الأخبار
"عملية بطيئة وتدريجية".. تفاصيل اجتماع أميركي إسرائيلي بشأن اجتياح رفحالولايات المتحدة تستخدم الفيتو ضد عضوية فلسطين الكاملة بالأمم المتحدةقطر تُعيد تقييم دورها كوسيط في محادثات وقف إطلاق النار بغزة.. لهذا السببالمتطرف بن غفير يدعو لإعدام الأسرى الفلسطينيين لحل أزمة اكتظاظ السجوننتنياهو: هدفنا القضاء على حماس والتأكد أن غزة لن تشكل خطراً على إسرائيلالصفدي: نتنياهو يحاول صرف الأنظار عن غزة بتصعيد الأوضاع مع إيرانمؤسسة أممية: إسرائيل تواصل فرض قيود غير قانونية على دخول المساعدات الإنسانية لغزةوزير الخارجية السعودي: هناك كيل بمكياليين بمأساة غزةتعرف على أفضل خدمات موقع حلم العربغالانت: إسرائيل ليس أمامها خيار سوى الرد على الهجوم الإيراني غير المسبوقلماذا أخرت إسرائيل إجراءات العملية العسكرية في رفح؟شاهد: الاحتلال يمنع عودة النازحين إلى شمال غزة ويطلق النار على الآلاف بشارع الرشيدجيش الاحتلال يستدعي لواءين احتياطيين للقتال في غزةالكشف عن تفاصيل رد حماس على المقترح الأخير بشأن وقف إطلاق النار وتبادل الأسرىإيران: إذا واصلت إسرائيل عملياتها فستتلقى ردّاً أقوى بعشرات المرّات
2024/4/20
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

بثينة العيسى 9 إنانا الحكاية العربية بقلم: د. حسين سرمك حسن

تاريخ النشر : 2014-08-19
بثينة العيسى 9 إنانا الحكاية العربية بقلم: د. حسين سرمك حسن
مشروع تحليل خمسين رواية عربيّة نسوية :
بثينة العيسى في رواية "عائشة تنزل إلى العالم السفلي" :
                       إنانا الحكاية العربية الجديدة  (9)
--------------------
                        د. حسين سرمك حسن
                  بغداد المحروسة - 21/4/2014
أي أن عائشة ترفض الربط بين نزول إنانا ودورة الخصب في الطبيعة والإله الفادي ، وهو التفسير النقيض الذي أجهض به السوّأح بدايته التفسيرية الموفّقة . والسواح – مع الباحثين الأبناء المنحازين بحماسة مفرطة إلى الأم – هو نفسه الذي قال معلّقا على مقطع لا يقبل اللبس من أسطورة إنانا ذكرناه قبل قليل هو :
(اضطجع الرجل وحيداً في غرفته
ونامت المرأة على جنبها وحيدة)
علّق السوّاح على هذا المقطع بالقول :
(يُفهم مــن ذلـك أنّ الرجال والنسـاء قـد تباعدوا جنسياً ، فعشتـار هي القوة الإخصابيـة في الإنسـان والنبات ، قـد غابـت عـن الوجود وغـابت معهـا كـل مظاهــر الإخصاب التـي تعكسهــا في الحياة) (23).
فهـل كـانت هنـاك أدنـى إشـارة الـى مـوت القمـح وجفــاف الأرض والـزرع في المقطـع السابق ؟ 
وحتى (د. نائـل حنون ) وهـو مـن المتحمّسـيـن ــ مثـل الســوّاح ــ في تجريـد (دموزي) مـن الدور الإخصـابـي وإحقــاق الحـق العشـتــاري الأمومي – وأنا أؤيّد ذلك لكن بتفسير مغاير - نجده ينقل لنا ، وبوضوح ، مقطعاً يشيـر الى الـدور الجنسي المحـدود في كتابـه (عقائد مـا بعد الموت) وهو :
(بعد أن نزلت السيّدة (عشتار) الى العالم الأسفل
 لم ينزُ الثور على البقرة ولم يلقح الحمار الأتان
 وفي الحارة لم يضاجع الرجل العذراء
فالرجل يرقد في مخدعه والعذراء ترقد على جنبها )
ثم يقيم بناءً نظرياً واسعاً يبرّر من خلاله دور إنانا/عشتار كإلهـة للخصب بالمعنــى الكوني (24) . ونفس هذا الإنحياز يقف خلف جهد الباحثين الآخرين في توسيع - أو (تضييق) - مساحــة دور الإله الإبن وتغييب دور الإله ــ الأب لصالح الإلهة الأم .
وعائشة لا تكتفي بإعلان رفضها للرأي الذي يجعل نزول الإلهة إنانا إلى العالم السفلي تمظهرا لظاهرة الخصب ، بل هي تعلن سَخَطها بقوة على تلك التفسيرات النابعة من عنجهيتنا الثقافية :
(.. هل هذا هو كل شيء ؟
لا يمكن ، فهذه هي البداية فقط ، لأن عنجهيتنا الثقافية ، واعتقادنا بأن الزمن قد تقدّم بنا فعلاً ، وإيماننا بأننا أكثر تطوراً من الإنسان البدائي ، وبأنه أبسط بكثير من أن تتجاوز اسئلته الألغاز الفلكية ودورة الفصول وهكذا اشياء زعمنا بأنّها تثير حيرته ، لأنه – كما نظن – أعزل وخائف في طبيعة غير رحيمة .. رغم أن الزمن قد تقدّم بنا لكي نصير أكثر عزلة ، لكي تصبح الطبيعة أكثر غموضا وبعداً واستعصاءً بالنسبة لنا ) (ص 136) .
ويتصاعد سَخَطها على هذه التفسيرات "الطبيعية" لتصل في ختام هذا القسم نوعا من السخرية السوداء قبل أن تستوقفنا منبهة إيّانا بأنها رأتْ شيئا يلمع في السطر الأخير :
(هل هذا هو ما حاولت إنانا أن تقوله لي ؟ بأنّ الإنسان القديم أكثر ذكاء وشفافية روحية منّا ؟ بأنّ الطبيعة لا تخيفه ، بل تخيفنا نحن ؟ بأن الفصول لا تحيّره لأنه يحسّ بها داخل وجدانه ؟ بأن القمر لا يبلبل أفكاره ، بأن الإنسان القديم ، بقدراته الروحية وحواسه اليقظة ، قد وصل إلى القمر قبل نيل أرمسترونغ بقرون (إن كان الأخير قد وصل حقّاً !) .
مهلاً ، لقد رأيتُ شيئا يلمعُ في السطر الأخير) (ص 136) 
ثم – ومن دون أن تدري ايضا – تقوّض عائشة جانبا مهما من فرضية السوّاح وهو القائل بأن إنانا نزلت لـ "تفدي" الإله تموز :
(لا .
لم تذهب إنانا إلى العالم السفلي لكي تُنقذ تموز/دموزي ؛ البداية غير ملائمة ، والنهاية مغلوطة ، والحكاية متناقضة ، والأمر ببساطة غير ممكن ، وأنا أعرف ذلك يقينا لأنني بتّ أقرأ النص بملء قلبي ، حرّة من تأويلات الباحثين (...) إنانا لم تنزل إلى العالم السفلي لإنقاذ تموز ، وإن صحّ ذلك في وجهها البابلي/ عشتار ، فهو لا يصحّ في وجهها السومري الأكثر عراقة وقِدَماً ) (ص 143 و144) .
وبالمناسبة لم أجد أيّ نص سومري أو بابلي / أكادي يشير بصراحة ووضوح إلى أن الإلهة السومرية إنانا أو الإلهة البابلية الأكادية عشتار قد هبطت إلى العالم السفلي واحتُبست هناك كرهينة وفداء ، وأنّه أُطلق سراح الإله تموز (انبعث) بسبب تضحيتها .. أبداً .. ابداً .. بهذا الوضوح وكصفقة .. فمن أين جاء الباحثون بتفسيراتهم المؤكدة لفداء إنانا/عشتار لتموز ؟ إنّها الدوافع الأوديبية المحظورة التي عملت من وراء ستار وأشعلت حماسة الباحثين حتى أنّهم لم يتمسكوا بالنصوص الحرفية بل حرّفوا دلالاتها من أجل غاياتهم اللاشعورية . وهذه الدوافع اللاشعورية هي التي تُشعل حماسة عائشة الآن ؛ هذه الحماسة التي تتبرقع لدى عائشة ببراقع القراءة "القلبية" والتواصل "الروحي" الموصل إلى النتائج "اليقينية" كما تعلن لنا :
(أنا أعرف ذلك يقينا لأنني بتّ أقرأ النص بملء قلبي ، حرّة من تأويلات الباحثين / كلّ كلمة ترد فيه أحسّ بها تدوّي في دمي ، أحسّ بأنني أفهمها جيّداً ، تلك الكلمة الأقدم من 3500 سنة ، لا مشكلة تواصل بيني وبينها ، في حين أنا أعجز من أن أخوض في حديث عادي مع أخٍ أو زوج أو أمّ .. نعم ، أنا متأكّدة مما أقول ، وحدسي اليوم مشعّ ، يرشدني بلا عناء ، لألج أحراش النص ومَداراته ، بين الحرف والحرف أجد بعضي ، بين الكلمة والكلمة أجدني كاملة ، كلّ شيء واضح ، مفهوم ، بسيط ، نقي : إنانا لم تنزل إلى العالم السفلي لأجل إنقاذ تموز (...)
إنّ تصديقنا لهذا الأمر يجعلها في نظرنا خائنة ومتناقضة ، تقطع بوابات العالم السبع من أجل استعادة حبيبها ثم تتركه بمجرد أن ذاقت هي ويلات الموت ! مجرّد تأويل ذكوري دوغمائي آخر لملحمة روحية عظيمة . لماذا نخلط الأمور ؟ دوموزي لم يكن في العالم السفلي ، بل كان في "كولاب" يضع على جسده الثياب الفاخرة ، جالساً على عرشه ، يعزف على مزماره ) (ص 144)
وهي محقّة – وهذا هو تسلسل الأسطورة السردي الأصلي - في موقفها من موضوعة الإله تموز . لقد رفضت إلهة العالم الأسفل "أريشكيجال" – وهي أخت إنانا ؟؟ - خروج إنانا من عالم الظلمات إلى النور وعودتها إلى العالم العلوي إلّأ ببديل يحلّ محلها ("يشتريها" !) . وافقت إنانا ولكنها رفضت تسليم مستشارتها "ننشابور" أو شاعرها "شارا" أو ضابطها "لولال" للشياطين بأي ثمن إلى أن وصلوا إلى ( كلّابا – Kullaba وهي إحدى ضواحي مدينة "أوروك" جنوب العراق أيام السومريين) :
(-حسناً أجاب الشياطين ، لنتابع
حتى شجرة التفّاح الكبيرة في منطقة
"كلّابا" المسطّحة
واكبوها إذن حتى شجرة التفّاح الكبيرة
في منطقة كلّابا المسطّحة
حيث كان دوموزي متمركزاً بشكل مريح
على منصّة عالية
أمسك به الشياطين من فخذيه
وبيتنما كان الرعاة ينفخون الناي والشبابة
ألقت عليه إنانا نظرةً : نظرة قاتلة
لفظت ضده كلمة : كلمة ساخطة
أطلقت ضدّه صرخة : صرخة هلاك
"إنّه هو ! خذوه" ) (25).
ومن الأمور اللافتة للإنتباه بقوّة هي درجة عجز دموزي المقيتة وسلبيّته الغريبة التي لا تناسب مقدرة إله نُسجت حوله أساطير الإنبعاث والبطولة ، والتي تمثلت في بكائه المُهين وهروبه المتكرّر من شياطين العالم السفلي ، واستنجاده المُذل بالإله "أوتو" أولا لإنقاذه ، واستعانته المُزرية بشقيقته "جشتينانا" الشاعرة والمغنّية ومفسّرة الأحلام والتي "فدته" – وليس الإلهة إنانا – ونزلت بدلا منه إلى العالم الأسفل – وبموافقة إنانا – لمدة ستة أشهر ! :
                   (عـلّق نايه حول عنقه
                       وراح يبكي وينوح)
                 
                    (أختاه
                      أي صفيتي سأختبىء بين الأعشاب
                       فلا تخبري أحداً بمكمني)
            
                    (أي (أوتو) أنت أخو زوجتي وأنا زوج أختك
                       فحوّل يديّ الى حيّة وحول قدمي الى حيّة
                       أنقذني من العفاريت ولا تدعهم يأخذونني)

لقد كانت عودة هذا الإله الى الحياة في الواقـع نوعـاً مـن (الخروج) وليس (الإنبعاث) بمعناه النـفسي والأسطوري الحقـيقي ، فـقد رمته الـى الـعالم الأسفل (إلهة أمّ) ، وأرتهنتت بدلاً منه ــ حسب بعض التـفسيرات ــ (أخت) مسكينة مضحّية .
تقول (أريشكيجال) ــ حسب الأسطورة البابليّة المكمّلة ــ :
(أمّا تمّوز زوجها الشاب
    فخذوه وأغسلوه بماء طهور
وضمّخوه بالعطور الطيّبة
ألبسوه عباءة حمراء                
ودعوه يعزف نايه اللاّزوردي
ولتحط به كاهنات عشتار يهدّئن من خواطره)
... إنّه إله بكّاء خائر الإرادة !
وهنا يثور التساؤل الخطير الذي يقلب كل تأويلات الباحثين وانحيازاتهم : هذا الإله البكّاء الذي لم يكن إلهاً للخصب ، ولم يكن إلهاً جسوراً للهبوط ولا للإنبعاث .. كيف ظلت شعوب الشرق القديمة تعبده كإله للخصب والإنبعاث لآلاف السنين حتى بعد أن انهارت الحضارات الرعوية (ودموزي راعٍ اعتبره الباحثون رمزاً للفحولة والقوّة الجنسية ، ورمزا للزواج المقدّس حتى في ظل الحضارات الزراعية) ؟ أليس من المنطقي ، حين حلّت الحضارات الزراعية ، أن يكون رمز الخصب فيها هو الفلّأح ؟ الجواب قد يبدو صعبا ومتناقضا ، ولكنه سيكون يسيرا لو تسلّحنا بأساسيات منهج التحليل النفسي وهو ما حاولنا إثباته في كتابنا آنف الذكر (26).
المهم ، إن ما أراه مؤكّدا هو أن هبوط الإلهة إنانا إلى العالم الأسفل لم يكن بقصد فداء الإله دموزي أبداً ؟ وهذا ما تردّده عائشة أيضاً .
إذن ، لماذا تصدّت إنانا لهذه المهمة المخيفة والجسيمة المتمثلة في الهبوط عبر طبقات العالم السفلي السبع المرعبة المظلمة ؟
تقول عائشة :
(إنانا لم تمت من أجل إنقاذ أحد ، إنانا ماتت من أجل نفسها ، وهذه الرحلة ، منذ الحياة وحتى الموت ، منذ الأعلى العظيم وحتى الأسفل العظيم ، هي لأجل إنقاذها هي ، إنّها مسيرة روحيّة قطعتها إنانا بغرض اكتشاف ذاتها ، وهو ما لا يتحقّق إلّا بالتوغّل في أغوار النفس الباطنة ، أو ما نسمّيه نحن باللاوعي. هذا ما فعلته إنانا ، فهي العارفة أكثر من غيرها بأن الشكل الوحيد الممكن للإنقاذ (بالمعنى الروحي) هو إنقاذ الذات) (ص 144) .
إنّها وجهة نظر "جديدة" تأتي من "ربّة بيت" (مُمّلة تمضي يومها كلّه في قراءة نصوص عمرها 3500 سنة ؟) كما تصف عائشة نفسها . لكنها قراءة تحت مطارق الموت .. مطارق نضجت تحت ضرباتها المدوّية على سندان وعيها مقوّمات رؤيتها إلى الحياة والفكر والموروث والمؤسّس حتى لو كان أسطوريا أو دينيا راسخا في أعمق طبقات اللاشعور الجمعي . ربّة البيت "المملّة" والمنحصرة في غرفة نومها هذه ، تعلن أنّ لها تحفّظات نقديّة على ما رآه الباحثون والدارسون في أسطورة هبوط إنانا ، وقد يبدو هذا مضحكا ، لكنها – ولاحظ الثقة بالذات الآن – لا يهمها رأي العالم كلّه ، فهذه مشكلته (ص 145) . ستكتب رأيها في كل الأحوال على طريقة "قلْ كلمةً وامضِ .. زدْ سعةَ الأرضِ" ! وهي ترى الآن أن "كلمة" واحدة أغفل دلالاتها الباحثون فأربكت دروسهم المستنبطة من الأسطورة العراقية العظيمة :
(من الأعلى العظيم تاقت إلى الأسفل العظيم
من الأعلى العظيم تاقت الربّة إلى الأسفل العظيم
من الأعلى العظيم تاقت إنانا إلى الأسفل العظيم )
هذه المفردة هي الفعل (تاقت) :
(تغاضينا بسهولة عن كونها (تاقت) إلى الموت وحسب . إنانا .. تاقت إلى الموت ، وهذا هو السبّب الوحيد لتلك الرحلة/المسيرة/الملحمة/البطولة/الأسطورة ؛ التوق ، القلق ، الشغف إلى المعرفة : معرفة الذات ... سيّدة المعارف جمعاء) (ص 145) .
ولا يختلف الأمر في الترجمات المختلفة للأسطورة حين تُستبدل بالفعل (تاقت) أفعال أخرى مثل : صمّمت أو أرادت ، أو هجرت أو نبذت ، فكلّها تعبّر عن القصديّة العالية وفعل التخطيط الإرادي المسبق :
(من الأعلى العظيم اتجهت بأفكارها نحو الأسفل العظيم
الإلهة من الأعلى العظيم اتجهت بأفكارها إلى الأسفل العظيم
إنانا من الأ‘لى العظيم اتجهت بأفكارها إلى الأسفل العظيم
هجرت سيّدتي السماء وهجرت الأرض
وإلى العالم السفلي هبطت
هجرت إنانا السماء ، وهجرت الأرض
وهبطت إلى العالم السفلي
نبذت السيادة ونبذت السلطان
وإلى العالم السفلي هبطت) (27). 
 فهبوط إنانا لم يكن خاضعا لتقلبات الحوادث العرضية غير المفهومة ، كما حاول بعض الباحثين تصوير ذلك ، ولا لمصادفات التغيّرات الطبيعية ، ولا الحالة المزاجية لـ "مؤلّف" الأسطورة . إنّه فعلٌ محكوم بغاية ، وله وظيفة في مسار النمو النفسي لإنانا كما ترى عائشة . إنّ تجربة هبوطها هي التجربة الروحيّة والنفسية – والروح تختلف عن النفس – الذروة .. التجربة الأم بين كل تجارب الإنسان ، التجربة التي رفع لواءها سقراط وأُعدم بالسمّ (أو انتحر) في سبيل ترسيخها في العقل البشري ، وكان مفتاحها بالنسبة له : إعرف نفسك . تجربة التعرّف على ما هو "مخفي" من الذات .. ما هو غاطس في أعماق اللاشعور ، وصولا إلى الهدف الاسمى وهو : تكاملية الذات تكاملا صحّيا بين أجهزتها الثلاث : الأنا الأعلى ، والأنا ، والهو ، حسب السبق الفرويدي الكبير .. التكامل الموصل إلى الإنسجام ونبذ الصراعات الداخليّة وتحقيق الصفاء النفسي العميق :
(تكشف الأسطورة ثلاثة أوجه للذات : ننشوبور ، إنانا ، وأريشكيجال . وبلغة فرويدية : الأنا الأعلى ، والأنا ، والهو ؛ الأعضاء الثلاثة في الجهاز النفسي الإنساني ، حيث لكلٍ منه مغازيه وأبعاده ، ولكنها بأي حال ثلاثة ظهورات محتلفة لحقيقة واحدة ، وثلاثة تجلّيات لجوهر واحد ، وهذا منطقي إلى حدّ بعيد ، أن تشدّ إنانا الرحال من أجل أن تلتقي بذلك الجزء الخفي من ذاتها ، القابع في أعماق العالم السفلي . فكيف تنطلق الذات في مسيرة اكتشاف الذات إلّا صوب الذات ؟) (ص 145 و146) .
ووفق فرضية عائشة (أو نظريتها بحق) تكون الشخصيات الأسطورية الثلاث ممثلة لمكوّنات الجهاز النفسي للإنسان ممثّلاً بالإلهة إنانا وعلى الشكل التالي :
ننشابور = الأنا الأعلى (الضمير ومثال الأنا)
إنانا = الأنا (الذات العاقلة)
إريشكيجال = الهو (مستودع الغرائز)  
وتقوم عائشة بتوصيف هذه الرموز بصورة أوسع بالقول إنّ :
(إريشكيجال التي تمثّل الجانب المُظلم منّا ، الجانب الذي نميل إلى إنكاره والذي يحتاج إلى الشفاء والحبّ ، هي الوجهة الوحيدة الممكنة للأنا : إنانا ، من أجل سبر ذاتها . أمّا عن ننشوبور ، وزيرة إنانا المخلصة (...) فهي ذلك الجزء المكتمل منّا ، هي الضمير المخلّص لإنانا ، والناسكة التي تتدخّل لإنقاذ إنانا من التورّط في غياهب الهو/أريشكيجال ، وهي تُنقذ إنانا في كثير من النصوص الأخرى . أليست هي التي أنقذت زورق السماء من الضياع ؟) (ص 146) .
وكوقفة عابرة وسريعة نقول إنّ عائشة في جانبٍ من نظرتها هذه تقع في المحذور نفسه الذي حذّرت ، هي نفسها ، فرويد منه في بداية مسيرة الحكاية ، فقد نبّهته إلى أنه إذا كانت غريزة الموت جزءا من تركيبتنا الغريزية ، فلماذا ننرعب منها وتثير فينا الخوف ؟ ووفق نفس القياس : إذا كان هذا الجزء (الأسفل/ التحت) هو جزء من نفوسنا فلماذا نُنكره ولا نحتويه بصورة طبيعية ونتصالح معه منذ البداية ؟
وحين تكرّر عائشة كثيرا – ومن ورائها الروائية - أنها لا تقتنع بأن هبوط إنانا إلى العالم السفلي كان من أجل الفداء والتضحية لإطلاق سراح الإله دموزي من العالم الأسفل ، فقد يظن القاريء أن هذا الرأي من بنات أفكارها ونتيجة لتحليلاتها . في الحقيقة رفض باحثون كثيرون ليس فكرة أن هبوط إنانا من أجل فداء دموزي حسب ، بل أنكروا وجود دموزي في العالم الأسفل أصلاً وفي أي وقت ! . يقول كريمر وهو يشرح أهمية ما اكتشفه في المئة لوح السومرية الجديدة التي نشر عنها دراسة مفصّلة في عام 1951 :
(لقد اتضح أن هذه المادة الجديدة على أهمية كبيرة لم يكن أحد يتوقعها . فلقد أزالت وهْماً يتعلّق بالإله دموزي كان قد وقع فيه الدارسون للميثولوجيا (الأساطير) في حضارة ما بين النهرين ولديانتها ، وظلّوا على ذلك الوهم أكثر من نصف قرن . فمنذ أن نُشرت الرواية السامية للأسطورة التي بين أيدينا وهي الرواية المعنونة بـ "هبوط عشتار إلى العالم الأسفل" ، وقبل أن يظهر إلى الوجود ما يضاهيها من الأصل السومري ، كان الإعتقاد السائد أن الإله "دموزي" قد نُقل إلى العالم الأسفل لسبب مجهول قبل أن تنزل الإلهة "إنانا" إلى ذلك العالم . واعتقدوا أيضا أن "إنانا" إنما هبطت إلى العالم الأسفل لكي تحرّر زوجها "دموزي" وترجعه إلى الأرض . ولكن النص الجديد الذي عثرتُ عليه في جامعة "ييل" برهن على أن كل هذه الإفتراضات لا أساس لها من الصحة . بل الأوضح أن يُقال أنها هي التي أسلمته إلى الشياطين ليأخذوه إلى "الأرض التي لا رجعة منها" بسبب ما أثاره من تصرّفه من حنقها وغضبها عليه) (28). 
كما أشار العلّامة الراحل "طه باقر" إلى ذلك بقوله :
(لم يزل الباعث الذي حدا بالإلهة عشتار إلى النزول إلى العالم الأسفل غامضا غير واضح ، وقد قيلت في ذلك جملة آراء منها الرأي الذي درج عليه قدماء الباحثين بأن عشتار ذهبت إلى ذلك العالم من أجل استعادة زوجها "تموز" من أسر عالم الموت ، ولكن لا يوجد ما يؤيّد هذا الرأي فيما وصل إلينا من نصوص مسمارية ومنها هذه الأسطورة بروايتيها السومرية والآشورية ، فليس فيهما ما يشير إلى أن تموز كان موجودا في ذلك العالم قبل نزول عشتار إليه ، لكي تسترجعه منه .. إن إنانا (عشتار) نفسها كانت السبب في حبس تموز في ذلك العالم وأنها هي التي قدّمته بديلا عنها مقابل قيامتها منه) (29).
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف