الأخبار
بعد جنازة السعدني.. نائب مصري يتقدم بتعديل تشريعي لتنظيم تصوير الجنازاتبايدن يعلن استثمار سبعة مليارات دولار في الطاقة الشمسيةوفاة العلامة اليمني الشيخ عبد المجيد الزنداني في تركيامنح الخليجيين تأشيرات شنغن لـ 5 أعوام عند التقديم للمرة الأولىتقرير: إسرائيل تفشل عسكريا بغزة وتتجه نحو طريق مسدودالخارجية الأمريكية: لا سبيل للقيام بعملية برفح لا تضر بالمدنييننيويورك تايمز: إسرائيل أخفقت وكتائب حماس تحت الأرض وفوقهاحماس تدين تصريحات بلينكن وترفض تحميلها مسؤولية تعطيل الاتفاقمصر تطالب بتحقيق دولي بالمجازر والمقابر الجماعية في قطاع غزةالمراجعة المستقلة للأونروا تخلص إلى أن الوكالة تتبع نهجا حياديا قويامسؤول أممي يدعو للتحقيق باكتشاف مقبرة جماعية في مجمع ناصر الطبي بخانيونسإطلاق مجموعة تنسيق قطاع الإعلام الفلسطينياتفاق على تشكيل هيئة تأسيسية لجمعية الناشرين الفلسطينيينمسؤولون أميركيون:إسرائيل لم تضع خطة لإجلاء المدنيين من رفح..وحماس ستظلّ قوة بغزة بعد الحربنتنياهو: سنزيد الضغط العسكري والسياسي على حماس خلال الأيام المقبلة
2024/4/23
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

محمد علي باشا ونهضة مصر الحديثة بقلم:يسرا محمد سلامة

تاريخ النشر : 2014-08-29
محمد علي باشا ونهضة مصر الحديثة بقلم:يسرا محمد سلامة
رُغم ما أصاب مصر من تدهور سياسى فى أواخر القرن الثامن عشر ، إلا أنها ظلت سوقًا للمتاجر الواردة إليها من الشرق والبحر الأحمر ، وذلك بسبب تمتعها بموقع جغرافى هام ومتميز بين البحر المتوسط وآسيا وإفريقيا وأوروبا والهند ، فظلت مركزًا للمواصلات والتجارة حول العالم .
ومنذ أواخر القرن السابع عشر ، وطوال القرن الثامن عشر ، حظيت الواردات المصرية من فرنسا بنصيب الأسد من التجارة المصرية مع دول أوروبا ، فقد شملت هذه الواردات المنسوجات ، والأوراق ، والنحاس ، والحديد ، والقصدير ، والإبر غير أن الأقمشة – خاصةً أقشمة لانجدوك ومارسيليا – شَكَّلت أهم صادرات فرنسا إلى مصر ، وكان الطلب عليها كبيرًا من جانب بكوات المماليك .
وقد كتب القنصل الفرنسى فى مصر ليرنكور Lencour فى عام 1748م أن”أقمشة لانجدوك أساس تجارة فرنسا فى مصر ، وأن الأقمشة الفرنسية من الجوخ ، تُمثل أحدث صيحات الموضة فيها” .
وقد بلغ ما استوردته مصر من هذه الأقمشة سنويًا حوالى من 350 إلى 400 بالة بيعت فى القاهرة ، و 12 بالة فى رشيد ، ومن 6 – 8 بالات فى الإسكندرية ، وقد نافست المنسوجات الإنجليزية الأقمشة الفرنسية ، وكتب ليرنكور فى هذا الصدد حيثُ قال”الأقمشة الفرنسية أقل فى الثمن ، وألوانها أفضل ، لكن الأقمشة البريطانية تمتاز بالمتانة” .
وقد قدّر فولنى Volney عندما زار مصر أرباح التجار الفرنسيين من بيع أقمشة لانجدوك –900 أو 1000 بالة – بحوالى من 35 – 40 % .
وفى عام 1785م - بعد قيام السلطان العثمانى بتحريم الملاحة فى البحر الأحمر لغير المسلمين (الإفرنج) – أرسل السفير الفرنسى فى الآستانة ضابطًا فرنسيًا يُدعى تروجيه Truget لعقد سلسلة من المعاهدات التجارية مع المماليك ، واعتمد تروجيه فى هذه المفاوضات على تاجر فرنسى يُدعى ماجالون Magalon ؛ لصلته القوية بمراد بك ، الأمر الذى أدّى إلى عقد عدة اتفاقيات مع المماليك ، استطاع الفرنسيون بموجبها استخدام موانئ البحر الأحمر ، كما عقد اتفاقًا مع يوسف كسّاب ملتزم الجمارك المصرية ، واتفاقًا ثالثًا مع الشيخ ناصر شديد لحماية القوافل التى تحمل البضائع الفرنسية ، ونقلها بأمان من السويس إلى القاهرة.
واستمر الوضع هكذا من تفوق للتجارة الفرنسية مع مصر ، حتى عام 1798م ، عندما هُزم الأسطول الفرنسى على يد الأسطول الإنجليزى فى موقعة أبى قير البحرية ، وآل التفوق لصالح التجارة الإنجليزية ؛ نتيجة سيطرتها على البحر المتوسط ، ولم يستطع الفرنسيون منذ ذلك الوقت إعادة مركزهم القديم على الساحة التجارية ، وظل التفوق الإنجليزى طوال القرن التاسع عشر ، بل كان فى ازدياد ، حتى أصبح من العسير على أى دولة منافسة إنجلترا فى هذا الميدان .
عندما تولى محمد على حكم مصر 1805م ، كانت الأوضاع الاقتصادية غير مُستقرة بسبب التهديد المستمر للطرق والأسواق ، من قِبل المماليك والبدو وقطَّاع الطرق ، الأمر الذى حدا بالأسعار إلى الارتفاع بشكل جعل الجبرتى يرصد ذلك فى عام 1217هـ / 1802م .
ومن هذه الأسباب أيضًا اختلال نظام النقد ، وعدم ثبات قيمة العملة ، فقد عرفت مصر العديد من العملات مثل: الذهبية ، والفضية ، والبندقى ، والريال الإسبانى ، والريال الفضة الهولندى ، والريال النمساوى ، وقد كان لهذه العملات احترام كبير بين المصريين ، بيَّن هذا الاحترام الجبرتى فى كتابه “عجائب الآثار” حين قال”عز وجود الفرانسة لرغبة الناس فيه ، ولسلامته من الغش والنقص ، لأن جميع معاملة الكفار سليمة من الغش والنقص ، بخلاف معاملة المسلمين فإن الغالب على جميعها الزيف والخلط والغش والنقص” .
لذا كان على محمد على بذل المزيد من الجهد من أجل تغيير شامل فى هذا النظام ، الذى كان عماد استقلال محمد على عن التبعية العثمانية .
بدأ محمد على هذا التطوير – أو التغيير – فى المجال الزراعى ، حيث استقدم العديد من أصناف البذور الغير معروفة فى مصر ، كما استقدم لزراعة هذه البذور خبراء ومشرفين من العديد من الدول ، من سوريا والشام وأرمينيا ، وقام بتوسيع الرُقعة الزراعية لأصناف أخرى معروفة لدى الزارع ، وقد كان لهذا التطوير مفعول السحر فى المجالين التجارى والصناعى .
ومن جهة أخرى وبتطبيقه لنظام الاحتكار منذ عام 1812م أصبح محمد على الزارع الوحيد ، وقد جنى من ورائه أرباحًا طائلة ؛ نتيجة قدرته هو وحده على التعامل مع التجار ، لإنه كان يجب على الفلاحين فى ضوء هذا النظام تسليم محاصيلهم لأشوان الحكومة .
ولأنه كان تاجرًا فيما سبق فقد أدار محمد على البلاد بعقلية التاجر ، من هنا وجب عليه اتباع العديد من الطرق فى تعامله مع التجار – حتى يَتسّنى له تحقيق المزيد من الأرباح – وذلك بسبب احتياجه الدائم للأموال – لتكوين جيش قوى يخوض به حروبه المختلفة – تمثَّلت هذه الطرق فى البيع فى الخارج لحساب الحكومة ، والبيع بالنسيئة ، والبيع بالمزايدة ، وأخيرًا البيع للتجار الأجانب فى مصر ، وتُخبرنا العديد من الوثائق عن هذه الطرق – وخاصةً البيع للتجار الأجانب – الذى استساغ محمد على التعامل به ؛ لإنه كان يُوفر له الوقت فى أوقات الشدة – عند احتياجه للأموال من أجل مشروعاته الحربية – أولى هذه الوثائق ، تُوضح لنا الأسلوب الذى كان يتعامل به محمد على مع التجار الدائنين له – أو للحكومة – حيث تقول”بقى مايه كيسة ومايتين وزيادة وأقل دينًا على بعض التجار ، وأن أغلبهم مُفلسين ، ورغبة المجلس بيع أملاكهم حتى الملبوسات ، وخصم أثمان ذلك من المطلوب منهم للميرى ، ومعاملتهم فيما يتبقى عليهم بعد ذلك بمقتضى قانون أوروبا الجارى ترجمته ، ويُشير بأن قياس هذا لا يليق ، لأن أهالى أوروبا باتفاق آرائهم وضعوا لكل شئ قواعد وأصول للسير على مقتضاه ، لذا يلزم إبعاث من يكون مديونًا بأكثر من ماية كيسة ، ولا اقتدار له على سداد ذلك بالتقسيط ولا ضامن له إلى الليمان مدة حياته ، ومن يكون مديونًأ بمقدار أكم قرش يُرسل بمدة معينة بنسبة دينه إلى الليمان أيضًا” .
وثيقة أخرىتُورد نفس المحتوى السابق ، حيث قالت ، أن محمد على قد أمر بوغوص بك بالتحقيق فى أمر الأشخاص المديونين للميرى الحماية ، والذين سيتم تقسيط دينهم البالغ قدره ثمانمائة ألف قرش وكسور ، وقد كان هذا الدين على المدعو سابا كحيل حماية سردينيا ، وامتناعه عن سداد الدين ، كما يمتنع القنصل عن إرساله لكى يُسدد دينه ، لذا فقد أمر محمد على “بتعيين قوّاص مخصوص للقبض عليه” .
وثيقة ثالثة تُشير إلى طريقة أخرى اتبعها محمد على فى تعامله مع التجار ، وهى البيع بالمزاد العلنى حيث تُورد، أنه تم فسخ عقد مبايعة الكتّان والغلال والصمغ المُنعقد مع الخواجة توسيجه ، والمسيو باترسيه ، والخواجة صولينويه ، وقد طلب الخواجات طوربورن(ثيربورن) ، وهارس مُحبى مصر مبيع سائر الأصناف بالمزايدة ، لذا لا بأس من مبيع محصولات القطر بالمزاد العمومى .
وثيقة رابعة لها علاقة بالوثيقة السابقة تشير إلى ، أنه قبل فسخ عقد الخواجة توسيجه ، حيث تُوضح لنا الشروط التى كان يفرضها محمد على ، من أجل حصول التجار على أصناف مُعينة فى سنة مُحددة .
فقالت أنه”قد أُجريت بيع كافة محصولات أقطان وكتان ، سنة 59 إلى الخواجة توسيجه فيه قنطار القطن بتسعة ريالات ونصف ، وقنطار الكتان بماية وخمسة وثلاثون قرشًا ، بشرط أن يكون هو الملزوم برسم الكمرك والمصاريف ، فيلزم تسلمه تلك المحصولات إليه ومحاسبته بهذه الصفة” .
من الوثائق السابقة ، يُمكن ملاحظة أن ، محمد على لا يتوانى إطلاقًا عن مُعاقبة من يتهرب عن دفع الأقساط التى يدين بها إلى الحكومة ، أو يتكاسل عن مواعيد السداد ، حتى مع أصدقائه التجار الذين لهم باع طويل مع الحكومة فى البيع والشراء ، عندما يُقصِّروا فى الشروط التى قبلوها ، حين قرروا شراء المحاصيل من أشوان الحكومة ؛ إذن تعامل محمد على مع هؤلاء التجار بالأسلوب الذى يتوافق مع مصلحته الشخصية ، دون النظر إلى علاقات أو روابط ، قد تُثير الدول الأوروبية ورعاياها .
وهذه كانت سياسته دائمًا ، مصلحته أولاً ، ثم المصالح الأخرى ، طالما لا تضر بأهدافه وطموحاته – مبدأ غريب لكن أتى ثماره على مدار ثلاثين عامًا وأكثر منذ بداية حكمه – إلى أن تكالبت الدول الأوروبية عليه فى عام 1841م ، وقامت بتقييد أحلامه وطموحاته ، عندما قلصت سلطاته وعدد جيشه إلى 18.000 جندى .
وعلى الرغم من سعى محمد على الدائم إلى التعامل مع فرنسا فى المجالات المختلفة – خاصةً الحربية والتعليم – إلا أنه فى الميدان التجارى كان نشاطه الأكبر مُتجهًأ نحو إنجلترا ؛ ربما بسبب سيطرة إنجلترا على البحر المتوسط ، واستعمارها للعديد من المناطق ، الأمر الذى أدَّى إلى احتياجها الدائم للموارد والخامات الأولية ، وحاجتها لفتح أسواق جديدة تستطيع من خلالها تصريف منتجاتها ، كل ذلك كان من شأنه ظهور علاقة وطيدة متنامية تجارية ربطت محمد على بإنجلترا طوال فترة حكمه ، وهى نفسها التى قامت بتدميره فى النهاية .
بدأت هذه العلاقة التجارية عام 1809م ، عندما أرادت إنجلترا شراء القمح المصرى ؛ نتيجة لاستمرار الحروب النابليونية وحاجتها لتوفير المؤن للقوات البريطانية ، كما تعرض أهالى جنوب أوروبا لسنواتٍ من القحط والجفاف تزامنت مع هذه الحروب ؛ لذا قامت الحكومة البريطانية بتعيين وكلاء تُجاريين لها لشراء القمح ، وأيقن الباشا أن تجارة الغلال ستعود عليه بالربح الوفير ، فتجاهل قليلاً أوامر الباب العالى فى أن يُرسل الغلال إلى الأقاليم العثمانية التى تعرضت للجفاف ، وأدّى ذلك إلى نشوب علاقة توتر بينهما ، كان محمد على يُخفف من حدتها مُتعللاً بقلة الغلال الموجودة فى الأشوان تارة ، وتارةً أخرى بأنه لا يمكن أن يتأخر على الآستانة فى أى مطلب ، وقصد من ذلك إثبات حُسن نواياه تجاه الباب العالى ، حتى لا يقف عائقًا فى طريق مُتاجرته مع إنجلترا وباقى الدول الأوروبية .
ثم جاءت زراعة القطن – الذى اكتشفه جوميل Jumel فى حديقة محو بك الأورفلى – عام 1820م ، كفاتحة خير على محمد على وخزانته ، ومرة أخرى تتعامل إنجلترا معه ولكن هذه المرة بنهم كبير – بسبب جودة هذا القطن واحتياج مصانعها فى لانكشير Lancashire له – وقد لعبت محاصيل أخرى دورًا فى هذه الصادرات ، أشارت إليها وثيقتين ، من ذلك وثيقة تورد أن محمد على قد أمر بتحصيل 112 قرش جمركًا على صنف الأرز ، والذى يتم تصديره إلى الخارج .
وثيقة ثانية تُخبرنا بأنه قد أمر بتحصيل نفس الجمرك السابق (112 قرش) على كل من بذر الكتّان والسمسم وسائر الحبوب .
وبرغم سيطرة محمد على على تجارة الصادرات ، إلا أنه لم تكن له نفس هذه والسيطرة على تجارة الواردات ، بل كان هو نفسه المستورد الأول فى البلاد ، كما كان للحكومة نصيب كبير من واردات البلاد فى عام 1836م بلغ 40% .
من ذلك نرى وثيقتان تتحدثان فى هذا الشأن ، حيث تُشير الوثيقة الأولى إلى لزوم استيراد 19 ألف دستة مبارد إنجليزى لورشة المهمات.
وتُورد الوثيقة الثانية أن ناظر ورشة العمليات، طلب رسوم لآلات الوابورات الضخمة مثل آلات ورش إنجلترا ، التى سبق التوصية عليها لجلبها ، وقد قام محمد على باستيراد كل الأقمشة القطنية والبضائع المعدنية ، والزجاج ، وبعض الخامات الأخرى اللازمة للأغراض الحربية .
وقد فطن الباشا إلى أنه إذا أراد للتجارة أن تزدهر ، فيجب عليه تطوير الوسائل الأخرى التى قد تُساهم فى ازدهار هذا القطاع ، فأولى منذ توليه الحكم اهتمامًا شديدًا بعملية صك النقود ، وحاول توحيد فئاتها المختلفة فى حركة البيع والشراء ، كما حارب كل من سوّلت له نفسه وقام بالغش فى عملية صكها أو تداولها .
كما قام ببناء العديد من السفن للأغراض التجارية ، وبعد أن فرض سيطرته على البحر المتوسط – بعد فشل حملة فريزر – ويُخبرنا الجبرتى بهذا الأمر فى كتابه عجائب الآثار حيث يقول”استهل شهر ذى الحجة بيوم الأحد سنة 1224هـ / 1808م ، فيه شرع الباشا فى إنشاء مراكب ببحر القلزم(السويس) فطلب الأخشاب الصالحة لذلك ، وأرسل المعنيين لقطع التوت والنبق من القطر المصرى القبلى والبحرى ، وغيرها من الأخشاب المجلوبة من الروم ، وجعل بساحل بولاق ترسانة وورشات ، وجمعوا الصُنَّاع والنجارين والنشارين فهيؤوها ، وتحمل أخشابًا على الجمال ويُركبها الصناع بالسويس سفينة، ثم يقفلونها ويُبيضونها ويُلقونها فى البحر ، فعملوا أربعة سفائن كبار تُسمى الإبريق ، وخلاف ذلك أدوات لحمل السفّار والبضائع ” .
كما عمل على الاهتمام بالمكاييل والموازين وتوحيدها ، والضرب على أيدى من يقومون بالغش فيها ، وحاول أيضًا تنظيم وتنظيف الأشوان ، وجعلها صالحة للتهوية من أجل تخزين المحاصيل فيها ، إلى أن يتم نقلها للتجار ، وقام بالتفتيش عليها بين الحين والآخر ، من أجل مراقبة موظفيها ومنعهم من السرقة أو التزوير.
وأحيا الطريق البرى ، الذى كان رائدًا فى إحيائه توماس واجهورن Thomas Fletcher Waghorn(1800 – 1850) ، الذى سافر فى عام 1829م من لندن إلى بومباى فى رحلة استغرقت أربعين يومًا ونصف اليوم ، وهو رقم قياسى فى ذلك الوقت ، وفى عام 1837م بدأت الرحلات التجارية المنظمة ، بين إنجلترا والإسكندرية وبين السويس وبومباى .
كان النظام الاحتكارى الذى طَبقه محمد على 1812م على النشاط الاقتصادى للدولة (من زراعة وتجارة) ، من أهم العوامل التى ألّبت عليه الدول الأوروبية الكبرى وخاصةً إنجلترا – التى كانت تأخذ فى ذلك الوقت بمبدأ الحماية التجارية لكنها أبت على محمد على أن يتخذ هذه السياسة لحماية اقتصاده ، فقامت بالضغط على الباب العالى ليعقد اتفاقية بلطة ليمان التجارية 1838م معها ، لتفرض من خلالها على محمد على إلغاء هذا النظام – كان هذا هو السبب المعلن – أما عن السبب الخفى أو غير المعلن ، فقد تَمّثل فى فتح أسواق جديدة لتصريف منتجاتها ؛ نتيجة لزيادة السلع المعروضة وقلة الطلب عليها ، وبإنشاء محمد على لصناعة متميزة منذ عام 1816م ، شَكّل ذلك خطرًا وتهديدًا مباشرًا على إنجلترا ، على الرغم من أن هذه الصناعات قد أُنشئت فى الأساس للأغراض الحربية ، لكنه قد استقدم لها العديد من الخبراء ، واستورد مقادير كبيرة من المواد الأولية ، والآلات والماكينات اللازمة لإدارة هذه المصانع ، كما تنوعت هذه الصناعات فكان منها صناعة السكر ، وصناعة الجوخ ، وصناعة الأرز ، وصناعة الزجاج ، وصناعة الحرير ، وصناعة سبائك الحديد ، وأخيرًا الصناعة التى نافست من بعيد المنتجات الإنجليزية وهى صناعة المنسوجات القطنية .
لذا صار عام 1838م بمثابة بداية النهاية لاستقلال محمد على الاقتصادى ، فقد وافق الباب العالى على توقيع معاهدة بلطة ليمان التجارية ، والتى نَصَّت على إلغاء الاحتكار وجعل التجارة حرة فى كافة أنحاء الامبراطورية ، كما حددت الرسوم الجمركية على كلٍ من الصادرات والواردات بقيمة 12% و 5% على التوالى .
وقد قاوم محمد على وبشدة تنفيذ هذه المعاهدة ، لما لها من آثار سلبية كبيرة على خزينة الدولة واقتصادها ، ولكن تحت إلحاح وضغط إنجلترا الشديدين ، وافق محمد على فى النهاية على تنفيذها فى عام 1842م ، وبدأ بالقطن الذى جعل تجارته حرة مع بداية جنى المحصول الجديد فى 10 أكتوبر 1842م ، ثُمَّ كانت الضربة القاضية لمحمد على بعقد الدول الكبرى معاهدة لندن 1841م ، والتى قلصت عدد الجيش إلى 18.000 جندى وقد أدّى ذلك إلى القضاء على الصناعة الناشئة - لاعتمادها على تصنيع منتجات لخدمة الجيش والأسطول – الأمر الذى نتج عنه فتح الباب على مصراعيه للواردات الأجنبية ، وأضعف الصناعة المحلية .
لقد شعر محمد على بضرورة سيطرته وسيطرة دولته على كل وسائل الإنتاج الموجودة فى ذلك الوقت ، حتى يتمكن من تطويرها و وضعها فى خدمة النظام الذى أنشأه فى مصر ، و لكن آلت هذه التجربة إلى الزوال ، بعدما سارعت إنجلترا إلى الحد من طموح هذا الرجل ، وكان لها ما أرادت .
و فى ختام حديثى عن النشاط الاقتصادى المصرى المتميز فى عهد محمد على ، لابد أن أشير إلى وثيقة هامة أرسلها قنصل بريطانيا العام فى مصر إلى حكومته ، فى 5 أغسطس 1849م نذكر الفقرات التالية منها ” إن تَعلُق كل طبقات مصر باسم محمد على ، و احترامها له يُشكل جنازة أفخم مما كان بإمكان حفيده أن يوفره ، فالسكان المتقدمون فى السن يتذكرون الفوضى التى أنقذ هذه البلاد منها ، و يتكلمون عنها ، فى حين يقارن السكان صغار السن حكمه المتميز بحكومة خلفه التى يجرفها الهوى و التردد ” .
” لقد شق طريقه إلى السلطة و الشهرة بشجاعته الفذة ، و بدأبه و ذكائه ، فحين تولى الحكم كانت مصر مقطعة الأوصال نتيجة للنزاعات و الشيع ، كما كانت تتعرض للسلب و النهب على أيدى عصابات جوالة من المغامرين ، كما كانت ماليتها و تجارتها مستنزفتين ، و فى كل محافظة كانت الحياة و الأملاك تحت رحمة أصحاب السطوة ، كما لا يجب علينا أن نشتّد فى انتقاده حين كان يضطر أحيانًا ، بهدف القضاء على عوامل الشر المستشرية ، لدى شعب لا يعترف بقانون سوى قانون القوة والعنف ، إذ يُقر الجميع بأن محمد على لو حكمنا عليه بمقياس كونه عثمانيًا لم يتصف بالقسوة ، إذ أن العقوبات التى نفذها كانت مع بعض الاستثناءات القليلة لازمة لأمنه أو للمحافظة على السلام العام ، و على الرغم من حبه للشهرة و السلطة إلا أن مطامحه لم يلوثها الجشع ، و رغم شدة غضبه إلا أنه لم يستمر طويلاً ” .
تلك كانت شهادة ألد خصومه فيه ، و قد قال ذات مرة لصديقه دكتور بورنج ” لا تعجب إذا رأيتنى أحيانًا عجولاً قليل الصبر ، فقد كنت فى حياتى كلها موفقًا ميمون النقيبة ، لابد أنى ولدت و الطالع سعيد و النجم مبتسم ، ثم لم تفارقنى بعد سعادة الطالع و ابتسامة النجم ” .
و فى رأيى أن ما ذكره القنصل الإنجليزى صحيح ، فقد كان محمد على و بحق مؤسس مصر الحديثة ، فقد أدخل زراعات جديدة و صناعات جديدة ، و عَبَّدْ الطرق من أجل تسيير حركة التجارة ، و قام بتدريب الأيدى العاملة ، وجعل للمصريين شخصية مستقلة تطورت مع مرور الزمن ، نعم كان لحكمه عيوب عديدة ، تمثلت معظمها فى إرهاق الفلاحين بضرائب باهظة وضعها فوق كاهلهم ، و إعطائه الأيدى العاملة أجور زهيدة مقابل عملهم بالمصانع ، لكن و على الرغم من كل ذلك فقد أنعش خزانة الدولة ، بموارد النشاط التجارى المتميز الذى تبادله مع الدول الأوروبية ، وخاصةً إنجلترا حتى أنها و بنهاية عهده قد أمدت مصر بحوالى ثلث وارداتها ، كما صَدَّرت لها مصر نصف صادراتها الكلية .

يسرا محمد سلامة
باحثة دكتوراه تاريخ حديث ومعاصر
كلية الآداب/جامعة الإسكندرية
عضو الجمعية المصرية للدراسات التاريخية
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف