الانتظار الأخير
رحل إلى حيث لا يمكنهما اللقاء ، تبرأ من الماضي الذي جمعه بها دون أن يشرح دواعيه وأسبابه ، لم يأبه بمشاعرها وبما يمكن أن يحدث لها بعده ، ظن أنها مثله ستسعى وراء أحضان رجل آخر بمجرد أن ينزاح من طريقها .
تركها تتخبط بين الوهم والحقيقة، بين الماضي والحاضر ، ترفض أن تصدق حقيقة أنها لن تراه مجددا، فهو الذي أحبته من كل أعماق قلبها ،أحبته حب التقي لدينه، وأخلصت له إخلاص الجندي لوطنه، ووثقت به وثوق الطفل الصغير بوعود والده، كيف ستتمكن من العيش دونه ؟؟.
كانت أيامها تمر كأنها سنة أو أكثر، لا تأنس فيها إلا بذكريات الماضي الجميلة ، باتت كالذي جسده حاضر ولكن عقله وروحه يسرحان في عالم آخر غير الذي هو فيه ، تغيرت سحنتها حتى أصبح الذي يراها من بعيد يعتقد أنها عجوز في السبعينات من عمرها وهي لم تتجاوز عقدها الثاني بعد ، تقوس ظهرها من شدة النحافة ،وارتسمت على محياها خيوط عبراتها فبدت كأنها تجاعيد الشيخوخة.
لم تتفوه بكلمة مذ رحل عنها، ولم تشك لأحد همها وما يعتلج صدرها من غصص خشية أن تسلب منها تلك الثمالة الباقية التي هي ملاك عيشها وقوام حياتها، تخشى أن تسمع كلاما يسلوها حلاوة الانتظار التي تتجلد بها في مصابها، والتي لولاها لكانت في عداد الموتى منذ زمن، فالمحب الصادق إذا فقد حبيبه تحت أي ظرف لا يعيش إلا على أمل الانتظار.
كانت في كل صباح تغادر غرفتها وتتجه نحو مقبرة المدينة لتفتش بين قاطنيها عمن يحمل اسمه ، ولا تتنفس الصعداء إلا عندما لا تجد ضالتها هناك، آنذاك فقط تحيط هالة من الفرح والسرور بوجهها، وتسرع إلى المكان الذي كانا يلتقيان فيه لتجلس تحت ظلال أشجاره الوارفة جلوس القرفصاء تترقب مجيء حبيبها، حتى إذا مشت جذوة النهار في فحمة الليل غادرت ذلك المكان وفي نفسها من الكمد والألم ما لا يعلمه غير الله.
تفتح باب غرفتها وتدخل إليها ووجهها غارق في دموعها ، لا تفهم من الدنيا غير الحكمة الربانية التي أوجدتها في هذه الحياة وحيدة من دون أم ترتمي بين أحضانها ولا أب يكون فخرا لها، ففتاة شقية مثلها ما كانت لتجلب لهما غير الشقاء والمعاناة فرحمهما الله منها.
ولما جاء فصل الشتاء الذي يخلص الشوارع من المارين إذ يهرب الكل إلى أوكارهم ، خرجت هي كعادتها لا ترتدي إلا أسمالا خفيفة، اتجهت أولا نحو المقبرة وبعدما لم تجد من تبحث عنه هناك ، حولت وجهتها والفرحة تغمرها إلى المكان الذي تنتظر فيه من تأمل عودته دائما، لم تأبه بالأمطار الغزيرة التي تهطل عليها، جلست تحت شجرة تتساقط قطرات المطر من أوراقها كأنها تبكي من شدة حزنها على هذه المسكينة التي لم تشفق على حالها، ظلت في مكانها حانية رأسها لا ترفعه إلا إذا سمعت صوتا آتيا من بعيد أو قريب تظن أنه هو قد عاد حاملا معه مظلة ومعطفا لكن سرعان ما يخيب ظنها .
عندما حل الظلام وحان وقت العودة إلى الغرفة حاولت النهوض من مكانها وقد التصقت ملابسها بجلدها وبرزت أعضاؤها كأنها عارية، لكنها لم تستطع لأن جسدها تجمد ولم يعد قادرا على الحراك، إنه الموت يدنو منها شيئا فشيئا، لذلك رفعت رأسها إلى السماء لتجلو الأمطار عن وجهها التعاسة التي قدر لها أن تعيش فيها ، بعدها نظرت إلى كل ما يحيط بها نظرة وداع شاكرة عدل الأيام التي قضت أن تخرج من هذه الدنيا مثلما دخلتها وحيدة لا حول لها ولا قوة.
رحل إلى حيث لا يمكنهما اللقاء ، تبرأ من الماضي الذي جمعه بها دون أن يشرح دواعيه وأسبابه ، لم يأبه بمشاعرها وبما يمكن أن يحدث لها بعده ، ظن أنها مثله ستسعى وراء أحضان رجل آخر بمجرد أن ينزاح من طريقها .
تركها تتخبط بين الوهم والحقيقة، بين الماضي والحاضر ، ترفض أن تصدق حقيقة أنها لن تراه مجددا، فهو الذي أحبته من كل أعماق قلبها ،أحبته حب التقي لدينه، وأخلصت له إخلاص الجندي لوطنه، ووثقت به وثوق الطفل الصغير بوعود والده، كيف ستتمكن من العيش دونه ؟؟.
كانت أيامها تمر كأنها سنة أو أكثر، لا تأنس فيها إلا بذكريات الماضي الجميلة ، باتت كالذي جسده حاضر ولكن عقله وروحه يسرحان في عالم آخر غير الذي هو فيه ، تغيرت سحنتها حتى أصبح الذي يراها من بعيد يعتقد أنها عجوز في السبعينات من عمرها وهي لم تتجاوز عقدها الثاني بعد ، تقوس ظهرها من شدة النحافة ،وارتسمت على محياها خيوط عبراتها فبدت كأنها تجاعيد الشيخوخة.
لم تتفوه بكلمة مذ رحل عنها، ولم تشك لأحد همها وما يعتلج صدرها من غصص خشية أن تسلب منها تلك الثمالة الباقية التي هي ملاك عيشها وقوام حياتها، تخشى أن تسمع كلاما يسلوها حلاوة الانتظار التي تتجلد بها في مصابها، والتي لولاها لكانت في عداد الموتى منذ زمن، فالمحب الصادق إذا فقد حبيبه تحت أي ظرف لا يعيش إلا على أمل الانتظار.
كانت في كل صباح تغادر غرفتها وتتجه نحو مقبرة المدينة لتفتش بين قاطنيها عمن يحمل اسمه ، ولا تتنفس الصعداء إلا عندما لا تجد ضالتها هناك، آنذاك فقط تحيط هالة من الفرح والسرور بوجهها، وتسرع إلى المكان الذي كانا يلتقيان فيه لتجلس تحت ظلال أشجاره الوارفة جلوس القرفصاء تترقب مجيء حبيبها، حتى إذا مشت جذوة النهار في فحمة الليل غادرت ذلك المكان وفي نفسها من الكمد والألم ما لا يعلمه غير الله.
تفتح باب غرفتها وتدخل إليها ووجهها غارق في دموعها ، لا تفهم من الدنيا غير الحكمة الربانية التي أوجدتها في هذه الحياة وحيدة من دون أم ترتمي بين أحضانها ولا أب يكون فخرا لها، ففتاة شقية مثلها ما كانت لتجلب لهما غير الشقاء والمعاناة فرحمهما الله منها.
ولما جاء فصل الشتاء الذي يخلص الشوارع من المارين إذ يهرب الكل إلى أوكارهم ، خرجت هي كعادتها لا ترتدي إلا أسمالا خفيفة، اتجهت أولا نحو المقبرة وبعدما لم تجد من تبحث عنه هناك ، حولت وجهتها والفرحة تغمرها إلى المكان الذي تنتظر فيه من تأمل عودته دائما، لم تأبه بالأمطار الغزيرة التي تهطل عليها، جلست تحت شجرة تتساقط قطرات المطر من أوراقها كأنها تبكي من شدة حزنها على هذه المسكينة التي لم تشفق على حالها، ظلت في مكانها حانية رأسها لا ترفعه إلا إذا سمعت صوتا آتيا من بعيد أو قريب تظن أنه هو قد عاد حاملا معه مظلة ومعطفا لكن سرعان ما يخيب ظنها .
عندما حل الظلام وحان وقت العودة إلى الغرفة حاولت النهوض من مكانها وقد التصقت ملابسها بجلدها وبرزت أعضاؤها كأنها عارية، لكنها لم تستطع لأن جسدها تجمد ولم يعد قادرا على الحراك، إنه الموت يدنو منها شيئا فشيئا، لذلك رفعت رأسها إلى السماء لتجلو الأمطار عن وجهها التعاسة التي قدر لها أن تعيش فيها ، بعدها نظرت إلى كل ما يحيط بها نظرة وداع شاكرة عدل الأيام التي قضت أن تخرج من هذه الدنيا مثلما دخلتها وحيدة لا حول لها ولا قوة.