صديقي ديفيد ... وديمقراطية ابن العم
سحب صديقي الأسترالي ديفيد نفسا عميقا من سيجارته البيضاء الطويلة ، ونفث سحابة من الدخان الأزرق غطت معظم ملامح وجهه ، بينما كانت عيناه الزرقاوتان مدهوشتان مشدوهتان تنظران لشاشة تلفزيونية كبيرة مثبتة في صالة قهوة عربية في إحدى ضواحي مدينة سيدني ، توقفنا فيها لاحتساء قدحين من القهوة التركية ، كان ديفيد قد شد جلد وجهه وهو يصوب نظره باهتمام بالغ لمجموعة من الجنود الذين يدوسون بأحذيتهم على أجساد بعض المتظاهرين في إحدى الدول العربية الثائرة ، عابس الوجه متقطب الجبين ظل ينظر ، أشاح بوجهه عن الشاشة قليلا ، ونظر إليّ مستغربا وكأنه يستحثني لأشاركه عبوسه ، طرفت عيناه قليلا ، ثم أعاد نظره ليكمل المشهد الذي بدا وكأنه يراه لأول مرة في حياته ، توقف ... سحب نفسا دخانيا جديدا ، ثم طالعني بشيء من الانكسار وسألني عما شاهده في ذلك المشهد السابق ، فأخبرته بأن ما رآه قبل لحظات يحدث الآن في دولة عربية ، يحاول شعبها التحرر من سطوة حاكمهم الديكتاتور ، لينعموا قليلا بتذوق طعم الحرية والديمقراطية بعد هذه السنوات العجاف الطويلة من الذلة والعذاب ...
ابتسم ديفيد ابتسامة خفيفة خبيثة ، بدا من خلالها بياض أسنانه ثم قال لي متهكما : يؤسفني يا صديقي العربي بأنكم معشر العرب لا تعرفون المعنى الحقيقي للديمقراطية ، وإن عرفتموها يوما ما ، فإنكم لن تحسنوا استخدامها أبدا ، فقلت له : ولم هذا التجني يا صديقي ؟ فأخبرني بأنه قضى سنوات من حياته كمهندس في معظم دول الخليج ، وزار الأردن والعراق ، وبعضا من الدول العربية بحكم عمله في قطاع الاتصالات ، فلم ير أي مؤشر للديمقراطية مطلقا في مجتمعاتنا ، حتى على مستوى القرية والأسرة الواحدة ، فالأسرة العربية كما يقول ديفيد تقدس رب أسرتها لدرجة العبادة ، فأمره مطاع ، وعصيانه ضياع ، حتى لو كان مخطئا ، وكذلك الأمر بالنسبة لشيخ العشيرة والقبيلة ، وأكمل فقال : وحتى لو قدر لكم بني العرب أن تجربوا الديمقراطية ، فأنا واثق بأن ديمقراطيتكم ستكون معلولة مهزوزة ، فأنتم تهتمون بالعرق ونسب الدم والطائفية أكثر مما تهتمون بمن سيقودكم للإصلاح والترقي ، فقلت له : قد أتفق معك في كل ما قلته ، فتجربتنا الديمقراطية لا زالت تحبو مقارنة بتجربتكم في دولتكم العامرة وفي باقي الدول الغربية ، وأنا أؤيدك في أننا لو قدر لنا ممارسة الديمقراطية فلن تعدو كونها ديمقراطية لابن العم أو الأخ أو صاحب النسب ، وأكملت فقلت : لكن ألا ترى معي يا صديقي بأننا لو جربنا ممارسة ديمقراطية سيئة خيرا لنا من ديكتاتورية جيدة ؟ فهز رأسه وأجاب بنعم ، وألا ترى معي يا صديقي بأن المجتمع الأسترالي كان عشائريا في أزمانه القديمة ، يدين كما نفعل الآن للاسم الأخير في كل تصرفاته ؟ وأن بداية الديمقراطية حتى في بلادكم كانت سيئة لا تقارن بديمقراطيتكم الآن ؟ قال لي : نعم كنا كذلك ندين للعشائر والإقطاعيات ، لكننا تحررنا من سطوة العشيرة والقبيلة بعد ذلك ، وأصبح مجتمعنا مجتمعا مدنيا لا قيمة لهذه الأشياء في عرفه وتفكيره ، لكني أرى بأنه ومع مرور السنوات تترسخ هذه العقلية لدى مجتمعاتكم وتتزايد أكثر فأكثر ، ويرثها الصغير عن الكبير ، بل ويرضعها مع حليب أمه كذلك ، قلت له : قد لا أتوقع نجاحا باهرا للديمقراطية في بلد كالعراق واليمن وليبيا مثلا ، فهذه دول لا زالت القبيلة والعرقية طاغية راسخة في عقول ومفاهيم أهلها ، لكني قد أقلل من سطوتها في بلد مثل مصر وتونس وسوريا ، فهي مجتمعات مدنية بحتة ، لا وجود فيها للقبيلة والعشيرة ، وإن وجدت فأظن بأن تأثيرها على الشعب تجاوز المعطيات السياسية التي تُخرج الديمقراطية عن مسارها الصحيح ، فوافقني كذلك في هذه النقطة الأخيرة ... ثم انتهى حينها حديثنا وانصرفنا .
أثناء عودتي من عملي ، وطوال قيادتي للسيارة بقيت أفكر في ما قاله صديقي ديفيد ، أقلب كلامه في عقلي جيئة وذهابا ، وأقف مع كل كلمة قالها ، بصراحة ومع أنني كنت موقنا بصدق كل عبارة قالها ، خصوصا حين عشت ومررت بعدة تجارب فاشلة للديمقراطية في كثير من البلدان العربية ، إلا إنني أحسست أني أسمع هذا الكلام لأول مرة في حياتي ، ككثير من الصور التي تراها كل يوم في حياتك ، فلا تفكر فيها إلا بعد أن يطرقها في عقلك طارق ، أو يلقيها في روعك طيف مارق ... فعلا ما أسوأ ديمقراطيتنا وما أبشعها وما أسخفها ، كيف لا وهي ديمقراطية قائمة على أساس واحد ، أساس شربناه وتجرعناه صغارا كما قال صديقي الأسترالي ، ومارسناه حتى رغما عن أنوفنا ، أساس يمكن اختصاره بتلك العبارة القديمة الجديدة : أنا وأخي على ابن عمي ، وأنا وأخي وابن عمي على الغريب ... حتى لو كان الغريب أفضل مني ومن أخي ومن ابن عمي ، فنحن ضده أبد الدهر وطوال الحياة ، حتى لو كان الغريب فاهما عالما عاقلا مصلحا فالعداء له والويل له ، المهم أنا وأخي وابن عمي وعشيرتي وطائفتي ... ويل للعرب من شر قد اقترب ... فعلا ما أقبح ديمقراطيتنا كما قال صديقي ديفيد . ..
معاذ فراج -- [email protected]
سحب صديقي الأسترالي ديفيد نفسا عميقا من سيجارته البيضاء الطويلة ، ونفث سحابة من الدخان الأزرق غطت معظم ملامح وجهه ، بينما كانت عيناه الزرقاوتان مدهوشتان مشدوهتان تنظران لشاشة تلفزيونية كبيرة مثبتة في صالة قهوة عربية في إحدى ضواحي مدينة سيدني ، توقفنا فيها لاحتساء قدحين من القهوة التركية ، كان ديفيد قد شد جلد وجهه وهو يصوب نظره باهتمام بالغ لمجموعة من الجنود الذين يدوسون بأحذيتهم على أجساد بعض المتظاهرين في إحدى الدول العربية الثائرة ، عابس الوجه متقطب الجبين ظل ينظر ، أشاح بوجهه عن الشاشة قليلا ، ونظر إليّ مستغربا وكأنه يستحثني لأشاركه عبوسه ، طرفت عيناه قليلا ، ثم أعاد نظره ليكمل المشهد الذي بدا وكأنه يراه لأول مرة في حياته ، توقف ... سحب نفسا دخانيا جديدا ، ثم طالعني بشيء من الانكسار وسألني عما شاهده في ذلك المشهد السابق ، فأخبرته بأن ما رآه قبل لحظات يحدث الآن في دولة عربية ، يحاول شعبها التحرر من سطوة حاكمهم الديكتاتور ، لينعموا قليلا بتذوق طعم الحرية والديمقراطية بعد هذه السنوات العجاف الطويلة من الذلة والعذاب ...
ابتسم ديفيد ابتسامة خفيفة خبيثة ، بدا من خلالها بياض أسنانه ثم قال لي متهكما : يؤسفني يا صديقي العربي بأنكم معشر العرب لا تعرفون المعنى الحقيقي للديمقراطية ، وإن عرفتموها يوما ما ، فإنكم لن تحسنوا استخدامها أبدا ، فقلت له : ولم هذا التجني يا صديقي ؟ فأخبرني بأنه قضى سنوات من حياته كمهندس في معظم دول الخليج ، وزار الأردن والعراق ، وبعضا من الدول العربية بحكم عمله في قطاع الاتصالات ، فلم ير أي مؤشر للديمقراطية مطلقا في مجتمعاتنا ، حتى على مستوى القرية والأسرة الواحدة ، فالأسرة العربية كما يقول ديفيد تقدس رب أسرتها لدرجة العبادة ، فأمره مطاع ، وعصيانه ضياع ، حتى لو كان مخطئا ، وكذلك الأمر بالنسبة لشيخ العشيرة والقبيلة ، وأكمل فقال : وحتى لو قدر لكم بني العرب أن تجربوا الديمقراطية ، فأنا واثق بأن ديمقراطيتكم ستكون معلولة مهزوزة ، فأنتم تهتمون بالعرق ونسب الدم والطائفية أكثر مما تهتمون بمن سيقودكم للإصلاح والترقي ، فقلت له : قد أتفق معك في كل ما قلته ، فتجربتنا الديمقراطية لا زالت تحبو مقارنة بتجربتكم في دولتكم العامرة وفي باقي الدول الغربية ، وأنا أؤيدك في أننا لو قدر لنا ممارسة الديمقراطية فلن تعدو كونها ديمقراطية لابن العم أو الأخ أو صاحب النسب ، وأكملت فقلت : لكن ألا ترى معي يا صديقي بأننا لو جربنا ممارسة ديمقراطية سيئة خيرا لنا من ديكتاتورية جيدة ؟ فهز رأسه وأجاب بنعم ، وألا ترى معي يا صديقي بأن المجتمع الأسترالي كان عشائريا في أزمانه القديمة ، يدين كما نفعل الآن للاسم الأخير في كل تصرفاته ؟ وأن بداية الديمقراطية حتى في بلادكم كانت سيئة لا تقارن بديمقراطيتكم الآن ؟ قال لي : نعم كنا كذلك ندين للعشائر والإقطاعيات ، لكننا تحررنا من سطوة العشيرة والقبيلة بعد ذلك ، وأصبح مجتمعنا مجتمعا مدنيا لا قيمة لهذه الأشياء في عرفه وتفكيره ، لكني أرى بأنه ومع مرور السنوات تترسخ هذه العقلية لدى مجتمعاتكم وتتزايد أكثر فأكثر ، ويرثها الصغير عن الكبير ، بل ويرضعها مع حليب أمه كذلك ، قلت له : قد لا أتوقع نجاحا باهرا للديمقراطية في بلد كالعراق واليمن وليبيا مثلا ، فهذه دول لا زالت القبيلة والعرقية طاغية راسخة في عقول ومفاهيم أهلها ، لكني قد أقلل من سطوتها في بلد مثل مصر وتونس وسوريا ، فهي مجتمعات مدنية بحتة ، لا وجود فيها للقبيلة والعشيرة ، وإن وجدت فأظن بأن تأثيرها على الشعب تجاوز المعطيات السياسية التي تُخرج الديمقراطية عن مسارها الصحيح ، فوافقني كذلك في هذه النقطة الأخيرة ... ثم انتهى حينها حديثنا وانصرفنا .
أثناء عودتي من عملي ، وطوال قيادتي للسيارة بقيت أفكر في ما قاله صديقي ديفيد ، أقلب كلامه في عقلي جيئة وذهابا ، وأقف مع كل كلمة قالها ، بصراحة ومع أنني كنت موقنا بصدق كل عبارة قالها ، خصوصا حين عشت ومررت بعدة تجارب فاشلة للديمقراطية في كثير من البلدان العربية ، إلا إنني أحسست أني أسمع هذا الكلام لأول مرة في حياتي ، ككثير من الصور التي تراها كل يوم في حياتك ، فلا تفكر فيها إلا بعد أن يطرقها في عقلك طارق ، أو يلقيها في روعك طيف مارق ... فعلا ما أسوأ ديمقراطيتنا وما أبشعها وما أسخفها ، كيف لا وهي ديمقراطية قائمة على أساس واحد ، أساس شربناه وتجرعناه صغارا كما قال صديقي الأسترالي ، ومارسناه حتى رغما عن أنوفنا ، أساس يمكن اختصاره بتلك العبارة القديمة الجديدة : أنا وأخي على ابن عمي ، وأنا وأخي وابن عمي على الغريب ... حتى لو كان الغريب أفضل مني ومن أخي ومن ابن عمي ، فنحن ضده أبد الدهر وطوال الحياة ، حتى لو كان الغريب فاهما عالما عاقلا مصلحا فالعداء له والويل له ، المهم أنا وأخي وابن عمي وعشيرتي وطائفتي ... ويل للعرب من شر قد اقترب ... فعلا ما أقبح ديمقراطيتنا كما قال صديقي ديفيد . ..
معاذ فراج -- [email protected]