الأخبار
تصاعد الاحتجاجات الطلابية في الجامعات الأميركية ضد الحرب الإسرائيلية على غزةتفاصيل المقترح المصري الجديد بشأن صفقة التبادل ووقف إطلاق النار بغزةإعلام إسرائيلي: إسرائيل تستعد لاجتياح رفح "قريباً جداً" وبتنسيق مع واشنطنأبو عبيدة: الاحتلال عالق في غزة ويحاول إيهام العالم بأنه قضى على فصائل المقاومةبعد جنازة السعدني.. نائب مصري يتقدم بتعديل تشريعي لتنظيم تصوير الجنازاتبايدن يعلن استثمار سبعة مليارات دولار في الطاقة الشمسيةوفاة العلامة اليمني الشيخ عبد المجيد الزنداني في تركيامنح الخليجيين تأشيرات شنغن لـ 5 أعوام عند التقديم للمرة الأولىتقرير: إسرائيل تفشل عسكرياً بغزة وتتجه نحو طريق مسدودالخارجية الأمريكية: لا سبيل للقيام بعملية برفح لا تضر بالمدنييننيويورك تايمز: إسرائيل أخفقت وكتائب حماس تحت الأرض وفوقهاحماس تدين تصريحات بلينكن وترفض تحميلها مسؤولية تعطيل الاتفاقمصر تطالب بتحقيق دولي بالمجازر والمقابر الجماعية في قطاع غزةالمراجعة المستقلة للأونروا تخلص إلى أن الوكالة تتبع نهجا حياديا قويامسؤول أممي يدعو للتحقيق باكتشاف مقبرة جماعية في مجمع ناصر الطبي بخانيونس
2024/4/27
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

بثينة خضر 2 البساطة المميتة

تاريخ النشر : 2014-07-21
بثينة خضر 2 البساطة المميتة
  مشروع تحليل خمسين رواية عربية نسوية :

        بثينة خضر مكي في "أغنية النار" : البساطة المميتة  (2)

--------------------

د. حسين سرمك حسن

بغداد المحروسة – 17/6/2014

لكن هذه هي الكيفية التي تتشكّل بها أفكارنا وسلوكياتنا وتتحكم باستدعاء ذكرياتنا . فالذكريات تُستل من مخزوننا العميق بالمشابهة والمقارنة أو الاقتران الزمني أو المكاني ، أو عبر الإستثارات اللغوية ، وهذه أخطرها ، أو من خلال أحكام الرغبات المكبوتة الدفينة . قد يكون الأمر عسيرا ، الآن ، لكن الجهد التطبيقي التحليلي الصبور للوقائع المقبلة قد يفلح في تأسيس قدر من القناعات المغايرة . وكخطوة أولى سريعة نقول إن من المنطقي تماما أن تتذكّر بطلتنا - وهي ترى خضرة الريف الإنكليزي الخلّابة الساحرة ، والرفاه الجمالي الذي يحاصرها من كل مكان - الرياح الترابية الساخنة وموسيقى فرق البعوض وسمفونية البؤس في بلادها (ص 32) . ولكن من غير الممكن إقرار وجود ارتباط "منطقي" ظاهر بين عرض سعاد بأن تأتي صديقتها/ بطلتنا لزيارة لندن في إجازة أو التحضير للدراسات العليا ، والمبرّر المرعب الذي طرحته الأخيرة في صورة حلم يقظة – fantasy مفزع وصفته بقولها :

(إنني أخاف الغربة ، ويثب قلبي إلى حلقي فزعا ، حين أتذكر وأنا على سفر أن الموت ربما يداهمني ، ويقشعر بدني وأنا أتخيل رجلا أشعث الشعر له عيون خضر ، قريب الشبه بقطط سواكن المشهورة يحمل شاكوشا ضخما يدق به مسماراً وراء مسمار ؛ يثبّت غطاء الصندوق الخشبي الذي أرقد أنا "مكرفسة" ميتة على قاعه الأسفل) (ص 32) .

قلق الإنفصال المروّع هذا الذي يعادل الموت هو من تمظهرات القلق الطفولي الكاسح في كون الإبتعاد عن الرحم الأمومي موازٍ للفناء الشخصي الأبدي ؛ وديمومته في الرشد لا يمكن أن تُفسّر إلّا بالتغذية التي توفّرها النباتات السامة والمنعشة للوجدان الآثم . وهذه الحالمة المرعوبة جعلت صورة الرجل الإنكليزي الدفّان ، بعيونه الخضر ، الذي يدق مسامير غطاء نعشها وهي ميّتة ، مشابهة لصورة مرجعيّة محفوظة من الطفولة هي قطط (الكدايس كما يسمونها في السودان) "سواكن" (مدينة سودانية تقع شمال شرق الخرطوم على البحر الأحمر) المشهورة التي راهنت على أنها معروفة كلّيا من أي قاري ء . هي قطط في منطقة "سواكن" السودانية نُسجت عنها الأساطير والخرافات حول كونها من الجن ، وأن منطقة سواكن هي سواجن القديمة التي حبس فيها النبي سليمان الجن . وفي العادة يكون شكل أخّاذ أرواحنا مركّبا من مصادر مخاوفنا الطفلية التي تمكّنت من نفوسنا الهشّة ، وغرزت مخالب فزعها فيها . ويأتي الجواب المتوازن والصحّي على هذا الشعور المفزوع من سعاد حين تقول لصديقتها :

(الموت حق ، ولا تدري نفس بأي أرض تموت . يا إلهي . لماذا هذا الحديث الجنائزي ؟ هل أنا ناقصة نكد ؟) (ص 32) .

وفي أحوال كثيرة تأتي تلك التصوّرات الخرافية ممن لا نتوقع أن تصدر منهم ؛ من أشخاص ظاهرو العقلانية والهدوء والتماسك . وبطلتنا من هذا النوع ، لديها كل شيء بحساب ووزن حتى مشاعرها تجاه زوجها . هؤلاء يحسبون أفعالهم تحت رقابة الضمير المتصلّب الذي تزداد صحوته الرقابية كلّما كان الفرد ملتزما بالسلوك الحسن أكثر فأكثر . ألا تقول الحكمة الشعبية الباهرة : (ضمير الحقير ميّت ، وضمير المؤمن صاحي ) ؟! . وها هي صاحبتنا تدخل على زوجها بعد النزهة الممتعى فتقبّل جبينه فرحة مبتهجة ، فيستغرب ويتساءل بينه وبين نفسه عمّا اصابها :

(كانت دائما متزنة وعاقلة أكثر مما يجب كما يقول . كانت تستطيع أن تُحاصر عواطفها في صرامة وتبقيها تستعر داخل قلبها دون أن تشي بها جوانحها) (ص 33)

ولنضع في أذهاننا ، الآن ، أن بطلتنا تقوم الآن – وهي تتناول الغداء مع زوجها – بالكذب عليه لتمويه شخصية الدكتور محمود الذي اتصل بهاتفهم وقت غيابها في النزهة (ص 34) .

وها هو الدكتور محمود يتصل بها من جديد فتطمئنه إلى أن زوجها قد خرج . تفاجؤها جرأته وهو يقول إنه ينتظرها في غرفة استقبال الفندق . ثم يصعقها بجرأة كاسحة حين يقبلها على خدّها .. فتدفعه (ص 37) . لكنها في أعماقها تستحسن في الواقع جرأته . وسوف تتصاعد وتائر رفضها كلما تصاعدت وتائر استحسان رغباتها اللاشعورية . فهذا التكوين الضدّي -  reaction formation هو انفعال معاكس يتشكل سلوكيا لقمع الرغبة المحمومة في الواقع .. يظهر خلافها بحماسة تشتعل بطاقة نيران الحفزات الحبّية المقموعة . هذا التكوين يمكن أن يقدّم أخلاطا من السلوك ومزيجا من ردود الأفعال تثير الحيرة . فصاحبتنا ترفض الآن دعوة الدكتور محمود لتناول فنجان شاي في مكان عام لأنه شخصية قومية لها وزنها في المجتمع الثقافي والسياسي ، وهي فخورة بعواطفه نحوها ، لكنها تخاف من جرأة اندفاعه نحوها (ص 38) .. جرأة مخيفة من عاشق موله سابق تجاه امرأة متزوّجة الآن من ضابط في الحكومة التي يسعى العاشق لإسقاطها . إنّها خلطة غريبة هذه التي نلاحظها من الطرفين في هذه الوقفة . فالدكتور محمود يتصرّف في الواقع بصبيانية عاشق مراهق وبجسارته . لم يضع أي اعتبار لهذه المرأة التي أحبّها سابقا ، ولكنها متزوّجة الآن وزوجها قريب منها ، وهو ضابط معروف في الحكومة . لم يضع في حسابه أن من الممكن أن يراها أحد معه - وهو المعارض - فتكون فضيحة سياسية على الزوج وإهارة كبيرة لسمعة الزوجة . لاشعور السياسي لا يختلف أبدا عن لاشعور أي صبي مراهق إلّأ في القدرة على التعطيل . ومحمود المعارض السياسي المبرز تسوقه عواطفه الآن فيطفو على سطح العلاقة بينه وبين بطلتنا الأنموذج الأصل لأي علاقة حبّ نحياها في حياتنا : وهي علاقة الطفل بأمّه . لا تخدعّنكم الألقاب والأوصاف والشهادات والهتافات . الطفل النزوي الذي نكونه في طفولتنا يبقى رابضا متخفّيا في أعماقنا حتى الموت ، ما يحصل من تغيير هو أن "الأنا" المتنفّج العقلاني المتفلسف المتذاكي يتثخّن كطبقات غلاف الشجرة حول لحائها "الغريزي" الطفلي ؛ طبقات من الثقافة والأفكار والأديان والأيديولوجيات والقراءات .. وغيرها من البراقع . كلّها نشأت للسيطرة على جسارات هذا الطفل النزق اللعين لكي لا يحرج كرامتنا الراشدة والرشيدة . إنّ مناضلا قوميا يقف الآن - لاهثا متيّما وهو المتزوّج - يدافع عن سلوكه العاطفي تجاه حبيبة الأمس التي كانت تصدّه وتمعن في إبعاده عنها :

(أريد أن أقول لك شيئا : إنني.. أحببتكِ .. أكثر من محبتي لكل النساء اللواتي خبرتهن في حياتي .. إنني أفهم الملابسات والظروف الشائكة التي تحيط بنا .. ولكنك تعلمين أنني أحبك منذ زمان بعيد .. لا المعتقل ولا الأخريات بأشكالهن وألوانهن المختلفة استطعن تغيير هذه الحقيقة الأزلية في حياتي .. أنا لا أطالبك بالكثير .. إعتبريها حسنة لله !!) (ص 38) .

هو يعلم مقدار الضريبة الفادحة التي سوف تدفعها هذه الإنسانة المسكينة ، ومقدار الخراب الفظيع الذي سوف يصيب حياتها لو شوهدت معه . سوف تُحمل رأسا من المطار إلى المعتقل كما قالت له (ص 39) . ولكنّه يصّر على أن يختلي بها .. ويبوح لها بحبّه . إنّ مناضلا من هذا النوع هو عاشق كبير .. وصحيح أن الكليشيه الجاهزة سوف تمثل أمام أعيننا مرفوعة من المؤلفة والكثير من القرّاء ، وهي أن المناضلين الكبار هم دائما عاشقون كبار ، وأنّ من لا يعشق المرأة لن يعشق الوطن ، ولكن هذا السلوك – وفي هذه الحالة المحدّدة بين محمود وبطلتنا – يحمل في طيّاته اندفاعة انتحاريّة وسلوكا تدميريا . هل كان الظفر بالسلطة – كنموذج رمزي للأمومة والإحساس بالكفاية الذكورية – حافزا متخفّيا وراء سلوك محمود السياسي واندفاعته النضالية ؟!

حتى النكات السريعة الملطّفة لجو التوتر بين الطرفين كانت تشي بالخفّة الإشباعية الغريزية . لقد عرض عليها أن تأكل بعض الفطائر الحلوة :

( - هل تريدني أن اسمن ويطلقني زوجي ؟

قال ضاحكاً :

-         أتمنى من كل قلبي أن يفعل ذلك ..

-         أيها المجنون .. إنني أتعجب منك كيف تتعامل مع السياسة بكل هذه الجدّية والغلظة وأنت تحمل هذا الكم الهائل من الجنون الساخر ؟ ) (ص 39)

ولعل محمود - الذي صار "شاعرا" الآن - يحاول تفسير المسحة الجنونية في سلوكه التي تحدّثت امرأته عنها ، هو الذي سيوفر علينا الربط الصعب بين الإندفاعات الطفلية ، وهي "شعرية" بطبيعتها ، والحماسة الراشدة تجاه المعتقدات والمعضلات السياسية والوطنية . وها هو يستعير قول "شيلي" ليفسّر لحبيبته معنى أن الجنون فنون متخذا "تراسلات" الطبيعة وحواسنا مدخلا "فلسفيا" لهذا التمرير الماهر:

(لقد قال شيلي إنه ليست هناك راحة للقلب الذي يعمره الحب ، ففي حالة الوحدة التي نجد أنفسنا فيها رغم كثرة الناس من حولنا فإننا نتجه إلى الأزهار والعشب والمياه والسماء . ففي كل حركةٍ من حركات أوراق الربيع وفي كل نسمة هواء يوجد اتصال خفي ورسالة ، وهناك طلاقة في لسان الريح ولحن في خرير الجدول والأعشاب البرية على حافتيه تبعث لحنا يتمشّى في الروح رغبة في الرقص ويستدرّ الدموع من العيون كما الحماس لإنجاز وطني أو كما صوت الحبيب يغني .. أليس هذا جنونا جميلا ؟ ) (ص 40) .

هذا الموقف الرومانسي هو الذي يحصل في اللحظات الصوفية الفائقة من ذروة الإلتحام بين الشعور واللاشعور حين تتمّ تسوية الصراع المستديم بينهما ، ويتطوّع الشعور لخدمة أهداف اللاشعور ؛ لا حساسيات ولا شكوك ، فقد أصبحت إشباعات اللاشعور الماكرة تدغدغ نرجسية الشعور وتطمئنها . هذه الحالة توصل – ويا للغرابة – للشهادة العظمى الآسرة في سبيل الافكار العظيمة والأوطان المُستلبة . وهي نفسها – حالة التحالف بين الشعور واللاشعور التي تمثّل حافزا للإبداع الباهر في معالجة موضوعة الموت / المُثكل كما يصفه جدّنا جلجامش حين تجسّد مخاوف الفرد وقلقه التي لو كانت مجرّدة وأخذت مساربها الطبيعية لصارت سببا لانهيارات سلوكية مُشينة . وهذا هو حال بطلتنا في نتاجها الروائي . فالوجدان الآثم المُثقل الذي يتمظهر في الحالة العادية بصورة حاجة لإيقاع القصاص بالذات وصولا إلى تدميرها ، يتلاعب بهذه الرغبة المازوخية لتتمظهر في صورة نماذج إبداعية تتلاعب بمصائرها أنامل المبدع المرتعشة المرهفة والقلقة من مصيرها هي نفسها . تسأل بطلتنا الدكتور محمود هل قرأ رواياتها الأخيرة التي نشرتها بعد هجرته فيقول :

(نعم . قرأت روايتين "عندما يختلس الزمان أحلامنا" والأخرى لا أذكر اسمها تتحدّث عن الموت المفاجيء الذي يترصد البطل ويكون موته مباغتا وفاجعا رغم أنّه كان يتوقعه ويتنبأ به ) (ص 40) – وهذا هو الموت اتلمفاجيء بالنوبة القلبية الذي محق وجود الدكتور محمود نفسه كما أخبرتنا الراوية في البداية - .

إنّ الإنشغالات الإبداعية الكبرى لكل كاتب لا تنزل عليه من السماء عبر جنّيات الإلهام كما كان إفلاطون يمزح أو من جنّ عبقر كما كان الشعراء الجاهليون يتقلبون ويستنجدون . جنّيات الإلهام وجنّ الإبداع كامنة في لاشعور الكاتب ومكبوتاته ومخاوفه .. ومن هناك يلتقط المبدع شخوصه وأفكاره وموضوعاته . فالإشباع الذي يوفّره المنجز الإبداعي لا يتجه من داخل المبدع ليشبع نفسا خارجه أبدا . في البداية يُشبع داخله ويُطفيء قلقه ، وعبر هذا الممر يسري ليشبع القرّاء الذين يتشاركون معه في نفس المخاوف والإحباطات والحاجات المعطّلة . وليس أعظم من الموت مصدرا للقلق في وجودنا كلّنا . وهذا الإستنتاج إذا انطبق على ثيمة رواية بطلتنا "عندما يختلس الزمان أحلامنا" التي ذكرها الدكتور محمود ، فإنه ينطبق على رواية بثينة خضر مكي "أغنية النار" هذه التي بين أيدينا بأكملها .

                              
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف