سميح القاسم :
بلغني أنك مذنبٌ ، ثم بلغني أنك لم تغتسلْ من خطيئتِك الشاردة ، ها أنت الآن ترحلُ خلسةً ، كما يليق بشاعر متمرس ، ترحل بثيابٍ بيضاء كالثلج ، بدماء نقية لا يُرى فيها غيرُ احمرارها العادي ، أيها الرجل الذي قاسمَنا وقاسمناه معالمَ الحنين لهذه الأرض ، فسنوات حنينك لها قياساً بسنوات عمرك تبدو أكثر كثافةً وفيضاً ، وكأنها بدأت ببدايات عمرك أو لكأّن الحنينّ عندك يشبه نبعاً تفجر بعد طول انحباس وفاض ، تُراك لا تمشي ، بل تتواثب منتصبَ القامة ، مرفوع الهامة ، عالي الصدر ، حتى لكأن قدميك تأبيان أن تلمسا أديم الأرض ، وللحديث عنك فإني أفتش عن لغة غير التي ندركها وتعرفها ، فالحديث بالكلام عن سيد الكلام ضربٌ من العبث ، ومحاولةٌ يائسة للانتحار ، فاترك لي الآن بياضك ، واحمرار دمك النقي ، وجلدَك العادي لأكتب عليه شعري فيك ، علّني أتابع حياتي من جديد ، أيها الرجل الذي ظلمناه وأنصفته الأرض .
بهذه الكلمات التي أشعر بحراجة الموقف لضعفها وعجزها أمام قلبِك الذي يضج بالبهاء ، أعاتبك .. أعاتبك .. أعاتبك ، أيها الرجل النبيل الذي عرف كيف يحل لغز الأرض وطلاسم الضائعين ، ها أنا الآن أتعلم لغةَ الكتابة وقواعدَ النحو .. لأُنصِفكْ ، وها أنت الآن تُعلمنا لغةَ النهر والصخر .. لتُكمِلك ، ها أنا الآن أسابق مفرداتِ الذاكرة وكراسةَ الصرف .. لأكتُبكْ ، وها أنت الآن تسابق الريح والعواصف .. كي تستقبلكْ ،ها أنا الأن أنتخب الأسئلة ، وها أنت الآن تسكن صمت الأجوبة ، فارفق بقلبي .. كي يسألك !! .
هنا في مكان ما نجهله وتعرفه البيادر والنجوم ، يرقد سميح القاسم ، يلبس جلباب الأرض التي أحبها ، يمتطي ذراتَ التراب التي سكنها قبل أن تسكنَه ، يستعير منها نبضَه الجديد ، تاركاً خلفَه ملايين الأسئلة التي نبحث فيها عن الوطن الضائع ، وهناك يكتشف سميح القاسم الأرضَ فيه ، تنمو أعشابُها في قصائده ، وفي عينيه يكبُر الزعترُ البلدي ، ومن قلبه تتفتح شقائق النعمان ، هناك .. تكتبه الأرض في كل فصلٍ من فصولها ، وأنا .. أنا الذي تعلمت قواعد الإعراب وفنون النحو ، وسرقت الكتاب المدرسي والمحبَرة ، أنا هنا، أبحث عن الكلمات التي تُنصِفه فلا أجد .
رحل الفارس الأخير إذن ، بسنواته التي كانت محملةً بهواجس الناس وأحلامِهم وأوجاعهم ، ربما لأنه أدرك أن أبديةَ الخلود تكمنُ في الارتقاء بشكل خرافي ، تماماً كرفاقه الذين عبروا بكبريائهم ومجدهم إلى سماءات الخلود الأبدي ، فلا شك أن فارسَنا هذا بعطائه ومجده يمثل ذلك النموذج الافتراضي ، نموذج المقاتل الذي أراد أن ينسج على مهل خيوط موته بكلماته وأصابعه ، ولنا هنا ألف سؤال ، وألف سر غامض ، ولنا هنا ألفُ اعتقاد أسطوري ، يذوب فيه الفرح والحزن ، ويختمرُ به العادي باللامعقول ، هل كان رحيلُه موتاً أم حياةً وانبعاث ، كما أرادت كلماته المتوهجة في عينيه وقصائده .
وأياً كان رحيله فقد كان هذا الرحيل بدايةً لخلوده ، وعرساً لدى الملائكة ، تستكمل معه طقوسَ الوداع الأخير ، تشاركه .. تحتفي به .. وتعبده .
إذن ؛ رحل سميح القاسم ، ولا يمكن لنا أن نكتب كل شيء عنه ، فعذاب الكلمة أقسى من أن يتحمله إنسان بمفرده ، ولا يمكن لأحد أن يفسر الحزنَ الذي نعيشه ونحياه لفراقه ورحيله ، لكننا لن نبكيه ، لأننا نؤمن أن أيَّ إنسان يموت ، لا ينتهي في نظر الذين يحبونه ، إلا إذا غسلوه بالدموع ، الدموع هي ذرات التراب الأخيرة التي تجلل الميت وتقول أنه انتهى ، ولأننا قُساة عنيدون ، سنكتفي ببكاء أضلعنا عليه ، تنزل دموعنا إلى الداخل ، وهذه الدموع الحزينة تطفو مرة أخرى على شكل صرخاتٍ وتوجع ، لتُعلمَنا أن موت سميح القاسم ، تُغني له الطيور ، وتبكيه النساء ، ويهزُّ له الرجال رؤوسَهم لوعةً ، ويتذكره الصغار لآخر أيام العمر .
فتجرد أيها الشاعر من عالمنا السفلي ، الذي يتآلف فيه أصحابه والمبتلون به مع كل ما هو مرفوض ، وارتفع قمراً بعيداً عن مكونات النفس البشرية ، التي تحمل في أعماقها أدنأ وأخس ما يمكن أن نتصوره عن الرداءة الإنسانية ، وليكن موتُك كزجاجٍ مطحون ، ينسرِب في أعماقنا ، يُهضم .. لكنه لا يُنسى .
خالد رباح العربي – غزة
21 – أغسطس -2014
بلغني أنك مذنبٌ ، ثم بلغني أنك لم تغتسلْ من خطيئتِك الشاردة ، ها أنت الآن ترحلُ خلسةً ، كما يليق بشاعر متمرس ، ترحل بثيابٍ بيضاء كالثلج ، بدماء نقية لا يُرى فيها غيرُ احمرارها العادي ، أيها الرجل الذي قاسمَنا وقاسمناه معالمَ الحنين لهذه الأرض ، فسنوات حنينك لها قياساً بسنوات عمرك تبدو أكثر كثافةً وفيضاً ، وكأنها بدأت ببدايات عمرك أو لكأّن الحنينّ عندك يشبه نبعاً تفجر بعد طول انحباس وفاض ، تُراك لا تمشي ، بل تتواثب منتصبَ القامة ، مرفوع الهامة ، عالي الصدر ، حتى لكأن قدميك تأبيان أن تلمسا أديم الأرض ، وللحديث عنك فإني أفتش عن لغة غير التي ندركها وتعرفها ، فالحديث بالكلام عن سيد الكلام ضربٌ من العبث ، ومحاولةٌ يائسة للانتحار ، فاترك لي الآن بياضك ، واحمرار دمك النقي ، وجلدَك العادي لأكتب عليه شعري فيك ، علّني أتابع حياتي من جديد ، أيها الرجل الذي ظلمناه وأنصفته الأرض .
بهذه الكلمات التي أشعر بحراجة الموقف لضعفها وعجزها أمام قلبِك الذي يضج بالبهاء ، أعاتبك .. أعاتبك .. أعاتبك ، أيها الرجل النبيل الذي عرف كيف يحل لغز الأرض وطلاسم الضائعين ، ها أنا الآن أتعلم لغةَ الكتابة وقواعدَ النحو .. لأُنصِفكْ ، وها أنت الآن تُعلمنا لغةَ النهر والصخر .. لتُكمِلك ، ها أنا الآن أسابق مفرداتِ الذاكرة وكراسةَ الصرف .. لأكتُبكْ ، وها أنت الآن تسابق الريح والعواصف .. كي تستقبلكْ ،ها أنا الأن أنتخب الأسئلة ، وها أنت الآن تسكن صمت الأجوبة ، فارفق بقلبي .. كي يسألك !! .
هنا في مكان ما نجهله وتعرفه البيادر والنجوم ، يرقد سميح القاسم ، يلبس جلباب الأرض التي أحبها ، يمتطي ذراتَ التراب التي سكنها قبل أن تسكنَه ، يستعير منها نبضَه الجديد ، تاركاً خلفَه ملايين الأسئلة التي نبحث فيها عن الوطن الضائع ، وهناك يكتشف سميح القاسم الأرضَ فيه ، تنمو أعشابُها في قصائده ، وفي عينيه يكبُر الزعترُ البلدي ، ومن قلبه تتفتح شقائق النعمان ، هناك .. تكتبه الأرض في كل فصلٍ من فصولها ، وأنا .. أنا الذي تعلمت قواعد الإعراب وفنون النحو ، وسرقت الكتاب المدرسي والمحبَرة ، أنا هنا، أبحث عن الكلمات التي تُنصِفه فلا أجد .
رحل الفارس الأخير إذن ، بسنواته التي كانت محملةً بهواجس الناس وأحلامِهم وأوجاعهم ، ربما لأنه أدرك أن أبديةَ الخلود تكمنُ في الارتقاء بشكل خرافي ، تماماً كرفاقه الذين عبروا بكبريائهم ومجدهم إلى سماءات الخلود الأبدي ، فلا شك أن فارسَنا هذا بعطائه ومجده يمثل ذلك النموذج الافتراضي ، نموذج المقاتل الذي أراد أن ينسج على مهل خيوط موته بكلماته وأصابعه ، ولنا هنا ألف سؤال ، وألف سر غامض ، ولنا هنا ألفُ اعتقاد أسطوري ، يذوب فيه الفرح والحزن ، ويختمرُ به العادي باللامعقول ، هل كان رحيلُه موتاً أم حياةً وانبعاث ، كما أرادت كلماته المتوهجة في عينيه وقصائده .
وأياً كان رحيله فقد كان هذا الرحيل بدايةً لخلوده ، وعرساً لدى الملائكة ، تستكمل معه طقوسَ الوداع الأخير ، تشاركه .. تحتفي به .. وتعبده .
إذن ؛ رحل سميح القاسم ، ولا يمكن لنا أن نكتب كل شيء عنه ، فعذاب الكلمة أقسى من أن يتحمله إنسان بمفرده ، ولا يمكن لأحد أن يفسر الحزنَ الذي نعيشه ونحياه لفراقه ورحيله ، لكننا لن نبكيه ، لأننا نؤمن أن أيَّ إنسان يموت ، لا ينتهي في نظر الذين يحبونه ، إلا إذا غسلوه بالدموع ، الدموع هي ذرات التراب الأخيرة التي تجلل الميت وتقول أنه انتهى ، ولأننا قُساة عنيدون ، سنكتفي ببكاء أضلعنا عليه ، تنزل دموعنا إلى الداخل ، وهذه الدموع الحزينة تطفو مرة أخرى على شكل صرخاتٍ وتوجع ، لتُعلمَنا أن موت سميح القاسم ، تُغني له الطيور ، وتبكيه النساء ، ويهزُّ له الرجال رؤوسَهم لوعةً ، ويتذكره الصغار لآخر أيام العمر .
فتجرد أيها الشاعر من عالمنا السفلي ، الذي يتآلف فيه أصحابه والمبتلون به مع كل ما هو مرفوض ، وارتفع قمراً بعيداً عن مكونات النفس البشرية ، التي تحمل في أعماقها أدنأ وأخس ما يمكن أن نتصوره عن الرداءة الإنسانية ، وليكن موتُك كزجاجٍ مطحون ، ينسرِب في أعماقنا ، يُهضم .. لكنه لا يُنسى .
خالد رباح العربي – غزة
21 – أغسطس -2014