الأخبار
قطر تُعيد تقييم دورها كوسيط في محادثات وقف إطلاق النار بغزة.. لهذا السببالمتطرف بن غفير يدعو لإعدام الأسرى الفلسطينيين لحل أزمة اكتظاظ السجوننتنياهو: هدفنا القضاء على حماس والتأكد أن غزة لن تشكل خطراً على إسرائيلالصفدي: نتنياهو يحاول صرف الأنظار عن غزة بتصعيد الأوضاع مع إيرانمؤسسة أممية: إسرائيل تواصل فرض قيود غير قانونية على دخول المساعدات الإنسانية لغزةوزير الخارجية السعودي: هناك كيل بمكياليين بمأساة غزةتعرف على أفضل خدمات موقع حلم العربغالانت: إسرائيل ليس أمامها خيار سوى الرد على الهجوم الإيراني غير المسبوقلماذا أخرت إسرائيل إجراءات العملية العسكرية في رفح؟شاهد: الاحتلال يمنع عودة النازحين إلى شمال غزة ويطلق النار على الآلاف بشارع الرشيدجيش الاحتلال يستدعي لواءين احتياطيين للقتال في غزةالكشف عن تفاصيل رد حماس على المقترح الأخير بشأن وقف إطلاق النار وتبادل الأسرىإيران: إذا واصلت إسرائيل عملياتها فستتلقى ردّاً أقوى بعشرات المرّاتإعلام الاحتلال: نتنياهو أرجأ موعداً كان محدداً لاجتياح رفحإصابة مطار عسكري إسرائيلي بالهجوم الصاروخي الإيراني
2024/4/18
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

بثينة 8 انانا الحكاية الجديدة بقلم:د. حسين سرمك حسن

تاريخ النشر : 2014-08-17
بثينة 8 انانا الحكاية الجديدة بقلم:د. حسين سرمك حسن
مشروع تحليل خمسين رواية عربيّة نسوية :
بثينة العيسى في رواية "عائشة تنزل إلى العالم السفلي" :
                       إنانا الحكاية العربية الجديدة  (8)
---------------------
                        د. حسين سرمك حسن
                  بغداد المحروسة - 21/4/2014
وأمام المرآة يأتي تصعيدٌ لاعترافٍ سابق يصل منتهاه ويتصاعد من استعادة العبارة التشخيصية الجارحة للطبيب النفسي :
(فاقد الشيء لا يعيطه)
لتتبناها هي الآن بلسان ضمير المتكلّم الذي يخاطب الصورة الذاتية المُسقطة على المرآة :
(أنا لا أحبّك يا عائشة)
ثم ليتحوّل الخطاب إلى الذات الأصل في كينونة الداخل :
(أنا لا أحبّني)
لتوغل في الخطوة الإعترافية قبل الأخيرة فتفصح - بلا لبس - عن كرهها للذات المرآتية المُسقطة عبر شبه جملة التسوية الإنتقالية (في الواقع ..) الممثلة للعبور الإعترافي الناجز :
(في الواقع أنا أكرهكِ يا عائشة)
لنصل الذروة الإعترافية الكبرى الصادمة حين ينقلب الوعي على الذات المبرّأة بكل قواه ليشهر في وجهها سبابة الإدانة :
(أنا أكرهني)
وليس يسيرا أن ننتقل من الإنفصال الطفلي الناكص – Regressed ، الذي يخاطب فيه الفرد  - كما في الطفولة – ذاته كـ "آخر" للتخفيف من قلقه وشعوره بالإثم ، مقتنعا باستقلالية "الموجود" ومتهرّبا من جسامة نتائج الوحدة الذاتية ، إلى الإلتحام الفعلي للموجود الذي تصبح عيناهُ مرآتَه قادراً على النظر في أعماقها والتحديق في شروخها . إنّ تحقُّق هذه القدرة – برغم ضريبتها الباهظة – هي علامة نضج انتقالية مُضافة . لقد كانت عائشة تقف أمام المرآة فتخاف أن تنظر في عينيها ؛ مرآتها الشخصية النفسية داخل المرآة المادية – لكنها الآن – ولأول مرّة – وكما تقول :
(صرتُ قادرة على أن أنظر إليّ ، في عيني ، في صحارى الخواء والعري الفاحش (كم تكرّر عائشة مفردة الفاحش ؟! - الناقد) ، وبدوتُ لي مثل شجرة عجفاء جافّة العروق ، كنتُ الشجرة في احتضارها تموت واقفة . صارت شفتاي تنفرجان تلقائيا : أنا أكرهني .. أنا أكرهني .. أنا أكرهني .. أنا) (ص 130) .
من الأنا إلى الأنت حيث الخطاب الفصامي التصدّعي ، إلى خطاب الذات الموحّدة الصلبة بالرغم من تصدّعات مرآتها : من الأنا إلى الأنا . من الأنا المُحطّم واقعيا إلى "الأنت" الميّت في نعش المرآة الصقيل .. إلى "الأنا" بلحمه الحيّ . وحالة الإنفصام بين الأنا والأنت مضنيّة وفي حضنها تنتعش أشباح الموت والمقت للذات ، في حين أن حالة الوحدة الحيّة تُنعش الأحاسيس النرجسية فتبدأ الخطوة الأولى الصحّية في هذا الإتجاه تلوب في أعماق ذات عائشة الجريحة :
(وفيما الأسئلة تتواتر في داخلي ، أحسستُ بصدري يمتليء وينتفخ ، ودفنتُ وجهي بين كفّي ، وأملتُ ساعدي على سطح الطاولة ، وسمعتُ نفسي أهمس :
-    ربّما يجب أن تحبّي نفسك يا عائشة (التسويد من الكاتبة)
كان همساً ، كان وحياً ، كان صوتاً ضئيلاً ، خافتاً مثل شمعة ، انبثق من داخلي .
       معقول ؟ ) (ص 131)
يأتي الآن استدعاء عائشة (الخامس) لإنانا ، وهو حلمي (13 أبريل 2010 – الساعة 7:00 مساءً) :
(نمتُ ..
رأيتُ إنانا واقفة في بهاء الضوء ، رأسها عارٍ ، سألتها :
-    أين تاج السهول ؟
ولكنها لم ترد ، بل صوّبت إليّ نظرة عتب وشعرتُ بقلبي ينقبض ..
-    ماذا فعلتِ يا عائشة ؟
وارتبكتُ ..
-    لم تذهبي إلى مجمع الآلهة ولم تنوحي
-    لم يمضِ على ذهابك سوى يوم .. الأسطورة تقول .. ننتظر ثلاثة أيام .
-    ولكنك لم تقرأي الكتاب جيّداً يا عائشة ، وليس لديكِ ثلاثة أيام .
-    بل أحفظ الكتاب عن ظهر قلب .
-    هذا لا يكفي .
وأفقتُ ، أتصبّبُ عرقاً وألهث ) (ص 132 و133)
هذا اللهاث والعرق المتصبّب يعكس الطبيعة "المعاقبة" للحلم . هو حلم غير مُريح حيث واجهت عائشة – ولأول حلم من أحلامها بإنانا – هذا العتاب القاسي من شقيقة روحها : إنانا ، لأنها – أي عائشة – لم تذهب إلى مجمع الآلهة ولم تنُح على هبوط "آلهتها" التي تلفت نظرها إلى أنها لم تقرأ "كتابها" – كتاب نزول إنانا – بصورة دقيقة في الوقت الذي كانت تعتقد فيه عائشة بأنها قد حفظته عن ظهر قلب غير مُدركة أن هذا الحفظ "الصمّ" لا يعني الفهم المقتدر للمعاني العميقة المستترة . وقد اندهشت عائشة لأن إنانا تعاتبها على عدم فهمها أسطورتها كما ينبغي بالرغم من أنّها تعرفها أكثر مما تعرف باطن يدها (ص 133) ..
