إهداء إلى زوجي يعقوب وحيد النتشة
الفراشة
حذّرتك يا قلبي من كلّ ما كان، حذّرتك أن تقترب من ذلك البستان، قلت لك: سيتزعزع لديك الإيمان، بقيت مصرّاً على ملاحقة تلك الفراشة، بحنان كنت تتابع تحرّكاتها، وكلّما هدأت كنت تداعبها، فتعود تُحَلّق زاهية الألوان، حذّرتك من ألوانها، من شكلها الهندسيّ، من مثلّثات في جناحيها الفاتنين، قلت لك: إنّ جناحيها يشكّلان مثلث رعب كمثلث برمودا، يختفي خلفه كلّ من يدخل المكان، بقيت تتبعها، وكلّما حطّت على زهرة كنت تلاحقها، كنت تمدّ يديك لها، فتصعد نحو الضّوء تاركة إيّاك، حذّرتك أن تقترب من منطقة الخطر، قلت لك: حاول أن تجدّد الإيمان، كنت تصرّ وتقول: من خلق الذّنب خلق الغفران، وكلّما فتح الشّيطان لك نافذة كنت تتحدّث عن نوافذ الرّحمن، ها هي حطّت على يدك، فما سرّ الخفقان؟
ماذا قالت لك؟
قالت: الحبّ حجر الأساس لوجودي، ما رأيك في تدشين وجودي على طريقتك؟ عندما تحبّني تصبح الأرض أكثر اتّساعاً وامتداداً، وأتوقّف عن قولي صارت أضيق من ثقب الإبرة، وتصبح السّهول أكثر خضرة، وينبت فيها المزيد من شقائق النّعمان، ويفرّخ المزيد من الطّيور فوق الأشجار، وتزداد السّماء صفاء، وتزداد نجومها نجمة، ويزداد ضَوؤها وضوحاً، ويزداد عمري مدّة لا أعرفها، وأنت مثلي لا تعرفها .
ما رأيك في أن تصحبني إلى مكان نحتسي فيه القهوة بعيداً عن مدن الأشباح؟ بعيداً عن زمهرير الرّياح، صرير الرّياح يقتلني، فاختر لي مقعداً مريحاً، لا يريحني إلّا أن أقابلك، لديّ رغبة في الحديث فهل تسمعني؟
كان صوت وردة الجزائريّة يأتي من بعيد "اسمعوني" أكسبني هذا الصّوت مزيداً من الرّغبة في أن أحدّق بمدن عينيها الواسعتين، كانت أوّل مرّة في حياتي أسمع فيها امرأة تتحدّث معي وحدي، امرأة شطبت من أذني كلّ ما قالته النّساء قبلها، وشطبت كثيراً من الأسماء، وأماتت وأحيت كثيراً من الأشياء.
اشتريت لها أقلاماً وأوراقاً من كلّ الألوان، وبدأت تدوّنني في أوراقها، ولأوّل مرّة أشعر أنّني أسير في حقول الألغام، لكنّ بعض الموت يمنحك حياة أبديّة، وبعض الموت أرقى من الحياة، وبعض الدّقائق تساوي دهراً، وبعض السّنين لا تساوي إلّا صفراً، شعرت أنّني الآن ولدت من جديد، وأنّ المسافة بيني وبين الحياة صارت كالمسافة بين السّبابة والوسطى.
تجوّلت معها في السّوق اشتريت لها لعبة أعجبتها، واشتريت لها عقداً، واستحلفتها ألّا يفارق جيدها ما حييت، وعدتني بذلك، نظرت في عينيها فشاهدت كلّ العواصم، شاهدت سوق الخليل القديم، وسوق باب العامود، ودكاكين خان الخليليّ، وكلّ الأسواق القديمة، وكلّ أطياف النّساء، ومع ذلك شعرت بأنّها لا تشبه أيّ امرأة، نعم إنّها لا تشبه إلّا نفسها، ودّعتها وبقيت أرقب خطواتها حتّى اختفت عن عيني، وعندها بدأت أراها بقلبي، وأدركت أنّ للقلب عيوناً كثيرة، وألسنة كثيرة، وأحاديث طويلة.
عزيزة محمود خلايلة
مشرفة اللغة العربية
مكتب التربية والتعليم
Email : [email protected]
الفراشة
حذّرتك يا قلبي من كلّ ما كان، حذّرتك أن تقترب من ذلك البستان، قلت لك: سيتزعزع لديك الإيمان، بقيت مصرّاً على ملاحقة تلك الفراشة، بحنان كنت تتابع تحرّكاتها، وكلّما هدأت كنت تداعبها، فتعود تُحَلّق زاهية الألوان، حذّرتك من ألوانها، من شكلها الهندسيّ، من مثلّثات في جناحيها الفاتنين، قلت لك: إنّ جناحيها يشكّلان مثلث رعب كمثلث برمودا، يختفي خلفه كلّ من يدخل المكان، بقيت تتبعها، وكلّما حطّت على زهرة كنت تلاحقها، كنت تمدّ يديك لها، فتصعد نحو الضّوء تاركة إيّاك، حذّرتك أن تقترب من منطقة الخطر، قلت لك: حاول أن تجدّد الإيمان، كنت تصرّ وتقول: من خلق الذّنب خلق الغفران، وكلّما فتح الشّيطان لك نافذة كنت تتحدّث عن نوافذ الرّحمن، ها هي حطّت على يدك، فما سرّ الخفقان؟
ماذا قالت لك؟
قالت: الحبّ حجر الأساس لوجودي، ما رأيك في تدشين وجودي على طريقتك؟ عندما تحبّني تصبح الأرض أكثر اتّساعاً وامتداداً، وأتوقّف عن قولي صارت أضيق من ثقب الإبرة، وتصبح السّهول أكثر خضرة، وينبت فيها المزيد من شقائق النّعمان، ويفرّخ المزيد من الطّيور فوق الأشجار، وتزداد السّماء صفاء، وتزداد نجومها نجمة، ويزداد ضَوؤها وضوحاً، ويزداد عمري مدّة لا أعرفها، وأنت مثلي لا تعرفها .
ما رأيك في أن تصحبني إلى مكان نحتسي فيه القهوة بعيداً عن مدن الأشباح؟ بعيداً عن زمهرير الرّياح، صرير الرّياح يقتلني، فاختر لي مقعداً مريحاً، لا يريحني إلّا أن أقابلك، لديّ رغبة في الحديث فهل تسمعني؟
كان صوت وردة الجزائريّة يأتي من بعيد "اسمعوني" أكسبني هذا الصّوت مزيداً من الرّغبة في أن أحدّق بمدن عينيها الواسعتين، كانت أوّل مرّة في حياتي أسمع فيها امرأة تتحدّث معي وحدي، امرأة شطبت من أذني كلّ ما قالته النّساء قبلها، وشطبت كثيراً من الأسماء، وأماتت وأحيت كثيراً من الأشياء.
اشتريت لها أقلاماً وأوراقاً من كلّ الألوان، وبدأت تدوّنني في أوراقها، ولأوّل مرّة أشعر أنّني أسير في حقول الألغام، لكنّ بعض الموت يمنحك حياة أبديّة، وبعض الموت أرقى من الحياة، وبعض الدّقائق تساوي دهراً، وبعض السّنين لا تساوي إلّا صفراً، شعرت أنّني الآن ولدت من جديد، وأنّ المسافة بيني وبين الحياة صارت كالمسافة بين السّبابة والوسطى.
تجوّلت معها في السّوق اشتريت لها لعبة أعجبتها، واشتريت لها عقداً، واستحلفتها ألّا يفارق جيدها ما حييت، وعدتني بذلك، نظرت في عينيها فشاهدت كلّ العواصم، شاهدت سوق الخليل القديم، وسوق باب العامود، ودكاكين خان الخليليّ، وكلّ الأسواق القديمة، وكلّ أطياف النّساء، ومع ذلك شعرت بأنّها لا تشبه أيّ امرأة، نعم إنّها لا تشبه إلّا نفسها، ودّعتها وبقيت أرقب خطواتها حتّى اختفت عن عيني، وعندها بدأت أراها بقلبي، وأدركت أنّ للقلب عيوناً كثيرة، وألسنة كثيرة، وأحاديث طويلة.
عزيزة محمود خلايلة
مشرفة اللغة العربية
مكتب التربية والتعليم
Email : [email protected]