الأخبار
"عملية بطيئة وتدريجية".. تفاصيل اجتماع أميركي إسرائيلي بشأن اجتياح رفحالولايات المتحدة تستخدم الفيتو ضد عضوية فلسطين الكاملة بالأمم المتحدةقطر تُعيد تقييم دورها كوسيط في محادثات وقف إطلاق النار بغزة.. لهذا السببالمتطرف بن غفير يدعو لإعدام الأسرى الفلسطينيين لحل أزمة اكتظاظ السجوننتنياهو: هدفنا القضاء على حماس والتأكد أن غزة لن تشكل خطراً على إسرائيلالصفدي: نتنياهو يحاول صرف الأنظار عن غزة بتصعيد الأوضاع مع إيرانمؤسسة أممية: إسرائيل تواصل فرض قيود غير قانونية على دخول المساعدات الإنسانية لغزةوزير الخارجية السعودي: هناك كيل بمكياليين بمأساة غزةتعرف على أفضل خدمات موقع حلم العربغالانت: إسرائيل ليس أمامها خيار سوى الرد على الهجوم الإيراني غير المسبوقلماذا أخرت إسرائيل إجراءات العملية العسكرية في رفح؟شاهد: الاحتلال يمنع عودة النازحين إلى شمال غزة ويطلق النار على الآلاف بشارع الرشيدجيش الاحتلال يستدعي لواءين احتياطيين للقتال في غزةالكشف عن تفاصيل رد حماس على المقترح الأخير بشأن وقف إطلاق النار وتبادل الأسرىإيران: إذا واصلت إسرائيل عملياتها فستتلقى ردّاً أقوى بعشرات المرّات
2024/4/19
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

في مديح مصر من أجل غزة بقلم:د. عبدالله عيسى

تاريخ النشر : 2014-08-19
في مديح مصر من أجل غزة بقلم:د. عبدالله عيسى
في مديح مصر من أجل غزة :
الأصوات المرتعشة لا تسند حجر الرؤيا  
 
د. عبدالله عيسى *

بالفكاهة ذاتها ، فكاهة حوذي ّ العهود ، تقرأ ما يسرد هؤلاء من لغط يعبث بنكهة التاريخ ورائحة الجغرافيا بين مصر وغزة ، ويكيدون لهما لينقلب الكيد إلى نحرهم . ثمة ما يضيء في حجر الرؤيا ويذرّي حقدهم الأعمى على الريح هباء منثوراً .
لم تكن غزة التي جاءت بكامل زينتها مدينة عصية ً على النسيان ، منذ ولدت مع الكنعاني الأول في القرن الخامس عشر قبل الميلاد ، لتستقل بذاتها في مرايا التاريخ . مر ّ الفراعنة من هنا أيضاً ، ومضوا كسواهم من بعدهم  من الإغريق والرومان والبيزنطيين ، ، لكن اسمها ما يزال يُذكّرُ بمخطوطة الفرعون تحتمس الثالث في القرن الخامس عشر قبل الميلاد أيضاً ، حيث قيّض لها أن تبقى محطة للقوافل بين سوريا ومصر  وجعلها عاصمة مصر الإدارية في أرض كنعان ، ولم يخب ُ اسمها قط في رسائل تل العمارنة .
ولم تشأ غزة ، تلك التي يتنكر لها هؤلاء الموطوءون بمس ّ من ملهاة العبث العصري وهي تواجه وحدها مأساتها الكبرى مع قاتلها الإسرائيلي القادم من حقد رب الجند في العهد القديم ، منذ دبت الحيوات البشرية على أرضها متموجة من " تل السكن " - الحصن المصري القديم في أرض كنعان ، إلا أن تظل وفية لمصر الفرعونية ثلاث قرون  ونصف تصد بجسدها المفتوح بين بحر وفضاء قصي ّ عن أم الحضارات الفرعونية هجمات القبائل والشعوب والإمبراطوريات المغيرة .
لم يكن شأنها إلا أن تكون وفية لجارتها الكبرى ، ولعلها أدركت قدرها مبكراً في حماية المشع ّ في أرض مصر من أثر إنساني عميق طويلاً ، حتى أتى ، في القرن الثاني قبل الميلاد ، عليها الهكسوس الذاهبين بمحاريث البداوى لاحتلال مصر ، فعاثوا فيها الفساد انتقاما ً .
وليكن أن جاءها الفلسطينيون وأوّلوها بمزاياهم لتصير على الخريطة أجمل من جلّ مدن العالم ، لكن مسّاً من لاجدوى لم يأخذها من بين يديها أو من خلفها ، وظلت بعينين مفتوحتين على العلاقة الأزلية بينهما تكلأ  زلفى عن  مصر غزوات الفاتحين الغلابين  . هكذا بقيت غزة آخر المدن التي تدافع عن مصر في وجه الإسكندر الذي حاصرها بجيوش وأسلحة عمياء ، حتى دخلها عام ٣٣٢ قبل الميلاد وقتّل رجالها وأطفالها وسبى نسائها ، واستقدم البدو من الصحارى المجاورة ليستوطنوا فيها عقاباً لها . غزة التي كانت آنذاك مركز تعلم اليونانية والفلسفة بين جاراتها ، ظلت فيما بعد ، طيلة حكم الرومان حيث كان يحكمها خمسمائة من مجلس الشيوخ ، تطل على تاريخها وهي تحتضن العائلات الفرعونية ، المصرية التي قطنت فيها لتزاوج بين عاداتهم ويومياتها في السيرة المشتركة ، المتواصلة .
ولم تكن قبل هذا بحاجة أن تقرأ على أخد هامشاً لائقاً من روايتها ليدخل مدخل صدق متن سيرتها ، المتداخل بما لا يطاق مع حكايات السلالات المجاورة . ولم تشأ أن تخرج وحدها من الخارطة لتقص ّ رؤاها على الغرباء ، غير العارفين بطعم  آبار تاريخها ونكهة هواء جغرافياها المتآخيين مع رائحة ملح المحيط المصري الكبير ، الذي يهبها حياة ً تستحق ٌ إن شاء .
هكذا كان ، وما يزال : إن تقرع أجراس الكنائس في إحداهما ، أو يعلو صوت المؤذن على المآذن ، تقام الصلاة في الأخرى . لا طائل من انشغال غزة بتأريخ انتشار تعاليم  المسيحية ، و رايات الفتح الإسلامي منها إلى الأمصار التي جاورتها على الخارطة . فهي كل يوم في شأن.
ولم ترد غزة قط  أن تتجول وحدها على الخارطة ليتسع المجال الحيوي ّ للمكان الذي ضاقت عليه جهات الأرض . أبداً تمسك بيد البحر الذي ما يزال يتوسل إليها أن تبقى .
لكن الفاطميين تركوا يدها ، ولم يأخذها الصليبيون بعيداً عن نفسها وهي تتفقد مكانها الأول لتعود إلى مرآتها في الخارطة إلى جوار مصر ، ولم تقبل أن تبقى قلعة لفرسان الهيكل ، فمدت يدها ، وهي التي كانت صلة رحم جناحي الشرق : مصر وسوريا ، إلى مصر ، لينتصر الناصر صلاح الدين . ثم ارتضت أن تكون معسكراً وخندقاً أمامياً للمماليك في دفاعهم عن مصر ضد جحافل المغول القادمة بالدمار الكوني ّ .
ولم يكن لأحد ، قريب أو بعيد ، أن يبعد ظليهما المتلاصقين في هذا العناق الأبدي ، فكيف هاء لهؤلاء الذين لم يتعلموا من دروس التاريخ وامتحان الجغرافيا أن يزيحوا غزة قليلاً من مكانها على الخارطة لتبتعد عن مصر ؟
تلك غزة التي لم تفتح باباً ليدخل الجيش الإنكليزي ، المدجج بالسلاح والحقد اللذَين ِ لم تكن تغيب عنهما الشمس ، في عام ١٩١٧ إلا بعد ثلاث معارك غلابة على غزارة أفواج الإمبراطورية الكبرى التي تكبدت آلاف القتلى ، حتى أن القائد العثماني  سيء الصيت لإحتقاره للعرب أحمد جمال باشا أصدر صكاً في مديح ثلاثة آلاف فلسطيني جعلوا جيش بريطانيا العظمى يخر على الجباه أمام صمودهم كبحر غزة ذاته في وجه الريح الغريبة . ولم تهدأ المدينة ثلاث عقود ونيف وهي تمرّغ ناصية جيش الإنتداب البريطاني برمال المكان الذي لم تغادره قط ، حتى هدأت إذ دخلت راضية مرضية كنف مصر بعد دخولها عام النكبة ، ثم  توقيع الهدنة مع اسرائيل عام١٩٤٩. مذ ذاك وحتى النكسة وغزة ومصر تتبادلان سلال الطيبات من الأرض ، و الهواء والماء في السماء ، والقدر المشترك كما في الغارات المصرية على اسرائيل منها عام ١٩٥٦، ونكسة عام ١٩٦٧، حيث سال  مجدداً الدم الواحد في مجرى واحد ، إلى مستقر واحد .
تذكر غزة ، كما فلسطين كلها ، أسماء شهداء مصر واحداً واحداً ، وشهداء غزة  وفلسطين كلها ما يزالون يزورون شهداء مصر ، وهم الأحياء عند ربهم يرزقون ، وينشدون علينا نحن الأحياء الذين ننتظر  " بلادي ، بلادي" . وغزة أيضا ً ، كما كل فلسطين ومصر جميعها ، تبكي شهداء مجزرة بحر البقر ، وأسرى جيش مصر  ، خير أجناد الأرض ، الذين قتلتهم اسرائيل بدم بارد .
فلا تذكروا أسماء هؤلاء الذين اعتلوا المنابر ، بربطات عنق أو فساتين أنيقة  أمام الكاميرات ، أو أرادوا في غرف مظلمة ، بأصابعهم التي تقنعت بسبابة القناص / العدو المشترك الذي يتربص بأعمارنا ، أن يزيحوا غزة إلى الجهة الأخرى من الخارطة لتنأى عن مصر . لا صراخ هؤلاء الأشبه بكيد نساء عوانس ، ولا مؤامرات أولئك التي تشبه ما كادت الريح للطير الجريح الراقص في دمه في الهواء ، تقلب التاريخ على رأسه كما أرادوا ، أو تعيد رسم الجغرافيا . فغزة التي تمنى جنرالات أعدائها أن يرموا جسدها في البحر ، أشبه بالبحر الميت عصية على أن يدفنها أحد ، ولن تذهب إلى مستقبلها دون مصر ، كما لن تذهب مصر وحدها إلى المستقبل دونها . هكذا يؤكد التاريخ والجغرافيا معاً .
وليكن أنّ هؤلاء تواروا خلف أصابعهم ،خشية أن يعاتبهم الدم الغزاوي المراق من أجلهم أيضاً ، وكتموا مناخيرهم بها ، تحسّباً من خبط رائحته التي أطبقت على الآفاق ، وليدبّوا الصوت ما شاءت حناجرهم أن تتكئ على رجع طبول حرب أعدائنا الذين لم يأخذوا من الحداثة وما بعدها إلا  الأسلحة التي تخطئ أجسادنا ويصرون على تسميتها ذكية وما بعد الذكية ، لتعلو بهم على قاماتهم على ظلالها المعتمة . لم تكن حرباً هذه،  ياسادة ،، بل مجازر متواصلة ، أعادت السؤال الموجودي إلى أوله : كم مذبحة تذري أشلاء أطفال غزة في الريح لتدركوا أن المسافة بين لحمهم العاري في العراء وقمرة القاتل في طائرة ف ١٦ أدنى من المسافة الوهمية بين حدود غزة ومصر ، أو  بين الآهات التي صيّرت  الهواء التي لا تزال تحمل الصرخة المشتركة بين ضحايا بحر البقر ومخيم الشجاعية مثالاً لا حصراً؟ .
وعما قليل ٍ ، سيكون من حق ّ مصر أن تغفر لهم ، هؤلاء  إن شاءت ، وسيكون بمقدور غزة ، كما هي عادتها ، أن تنسى أسماءهم . " لا تذكروهم فيشتبه الأمر عليكم " ، ستقول مصر ، وتروي لغزة سيرة شهدائها . " لا ننسى ، إلا لنذكر أننا أحياء دونهم " ستقول غزة ، وهي تمسك عما قليل بيد مصر وتتنزهان على الخريطة . فلن  ترى مصر في مرايا تاريخها صورة  غزة سوى حصن أمنها القومي ، لا اسرائيل ، كما يصورون ، بمكيدة المهرّج الرديء و بخور مشعوذي الأساطير الخرقاء .
  وسيكون ، عما قليل ، من شأن غزة أن تدلي باعتراف فوضوي ٌ لتستكمل حريتها التي اغتصبت فيما يشبه ارتطام جسدين في فراغ ضيّق . ومن أمر مصر كلها أن تصفح عما اقترفه بعض من في غزة في حقها . وسيكون بمقدورهما أن تحتكما للحب لتتنصرا على إساءات بعض من فيهما كليهما . ولسوف تظلان طويلاً ترتبان محتويات الطبيعة حين تطلان على مقتنيات الذاكرة .وسوف تنسيان أن أحداً من هؤلاء ، أو بعضهم أو جلهم أو كلهم ، لم يرَ أن من حق  جريح نازف في دمه أن يقضي على معبر مغلق . أو أن أحداً من هؤلاءعلى الضفة الأخرى  ، أو بعضهم أو جلهم أو كلهم ،  دس ّيده تحت عباءة الساحر ليخرج الأفاعي من جحورها ، أو اعتصم بلحية الكاهن  هناك ليجعل من عمامته غطاءً لنعوشنا التي نحملها على ظهورنا هنا .
لم نشأ أن نصدّق ، وإن سمعنا ، أحداً هناك يشكر قاتلنا على قتله لنا هنا ، ولم نكن نؤمن ، وإن رأينا ، أن أحداً من هنا ترك ظله هناك ليعانق أشباحاً خرجت من الماضي بعمامات ورايات سوداء كي تتنزه بيننا بأسلحة وأحزمة ناسفة عمياء ، أو تقيم الحدّ على أجنحة أفكارنا العصية على حبسها في غرف الموتى .
لم يكن من حق أحد هناك ، متقنّعاً بزي ّ وصورة عصريين ،  أن يقيم الحدّ علينا كلّنا هنا ، بظلامية أولئك العائدين من الماضي لينكصوا بتاريخنا كلّه إلى كهفه المظلم الأوّل , أو أن يمدّ قاتلنا في غيّه يعْمَهُ في الرقص على دمنا ، لأن أحداً منا هنا كتم صوتنا ليتحدث عنا بما لم نقل ولا يقال ، واختلس المسافة بين أصابعنا هنا وهناك ، كي نختلف على ما صنعت يداه بنا ، هنا وهناك أيضاً .
هؤلاء ، وأولئك ، يرمون أثقالهم على عواهنها  ، فيما مصر وغزة تتجولان في المستقبل
الآيدي المرتعشة لا تبني حلماً ، والأصوات المرتعشة لا تسند حجر الرؤيا .  

*شاعر وأكاديمي مقيم في موسكو
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف