقامت بالضغط على الباب العالى ليعقد اتفاقية بلطة ليمان التجارية 1838م معها ، لتفرض من خلالها على محمد على إلغاء هذا النظام – كان هذا هو السبب المعلن – أما عن السبب الخفى أو غير المعلن ، فقد تَمّثل فى فتح أسواق جديدة لتصريف منتجاتها ؛ نتيجة لزيادة السلع المعروضة وقلة الطلب عليها ، وبإنشاء محمد على لصناعة متميزة منذ عام 1816م ، شَكّل ذلك خطرًا وتهديدًا مباشرًا على إنجلترا ، على الرغم من أن هذه الصناعات قد أُنشئت فى الأساس للأغراض الحربية ، لكنه قد استقدم لها العديد من الخبراء ، واستورد مقادير كبيرة من المواد الأولية ، والآلات والماكينات اللازمة لإدارة هذه المصانع ، كما تنوعت هذه الصناعات فكان منها صناعة السكر ، وصناعة الجوخ ، وصناعة الأرز ، وصناعة الزجاج ، وصناعة الحرير ، وصناعة سبائك الحديد ، وأخيرًا الصناعة التى نافست من بعيد المنتجات الإنجليزية وهى صناعة المنسوجات القطنية .
لذا صار عام 1838م بمثابة بداية النهاية لاستقلال محمد على الاقتصادى ، فقد وافق الباب العالى على توقيع معاهدة بلطة ليمان التجارية ، والتى نَصَّت على إلغاء الاحتكار وجعل التجارة حرة فى كافة أنحاء الامبراطورية ، كما حددت الرسوم الجمركية على كلٍ من الصادرات والواردات بقيمة 12% و 5% على التوالى .
وقد قاوم محمد على وبشدة تنفيذ هذه المعاهدة ، لما لها من آثار سلبية كبيرة على خزينة الدولة واقتصادها ، ولكن تحت إلحاح وضغط إنجلترا الشديدين ، وافق محمد على فى النهاية على تنفيذها فى عام 1842م ، وبدأ بالقطن الذى جعل تجارته حرة مع بداية جنى المحصول الجديد فى 10 أكتوبر 1842م ، ثُمَّ كانت الضربة القاضية لمحمد على بعقد الدول الكبرى معاهدة لندن 1841م ، والتى قلصت عدد الجيش إلى 18.000 جندى وقد أدّى ذلك إلى القضاء على الصناعة الناشئة - لاعتمادها على تصنيع منتجات لخدمة الجيش والأسطول – الأمر الذى نتج عنه فتح الباب على مصراعيه للواردات الأجنبية ، وأضعف الصناعة المحلية .
لقد شعر محمد على بضرورة سيطرته وسيطرة دولته على كل وسائل الإنتاج الموجودة فى ذلك الوقت ، حتى يتمكن من تطويرها و وضعها فى خدمة النظام الذى أنشأه فى مصر ، و لكن آلت هذه التجربة إلى الزوال ، بعدما سارعت إنجلترا إلى الحد من طموح هذا الرجل ، وكان لها ما أرادت .
و فى ختام حديثى عن النشاط الاقتصادى المصرى المتميز فى عهد محمد على ، لابد أن أشير إلى وثيقة هامة أرسلها قنصل بريطانيا العام فى مصر إلى حكومته ، فى 5 أغسطس 1849م نذكر الفقرات التالية منها ” إن تَعلُق كل طبقات مصر باسم محمد على ، و احترامها له يُشكل جنازة أفخم مما كان بإمكان حفيده أن يوفره ، فالسكان المتقدمون فى السن يتذكرون الفوضى التى أنقذ هذه البلاد منها ، و يتكلمون عنها ، فى حين يقارن السكان صغار السن حكمه المتميز بحكومة خلفه التى يجرفها الهوى و التردد ” .
” لقد شق طريقه إلى السلطة و الشهرة بشجاعته الفذة ، و بدأبه و ذكائه ، فحين تولى الحكم كانت مصر مقطعة الأوصال نتيجة للنزاعات و الشيع ، كما كانت تتعرض للسلب و النهب على أيدى عصابات جوالة من المغامرين ، كما كانت ماليتها و تجارتها مستنزفتين ، و فى كل محافظة كانت الحياة و الأملاك تحت رحمة أصحاب السطوة ، كما لا يجب علينا أن نشتّد فى انتقاده حين كان يضطر أحيانًا ، بهدف القضاء على عوامل الشر المستشرية ، لدى شعب لا يعترف بقانون سوى قانون القوة والعنف ، إذ يُقر الجميع بأن محمد على لو حكمنا عليه بمقياس كونه عثمانيًا لم يتصف بالقسوة ، إذ أن العقوبات التى نفذها كانت مع بعض الاستثناءات القليلة لازمة لأمنه أو للمحافظة على السلام العام ، و على الرغم من حبه للشهرة و السلطة إلا أن مطامحه لم يلوثها الجشع ، و رغم شدة غضبه إلا أنه لم يستمر طويلاً ” .
تلك كانت شهادة ألد خصومه فيه ، و قد قال ذات مرة لصديقه دكتور بورنج ” لا تعجب إذا رأيتنى أحيانًا عجولاً قليل الصبر ، فقد كنت فى حياتى كلها موفقًا ميمون النقيبة ، لابد أنى ولدت و الطالع سعيد و النجم مبتسم ، ثم لم تفارقنى بعد سعادة الطالع و ابتسامة النجم ” .
و فى رأيى أن ما ذكره القنصل الإنجليزى صحيح ، فقد كان محمد على و بحق مؤسس مصر الحديثة ، فقد أدخل زراعات جديدة و صناعات جديدة ، و عَبَّدْ الطرق من أجل تسيير حركة التجارة ، و قام بتدريب الأيدى العاملة ، وجعل للمصريين شخصية مستقلة تطورت مع مرور الزمن ، نعم كان لحكمه عيوب عديدة ، تمثلت معظمها فى إرهاق الفلاحين بضرائب باهظة وضعها فوق كاهلهم ، و إعطائه الأيدى العاملة أجور زهيدة مقابل عملهم بالمصانع ، لكن و على الرغم من كل ذلك فقد أنعش خزانة الدولة ، بموارد النشاط التجارى المتميز الذى تبادله مع الدول الأوروبية ، وخاصةً إنجلترا حتى أنها و بنهاية عهده قد أمدت مصر بحوالى ثلث وارداتها ، كما صَدَّرت لها مصر نصف صادراتها الكلية .
يسرا محمد سلامة
باحثة دكتوراه تاريخ حديث ومعاصر
كلية الآداب/جامعة الإسكندرية
عضو الجمعية المصرية للدراسات التاريخية