مـَرَض الـفـِـصــام
الـدكتور عبـدالقـادر حسـين ياسـين*
سحبني الصديق الجزائري عبد العـزيز بوخروبة من يدي ، ومن شرفة داره البعـيدة عن العاصمة ، أشار الى عجوز فرنسي في ساحـة الطبقة الارضية راح يـُشذب أشجاراً مثمرة ، ويسقى صفـوفا من الأزهار اليانعة ، ويـُقلب التربة بعـناية وصبر ، حول بعض اشتال الخضروات الموسمية التي زرعها في ظل تلك الاشجار.
كان مستغـرقا في نشاطه وهو يتـلمس براعم الأزهار ، ويتحـسـَّس حبّ الليمون ، وعناقـيد الدالية المخضرة الصلبة تتدلى بلا حصر من سقف التربيعة الخشبية.
قلتُ ، وقد اعجبـني المشهد : "حديقة غـنـَّاء جميلة وارفة الظلال ، وإنسان يعرف كيف يعيش"
ردَّ الدكتور بوخروبة : "ولكن ليس هذا هو المهم...!"
نظرتُ اليه ، وكان ما يزال يتابع تحركات ذلك العـجوز الفرنسي وهو منكبٌ على سقي أزهاره وأشجاره . وعندما لاحظ نظرات الفضول تـُطل من عـينيّ قال :
"إسمه باتريس موليه ، يعمل خبيرا في المؤسسة الوطنية للصناعات المعـدنية ، ويعيش هنا منذ سنوات ... يقضي أيام عطلته في معظم الاحيان بين الاشجار الباسقة في هذه الحديقة الصغيرة ، يزرع الخضار والفواكه والازهار ، ويهدي لنا ، من حين الى آخر ، نتاج حديقـته".
قـلتُ :"غنيٌ عن البيان انه شخصٌ منتج رغم أنـه تجاوز الستين من عمره... ليتك تزرع المساحات العاريـة المحاذية لدارك ، وبذلك تمضي أوقات فراغـك في ما يـفـيـد ، وتمارس بعض النشاط اليدوي الذي يصبح ضروريا لذوي الياقات البيضاء ، وخاصة للعاملين في المجال الثقافي والفكري والتعـليمي"...
إبتسم صديقي وقال :"هـذا ، يا سـي عبـدالقـادر ، عـين الصواب ... ولكنه جزء فقط مما أردت أن أحـدثـك بشأنه . باختصار شديد ، هذا الرجل العجوز الذي تراه الآن يعمل بكل هذا النشاط وهـذا الحرص على التعلق بالارض وما تنبت ، هل تبدو عليه سمات من سيرحل غـدا ونهائيا الى بلاده؟"
ولم أعرف، للوهلة الاولى ، بماذا أجيب الصـديق الجزائري .
وتابع الدكتور بوخروبة حديثه قائلا :"لقد انتهى عـمله في بلادنا ، وسيعـود نهائيا الى فرنسا ... لقد ذكرني بالامس بذلك ، وكان قبل شهرين قد أخبرني بموعـد رحيله ... وأشهد أنه ، منذ ذلك التاريخ ، وهو يعمل بالحديقة الصغيرة بنفس الهمـَّة والنشاط والحب الذي عهدناه فيه قبل اكثر من خمس سنولت ... لقـد أدهش الجيران وهم يرونه صباح كل أحد على هذا النحو ، وتساءلوا مستغـربين :
"كيف يتسنى له أن ينكبَّ على العمل في حديقة منزله بمثل هذه الروح وهذا الوفاء ، وهو سيغادر بلادنا نهائيا ؟!" وتطوع أكثر من واحـد ليقـول لهـم بأنه لو كان في مكـان هـذا الأجنبي وظروفه لما حفـل البتة بتلك الحديقة ، ولأهملها منذ أشهر".
نظر اليَّ صديقي طويلا ...
كانت الحكاية قد انتهت ...
وكان العجوز الفرنسي ما يزال في ساحة الطبقة الارضية يدور بين شجيراته المزهرة ،
وكنت بدوري قد استـوعـبت كل التفاصيل وكل الاشارات المحملة بالدلالات ، وفهمت مدى هذا التعارض الفاضح بين نمطـين من انماط السلوك والتفكير ، بين عـقـليـة تعـيش نهارها لنهارها ولنفسها ، ولا ترى الخير الا من منظورها الفردي الأناني، شعارها المرفوع دائما "اللهم يا ربّ نفسي...!" أو "بعـد حـمـاري مـا ينبت حشـيش" ، كمـا يقـول الأخـوة السـوريون ...
كما أدركت ، بالمقابل ، معنى أن تكون متحـضراً ، ومعـنى أن تكون الحضارة ممارسة ، قولا ً وفعـلاً وليس مجرد شعارات جوفاء ، وكيف تكون الحـيـاة تواصلاً وعطاءاً واستمراراً ، لا توقـفا او انقـطاعا عـن الآخرين ، او انغـلاقا عمـا حـولنـا .
إن الحكاية قصيرة وبسيطة :
مشهد عادي لرجل أجنبي يعـود غـدا الى بلـده ،
ولكنه ما زال ، حتى اللحظة الاخيرة ، يزرع حديقة المنزل الذي يسكنه ويـعـتـني بازهارها وثمارها...
قلت لنفسي وأنا أتـأمل المشهـد :
"لا يكفي الانسان ان يـَطـَّـلع على أفكار حضارته وقـيمها ،
بل لا بـدَّ من أن نترجم هذه القـيم في سلوكـنا وعلاقـاتنا مع الآخرين ،
في أخلاقـنا وأعـمالنا ،
والا سقـطـنـا فيما يـُسميه سـيغـمونـد فرويد بـ"مرض الفـصام".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كـاتـب وأكـاديـمي من فـلـسـطين مـقـيـم في السـوبـد.
الـدكتور عبـدالقـادر حسـين ياسـين*
سحبني الصديق الجزائري عبد العـزيز بوخروبة من يدي ، ومن شرفة داره البعـيدة عن العاصمة ، أشار الى عجوز فرنسي في ساحـة الطبقة الارضية راح يـُشذب أشجاراً مثمرة ، ويسقى صفـوفا من الأزهار اليانعة ، ويـُقلب التربة بعـناية وصبر ، حول بعض اشتال الخضروات الموسمية التي زرعها في ظل تلك الاشجار.
كان مستغـرقا في نشاطه وهو يتـلمس براعم الأزهار ، ويتحـسـَّس حبّ الليمون ، وعناقـيد الدالية المخضرة الصلبة تتدلى بلا حصر من سقف التربيعة الخشبية.
قلتُ ، وقد اعجبـني المشهد : "حديقة غـنـَّاء جميلة وارفة الظلال ، وإنسان يعرف كيف يعيش"
ردَّ الدكتور بوخروبة : "ولكن ليس هذا هو المهم...!"
نظرتُ اليه ، وكان ما يزال يتابع تحركات ذلك العـجوز الفرنسي وهو منكبٌ على سقي أزهاره وأشجاره . وعندما لاحظ نظرات الفضول تـُطل من عـينيّ قال :
"إسمه باتريس موليه ، يعمل خبيرا في المؤسسة الوطنية للصناعات المعـدنية ، ويعيش هنا منذ سنوات ... يقضي أيام عطلته في معظم الاحيان بين الاشجار الباسقة في هذه الحديقة الصغيرة ، يزرع الخضار والفواكه والازهار ، ويهدي لنا ، من حين الى آخر ، نتاج حديقـته".
قـلتُ :"غنيٌ عن البيان انه شخصٌ منتج رغم أنـه تجاوز الستين من عمره... ليتك تزرع المساحات العاريـة المحاذية لدارك ، وبذلك تمضي أوقات فراغـك في ما يـفـيـد ، وتمارس بعض النشاط اليدوي الذي يصبح ضروريا لذوي الياقات البيضاء ، وخاصة للعاملين في المجال الثقافي والفكري والتعـليمي"...
إبتسم صديقي وقال :"هـذا ، يا سـي عبـدالقـادر ، عـين الصواب ... ولكنه جزء فقط مما أردت أن أحـدثـك بشأنه . باختصار شديد ، هذا الرجل العجوز الذي تراه الآن يعمل بكل هذا النشاط وهـذا الحرص على التعلق بالارض وما تنبت ، هل تبدو عليه سمات من سيرحل غـدا ونهائيا الى بلاده؟"
ولم أعرف، للوهلة الاولى ، بماذا أجيب الصـديق الجزائري .
وتابع الدكتور بوخروبة حديثه قائلا :"لقد انتهى عـمله في بلادنا ، وسيعـود نهائيا الى فرنسا ... لقد ذكرني بالامس بذلك ، وكان قبل شهرين قد أخبرني بموعـد رحيله ... وأشهد أنه ، منذ ذلك التاريخ ، وهو يعمل بالحديقة الصغيرة بنفس الهمـَّة والنشاط والحب الذي عهدناه فيه قبل اكثر من خمس سنولت ... لقـد أدهش الجيران وهم يرونه صباح كل أحد على هذا النحو ، وتساءلوا مستغـربين :
"كيف يتسنى له أن ينكبَّ على العمل في حديقة منزله بمثل هذه الروح وهذا الوفاء ، وهو سيغادر بلادنا نهائيا ؟!" وتطوع أكثر من واحـد ليقـول لهـم بأنه لو كان في مكـان هـذا الأجنبي وظروفه لما حفـل البتة بتلك الحديقة ، ولأهملها منذ أشهر".
نظر اليَّ صديقي طويلا ...
كانت الحكاية قد انتهت ...
وكان العجوز الفرنسي ما يزال في ساحة الطبقة الارضية يدور بين شجيراته المزهرة ،
وكنت بدوري قد استـوعـبت كل التفاصيل وكل الاشارات المحملة بالدلالات ، وفهمت مدى هذا التعارض الفاضح بين نمطـين من انماط السلوك والتفكير ، بين عـقـليـة تعـيش نهارها لنهارها ولنفسها ، ولا ترى الخير الا من منظورها الفردي الأناني، شعارها المرفوع دائما "اللهم يا ربّ نفسي...!" أو "بعـد حـمـاري مـا ينبت حشـيش" ، كمـا يقـول الأخـوة السـوريون ...
كما أدركت ، بالمقابل ، معنى أن تكون متحـضراً ، ومعـنى أن تكون الحضارة ممارسة ، قولا ً وفعـلاً وليس مجرد شعارات جوفاء ، وكيف تكون الحـيـاة تواصلاً وعطاءاً واستمراراً ، لا توقـفا او انقـطاعا عـن الآخرين ، او انغـلاقا عمـا حـولنـا .
إن الحكاية قصيرة وبسيطة :
مشهد عادي لرجل أجنبي يعـود غـدا الى بلـده ،
ولكنه ما زال ، حتى اللحظة الاخيرة ، يزرع حديقة المنزل الذي يسكنه ويـعـتـني بازهارها وثمارها...
قلت لنفسي وأنا أتـأمل المشهـد :
"لا يكفي الانسان ان يـَطـَّـلع على أفكار حضارته وقـيمها ،
بل لا بـدَّ من أن نترجم هذه القـيم في سلوكـنا وعلاقـاتنا مع الآخرين ،
في أخلاقـنا وأعـمالنا ،
والا سقـطـنـا فيما يـُسميه سـيغـمونـد فرويد بـ"مرض الفـصام".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كـاتـب وأكـاديـمي من فـلـسـطين مـقـيـم في السـوبـد.