سميح القاسم : الرحيل الطويل ، النشيد الطويل
د. عبدالله عيسى *
سيكون من شأن الرواة طويلاً أن يتفّقدوا الممرّات التي ذرعتها سيرة سميح القاسم . ذاك الطفل ، كما تذكرٌه سميح الشاعر الكبير بيننا هنا وهناك ، الذي بكى بشيء غامض لا يدركه إلا العارفون ، في طريق العودة من الأردن حيث كان والده يعمل ضابطاً في حرس الحدود إلى فلسطين ، في الحافلة التي ارتجّت من ذعر ركابها، خشية أن يدل ّ بكاؤه الطائرات الألمانية عليهم ، فهشّوه بزجرهم له ولم يصمت ، وهددوا بقتله لإسكاته فحال بينهم وبينه مسدس أبيه الكابتن ، وإذ قصّوا عليه روايته هذه ، أقسم سميح " أن أحداً لن يقوى على إسكاته " . شيء ندركه الآن ، ذاك الغامض الوحشي ّ في صراخ سميح الطفل ، بعد أن عانق الموت في هذا الرحيل الطويل ، وكأنه كان ينتظر أن يفتح له شق ّالبرتقالة الآول محمود درويش بوابة الأبدية ، ليدخل مدخل صدق ، بينما صوته يعلو على عتمة الموت ليزورنا في أيامنا وأحلامنا وآلامنا معاً . " ويكون أن يأتي / بعد انتحار الموت في صوتي . شيء روائعه بلا حد ّ/ شيء يسمّى في الأغاني / طائر الرعد " .
ولا بد ّ سيكتشف الرواة أن الهامش في سيرته عين ُ المتن . فذاك الصبي ، كما يذكّره محمود درويش في ذكرى مذبحة كفر قاسم " حوار السيف والرغيف ، خطاب الوحش إلى طفلة مهجورة هي إحدى حفيدات هاجر " ، نجا من لعنة " إحصدوهم " التي صرخ بها جندي ّ إسرائيلي ضجرٍ خرج للتو من ظلمة التلمود ، ليؤرّخ شاعراً مقاوماً لسيرة أسماء الدم الفلسطيني الأخرى أيضاً : دير ياسين ، كفرقاسم ، صبرا وشاتيلا ، وغزة وأخواتها .. " أملأ الدنيا هتافاً لا يساوم / كفر قاسم . كفر قاسم . كفر قاسم / دمك المهدور ما زال / وما زلنا نقاوم " . و كذلك أخيراً : غزة " العنقاء " في مواجهة " الغول " : " اليوم صار على المحبين اختيار الموت أو أبد الفراق / اليوم عرس الدم المراق / وأنا وأنت نعيش يا حبي المقاوم / أو نموت " .
وهنا سيلتبس الأمر على كهنة النقد الأدبي ، ومقتنصي الأخبار ، و ربما يدلق الرواة حبر الحكاية على قمصان زوّار أعمال سميح القاسم الكاملة مثل سيّاح ما بعد الظهيرة ، حين لا يستطيعون عبور المجال الحيوي بين رحيل الشاعر في لحظة الهدنة المقتنصة في القاهرة بين " الغول " و " العنقاء " ، وصرخة رب جندهم في الرواية ذاتها " إحصدوهم " ، لكن في غزة هذه المرة ، بعد ما يقترب من عقد وربع قرن على كفر قاسم ، لتكتمل فصول المجزرة التي يسمونها حرباً ليستعيد اليهودي من أحفاد هاجر أنساب أسباطه المختارة وفق روايته .
لكن توفيق طوبي ، كما يتذكر محمود درويش مذكّراً سميح القاسم ، الذي أرّخ لمذبحة كفر قاسم بأسماء قتلاها التسعة والأربعين ليجعلهم أجمل في مرايا قاتليهم ، لم يعد بيننا يا سميح ، نحن الذي أردناك أن تخرج أسماء شهداء غزة من عتمة القبور وأنقاض البيوت المدمرة ، كي يزوروا معك ، كقتلى كفر قاسم ، " الغول " في أحلامه ، ويفسدوا غفوته إلى حين .
وسوف يروي الرواة عن سميح القاسم ليذكّر بهم . في الممرات الطويلة يبقى ظله يغني مأساتنا الكبرى بصرخته الكبرى في المرايا التي صارت باردة بعد رحيله . في عتمة سجن الإحتلال لا ضوء إلا في عينيه الذي يعيث فساداً في نظرة سجّانه وهو يواريها عنه بعيداً ، و إقامته الجبرية تحاصر الجنود الذين يحرسون حريته . لا حرية إلا هذا الصوت الصارخ الذي لم يقو أحد على إسكاته : " أشد من الماء حزناً / تغربت في دهشة الموت عن هذه اليابسة / . أشد من الماء حزناً / وأعتى من الريح توقاً إلى لحظة ناعسة / وحيدا ً ومزدحماً بالملايين حلف شبابيكها الدامسة".
وعما قليل ، سيكون جديراً أن ينضم علماء الأنثروبولوجيا إلى حلقة الرواة ليذهبوا أبعد من بلاغة السرد التقليدي بأن سميح القاسم ، ابن الطائفة الدرزية التي كان أبناؤها يخدمون في جيش الإحتلال ، كان أول من رفض الخدمة في صفوف الجيش ذاته الذي صاح أحد باسمه في كفر قاسم " إحصدوهم " ، ليقبع في السجن مدة الخدمة كاملة ، وأن يبتعدوا قليلاً عن فائض الفصاحة المعهودة بأنه جمّل ولاء هذه الطائفة للوطن الأم ّ ، ليكتشفوا أن سميح القاسم الذي قبض على جمرة الدفاع عن الإنساني في المشروع الفلسطيني في مواجهة شرعة العدو القائمة على القتل والمحو والإبادة الجماعية ، لم يكن ، وهو صاحب الرؤيا التي تتسع ، ليضيّق على عبارته بحدود تصورات ضيقة أسقطها في نصه وحياته بانتمائه للنشيد الإنساني الطويل : " يا أخوتي السمر العراة ، ويا روايتي الأليمة / غنوا طويلاً وارقصوا بين الكوارث والخطايا " .
لكن ّ من أمر متفقّهي ما وراء الحداثة أن يتعثروا بجماليات المباشرة والخطابة في نص ّ القاسم الشعري وهو يسرد روايته .وبطغيان قصيدته المفتوحة على رسالة التوصيل لإيصال رؤيا تتزاوج فيها الفاعلية الإحتماعية وفعل الخطاب الذي تحوز عليه القصيدة . فلم يكن سميح القاسم إلا ثالث الإثنين : توفيق زياد ومحمود درويش ، الذين أطلقوا نبرة " الشعر المقاوم " في ستينات القرن الماضي ، وتحديداً بعد نكسة حزيران حيث اجتر آنذاك الشعراء العرب صيغة هجاء الذات والأنظمة . ولم يكن سميح القاسم وفياً إلا لهذا النوع من الشعر ، وهذا الأدب ، الذي جسده في أكثر من خمسين مؤلفاً شعرياً وسردياً ودرامياً ونقدياً ،
" منتصب القامة أمشي / مرفوع الهامة أمشي / في كفي قصفة زيتون / وعلى كتفي نعشي / وأنا أمشي / وأنا أمشي " .
هكذا أطل سميح القاسم على نفسه من نافذة الأبدية ،
وهكذا يراه قراؤه في العالم الذين حزنوا لرحيله الطويل هذا .
لقد ذبل شقّ البرتقالة الثاني سميح القاسم بعدد رحيل شقّها الأول محمود درويش .
* شاعر وأكاديمي فلسطيني مقيم في موسكو
د. عبدالله عيسى *
سيكون من شأن الرواة طويلاً أن يتفّقدوا الممرّات التي ذرعتها سيرة سميح القاسم . ذاك الطفل ، كما تذكرٌه سميح الشاعر الكبير بيننا هنا وهناك ، الذي بكى بشيء غامض لا يدركه إلا العارفون ، في طريق العودة من الأردن حيث كان والده يعمل ضابطاً في حرس الحدود إلى فلسطين ، في الحافلة التي ارتجّت من ذعر ركابها، خشية أن يدل ّ بكاؤه الطائرات الألمانية عليهم ، فهشّوه بزجرهم له ولم يصمت ، وهددوا بقتله لإسكاته فحال بينهم وبينه مسدس أبيه الكابتن ، وإذ قصّوا عليه روايته هذه ، أقسم سميح " أن أحداً لن يقوى على إسكاته " . شيء ندركه الآن ، ذاك الغامض الوحشي ّ في صراخ سميح الطفل ، بعد أن عانق الموت في هذا الرحيل الطويل ، وكأنه كان ينتظر أن يفتح له شق ّالبرتقالة الآول محمود درويش بوابة الأبدية ، ليدخل مدخل صدق ، بينما صوته يعلو على عتمة الموت ليزورنا في أيامنا وأحلامنا وآلامنا معاً . " ويكون أن يأتي / بعد انتحار الموت في صوتي . شيء روائعه بلا حد ّ/ شيء يسمّى في الأغاني / طائر الرعد " .
ولا بد ّ سيكتشف الرواة أن الهامش في سيرته عين ُ المتن . فذاك الصبي ، كما يذكّره محمود درويش في ذكرى مذبحة كفر قاسم " حوار السيف والرغيف ، خطاب الوحش إلى طفلة مهجورة هي إحدى حفيدات هاجر " ، نجا من لعنة " إحصدوهم " التي صرخ بها جندي ّ إسرائيلي ضجرٍ خرج للتو من ظلمة التلمود ، ليؤرّخ شاعراً مقاوماً لسيرة أسماء الدم الفلسطيني الأخرى أيضاً : دير ياسين ، كفرقاسم ، صبرا وشاتيلا ، وغزة وأخواتها .. " أملأ الدنيا هتافاً لا يساوم / كفر قاسم . كفر قاسم . كفر قاسم / دمك المهدور ما زال / وما زلنا نقاوم " . و كذلك أخيراً : غزة " العنقاء " في مواجهة " الغول " : " اليوم صار على المحبين اختيار الموت أو أبد الفراق / اليوم عرس الدم المراق / وأنا وأنت نعيش يا حبي المقاوم / أو نموت " .
وهنا سيلتبس الأمر على كهنة النقد الأدبي ، ومقتنصي الأخبار ، و ربما يدلق الرواة حبر الحكاية على قمصان زوّار أعمال سميح القاسم الكاملة مثل سيّاح ما بعد الظهيرة ، حين لا يستطيعون عبور المجال الحيوي بين رحيل الشاعر في لحظة الهدنة المقتنصة في القاهرة بين " الغول " و " العنقاء " ، وصرخة رب جندهم في الرواية ذاتها " إحصدوهم " ، لكن في غزة هذه المرة ، بعد ما يقترب من عقد وربع قرن على كفر قاسم ، لتكتمل فصول المجزرة التي يسمونها حرباً ليستعيد اليهودي من أحفاد هاجر أنساب أسباطه المختارة وفق روايته .
لكن توفيق طوبي ، كما يتذكر محمود درويش مذكّراً سميح القاسم ، الذي أرّخ لمذبحة كفر قاسم بأسماء قتلاها التسعة والأربعين ليجعلهم أجمل في مرايا قاتليهم ، لم يعد بيننا يا سميح ، نحن الذي أردناك أن تخرج أسماء شهداء غزة من عتمة القبور وأنقاض البيوت المدمرة ، كي يزوروا معك ، كقتلى كفر قاسم ، " الغول " في أحلامه ، ويفسدوا غفوته إلى حين .
وسوف يروي الرواة عن سميح القاسم ليذكّر بهم . في الممرات الطويلة يبقى ظله يغني مأساتنا الكبرى بصرخته الكبرى في المرايا التي صارت باردة بعد رحيله . في عتمة سجن الإحتلال لا ضوء إلا في عينيه الذي يعيث فساداً في نظرة سجّانه وهو يواريها عنه بعيداً ، و إقامته الجبرية تحاصر الجنود الذين يحرسون حريته . لا حرية إلا هذا الصوت الصارخ الذي لم يقو أحد على إسكاته : " أشد من الماء حزناً / تغربت في دهشة الموت عن هذه اليابسة / . أشد من الماء حزناً / وأعتى من الريح توقاً إلى لحظة ناعسة / وحيدا ً ومزدحماً بالملايين حلف شبابيكها الدامسة".
وعما قليل ، سيكون جديراً أن ينضم علماء الأنثروبولوجيا إلى حلقة الرواة ليذهبوا أبعد من بلاغة السرد التقليدي بأن سميح القاسم ، ابن الطائفة الدرزية التي كان أبناؤها يخدمون في جيش الإحتلال ، كان أول من رفض الخدمة في صفوف الجيش ذاته الذي صاح أحد باسمه في كفر قاسم " إحصدوهم " ، ليقبع في السجن مدة الخدمة كاملة ، وأن يبتعدوا قليلاً عن فائض الفصاحة المعهودة بأنه جمّل ولاء هذه الطائفة للوطن الأم ّ ، ليكتشفوا أن سميح القاسم الذي قبض على جمرة الدفاع عن الإنساني في المشروع الفلسطيني في مواجهة شرعة العدو القائمة على القتل والمحو والإبادة الجماعية ، لم يكن ، وهو صاحب الرؤيا التي تتسع ، ليضيّق على عبارته بحدود تصورات ضيقة أسقطها في نصه وحياته بانتمائه للنشيد الإنساني الطويل : " يا أخوتي السمر العراة ، ويا روايتي الأليمة / غنوا طويلاً وارقصوا بين الكوارث والخطايا " .
لكن ّ من أمر متفقّهي ما وراء الحداثة أن يتعثروا بجماليات المباشرة والخطابة في نص ّ القاسم الشعري وهو يسرد روايته .وبطغيان قصيدته المفتوحة على رسالة التوصيل لإيصال رؤيا تتزاوج فيها الفاعلية الإحتماعية وفعل الخطاب الذي تحوز عليه القصيدة . فلم يكن سميح القاسم إلا ثالث الإثنين : توفيق زياد ومحمود درويش ، الذين أطلقوا نبرة " الشعر المقاوم " في ستينات القرن الماضي ، وتحديداً بعد نكسة حزيران حيث اجتر آنذاك الشعراء العرب صيغة هجاء الذات والأنظمة . ولم يكن سميح القاسم وفياً إلا لهذا النوع من الشعر ، وهذا الأدب ، الذي جسده في أكثر من خمسين مؤلفاً شعرياً وسردياً ودرامياً ونقدياً ،
" منتصب القامة أمشي / مرفوع الهامة أمشي / في كفي قصفة زيتون / وعلى كتفي نعشي / وأنا أمشي / وأنا أمشي " .
هكذا أطل سميح القاسم على نفسه من نافذة الأبدية ،
وهكذا يراه قراؤه في العالم الذين حزنوا لرحيله الطويل هذا .
لقد ذبل شقّ البرتقالة الثاني سميح القاسم بعدد رحيل شقّها الأول محمود درويش .
* شاعر وأكاديمي فلسطيني مقيم في موسكو