خرجت عائشة من غرفتها / زنزانتها مرعوبة لتلقي بنفسها – وجسدها ينتفض - في أحضان أمّها – لأول مرّة – وهي تعلن خوفها . وهذا إعلان جديد يصدر عنها لأول مرّة ايضا ؛ الحاجة إلى "آخر" ، هي التي كانت ترفض حتى مواساة وتقرّب زوجها من جهة ، وتظنّ أنّها تتوفّر على الروح التعرّضي الجسور لتكرار السير بأقدام ثابتة نحو حضرة المثكل بشكل لا رجعة عنه من جهة أخرى . إنّها كائن هشّ مفزوع يبحث عن الرحم الحاني الحامي . وفوق ذلك فإن "عقلها" الذي كان غارقا في مراجعة أدقّ تفاصيل أسطورة النزول ، قد انخذل الآن حين انتقدتها إنانا على عدم استيعابها الدروس الحقيقية من أسطورة النزول . ولهذا عادت – من جديد – ولثلاث ساعات متواصلة (من يوم 14 أبريل 2010 – الساعة 1:84 صباحا) تتأمل وتبحث في الأسطورة من جديد مركّزة على بؤرة وحيدة هي في الحقيقة المفتاح لكل مغازي الأسطورة العجيبة هذه ، والمعقد الذي التفت حوله جهود الباحثين الذين أخطأ أغلبهم في فهم دلالاتها . تنطلق عائشة من سؤال ملغز يطرحه كاتب الأسطورة نفسه :
-    لماذا تنزل إنانا إلى العالم السفلي ؟
لماذا تترك عرشها العظيم
وتنزل إلى العالم السفلي ؟
لماذا تترك بهاءها في الأعلى السماوي
وتنزل إلى العالم السفلي ؟) (ص 135)
تتساءل عائشة بعد هذه لمراجعة العميقة الجديدة باحثة عن إجابة لا يرفضها عقلها :
(لماذا تنزل إنانا إلى العالم السفلي ؟ فأنا ، مهما قال الباحثون ، لا أصدّق بأنها فعلت ذلك من أجل ابتعاث تمّوز ، فإذا بها تأمر بأخذه إلى العالم السفلي بديلا عنها ! ثمة تناقض لا يُغتفر ، ومدمّر لكل عمق ممكن في الأسطورة . لعلّ السبب الوحيد القابل للتصديق هو أنها ماتت من أجل نفسها) (ص 135) .
وقد حاولتُ تقديم إجابة شافية – حسب تصوّري وقدراتي - في كتابي ( تحليل أسطورة الإله القتيل : الإسقاطات الأوديبية المحظورة في كتابة وتحليل الاسطورة) (19) ، وقد افتتحته بثلاثة مقاطع شعرية ؛ اثنان منهما من أسطورة النزول ، وواحد من أناشيد الميلاد على لسان السيّدة العذراء . المقطع الثاني وهو من الأسطورة يقول :
(ونطقت ضده بالكلمة ، نطقت بالكلمة التي تعذّب الروح
  وصرخت في وجهه بالأتهام :
  أما هذا فخذوه
  وبذلك أسلمـت إنـانـا الطـاهـرة دوموزي الى أيديهـــم)
 وانطلقتُ منه لرفض فكرة أن يكون نزول الإلهة إنانا من أجل بعث الإله تموز أوّلا ، أو – وتأسيسا على ذلك – أن يكون الإله تموز هو إله الخصب والإنبعاث ثانياً ، وأن نزول الإلهة إنانا كانت له غاية كبرى غير تلك المعلنة ثالثا .
وفي هذا الكتاب تناولتُ بالنقد والتوضيح والتفسيرات البديلة آراء غير دقيقة عن أسطورة نزول إنانا – مثل تلك التي أشارت إليها عائشة – لباحثين بارزين في مجال تحليل الأسطورة ، منهم : د. نائل حنّون ، وصموئيل نوح كريمر ، والعلّامة العراقي الراحل طه باقر ، فراس السوّاح ، د. طيّب تيزيني ، تركي علي الربيعو ، يوسف الحوراني ، ثوركلد جاكوبسون في كتابه الشهير "ما قبل الفلسفة" ، ألبير أبونا ووليد الجادر في كتابهما "المعتقدات الدينية في بلاد الرافدين" ، وفالح مهدي في كتابه "البحث عن منقذ" . وسأتناول بعض هذه الآراء والآراء المضادة لها في مسار تحليلي لتعامل بثينة العيسى – من خلال بطلتها عائشة طبعا – مع دلالات أسطورة نزول إنانا وتعاطيها مع تمظهراتها المختلفة في إنضاج موقفها الوجودي من الموت ، وتوظيف الأسطورة كوسيلة للتماهي مع فعل الإلهة للخروج من تأثيرات شدّتها الفاجعة .
ويهمني – كتمهيد لآراء مقبلة أكثر جذرية وخطورة – أن أقول أنني قدّمتُ في القسم الثاني من الكتاب "تساؤلات على طريق البحث" منها :
1- إذا كان دموزي/ تموز ليس إلهاً للخصب ، وأن (أنكي) هـو الأله الحقيقـي فـي هـــذا المجال ، فكيف نفسّر الخطأ الذي وقع فيه الباحثون لعشرات السنين من خـلال منـح                (دموزي) صفة إله الخصب؟
2- وإذا كـان الأمـر بهـذه البساطـة ، فـكيف نـفسّر نسيان دور (ننخـر ساج) ، كـإلاهـة أمّ ،  و(أنكي) ، كأله لـلخصب ، مـن قبــل الوجدان الشعـبي ، وأصـراره عـلى نـدب دموزي و(تشويه الذات - (Self-mutilation من أجله ، والإحتـفال بقيامتـه كل عــام لآلاف السنين ، وهـو الأمر الذي ينكر جدّيته بعض الباحثين؟
3- كيف وقعت شعـوب ساميّة كاملة ، بخاصتها وعامتها، في خطأ تـقدير أن دموزي ليس ألهـاً للخصب ، وأن إنانا ليست الإلهـة الأم ، وجعلوا (عشتـار) تـنزل إلى العالم الأسفل لأنـقاذ تموز؟
4- وإذا كان زواج إنانا ودموزي قد فشـل ، وأنّها كانت تحتـقره وتـقلّـل من شأنه ، وأنهـا     رمته إلى العالم الأسفـل بقـصد مسبـق ، للتخلص منه ، والتـفرغ لنزواتها ، فلماذا عادت ترثيه رثـاءاً حـاراً ومريراً؟ ولمـاذا صـارت تهـدّد بالنزول لأخـراج الموتـى الذيـن سيكون زوجها دموزي بينهم ، إلى عالم مرعب قد لا تخرج منه إلى الأبد ؟                               5- إذا كانت إنانا/ عشتار على هـذا المستـوى مـن التهتـّك والأنـفـلات الجنسـي وكثـرة الـنزوات والعشـاق ، فكـيف تُوصـف من قبل الباحثين والمؤرخين والجماهـير على حـدّ سواء ، وفي الأساطير والترانيـم والأشعار ، بأنها الإلهة (العذراء) ؟ وما هـو مفهوم العذرية الحقيقي؟
6- إذا كـانت إنانـا إلهــة الحـب والخصب والجنـس وازدهـار الحيـاة والنمـاء ، فكيـف سنـفسر كونها إلهـة الحرب والتدمير والقتـل والخـراب (أي بتعبير موجز إلهـة للموت) في نـفس الوقت ؟
7- وكيف سنفسّـر كون (إريشكيجـال) – إلهة الموت والعالم الأسفـل – شقـيقةً لإنانا حتى لو كـان ذلـك بالمعنى المجازي كما يزعم (كريمر) ؟
8- وللباحثين الذين ضخموا دور إنانا في النزول ألى العالم الأسفل وتحقيق الأنبعـاث والإنتصار على الموت نقول : هـل كان خروج عشتار من العالم الأسفل إنبعــاث     مواجهـة وفعـل أرادة ذاتيـة أم هو إنفلات وخروج تحقّق بعون خارجي من سلطـة      ذكورية مؤلّهـة حاكمة ؟ وأنها لم تضمن خروجها إلا بعد تأمين بديل (كبش فداء ــ ضحية) ؟
9- وإذا كان المجتمع قد أنتـقل مـن الحياة الرعوية (الأمومية في جوهرها) إلـى الحياةالزراعـيـة (الأبويـة في جوهـرهـا) ، فـلماذا تـزوجت إنانـا ــ أخيـراً ــ مــن الراعـي (دموزي) ؟ ولماذا هــادن الفلاح الأخيـر بأنخذال ؟ ولماذا إستمـر بكـاء إنانا – وتحت غطائه الإنفعال الشعبي – على الراعي لآلاف السنيـن ؟
10- وإذا كان دموزي إلهـاً للمراعـي والحضائـر ، فكـيف نـفسّر إلصـاق صفـة الأبن الحقيقي للمياه العذبة والتغني بنهوضه من النهر؟ وكيف سنقنع بجعـل أسطورة أسر دموزي وانبعاثـه تمثيلاً رمزيـاً لبقايـا النبـات في أواخـر الربيع وتمثّله في أجساد الغزلان؟ (20).
وكانت هذه التساؤلات ردّاً على أطروحات الباحثين السابقين وقراءاتهم الغير دقيقة ليس لعدم "علميّتها" ، ولكن لأنها أهملت التفسير النفسي تماماً فوقعت في نوع من التفسير المتحمّس لدور الإله الإبن بالتماهي معه مُسقطِين دوافعهم الأوديبية .
لكن عائشة تقرأ الأسطورة الآن من جديد بوعي شحذت أدواته مواجهة الموت . لقد عاتبتها الإلهة إنانا في حلمها بأنها لم تذهب إلى مجمع الإلهة وتنوح . في الأسطورة رسمت إنانا لرسولها "ننشابور" - كما ترد كمذكّر في بعض النسخ من الأسطورة - دوراً يقوم به بعد ثلاثة أيام من نزولها إلى العالم السفلي في حالة عدم عودتها إلى الحياة من هناك :
(أنت يا رسولي ذو الكلمات الطيبة
 إذا ما بلغتُ العالمَ الأسفل
إملأ السماءَ صراخاً من أجلي
 وفي بيت الآلهة
اركضْ هنا وهناك من أجلي)
كانت عائشة تعتقد – سيراً على تفاصيل خطى إنانا – أن نواحها على الإلهة يبدأ بعد ثلاثة أيام كما هو مرسوم لننشابور من قبل الإلهة ، لكن الإلهة أبدت امتعاضها لأن موقف عائشة هذا يعني عدم فهمها العميق لدلالات فعل إنانا في النزول والغاية من تضحياتها الجسيمة . لقد زعم الباحثون – حسبما ترى عائشة – أن أسطورة هبوط إنانا تتمحور حول الإله الفادي ، وأن إنانا تجسّد قوة الإخصاب الكونية ، وإن غيابها وموتها ، يمثلان دورة الحياة . وهنا لا بد لي من القول أن نسختي الأسطورة السومرية والبابلية لم ترد فيها كلمة واحدة تشير إلى أن هبوط إنانا تبعه جفاف عام وتوقّف لدورة الخصب الكوني في الطبيعة . ما ورد نصّاً هو انقطاع البشر والحيوان عن الإتصال الجنسي حسب . بعد نزول إنانا :
(اضطجع الرجل وحيداً في غرفته
ونامت المرأة على جنبها وحيدة)
و :
(بعد أن نزلت السيّدة "عشتار" إلى العالم الأسفل
لم ينزّ الثور على البقرة ولم يلقّح الحمار الأتان
وفي الحارة لم يضاجع الرجل العذراء
فالرجل يرقد في مخدعه والعذراء ترقد على جنبها) (21)
لكن الباحثين المتحمّسين "أوديبياً" هم الذين وسّعوا دور إنانا / عشتار كإلهة للخصب بالمعنى الكوني ، فتحدّثوا – ومن عندياتهم – عن موت القمح وجفاف الأرض والزرع في الأسطورة بعد نزول الإلهة ! تتساءل عائشة بحقّ :
(إنانا أحلامي غير راضية ، كيف تُحصر تلك الأسطورة البديعة في تأويل من هذا النحو ؟ تأويل الإله الفادي مُقحم ودخيل ، والزعم بأن الأسطورة هي مجرّد تفسيرات بدائية للظواهر الطبيعية هو حصر وتقنين لإمكانياتها . هل هذا هو ما حاولت إنانا أن تقوله لي ؟ ) (ص 136)
هذه التساؤلات عن اسطورة تضخّم البحث فيها حتى الإختناق تعكس الإنتباهة الحادة التي صارت عائشة تتمتع بها في تعاملها مع ما نراه نحن عاديّاً ومتّفقاً عليه . هذا العادي والمتفق عليه أمات حيوية هذه الأسطورة العظيمة وقتل إمكاناتها على التجدّد . لكن الإنسان حين يتعامل مع الأشياء ، وهو على حافة الحياة ، يتألّق إحساسه بها ولا يكتفي بالظاهر والمُبتذل من دلالاتها .. يغوص في أعماقها وكأنه يريد الإحتماء بها أو تفجيرها من الداخل بنفس مقدار التهديد الذي يشعر به . إنّ الجمال المذعور المهدّد لهو أعظم بما لا يُقاس من الجمال الهاديء المحصّن . وعائشة التي تعيش أيامها الثلاثة الأخيرة كما تعتقد (ذكريات 14 أبريل 2010 – الساعة 12:03 مساءً) ، وتقف على حافة بعد فوات الأوان ، تتلهوج الأشياء والأفكار بين أصابعها المحرّقة بلهيب عجينة الحقيقة :
(كيف أستطيع أن أنتزعني من وجودي هنا لأعود ، مرّة ثانية ، إلى الزمن السحيق حيث وجدتُ نفسي ، بدون أي إحساس بالندم ، أقرّر أن أفني الأيام الباقية من حياتي في الكتابة عن أسطورة ! ) (ص 138)
حتى نظرتها إلى مسؤوليتها اتسعت وتجوهرت وصارت أكثر رصانة ، فمن الموقف الأناني الثأري إلى الشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين الذين ينتظرون شكل الحقيقة الذي ستخلّقه أناملها وتقدّمه إليهم . لم تعد تقرأ وتكتب لذاتها .. صارت تكتب "لهم" .. للناس الذين ستمدّهم بمعرفة جديدة تحرّك مياه وجودهم الراكدة :
(أحسّ بأنني أطرق أبواباً جديدة ، وأجوب أزقة غير مأهولة ، بأن ما أكتبه ، ما أكتشفه ، ما أحسّه في كلّ قكرة دمٍ ودمع .. مهم جدّا ، وأنّ الناس بحاجة إلى معرفته . لقد جذبتني الحقيقة إلى النور ، وصار مستحيلا عليّ أن لا أستجيب لذلك النداء المُلتبس الذي يجيء من داخلي ، كلّ خلية من جسدي ، كلّ شيء يحثّني على الكتابة) (ص 138)
وحتى الحلم العظيم الذي ابتلعها وقد نامت لستّ ساعات متواصلة في حالة نادرة :
(أتذكّر أبواباً تُفتح ، باب يفضي إلى باب ، وبابٌ يفضي إلى آخر ، وهكذا .. طوال ستّ ساعات كنتُ أشرع الأبواب الموصدة ، الأبديّة ، التي لا تنتهي ) (ص 140)   
هذا الحلم المعبّر عن "متاهة" وجودها الداخلية ، ومحاولتها الدائبة الملتبسة في اليقظة النهارية للعثور على ذاتها الضائعة .. برّرته بإخراج عقلي ، وهو أنّ هذا العناء المضني الذي تبذله في الهرولة بين الأبواب هو (من أجل الذين سيأتون من بعدها) (ص 140).
لكنها تناقض هذه المزاعم عمليّاً حين ترفض أن تجلس مع اخيها أو أمّها الذين تفرّغا لها لمشاركتها دوّامة اضطرابها والتخفيف عنها . هذا التناقض عَرَضه معاذ أمام عينيها فأصابها بالذعر :
(إن كنتِ تعرفين بأنك ستموتين بعد أيام ، إن كنتِ متأكّدة من ذلك ، فلماذا تتصرّفين كما لوكنتِ تملكين الدهر كلّه ؟) (ص 141)
وفي ذكريات يوم 14 أبريل 2010 – الساعة 3:10 مساءً ، تأتي المراجعة السادسة لأسطورة إنانا التي تفتتحها بملاحظة منقولة عن أحد الباحثين تقول :
(... وفي معرض حديثهم عن الأسطورة ومقارنتهم لها بالأسطورة البابلية اللاحقة (هبوط عشتار إلى العالم السفلي) تحدّث معظم الكتّاب عن سبب غامض دعا الإلهة في النص السومري للهبوط ، السيّد س. ن. كريمر كان له الفضل الأكبر في جمع الأجزاء المنشورة سابقا لهذه الأسطورة واكتشف أجزاء جديدة مكمّلة ، لم يستطع أن يقدّم تفسيراً للهبوط وسبباً له ، كسبب عشتار التي هبطت فيما بعد لتحرّر حبيبها تموز ، وجرى على منواله في ذلك كثيرون ، رغم أن السبب يبدو واضحا وجليّا إن نحن وضعنا نصب أعيننا التضحية والفداء ودورهما في فكر المنطقة) (ص 143) .
والباحث هو الأستاذ "فراس السوّاح" في كتابه "مغامرة العقل الأولى" . ولكن يبدو أن عائشة لم تقرأ رأي السوّاح بصورة كاملة أو أنها – وكنتيجة لتيار حماستها الهادر حالها حال بقية الباحثين – لم تلتقط إلّا بدايات تفسير السوّاح الذي يناسب انحيازاتها ، ولم تصل معه إلى نهايته ، فالسوّاح يقول :
(إنّ السبب يبدو واضحـاً وجلّياً إن نحن وضعنـا نصـب أعيننـا فكرة التضحية والفداء ودورهـما في فكـر الـمنطقة ، فـبصعود (إنانـا) ــ والـحديث لفــراس ــ يكتمــل درام الفداء الألهـي . لقد تركـت سيدة الـسمـوات عرشهـا ، ونزلت مختـارة درجـات المـوت السـبع ، مضحيـة بكـل شيء في مـقابل نتائج غير محققـه وأمل ضعيف في العودة الى الحياة . ولكـن الحيـاة تنتصر وتقهـر إلاهـة الـحيـاة قوى الموت فتنتـفض من مرقـدها حيث عُلقت جثــّـة هامـــــدة على وتد ، وتنبعث في عودة مستحيـلــــة متجددة شــابــة كأنها الفينيـق ؛ ذلـك الطـائر العجائبي الذي يحرق نفسـه كلمـا شـاخ لينبعث من رمــاده مجدداً ؛ فينيـق آخر غـضّ وقوي وشـاب . هكذا الطبيعة المتجددة التي تمـوت وتجـف ولكنها ما تلبث أن تنبعـث بشكـل مذهـل غير مُفسّـر ولا مُبــرّر ، إلا باعتباره ظاهــراً يشـفّ عن الـقوى الإلهية الماورائـية الفاعلة والدينامية . لقد ظهرت الحياة على الأرض نتيجة لـتضحية إله ، وهي تستمر نتيجة لتضحية إله آخر وفدائه) (التسويد منّي) (22). 
ولو لاحظت العبارة المسوّدة (هكذا الطبيعة المتجددة التي تمـوت وتجـف ولكنها ما تلبث أن تنبعـث بشكـل مذهـل غير مفسـر ولا مُبــرّر) ، لوجدتَ أن السوّاح يجعل هبوط إنانا إلى العالم الأسفل في النهاية محاولة لتجسيد وتفسير ظاهرة خصب الطبيعة ، وهو الربط والتفسير الذي رفضته عائشة نفسها قبل قليل حين قالت :
(لماذا تنزل إنانا إلى العالم السفلي ؟ (...)
مزاعمنا تذهب بأن أسطورة هبوط إنانا إلى العالم السفلي تتمحور حول الإله الفادي ، وبأن إنانا تجسّد قوّة الإخصاب الكونيّة ، فإنّ غيابها وموتها ، يمثلان دورة الحياة . قيل بأنها تأويل الإنسان البدائي لظواهر الطبيعة ، منذ غياب الخصوبة وسيادة الجفاف وعري النبات ، وحتى العود الحميد للحياة الخضراء مرّة أخرى .. باحثون أكثر جرأة (ومنهم السوّاح أيضا – الناقد) وجدوا علاقة وثيقة بين الأسطورة ومراحل النمو القمري ، واكتشفوا علاقة وثيقة في وعي الإنسان القديم بين دورة الحياة / دورة القمر / الدورة الشهريّة للمرأة ، في تشابك وثيق يكاد يكون تماثلا بين الدورات الثلاث : الحياة ، القمر ، المرأة) (ص 135 و136) .
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف