الأخبار
ارتفاع درجات الحرارة يفاقم معاناة النازحين في غزة ويزيد من البؤس اليوميالأمم المتحدة: إزالة الركام من قطاع غزة قد تستغرق 14 عاماًتصاعد الاحتجاجات الطلابية في الجامعات الأميركية ضد الحرب الإسرائيلية على غزةتفاصيل المقترح المصري الجديد بشأن صفقة التبادل ووقف إطلاق النار بغزةإعلام إسرائيلي: إسرائيل تستعد لاجتياح رفح "قريباً جداً" وبتنسيق مع واشنطنأبو عبيدة: الاحتلال عالق في غزة ويحاول إيهام العالم بأنه قضى على فصائل المقاومةبعد جنازة السعدني.. نائب مصري يتقدم بتعديل تشريعي لتنظيم تصوير الجنازاتبايدن يعلن استثمار سبعة مليارات دولار في الطاقة الشمسيةوفاة العلامة اليمني الشيخ عبد المجيد الزنداني في تركيامنح الخليجيين تأشيرات شنغن لـ 5 أعوام عند التقديم للمرة الأولىتقرير: إسرائيل تفشل عسكرياً بغزة وتتجه نحو طريق مسدودالخارجية الأمريكية: لا سبيل للقيام بعملية برفح لا تضر بالمدنييننيويورك تايمز: إسرائيل أخفقت وكتائب حماس تحت الأرض وفوقهاحماس تدين تصريحات بلينكن وترفض تحميلها مسؤولية تعطيل الاتفاقمصر تطالب بتحقيق دولي بالمجازر والمقابر الجماعية في قطاع غزة
2024/4/27
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

الدولة العبيدية بقلم:محمد فاروق الإمام

تاريخ النشر : 2013-11-17
الدولة العبيدية بقلم:محمد فاروق الإمام
الدولة العبيدية (الحلقة الأولى)
نشأة وسلوك
محمد فاروق الإمام
لابد بداية عن الحديث عن بذور هذه الدعوة وأصل دعاتها، والأرض التي نمت فيها، وعوامل هذا النماء الذي روى شجرتها حتى اشتد جذعها ونمت أغصانها، لتصبح دولة قوية بسطت نفوذها - فيما بعد - على بلاد واسعة من بلاد المسلمين، لتغير اسمها من (الدولة العبيدية) في المغرب إلى (الدولة الفاطمية) بعد تمكنّها من دخول مصر.
لقد لاقى فقهاء المغرب وإفريقية أيام نشوء الدولة العبيدية وبسط نفوذها على المغرب العربي على يد ملوكها وحكامها وقضاتها من المظالم الشيء الكثير، وتعرضوا إلى محن تقشعر لها الأبدان، وصلت في بعضها حد القتل والصلب وتقطيع الأوصال والتشهير، ولكن هؤلاء الفقهاء رغم كل هذه الإحن لم تلن لهم قناة في مجابهة هذه الدولة الغاشمة التي شقت عصا المسلمين، والتصدي لدعوتها الباطلة التي استطالت على القرآن والسنة، وحرَّفت تعاليم الإسلام وأبطلت أركانها، وطعنت بالصحابة الكرام، وفي مقدمتهم الشيخين أبي بكر الصديق والفاروق عمر بن الخطاب وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنهم.
عوامل نماء هذه الدعوة
لقد كانت أرض العراق وفارس أرضاً خصبة لقيام الدعوات الباطلة المنحرفة، ذلك لأن هذه البلاد كانت مرتع الديانات المجوسية قبل الإسلام، وكان كثير ممن دخل الإسلام من المجوس دخلوه تقية، إما خوفاً أو إحجاماً عن دفع الجزية. وتوالد هؤلاء مع السنين وعاشوا بين أظهر المسلمين والعرب، يتكلمون لغتهم ويدينون بدينهم، ويخططون بالخفاء لتدمير هذا الدين الذي سلب - باعتقاد هؤلاء - العز والجاه والأرض والمال والملك، واستغل هؤلاء ما تعرض له آل بيت رسول الله صلى الله عيه سلم من ذرية علي بن أبي طالب رضي الله عنهم من ضيم على يد الأمويين، ومن ثم على يد العباسيين أبناء عمومتهم. ومن هنا بدأت تنشط الدعوات لآل البيت على أنهم الأحق بالخلافة وإمامة المسلمين. ومن جملة هذه الدعوات (الدعوة العبيدية).
لقد لجأ العبيديون إلى نشر دعوتهم في الخفاء، وفي بلاد بعيدة عن مركز الدولة العباسية في بغداد، ليدرؤوا عن أنفسهم الفضيحة والانكشاف الذي سيؤدي بهم إلى حتفهم كما حصل لغيرهم من الدعاة، وخاصة وأن العباسيين قد قامت دولتهم على دعوة سرية ولهم تجربة غنية في هذا المضمار، فاتخذ العبيديون مدينة "سلمية" من أعمال مدينة "حماة" ببلاد الشام "سورية حالياً" مكاناً لتجمع أتباعهم وشيعتهم لنشر هذه الدعوة بعيداً عن عيون العباسيين.
رأي المؤرخين في الدولة العبيدية
ومن المفيد أن نتتبع ما قاله المؤرخون في هذه الدعوة ودعاتها. حيث يقول الأمير عز الدين أبو محمد عبد العزيز بن شداد بن تميم الصنهاجي في كتابه "الجمع والبيان في أخبار القيروان ومن كان فيها من سائر المغرب من الملوك والأعيان":
يقول ابن شداد:
أول من أظهر "الزندقة" في الإسلام أبو الخطاب محمد بن أبي زينب مولى بني أسد، وأبو شاكر ميمون بن ديصان بن سعيد الغضبان، صاحب كتاب "الميدان" في نصرة الزندقة، وأبو سعيد من أهل "رامهرمز" من كورة "الأهواز". وكان من "خرمية المجوس" فألقى هؤلاء إلى من اختصوا به أن لكل شيء من العبادات باطناً، وأن الله ما أوجب على أوليائه ومن عرف من الأئمة والأبواب صلاة ولا زكاة ولا صوماً ولا حجاً، ولا حرَّم عليهم شيئاً من المحرمات، وأباح لهم نكاح الأمهات والأخوات.
وقال: إنما هذه العبادات عذاب على الأمة وأهل الظاهر، وهي ساقطة عن الخاصة، وإن آدم وجميع الأنبياء كذّابون محتالون طلاب رئاسة. ولما كان في أيام بني العباس اشتدت شوكتهم مع أبي الخطاب وأصحابه لانتحالهم التشيع لبني هاشم، وحماهم بنو العباس. فلما قامت البيّنة عليهم في الكوفة، وأن أبا الخطاب أسقط العبادات وحلل المحرمات، أخذه عيسى بن موسى الهاشمي مع سبعين من أصحابه فضرب أعناقهم.
وتفرق باقيهم في البلاد فصار منهم جماعة في نواحي خراسان والهند، وصار أبو شاكر ميمون بن ديصان بن سعيد الغضبان إلى بيت المقدس مع جماعة من أصحابه وأخذوا في تعليم الشعوذة والنارنجات ومعرفة الزرق "أعمال السحر والطلاسم" وصفة النجوم والكيمياء، وإظهار الزهد والورع. ونشأ لأبي شاكر ميمون ابن يقال له عبد الله القداح.
وقد وصف المؤرخ المقريزي في خططه "عبد الله القداح" فقال: إنه كان عالماً بجميع الشرائع والسنن والمذاهب، وأنه اعتنق مذهب الشيعة، لا للدعوة إلى إمامة إسماعيل بن جعفر الصادق أو ابنه "محمد"، بل كان ذلك لحيلة اتخذها ليجمع حوله أنصاراً، بمعنى أنه اتخذ هذه الدعوة وسيلة لتنفيذ أغراضه، وهي تكوين دولة فارسية.
ويعتبر عبد الله المؤسس الحقيقي لذلك "المذهب الإسماعيلي" الذي انتشر بين "القرامطة" وغيرهم فيما بعد.
أما النويري في كتابه "نهاية الأرب في فنون الأدب" فيقول عن عبد الله القداح: أنه كان من كبار الشعوبية، رجل يسمى محمد بن الحسن بن جهار نجار، الملقب دندان، وهو بنواحي الكرج وأصبهان، له حال واسعة وضياع عظيمة، وهو المتولي على تلك المواضع.
وكان يبغض العرب ويذمهم، ويجمع معايبهم. وكان كل من طمع في نواله تقرب إليه بذم العرب، فسمع به عبد الله بن ميمون القداح، وما ينتحله من بغض العرب وصنعة النجوم، فسار إليه. وكان عبد الله يتعاطى الطب وعلاج العين، ويقدح الماء النازل فيها، ويظهر أنه إنما يفعل ذلك حسبة "زلفى إلى الله" وتقرباً إلى الله عز وجل بنواحي أصفهان الجبل. فأحضره دندان، وفاتحه الحديث فوجده كما يحب ويهوى، وأظهر له عبد الله من مساوئ العرب والطعن عليهم أكثر مما عنده، فاشتد إعجابه به وقال له: مثلك لا ينبغي أن يطبب، وإن قدرك يرتفع ويجل عن ذلك، فقال: إنما جعلت ذلك ذريعة لما وراءه، ألقيه إلى الناس وإلى من أسكن إليه على مهل ورفق من الطعن على الإسلام. وأنا أشير عليك ألا تظهر ما في نفسك إلى العرب ومن يتعصب لهذا الدين، فإن هذا الدين قد غلب على الأديان كلها، فما يطيقه الروم ولا الترك ولا الفرس والهند مع بأسهم ونجدتهم. وقد علمت شدة "بابك" صاحب الخرمية وكثرة عساكره وأنه نفسك، والزم التشيع والبكاء لآل البيت، فإنك تجد من يساعدك من المسلمين، ويقول هذا هو الإسلام. وسب أبي بكر وعمر، وأقع عليهما عداوة الرسول وتغيير القرآن وتبديل الأحكام، فإنك إذا سببتهما سببت صاحبهما، فإذا استوى لك الطعن عليهما، فقد اشتفيت من محمد، ثم تعمل بعد ذلك في استئصال دينه. ومن خرج على ذلك فقد خرج من الإسلام من حيث لا يشعر، ويتم لك الأمر كما تريد. فقال دندان: هذا هو الرأي، ثم قال له عبد الله: إن لي أصحاباً وأتباعاً أبثهم في البلاد، فيظهرون التقشف والتصوف والتشيع. ويدعون إلى ما نريده من إحكام الأمر. فاستصوب دندان ذلك وسر به، وبعث لعبد الله القداح ألفي ألف دينار "مليوني دينار"، فقبل المال وفرقه في كور الأهواز وسواد الكوفة، و"بطالقان" خراسان، وسلمية من أرض حماة ثم مات دندان، فخرج عبد الله إلى البصرة وسواد العراق، وبث الدعاة، وتقوّى بالمال، وتدبر الحال.
يتبع
======
الدولة العبيدية (الحلقة الثانية)
الأهواز المركز الأول لنشر دعوة العبيديين
محمد فاروق الإمام
اتخذ عبد الله الأهواز مركزاً لنشر دعوته. ولما اتصل خبره بواليها أضمر له الشر، ففر إلى البصرة. وقد عزا المقريزي في كتابه "اتعاظ الحنفا" هرب عبد الله إلى ما ظهر منه "من التعطيل والإباحة والمكر والخديعة"، فثارت به الشيعة والمعتزلة، فكبسوا داره، ففر إلى البصرة، وأقام في أسرة "عقيل بن أبي طالب" مدّعياً انتماءه إليهم، فحامت حوله الشبهات، فرحل إلى الشام، وأقام في سلمية إلى أن مات.
وقام ابنه أحمد مقامه في حمل الدعوة التي وضع أسسها أبوه عبد الله والتي تتلخص في الدعوة إلى إمامة إسماعيل بن جعفر الصادق، وقد ابتدع لذلك دعوة منظمة قسمها سبع درجات أو مراتب، زيدت بعده حتى أصبحت تسعاً في أيام العبيديين. وبثَّ أحمد الدعاة، واستدعى رجلاً من أهل الكوفة يقال له رستم أبو الحسين بن الكرخين بن حوشب ابن زادان النجار، وكان هذا الرجل من الإمامية يقول بإمامة موسى الكاظم بن جعفر الصادق، فنقله إلى القول بإمامة إسماعيل بن جعفر الصادق. وكانوا يرصدون من يرد المشاهد بالعراق و"كربلاء" فمن كان لهم فيه طمع استدعوه. وورد عليهم أبو الحسن محمد بن الفضل الجيشاني من أهل (جيشان)، من أرض اليمن فدخل، وهو يبكي، على الحسين بن علي رضي الله عنه، فصبروا عليه حتى خرج من زيارته، وأخذ الداعي بيده فقال له: قد رأيت ما كان منك من البكاء والقلق على صاحب هذا القبر. فلو أدركته ما كنت تصنع؟
قال كنت أجاهد بين يديه وأبذل مالي ودمي دونه.
فقال: أتظن أنه ما بقي لله حجة "أي خليفة أو نائباً أو وصياً" بعد صاحب هذا القبر؟
قال: بلى، ولكن لا أعرفه بعينه.
قال: فتريده؟
قال: أي والله.
فسكت الداعي. فقال له: ما قلت لي هذا القول إلا أنت عارف به.
فقوي ظن ابن الفضل بأن الرجل يعرف الإمام والحجة، فألح عليه، فقال له: دعني أفكر، واطلب واصبر ولا تعجل، وأقم، فإن هذا الأمر لا يتم بالعجلة، ولا بد له من صبر.
فمضى الداعي إلى ابن القداح وعرّفه حال ابن الفضل فأخذه وجمع بينه وبين أحمد ابن القداح. وكان أحمد أبداً يقول للحسن بن حوشب: هل لك في غربة في الله؟ فيقول: الأمر إليك يا سيدي. فلما اجتمع بابن الفضل، قال له: قد جاء ما كنت تريد يا أبا القاسم: هذا رجل من أهل اليمن، وهو عظيم الشأن كثير المال ومن الشيعة، وقد أمكنك ما تريد، وثمة خلق من الشيعة فاخرج وعرفهم أنك رسول المهدي، وأنه في هذا الزمان يخرج من اليمن، واجمع المال والرجال، والزم الصوم والصلاة والتقشف. وجمع بينه وبين ابن الفضل وأخرجه معه وقال: يا أبا القاسم، الزم الباطن وقل: لكل شيء باطن. وإن ورد عليك شيء لا تعلمه فقل: لهذا من يعلمه وليس هذا وقت ذكره.
وخرجا إلى أرض اليمن، ونزل ابن حوشب "بعدن" وفيها قوم يعرفون ببني موسى، وخبرهم عند ابن القداح. فلما قدم ابن حوشب اجتمعوا به وقالوا له: أنت رسول المهدي ونحن إخوانك.
ولم يزل ابن حوشب يقوى وأخباره ترد على من بالكوفة من الإمامية فيبادرون إليه ويقول بعضهم لبعض: دار الهجرة. فكثر عددهم واشتد بأسهم. وكانوا قد نفذوا إلى المغرب رجلين أحدهما يعرف "بالحلواني" والآخر "بأبي سفيان". وتقدموا إليهما بالوصول إلى أقاصي المغرب والبعد عن المدن والمنابر، وقالوا لهما: ينزل كل واحد منكما بعيداً عن صاحبه وقولا: قد قيل لنا: اذهبا فالمغرب أرض بور فاحرثاها واكرباها حتى يجيء صاحب البذر. فنزل أحدهما بأرض كتامة بمدينة تسمى "مرمجنة" والآخر بمدينة "سوجمار" فمالت قلوب أهل تلك النواحي إليهما. وماتا على قرب بينهما.
يتبع
======
الدولة العبيدية (الحلقة الثالثة)
الداعية أبو عبد الله الشيعي يتوجه إلى المغرب
محمد فاروق الإمام
قال ابن حوشب لأبي عبد الله الحسين بن أحمد بن زكريا الشيعي - وقد كان هاجر إلى ابن حوشب -: يا أبا عبد الله، أرض كتامة من المغرب قد حرثها الحلواني وأبو سفيان، وقد ماتا، وليس لها غيرك. فبادر فإنها موطأة ممهدة لك! فخرج أبو عبد الله.
وكان أبناء عبد الله بن ميمون القداح لما قوي أمره وكثرت أمواله ومات ادعوا أنهم من ولد عقيل بن أبي طالب.. وهم مع هذا يستترون ويخفون أشخاصهم ويغيرون أماكنهم وأسماء دعاتهم. وكان لعبد الله بن ميمون القداح عدد من الأولاد فخلفه منهم أحمد. ومات أحمد فخلفه "محمد"، وكان لمحمد ولدان: أحمد والحسين. فمات أحمد، وهو الذي نفذ ابن حوشب وابن فضل إلى اليمن. وصار الحسين إلى سلمية من أرض حمص وله بها أموال من ودائع جده عبد الله القداح ووكلاء وغلمان وأتباع. وبقي ببغداد من أولاد القداح "أبو الشلعلع" وكان مؤدبا بآداب الملوك. وكان الذي بسلمية يدعي أنه الوصي وصاحب الأمر دون بني القداح ويكاتب الدعاة.
واتفق أنه جرى بحضرته حديث النساء بسلمية. فوضعوا امرأة رجل يهودي حداد، مات عنها زوجها، وهي في غاية الجمال. فقال لبعض وكلائه: زوجني بها.
فقال: يا سيدي، هذه فقيرة ولها ولد.
فقال: ما علينا من الفقر! زوجني بها وأرغبها وأبذل لها ما شاءت.
فتزوجها الحسين وأحبها وحسن موقعها منه. وكان ابنها يماثلها في الجمال فأحبه وأدبه وعلمه وأقام له الخدم والأصحاب. فمن العلماء من أهل هذه الدعوة من يقول إن الإمام الذي كان بسلمية من ولد القداح مات ولم يكن له ولد، فعهد إلى ابن اليهودي الحداد وهو "عبيد الله" وعرفه أسرار الدعوة وأين الدعاة وأعطاه الأموال والعلامات، وتولى على الأعمال وتقدم إلى وكلائه بطاعته وأنه الإمام وزوجه ابنة عمه أبي الشلعلع محمد بن أحمد.
وهذا قول أبي القاسم الأبيض العلوي "ذكره ابن تغري بردي في كتابه النجوم الزاهرة وقال إنه من أهل الدعوة" وغيره من العلماء بهذه الدعوة ورواة أهلها. ويتابع ابن شداد المؤرخ فيقول: فلما وصل المهدي إلى مصر في زي التجار كان عامل مصر "عيسى النوشري". فأتت الكتب إلى عيسى بأن يقبض عليه - وفيها حليته - من جهة الخليفة، وأنه ممن يطلب الأمر لنفسه. وكان المهدي قد خرج من مصر. فلما وصل الكتاب إلى النوشري فرق الرسل في طلبه وخرج بنفسه فلحقه، فلما رآه لم يشك فيه فقبض عليه وأنزله في بستان وأحضر طعاماً وسأله أن يأكل معه. فاعتذر بأنه صائم. فرق له ودعاه في خلوة وقال له: أصدقني على أمرك، فإني أتلطّف في خلاصك. فخوّفه المهدي من الله وقال له: اتق الله، فإنما أنا رجل تاجر ولست أعرف شيئاً مما تقولونه.
فخلى سبيله. ويقال إنه أعطاه مالاً أقر عينه. وأراد أن يرسل مع المهدي من يوصله إلى رفقته، فقال: لا حاجة لي إلى ذلك، ودعا له. فرجع بعض أصحاب النوشري عليه باللوم، فندم على إطلاقه وأراد إرسال الجيش ليردوه.
وكان المهدي لما لحق أصحابه رأى ابنه أبا القاسم قد ضيًع كلباً كان يصيد به، وهو يبكي عليه. فعرفه عبيده أنهم تركوه في البستان الذي كانوا فيه، فرجع المهدي بسبب الكلب حتى وصل البستان ومعه عبيده. فرآهم النوشري فقال: ما هؤلاء ؟
فقيل له: التاجر رجع.
فبعث فسألهم ما الذي ردهم، فقالوا: فقد ولد سيدنا كلبه، وهو عزيز على أبيه فرجع في طلبه. فقال النوشري لأصحابه: قبحكم الله! أردتم أن تحملوني على مثل هذا الرجل حتى آخذه. فلو كان يطلب ما يقال، أو كان مريباً لكان يطوي المراحل ويخفي نفسه، ولا كان رجع في طلب كلبه!!
المهدي في بلاد المغرب
انتهى المهدي وولده إلى مدينة طرابلس، وتفرق من كان صحبته من التجار. وكان في صحبته أبو العباس محمد أخو أبي عبد الله الشيعي، فقدمه المهدي أمامه إلى القيروان وأمره أن يلحق بكتامة. فلما وصل أبو العباس إلى القيروان، وجد الخبر قد سبقه، ووصلت الكتب من الخليفة إلى زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب في أمر المهدي، فسأل عنه رفقته فأخبر أنه تخلف بطرابلس وأن صاحبه أبا العباس بالقيروان. فأخذ أبو العباس وقرر، فأنكر وقال: أنا رجل تاجر صحبت رجلاً في القفل، فحبسه.
وسمع المهدي فسار إلى قسطيلة. ووصل كتاب زيادة الله إلى عامل طرابلس بصفته وطلبه، فسار المهدي إلى (سجلماسة) بعدما اجتمع بعامل طرابلس وأهدي إليه. فكتب العامل إلى زيادة الله بأنه قد سار ولم يدركه.
فأقام المهدي بسجلماسة، وقد أقيمت عليه الأرصاد وفي الطريق حتى عرفوا دخوله إلى سجلماسة فأهدى إلى صاحبها اليسع بن مدرار هدايا وواصله. فقرّبه اليسع وأحبه إلى أن ورد عليه كتاب زيادة الله يقول: هذا الرجل هو الذي يدعو إلى طاعته أبو عبد الله الشيعي. فقبض عليه حينئذ وحبسه.
وبعد أن تمكن أبو عبد الله من رقادة توجه إلى سجلماسة لينقذ المهدي من سجن اليسع. حتى قرب منها. فأرسل اليسع إلى المهدي فسأله عن نسبه وحاله، وهل إليه قصد أبي عبد الله؟ فحلف له المهدي أنه ما رأى أبا عبد الله ولا عرفه، وإنما أنا رجل تاجر.
فأغلظ له في القول فلم يحل عن كلامه فأمر به أن يعاد إلى الاعتقال وأفرد في دار وحده، وكذلك فعل بابنه أبي القاسم، وجعل عليهما حرس. وقرر أبا القاسم أيضاً فما حال عن كلام أبيه. وقرر رجالاً كانوا معه وضربهم فلم يقروا بشيء.
وسمع أبو عبد الله ذلك فشقَّ عليه وأرسل إلى اليسع كتاباً يتلطف به ويؤمنه. ووعده من نفسه بالجميل. فرمى الكتاب وقتل الرسول. فعاوده في الملاطفة خوفاً على المهدي وأعرض عن ذكره له أولاً وآخراً، فقتل الرسول ثانياً وتمادى على حاله، فأسرع أبو عبد الله في السير ونزل عليه وقاتله حتى الليل، فهرب اليسع ومن معه، وبات أبو عبد الله ومن معه في غم عظيم لا يدرون ما صنع بالمهدي وولده. فلما أصبح خرج إليهم أهل البلد وأعلموهم بهرب اليسع، فدخل بأصحابه البلد وأتوا المكان الذي فيه المهدي فاستخرجه منه وأخرج ولده. فقرّب عبد الله إلى المهدي وولده حصانين فركبا، وحفت العساكر بهما، ومشى أبو عبد الله ووجوه القبائل بين يدي المهدي، وأبو عبد الله يقول للناس: هذا مولاكم ومولاي ! وهو يبكي من شدة الفرح.
المهدي يقيم دولته ويقضى على الدول التي كانت تحكم أفريقيا
لما قرر المهدي دخول أفريقيا أمر بإحضار الأموال التي على أيدي الدعاة، فلما حضرت قبضها. وسار إلى "رقادة" فوصل يوم الخميس لعشر بقين من شهر ربيع الآخر سنة (297هـ/909م). وحضرت إليه الأموال من "إيكجان" فدخل بها معه إلى رقادة.
وزالت بدخول المهدي رقادة دولة بني الأغلب التي حكمت ما يقرب من "112" سنة، وكذلك ملك "بني مدرار" الذين كان آخرهم اليسع وكان لهم في الملك "130" سنة، وزال أيضاً ملك "بني رستم" الذي دام "160" سنة، وملك المهدي العبيدي كل ذلك في هذه السنة.
ونزل المهدي بقصر رقادة بعدما خرج إليه أهلها وأهل القيروان.. والداعية أبو عبد الله ورؤساء القبائل مشاة بين يديه وولده خلفه فسلموا عليه فرد عليهم رداً جميلاً وأمرهم بالانصراف.
فلما أصبح يوم الجمعة أمر الخطيب أن يذكره في الخطبة فيقول: أبو محمد عبد الله الإمام المهدي بالله أمير المؤمنين. فلما صعد الخطيب المنبر وانتهى إلى ذكر المهدي قام (جبلة بن حمود الصدفي) قائماً وكشف رأسه حتى رآه الناس ومشى من المنبر إلى آخر الجامع وهو يقول: قطعوها قطعهم الله! - يعني الخطبة لبني العباس - ويكررها. وقام الفقهاء ووجوه البلد معه فما حضر أحد من الأمثال.
وجلس رجل بعد الجمعة يعرّف بالشريف ومعه الدعاة وأحضروا الناس بالعنف والشدة ودعوهم إلى مذهبهم، فأجابوا إلى ذلك إلا القليل. فأمر بهم فضربوا وحبسوا.
ونابذ طائفة من الفقهاء المهدي حتى إنه أدخل برجل على الوالي، فقال له الوالي: قل: لا إله إلا الله!
فقال له: أما من قولك، فلا. إني لا أدري ما تقول لي بعدها.
ودخل بآخر وبين يديه مصحف فقال له: أليس هو القرآن؟
فقال له: ما أعرف ما هو.
ووجد رجل من أصحاب المهدي المشارقة مقتولاً فأتوا إليه وقالوا: قتل رجل من الأولياء.
قال: واين هو؟
قالوا له: أكلوه ولم يبق إلا عظام ساقيه.
فقال المهدي: هذا بلد لا يحل أن يقام به.
وأمر بقتل المحبوسين إن لم يرجعوا عما هم عليه، فقتل منهم على ما قيل أربعة آلاف رجل في العذاب ما بين عابد وفقيه وصالح وزاهد. ولذلك قال "سهل" في قصيدته:
    وأحل دار البحر في أغلاله … من كان ذا تقوى وذا صلوات
يتبع
======
الدولة العبيدية (الحلقة الرابعة)
أسباب نجاح الدعوة العبيدية في المغرب
محمد فاروق الإمام
بعد الضعف والوهن الذي أصاب الدولة العباسية في بغداد وتناهُشْ الموالي من الأتراك السلطة واستئثارهم بها دون الخليفة، حتى غدوا هم الذين يعزلون وينصبون ويقتلون، وبالتالي سرى المرض إلى باقي أجزاء هذه الخلافة المترامية الأطراف الممتدة من أسوار الصين شرقاً وحتى المحيط الأطلسي غرباً، مما جعل هذه الدولة العظيمة مرتعاً للمتنافسين على مراكز القرار فيها، بحيث لم يعد الخليفة بمقدوره الدفاع عن حاضرة دولته بغداد، وقد هددها "الزنج" وأضرموا نار الثورة التي دامت أربع عشرة سنة (255-270هـ/868-883م) عرّضوا فيها كيان الدولة للخطر، كما أصبحت دلتا الفرات تحت رحمة العصابات من قطاع الطرق الذين أدخلوا الفزع والهلع في قلوب الأهلين، وتعدى بلاؤهم إلى محاصرة أمهات المدن كالبصرة، والأهواز وواسط.
هذه الحالة التي آلت إليها الدولة العباسية تكشف لنا مبلغ الضعف الذي وصلت إليه السلطة المركزية في بغداد، هذه السلطة التي عجزت حتى عن الدفاع عن الولايات المتاخمة لحاضرة الدولة. ومن هنا يتبين لنا مبلغ سهولة نجاح الدعوة العبيدية وإقامة دولة لها في شمال إفريقية البعيدة عن مركز الخلافة، لما أصابها من وهن وضعف وتصارع الأمراء الولاة عليها من قبل بغداد.
وإضافة إلى ما تقدم فإن البربر، على ما هو مشهور عنهم من حب القتال، وما تعودوه من شظف العيش، وما فطروا عليه من عدم حب للانضباط أو خلود للنظام، كانوا دائماً متأهبين للمخاطرة إذا ما عرض لهم باعث يحرك في نفوسهم ما جبلوا عليه من إقدام على المخاطر وركوب متن الأهوال. كل هذه الأحوال وهذه التداعيات جعلت أبا عبد الله الشيعي يجد الأرض الخصبة لنمو دعوته وانتشارها بيسر وسهولة، وخاصة وهو يستثير البربر على الذين اغتصبوا الأمر من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.. على حدِّ زعمه.
وعرفنا من خلال ما نقلته لنا كتب التاريخ أن السلام لم تتوطد أركانه بين البربر والعرب النازلين في بلادهم منذ ظهور الإسلام وامتداد فتوحه إلى هذه البلاد.. وقد كان البربر - بلا شك - دون العرب حضارة وثقافة، وقد نظروا إلى العرب نظرهم إلى الغاصب والمستعمر من الرومان والبيزنطيين. فكم من ثورات قادها البربر على العرب أججتها نار العصبية.
ولم تكن الضرائب التي فرضها الأمراء والولاة والتي أثقلت كاهل الأهلين بأقل أهمية مما تقدم، فلم يكن تمرّد الخوارج على السلطة الحاكمة.. إلا لظلمهم وضرائبهم الفادحة وليس مرده خروجا على الدين.
أضف أن العرب عندما دخلوا المغرب فاتحين كان كثير منهم يعاملون البربر على أنهم دونهم في الاحترام والمعاملة وليست معاملة الند للند كما أمر الإسلام.
ولما أرادوا الانتصاف من أمرائهم بثوا شكواهم إلى الخليفة العباسي في بغداد دون أن يروا آذانا صاغية تستمع إلى مظالمهم. فكان كل ذلك مما دفعهم لقبول الدعوة العبيدية، وخاصة أن دعاتها كانوا يتظاهرون بالصلاح والتقشف والتقوى.
وسهلت كل هذه الأمور مجتمعة الطريق للانضمام لأبي عبيد الله الشيعي، الأمر الذي ساعد بالتالي على تأسيس الدولة العبيدية في القيروان.
مما تقدم نستطيع أن ندرك كيف مهدت الأحوال في إفريقية دخول كثير من البربر في حظيرة الدعوة العبيدية، فلا غرو في ذلك فقد وجهت الدعوة عنايتها الكبيرة في تحقيق غايتها وهدفها على يد أبي عبد الله الشيعي، حتى إذا ما وصل إلى بلاد كتامة سنة (288هـ/900م) التي حرثها الحلواني وأبو سفيان من قبله، وجد هذه البلاد ممهدة له. وبالتالي مهد السبيل لعبيد الله المهدي ليظهر في عيون العامة وكأنه المهدي المنتظر حقيقة.
ولا يفوتنا أن نذكر بالإعجاب صبر وجلد وذكاء وفطنة دعاة العبيدية وهمتهم العالية.. التي كان لها الأثر البعيد في اكتساب ولاء القبائل في المغرب على اختلافها.. ومعونة رجالها الذين عُرفوا بغيرتهم وتعصبهم، فكان اجتماع كل هذه الأسباب فرصة ذهبية انتهزها العبيديون لتأسيس دولتهم في شمال إفريقية.

أحوال الدولة العبيدية
بعد أن استتب الأمر لعبيد الله المهدي في القيروان سنة (297هـ/909م) قسَّم أعمال دولته على رؤساء قبيلة كتامة البربرية، الذين ساعدوه في إقامة دولته ثم دوَّن الدواوين، وجبى الأموال، واستقرت قدمه في هذه البلاد. وراح عبيد الله في رسم خططه لمدِّ سلطانه إلى مصر، كما بدأ على الفور بمد نفوذه في جميع بلاد المغرب، فعزل الولاة ونصَّب ولاة من أتباع مذهبه.. بما في ذلك ولاية صقلية وجنوب إيطاليا.
وبعد أن أقدم عبيد الله على قتل داعيته الكبير أبو عبد الله الشيعي سنة (298هـ/910م).. قام باستبدال العديد من ولاته، ثم ما لبثت العديد من القبائل البربرية أن أعلنت الثورة انتقاماً لأبي عبد الله سنة (299هـ/911م) وكان في مقدمتهم أهل زناتة وتاهرت وكتامة، كما ثار أهل طرابلس في سنة (300هـ/912م)، وثار أهل صقلية، وكاتبوا الخليفة العباسي "المقتدر" ودانوا له بالطاعة. إلا أن عبيد الله ظفر أخيراً على كل المعارضين والثائرين.
ومات عبيد الله المهدي والبلاد في حروب وثورات سنة (322هـ/933م)، وبويع ولده أبو القاسم محمد بن عبيد الله، وتلقب بالقائم بأمر الله، وكان في الثالثة والأربعين من عمره، فأخفى وفاة أبيه خوفاً من انتقاض البلاد عليه. فلما تمكن وفرغ من جميع ما يريد أظهر موت أبيه.
وفي سنة "333هـ/944م" اشتدت شوكة أبي يزيد مخلد بن كيداد الخارجي بإفريقية وكثر أتباعه وهزم الجيوش التي التقى بها، ونزل على "رقادة" في مئة ألف مقاتل، وملك القيروان وهزم العساكر العبيدية، فلجأ القائم بأمر الله وأتباعه إلى "المهدية" وتحصنوا بها.
وحاصر أبو يزيد المهدية عدة شهور "جمادي الثانية 333-صفر 334هـ/شباط 945-أيلول 945م" حتى كثر الجوع والغلاء بها. ودخلت سنة "334هـ/945م"، والقتال مستمر بين القائم وبين أبي يزيد، فكانت بينهما حروب آلت إلى رحيله عن المهدية في "سادس صفر منه سنة 334هـ/17 أيلول 945م". ونزل على القيروان، وقوي القائم، وبعث إلى البلاد العمال وطردوا أصحاب أبي يزيد وأخذوهم، فتفرق الناس عن أبي يزيد.
وتوفي القائم بأمر الله في "الثالث عشر من شوال سنة 334هـ/18 أيار 946م"، فكتم خليفته المنصور بالله موته ولم يظهر عليه حزناً، خوفاً من أن يتصل ذلك بأبي يزيد، وهو بالقرب منه، فأبقى الأمور على حالها وأكثر العطايا والصلات. واستفتح أمره بإطلاق المحبوسين الذين حبسهم أبوه بسبب القدح في الدولة. فلما كانت سنة "336هـ/937م" أظهر المنصور موت أبيه بعد أن تمكن من القضاء على أبي يزيد الخارجي. حيث بنى في موضع الوقعة التي انتصر فيها على أبي يزيد مدينة سماها "المنصورية"، فاستوطنها وبنى بها قصراً، ثم خرج في "شهر رمضان سنة 341هـ/كانون الثاني 953م" من المنصورية إلى "جلولا" يتنزه بها ومعه حظية كان مغرما بها، فأمطر الله عليهم برداً كثيراً وسلَّط عليهم ريحاً عظيماً فأوهى جسمه ومات أكثر من كان معه، فعاد إلى المنصورية فاعتل من تلك الريح ومات "يوم الجمعة آخر شوال سنة 341هـ/19آذار 953م"، ودفن بالمهدية.
وقام بعده ولده أبو تميم معد.. الملقب بالمعز لدين الله.. بتسلم مقاليد الأمور، وتمكن من المغرب قاطبة حيث دخلت سائر البلاد في طاعته، ثم جهز غلامه "جوهر" ومعه جيش كبير لفتح مصر في "الرابع عشر من ربيع الأول سنة 358هـ/27 شباط 969م". وكان بمصر في تلك السنة غلاء عظيم ووباء، حتى قيل إنه مات من المصريين في تلك السنة نحو "600,000" إنسان. فتسلم جوهر مصر في "الثاني عشر من شعبان 358هـ/1تموز 969م"، ثم بنى القاهرة وقام باستدعاء المعز إلى مصر بعد أن استقام الأمر له في مصر والحجاز والشام، وإقامة الدعوة له بتلك الديار. فخلَّف المعز على إفريقية "بلكين بن زيري بن مناد الصنهاجي"، وخرج متوجهاً إلى مصر في "شهر شوال سنة 361هـ/تموز 972م" وقد حمل معه الأموال الهائلة.
يتبع
======
الدولة العبيدية (الحلقة الخامسة)
أقوال بعض الفقهاء والشعراء في العبيديين
محمد فاروق الإمام
قال "السيوطي" في كتابه "تاريخ الخلفاء": إن أكثر الخلفاء العبيديين زنادقة خارجون عن الإسلام منهم من أظهر سب الصحابة والأنبياء، ومنهم من أباح الخمر، ومنهم من أمر بالسجود له، والخيّر منهم خبيث لئيم يسب الصحابة، ومثل هؤلاء لا تنعقد لهم بيعة، ولا تصح لهم إمامة.
ويقول القاضي أبو بكر الباقلاني "نقلا عن كتاب الخلفاء": كان المهدي عبيد الله باطنياً خبيثاً حريصاً على إزالة ملة الإسلام، أعدم العلماء والفقهاء ليتمكن من إغواء الخلق، وجاء أولاده على أسلوبه أباحوا الخمر والفروج وأشاعوا الرفض.
وقال "الذهبي" "النقل عن كتاب الخلفاء": كان القائم بن المهدي أشرُّ من أبيه زنديقاً ملعوناً، أظهر سب الأنبياء، وقال: وكان العبيديون على ملة الإسلام أشر من التتر.
وقال "أبو الحسن القابسي" : إن الذين قتلهم عبيد الله وبنوه من العلماء والعباد أربعة آلاف رجل ليردوهم عن الترضي عن الصحابة، فاختاروا الموت، فيا حبذا لو كان رافضياً فقط، ولكنه زنديق.
وقال القاضي "عياض": سُئل "أبو محمد القيرواني" والكثير من علماء المالكية ممن أكرهه ابن عبيد على الدخول في دعوتهم أو يقتل؟ قال يختار القتل، ولا يعذر أحد في هذا الأمر.
وقال "يوسف الرعيني": أجمع علماء القيروان على أن حال بني عبيد حال المرتدين والزنادقة، لما أظهروا من خلاف الشريعة.
وقال "ابن خلكان": قد كانوا يدعون علم المغيبات وأخبارهم في ذلك مشهورة، حتى أن العزيز صعد يوماً على المنبر فرأى ورقة مكتوب فيها:
    بالظلم والجور قد رضينــا … وليس بالكفر  والحماقة
    إن كنت أُعطيت علم الغيب … بين لنا كاتب البطاقـة
وكتبت إليه امرأة رقعة مكتوب فيها: بالذي أعز اليهود "بمنشأ" والنصارى "بابن نسطور" وأذل المسلمين بك، إلا نظرت في أمري، وكان قد ولى منشأ اليهودي عاملاً على الشام وابن نسطور النصراني على مصر. وكان هو وأسلافه بمصر يدّعون الشرف ويقولون: نحن أولاد فاطمة وأبونا علي بن أبي طالب.
وكان الحاكم بأمر الله" في كل سبعة أيام يقول ذلك على المنبر فرفعت إليه رقعة مكتوب فيها:
    إنا سمعنا نسباً منكـــرا … يتلى على المنبر في الجــامع
    إن كنت فيما قلته صادقـاً … فانسب لنا نفسك كالطـائع
    أو كان حقاً كما تـدعي … فاذكر أباً بعد الأب السـابع
    أو لا فدع الأنساب مستورة… وادخل بنا في النسب الواسع
    فإن أنساب بني هاشــم  … يقصر عنها طمع الطــامع
    قول الشعراء في آل عبيد:
    هجا الشاعر "أبو القاسم الفزاري" العبيديين بقصائد كثيرة منها قوله:
    عبدوا ملوكهم وظنوا أنـهم … نالوا بهم سبب النجاة عموما
    وتمكن الشيطان من خطواتهم … فأراهم عوج الضلال قـويما
    رغبوا عن الصديق والفاروق في … أحكامهم لا سلّموا تسليما
    واستبدلوا بهما ابن أسود نابحـا … وأبا قدارة واللعين تميمـا
    تبعوا كلاب جهنم وتأخـروا   … عمن أصارهم الإله نجوما
    يا ليت شعري من هم إن جهَّلوا … دنيا، ومن لهم إن عددت صميما!
    من اليهود ؟ أم النصارى ؟ أم هم… دهرية جعلوا الحديث قديمــا
    أم هم من الصّابين أم من عصبة  … عبدوا النجوم وأكثروا التنجيما؟
    أم هم زنادقة معطلـــة رأوا … أن لا عذاب غدا ولا تنعيمـا؟
    أم عصبة ثنيوية قد عظّمــوا  … النورين عن ظلماتهم تعظيمـا؟
    من كل مذهب فرقة معلومـة … أخذوا بفرع وادعوه أرومــا
    سبحان من أبلى العباد بكفرهم … وبشركهم حقباً وكان رحيما
    يارب فالعنهم ولقذِ لعينهــم … بأبي يزيد من العذاب أليمــا
    وقال فيهم الشاعر سهل الوراق:
    الطاعنين على النبي محمـــد … والقائلين بأسخف القـالات
    إن الإمام هو النبي وإنــــه … رب تعالى الله ذو العظمـات
    فُتنوا بأحمق من عليها، كيف لو  … عَلِقُوا بذي لبٍّ وذي إخبات؟
    هدم المساجد وابتناها منزهــا … لمضارب العيدان والنايـات
    وأحل دار البحر في أغلالــه  … من كان ذا تقوى وذا صلوات
    مستحمق بادي العوار مهوس   … نكد قليل الخير والبركــات
    فعليه ما لبيَّ الحجيج وطوّفوا    … وعلى ذويه، خوالد اللعنـات
يتبع
======
الدولة العبيدية (الحلقة السادسة)
قتل وامتحان فقهاء المسلمين
الشهيد الفقيه إبراهيم بن محمد الضبي الصديني ابن البرذون
محمد فاروق الإمام
العالم بالذبِّ عن مذهب مالك، الفقيه البارع في العلم، صاحب الحجة والمناظرة. لم يكن في شباب عصره أقوى على الجدل والمناظرة وإقامة الحجة على المخالفين منه.
سمع من جماعة من رجال سحنون منهم: عيسى بن مسكين ويحيى بن عمر وجبلة وسعيد بن إسحاق. وكان يقول عن نفسه: إنني أتكلم في تسعة عشر فناً من العلم.
مواقف أبي إسحاق البطولية
عندما ولي القضاء محمد بن أسود الصديني استدعاه وضربه بالسياط لذبّه عن السنة، وكان الصديني يصرح (بخلق القرآن،).وبعد أن ولي القضاء (المروذي) في أيام عبد الله الشيعي أخذ قوماً من أهل العلم فضرب بعضهم وسجن بعضهم.. فرفع خبر إبراهيم إلى أبي العباس المخطوم فأمر حسن ابن أبي خنزير - عامل القيروان - أن يأخذه هو وأبا بكر بن هذيل فيقتلهما جميعا (لعنه الله).
قصة استشهاد ابن البرذون
قال ابن سعدون: كان من العلماء الخاشعين. وكانت الشيعة بالقيروان تميل إلى أهل العراق لموافقتهم إياهم في مسألة التفضيل ورخصة مذهبهم، فرفعوا عليه دعوة باطلة لأبي عبد الله الشيعي، وقيل لأخيه أبي العباس المخطوم - لعنهما الله - أن ابن البرذون وابن هذيل يطعنان في دولته ولا يفضلان علياً. وأنهي إليه أنه قال لبعض أصحابه - وقد ناظره في إمامة أبي بكر - كان علي يقيم الحدود بين يديه، فلولا إنه كان إمام هدى مستحقاً بالتقديم، ما حلت له معونته. فحبسهما، ثم أمر عامل القيروان حسن بن أبي خنزير يضرب هذيل خمس مئة سوط، ويضرب رقبة ابن البرذون. فغلط ابن أبي خنزير فأخرج إبراهيم بن البرذون ليلاً فضربه خمس مئة سوط، وضرب رقبة ابن هذيل. ثم انتبه للغلط، فأخرج إبراهيم فضرب رقبته أيضاً.
وقيل إن إبراهيم لما جُرِّد ليقتل، قال له حسن: ترجع عن مذهبك؟ فقال له: عن الإسلام تستتيبني! فقتل. ثم ربطت أجسادهما بالحبال، وجرتهما البغال مكشوفين بالقيروان، وصُلبا نحو ثلاثة أيام ثم أنزلا فدفنا. فذكر أن بعضهم رأى إبراهيم في النوم، فقيل له: أنت مع صاحبك؟ فأشار أنه فوقه. فقيل له: بماذا رفعت عليه؟ فأشار بيده يحكي أن الضرب الذي ضرب دونه. وكانت هذه النازلة بهما سنة (297هـ/909م).
وحكي أن ابن أبي خنزير لما أتي بابن البرذون إليه، قال له: ياخنزير! فقال له ابن البرذون: الخنازير معروفة بأبنائها. وعاجله بالقتل ولم يضربه.
وحكى أبو عبد الله بن خراسان وابن نصرون: أن فاعل ذلك بهما أبو عبد الله وأخوه المخطوم. فقال لهما أبو عبد الله: أتشهدان أن هذا رسول الله؟
فقالا بلفظ واحد: والله الذي لا إله إلا هو! لو جاءنا والشمس في يمينه والقمر في يساره، يقول: أنا رسول الله، ما قبلناه. فأمر عبيد الله بذبحهما وربطهما إلى أذناب البغال.
وقيل: جاء فيهما كتاب من المهدية: يدخلان في الدعوة أو يضربان بالسياط حتى يموتا. فعرض عليهما ذلك، فقالا: ما نترك الإسلام. فقيل لهما: قولا للناس ولا تفعلا، فقالا: يقتدى بنا فيما نفعل، عذاب الدنيا أيسر من عذاب الآخرة.
وقيل إن أخا الشيعي قال له: أفسدت علينا ما بنا حاجة إلى إصلاحه.
وقيل إنه قال له: قد أمّنت القيروان، فأخشى بموت هذين الرجلين أن يحسبوا أنه رجوع عن أمانهم. فقال الشيعي: ما جعل الله لي، ولا لأحد أن يعطيهم ما منعهم الله. يقول الله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن)، فمن يأتي بما يكره الإمام التقي كان سبيله سبيل الذمة إذا ما تابوا مما في قلوبهم من بغض النبي صلى الله عليه وسلم، لم يسعني فيهما إلا القتل.
ومنع عبيد الله الفقهاء ألا يفتوا بمذهب مالك، إلا بمذهبهم الذي ينسبونه إلى "جعفر بن محمد" ويسمونه مذهب أهل البيت، من سقوط طلاق البتة، وإحاطة البنات بالميراث، وغير ذلك. وغلط الأمر على المالكية من هذا الحين، ومنعوا من المجلس والفتيا، فكان من يأخذ عنهم ويتذاكر معهم إنما يكون سراً وعلى حال خوف وريبة.
وكان لابن البرذون أخ اسمه عبد الملك يرى مذهب الشافعي ويناظر في الفقه مناظرة حسنة، خذله الله فتشرق. فشتان ما بينه وبين أخيه!
رحم الله شهيد الحق الذي لم تلن له قناة في الذب عن السنة والمنافحة عن الإسلام دون دعاة الباطل من العبيديين لعنهم الله.
يتبع
===

الدولة العبيدية (الحلقة السابعة)
قتل وامتحان فقهاء المسلمين
زاهد إفريقية جبلة بن حمود بن عبد الرحمن
محمد فاروق الإمام
الزاهد الفاضل الفقيه العالم العامل الورع الثقة المرابط المجاهد.
ترك سكن الرباط ونزل القيروان، فقيل له في ذلك، فقال: كنا نحرس عدواً بيننا وبينه البحر والآن حلَّ العدو بساحتنا وهو عبيد الله الشيعي.
هو من أبناء القادمين مع حسان بن النعمان، أسلم جده على يد "عثمان بن عفان" رضي الله عنه.
قال ابن الحارث: كان جبلة بن حمود من أهل الخير البيّن، والعبادة الطاهرة، والورع، والزهد، وكان الغالب عليه النسك والزهد.
سمع من سحنون، وعون، وأبي إسحاق البرقي وداود بن يحيى، وغيرهم من المصريين والإفريقيين.
وكان في بدايته يسمع كلام العراقيين، ويجلس إلى محمد بن أسباط، ثم ترك ذلك، وصحب سحنون.
روى عنه أبو العرب، وعبد الله بن أبي عقبة، وعبد الله بن سعيد.
موقف جبلة من دولة العبيديين
قال عبد الله المالكي: ولما دخل عبيد الله إلى إفريقية وملكها ونزل برقادة ترك جبلة - رحمه الله - سكنى قصر الطوب وأتى إلى القيروان فسكنها فخوطب على ذلك وقيل له - أصلحك الله - كنت بقصر الطوب تحرس المسلمين وترابط فتركت الرباط والحرس ورجعت إلى ها هنا؟ فقال: كنا نحرس عدواً بيننا وبينه البحر فتركناه وأقبلنا على حراسة هذا الذي حل بساحتنا لأنه أشد علينا من الروم، فكان إذا أصبح وصلى الصبح خرج إلى طرف القيروان من ناحية رقادة ومعه قوس ونشابه وسيفه وترسه وجلس محاذياً لرقادة فيقيم نهاره أجمع في ذلك الموضع، فإذا كان عند غروب الشمس رجع - رحمه الله - إلى داره.
وكان رحمه الله يحرس بالعشي عند الفرانق " جمع فرنق وهو دليل الجيش" فقيل له في ذلك فقال: أحرس عورات المسلمين من هؤلاء القوم فإن رأيت منهم شيئاً حركت المسلمين عليهم.
قال الشيخ أبو الحسن بن القابسي - رحمه الله - : كان جبلة رحمه الله يصلي الجمعة في مسجده ويجتمع إليه الناس فجاءه صاحب المحرس يتجسس عليه قال: فأخذه جبلة وأدخله المسجد وضربه بالجريد ولم يتركه حتى تاب وحلف أن لا يعود.
ولم يكن في وقته أكثر اجتهاداً منه في مجاهدة عبيد الله وشيعته، وكان لا يداري في ذلك أحداً من الخلق فسلّمه الله عز وجل منهم وحماه من كيدهم ومكرهم.
قال أبو الحسن: وإنما سلك أبو إسحاق السبائي في بغض عبيد الله وشيعته طريق جبلة بن حمود رحمهما الله
وجاء رجل إلى جبلة على لسان المروذي فقال له: يقول لك القاضي سلم تسليمتين، واقرأ (بسم الله الرحمن الرحيم) وقل (حي على خير العمل). فقال له جبلة: مر قبحك الله وقبح من أرسلك، قال: فأخبرني من تبعه قال فقلت له: لا تقل للقاضي ما قال لك الشيخ، فقال: لا. فتبعه من حيث لا يعلم فأتى إلى القاضي فقال: مضيت إلى جبلة برسالتك فقال لي: قبحك الله وقبح من أرسلك. فقال له المروذي: يا كذا وكذا أنا أرسلتك إلى جبلة، جبلة ليس بإمام ولا مؤذن تجيء إلى أولياء الله تتعرض بي لدعائهم. قال: فخرج فقلت له: لا مع الله ولا مع الشيطان، ظننت أن المروذي يمد يده إلى جبلة.
وعن أبي بكر أيضاً قال: لما اتصل بجبلة أن بعض أهل القيروان خرجوا يتلقون أبا عبد الله الشيعي تقية من شره ومداراة له فقال جبلة: اللهم لا تسلم من خرج يسلم عليه. واغتم لذلك غماً شديداً، فلما انتهوا إلى وادي أبي كريب جُردوا وأخذت ثيابهم فلما عرف جبلة بذلك قال: ما غمني إلا رجل واحد فيه خير لا دنيا له. والرجل هو حماس بن مروان القاضي. وكانت لجبلة فراسة لا تخطئ.
ولما حضر - رحمه الله - أول خطبة لبني عبيد الله في جامع القيروان جلس عند المنبر فسمع خطبتهم فلما سمع ما لا يجوز سماعه قام قائماً وكشف عن رأسه حتى رآه الناس ومشى من المنبر إلى آخر باب في الجامع - جامع القيروان - والناس ينظرون إليه حتى خرج من الباب وهو يقول: قطعوها قطعهم الله. فمن حينئذ ترك العلماء حضور جمعتهم وهو أول من نبّه على ذلك رحمه الله.
وصعدت روح جبلة بن حمود إلى الرفيق الأعلى سنة "297هـ/909م" عن سبع وثمانين سنة قضاها بين طلب العلم ومقارعة أهل الباطل من أصحاب الأقوال الباطلة والدعوات المنحرفة بلا خوف أو كلل أو ملل. رحم الله هذا المجاهد الجليل وجزاه عن المسلمين خير الجزاء.
يتبع
======

الدولة العبيدية (الحلقة الثامنة)
قتل وامتحان فقهاء المسلمين
الشيخ الشهيد أبو جعفر محمد بن محمد بن خيرون المعافري
محمد فاروق الإمام
أُدخل الشيخ أبو جعفر ابن خيرون على ابن أبي خنزير "والي عبيد الله على القيروان" - لعنه الله - بهيئته الجميلة وقد علاه صفار وسمت وخشوع، وعلى رأسه منديل مهلبي، فلما رآه ابن أبي خنزير - كما يقول الشيخ أبو الحسن بن القابسي - بكى، فقال له أحد جلسائه: ما الذي أبكاك؟ قال: السلطان - يعني عبيد الله - وجه إلي يأمرني أن آمر بدوس هذا الشيخ حتى يموت وهو ابن خيرون.
وبطح أبو جعفر على ظهره وطلع السودان " استقدمهم الأغالبة من إفريقية واستعملوهم حرساً خاصاً لهم عند خوفهم من تمرد وثورات القرشيين والبربر" فوق السرير فقفزوا عليه بأرجلهم حتى مات - رحمه الله - فلما مات أخذوه وحملوه على بغل وألقوه في حفير، وذلك لجهاده في الدين وبغضه لعبيد الله وجنده. وكان الذي عمل عليه وسعى به المروزي "قاضي عبيد الله على القيروان"- لعنة الله عليه - .
ونهب أبن أبي خنزير ماله وأخذ مولدة كانت له وجعلها مع خدمه، فلما طال على ابن أبي خنزير كثرة ما يأتي به المروذي من العلماء والصالحين ليقتلهم سعى به عند عبيد الله ومضى فيه إلى المهدية "عاصمة العبيديين" فقبل عبيد الله قوله ومكّنه منه فأخذه فألبسه تليساً "ما يكون في الرحل" ورماه في اسطبل الدواب تمشي عليه فركضت في بطنه حتى قتلته.
فكانت تلك المولدة - التي كانت لابن خيرون - تأتيه وهو تحت أرجل الدواب، فيقول لها: إنك بسببي صرت عند السلطان، فتقول له: يا شيخ السوء قتلت سيدي ابن خيرون شيخ القيروان وأزلتني من عنده ورددتني عند خنزير بن خنزير وتأمر خدمها فيلطمونه ويطعمونه قذره. وكانت هي المتولية لعذابه حتى هلك - لعنه الله -.
قيل أنه لما ضربه ألف سوط وعذبه قال له: هات الأموال التي جمعت، فقال: والله لو أن تحت قدمي جباً مملوءاً بمال الدنيا كلها ما أخرجت لكم منه درهماً واحداً وإني قد عصيت الله عز وجل فيكم فسلطكم علي، فاضرب ما شئت وعذب كيف شئت.
وكان محمد بن عمر المروذي هذا معتقداً لمذهب الشيعة معروفاً بذلك، فلما دخل الشيعي - لعنة الله عليه - بادر إليه ودخل في دعوته ولزمه فولاه قضاء إفريقية، فتصلّب وتكبر وكانت أيامه صعبة جداً وأخاف أهل السنة. ثم خرج الشيعي إلى "سجلماسة" في طلب عبيد الله اللعين فاستخلف في مكانه أبا العباس فأطلق يد المروذي وقوى أمره، فأخذ أبا العباس بن بطريقة الصائغ قاضي طرابلس.
وكان من الفقهاء العلماء، وأبا القاسم الطرزي قاضي صقلية، والمحتسب بمدينة القيروان قبل القضاء فضربهما وهون بهما. وقتل ابن هذيل وإبراهيم بن البرزون، وأول ما ولي زاد في الأذان (حي على خير العمل) وترك الناس يصلون "القيام" سنة واحدة ثم منعهم وترك أكثر الناس الصلاة في المساجد، وأخذ أموال الأحباس والحصون، وأخذ سلاح الحصون التي على البحر، وأمر الفقهاء أن لا يفتوا ولا يكتبوا وثيقة إلا من تشرق وكفر، وأمر أن يزال من الحصون والمساجد اسم الذي بناها وأمر بها من السلاطين ويكتب اسم المهدي- لعنه الله -.
وقد أخذ الله عدو ابن خلدون القاضي المروذي الذي سعى عليه - من جنس فعله به - بأخس الأشياء، وهو عفسه بأرجل البهائم، مع ما عذب به بغير ذلك. وجزى الله مشيخة القيروان خيراً، هذا يموت، وهذا يضرب، وهذا يسجن، وهم صابرون لا يفرون، ولو فروا لكفرت العامة دفعة واحدة، رحمهم الله وأسكنهم فسيح جناته.
قتل أبن خيرون سنة "299هـ/911م" رحمه الله.
يتبع
======
الدولة العبيدية (الحلقة التاسعة)
قتل وامتحان فقهاء المسلمين
المجاهد في سعيد بن محمد بن صبيح الغساني
محمد فاروق الإمام
الإمام أبو عثمان شيخ المالكية في زمانه، وأحد المجتهدين، كان بحراً في الفروع ورأساً في لسان العرب، بصيراً بالسنن.
كانت له مواقف خالدة في الذبِّ عن السنة والمنافحة عن الجماعة والدفع عن الإسلام.
ناظر أبا العباس المعجوقي أخا أبي عبد الله الشيعي الداعي إلى دولة العبيديين، وناظر شيخ المعتزلة (الفراء) بالقيروان.
وتصدى لعبيد الله المهدي، مؤسس دولة العبيديين في المغرب، وداعيته عبد الله الشيعي، فدحض أقوالهما بالحجج والبراهين النقلية والعقلية حتى أخرسهما، على الرغم من تحذير ولده أبي محمد له إذ قال: يا أبة، اتق الله في نفسك ولا تبالغ، فأجابه: حسبي من له غضبت، وعن دينه ذَبّيت.
كان عالماً في الفقه والكلام والذبَّ عن الدين والرد على فرق المخالفين للجماعة، من أذهن الناس وأعلمهم بما قاله الناس.
مقارعة ابن الحداد للعبيديين ومناظرتهم
قال أبو بكر بن اللباد الفقيه: بينا سعيد بن الحداد يوماً جالس إذ أتاه رسول من قبل البغدادي فقال له: أحب أبو جعفر أن يراك، قال: فلبست ثيابي ومضيت حتى أتيت بابه، فإذا برجل أجلس لي ينتظرني فقال: ادخل، فدخلت عليه، فقال لي: أحب عبيد الله أن يجتمع بك، فقلت: ها أنذا، فركب وجعل معي من يصحبني ومضى هو أمامي، قال: فمضيت مع الرجل حتى أتى بي إلى مكان فأجلسني فيه، فأنا جالس حتى أتاني رسول ثانٍ غير الرجل الذي كنت معه، فقال لي: قم يا شيخ، فقمت فدخلت معه حتى أتيت إلى باب المجلس الذي هو فيه فإذا بعبيد الله (لعنه الله) جالس والبغدادي واقف على رأسه فدخلت، وأقبل أبو جعفر فقال لي: ادن، حتى وقفت على رأسه فتكلمت بما حضرني من الكلام، ثم قال لي: اجلس، فجلست، فإذا بكتاب لطيف إلى جانبه على مخدة، فرأيته وقد أومى إلى أبي جعفر فقال له: أعرض الكتاب على الشيخ. قال: وربقته ببصري فعرفت الكتاب، قال: تصفح، فجعل يده على بعض الصفحة وأنا أنظر إلى الإسناد، فقال لي أبو جعفر: اقرأ، قال: فقلت له: عرفت الحديث وهو حديث (غدير خم): (من كنت مولاه فعلي مولاه). وهو حديث صحيح، وقد رويناه. فعطف علي عبيد الله (لعنة الله عليه) فقال لي: فما للناس لا يكونون عبيدنا؟ فقلت له: - أعز الله السيد - لم يرد ولاية الرق، إنما أراد ولاية في الدين، قال: فقال لي: فهل من شاهد من كتاب الله عز وجل؟ فقلت: نعم. قال الله عز وجل: (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون). فما لم يجعله الله عز وجل لنبي لم يجعله لغير نبي وعلي لم يكن نبياً، إنما كان وزير النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي: انصرف لا ينالك أحد، قال: فخرجت وصحبني البغدادي حتى خرجت وأومأ إلي فوقفت، فقال لي: اكتم هذا المجلس.
وأرسل محمد بن عمر المروذي في طلب العلماء مدنيهم وعراقيهم، فقال لهم: إني أمرت أن أناظركم في قيام رمضان، فإن وجبت لكم حجة رجعنا إليكم وإن وجبت لنا رجعتم إلينا. قال أبو عثمان: فقلت له: ما تحتاج إلى المناظرة. فقال لي: لابد منها. فقلت له: شأنك وما تريد.
فقال: ألستم تعلمون وتروون أن ألنبي صلى الله عليه وسلم لم يقم إلا ليلة ثم قطع وأن عمر بن الخطاب هو الذي استن القيام وقد جاء في الحديث الذي تروونه ونرويه أن: "كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وأن كل ضلالة في النار". فقلت له: هذه البدعة من البدع التي يرضاها الله عز وجل ويذم من يتركها، فقال: وأين تجد ذلك في كتاب الله عز وجل؟ فقلت له: في كتابه المنزل الذي (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد). قال: وأين؟ قلت له: قال الله عز وجل: (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها) ، فنحن نثابر على هذه البدعة التي هي رهبانية لئلا يذمنا الله عز وجل كما ذمهم. فقال: من صلى القيام ضربت عنقه، قال: فقلت له: قد قلت لك هذا أولاً: ماتحتاج إلى المناظرة، فلم تقبل.
ويحكى أن أبا عبد الله الشيعي قال له يوماً: القرآن يقرُّ أن محمداً ليس بخاتم النبيين. فقال له سعيد: أين ذلك؟ فقال له: في قوله: (ولكن رسول الله وخاتم النبيين) فخاتم النبيين غير رسول الله. فقال له سعيد: هذه الواو ليست من واوات الابتداء وإنما هي من واوات العطف كقوله عز وجل: (هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم) فهل من أحد يوصف بهذه الصفات غير الله عز وجل؟
وتكلم عنده يوماً فغضب من كلامه رجل من كتامة يعرف بأبي موسى شيخ المشايخ وقام إليه بالرمح فمنعه أبو عبد الله من ذلك ثم عطف على أبي عثمان فقال له: يا شيخ لا تغضب أتدري إذا غضب هذا الشيخ كم يغضب لغضبه: يغضب لغضبه اثنا عشر ألف سيف؟
فقال له أبو عثمان: ولكني أنا يغضب لغضبي الله الواحد القهار (الذي أهلك عاداً وثمود وأصحاب الرث وقروناً بين ذلك كثيرا).
وذكر أن الشيعي قال للصقلبي: إذا اجتمع الناس فأذن لهم بالدخول علي، فلما جاء سعيد بن الحداد أذن له في الدخول، فلما دخل قال للصقلبي: ألم أقل لك إذا اجتمع الناس فأذن لهم؟ فقال له الصقلبي: هذا هو الناس كلهم وإنما فعلت ما أمرتني به. قال: وإنما فعل ذلك الصقلبي لما أعجبه من كلام سعيد رحمه الله.
وخوفه ولده لمباينته للشيعي أول دخوله، فقال له: يا بني حسبي من له غضبت وعن دينه ذببت.
يتبع
======
الدولة العبيدية (الحلقة العاشرة)
قتل وامتحان فقهاء المسلمين
مساجلات ابن الحداد مع العبيديين
محمد فاروق الإمام
لقد كانت لابن الحداد مساجلات مع العبيديين، ومقامات في الدين مع الكفرة المارقين: أبي عبد الله العبيدي وأبي العباس أخيه وعبيد الله الدّعي، أبان فيها كفرهم وزندقتهم وتعطيلهم.
خرج جماعة من القيروان للقاء الدّعي عبيد الله منهم: أبو عثمان وحماس وابن عبدون، وكان أبو عثمان مهاجراً لابن عبدون، وذلك أنه حبسه، فقال ابن عبدون لأبي عثمان تقدم يا أبا عثمان، فلم يجبه، فقال له: تقدم فليس هذا وقت مهاجرة، فلسانك سيف الله، وصدرك خزانة الله ، وإنما أراد ابن عبدون بذلك أن يحرضه على مناظرة الشيعي.
ولما خرج لمناظرته خرج معه أهله وولده وهم يبكون فقال لهم: لا تفعلوا لا يكون إلا خيراً، حسبي من له خرجت وعن دينه ذببت.
فأول مجلس جرى له معه أنه قال: أرسل ورائي الشيعي لعنة الله عليه، وما كنت آتي إليه إلا برسول، فدخلت إليه في قصر إبراهيم بن أحمد وحوله جماعة من أصحابه وجماعة ممن ينسب إليهم العلم من أهل بلدنا، فسلمت ثم جلست، فقال أبو عبد الله لإبراهيم بن يونس- وقد قيل له إن هذا الشيخ كان قاضياً على هذه المدينة - بأي شيء كنت تقضي؟
فقال له إبراهيم: بالكتاب والسنة.
فقال له أبو عبد الله: فما السنة؟
فقال له إبراهيم: السنة.. السنة…
قال أبو عثمان: فلما سمعته على قوله: السنة.. السنة…، قلت لأبي عبد الله: المجلس مشترك أو خاص؟
فقال: مشترك.
فقال أبو عثمان: أصل السنة في كلام العرب: المثال الذي يتمثل عليه، قال الشاعر:
    تريك سنة وجه غير مقرفة … ملساء ليس بها خال ولا ندب
أي صورة وجه ومثاله: وألسنة محصورة في ثلاث: الائتمار بما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم والانتهاء عما نهى عنه والإيتاء به فيما فعل.
قال الشيعي: فإن اختلف عليك فيما نقل إليك عن النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت السنة من طرق؟
فقلت له: أنظر إلى أصح الخبرين نقلاً فآخذ بأصحهما وأطلب الدليل على موضع الحق في أحد الحديثين ويكون الأمر في ذلك كشهود عدول اختلفوا في شهادة فلا بد من طلب الدليل على موضع الحق من الشهادتين.
فقال الشيعي: فلو استوا في الثبات؟
فقلت له: يكون أحدهما ناسخاً والآخر منسوخاً.
قال: فمن أين قلتم بالقياس؟
فقلت له: قلنا ذلك من كتاب الله عز وجل.
قال: فأين تجد ذلك؟
قلت: قال الله عز وجل في كتابه العزيز:
(يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم). فالصيد معلومة عينه، والجزاء الذي أمرنا أن نمثله بالصيد المعلومة عينه ليس بمنصوص فعلمنا بذلك أن الله تعالى إنما أمرنا أن نمثل ما لم ينص ذكر عينه: بالقياس والاجتهاد. ومنه قول الله عز وجل: يحكم به ذوا عدل منكم). فلم يكله إلى حاكم واحد حتى جعلهما اثنين: ليقيسا ويجتهدا.
فقال أبو عبد الله الشيعي: ومن ذوا عدل؟ . وأومأ أن (ذوا عدل) إنما هم قوم مخصوصون بنص الآية.
قال: فقلت: هم الذين قال الله عز وجل فيهم في آية المراجعة: (وأشهدوا ذوي عدل منكم). ومثل ذلك في تثبيت القياس قوله عز وجل: (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم). والاستنباط غير منصوص.
ثم عطف على موسى القطان فقال له: أين وجدتم حد الخمر في كتاب الله تعالى؟
فقال له موسى: قال النبي صلى الله عليه سلم: "من شربها فاضربوه بالأردية. ثم إن عاد فاضربوه بالأيدي، ثم إن عاد فاضربوه بالجريد".
فقال له أبو عبد الله على النكير منه: ايش هذا؟ أقول لك: أين وجدتم حد الخمر في كتاب الله تعالى، تقول: اضربوه بالأردية ثم بالأيدي ثم بالجريد؟
قال أبو عثمان: فقلت له: إنما حد قياساً على حد القاذف لأنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى، فوجب عليه ما يؤول أمره إليه وهو حد القذف.
فقال لموسى القطان: أولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: "أقضاكم علي"، فجعل موسى وهو ينص عليه الحديث ".. وأعلمكم بحلال الله وحرامه معاذ، وأرأفكم أبو بكر، وأشدكم في دين الله عمر". رضي الله عنهم أجمعين.
فقال له الشيعي: وكيف يكون أشدهم في دين الله وقد هرب بالراية يوم حنين؟
فقال له موسى: ما سمعنا بهذا ولا نعرفه.
قال أبو عثمان: فقلت له: تحيز إلى فئة كما أنزل الله تعالى. قال الله عز وجل: (إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة) ، فمن تحيز إلى فئة كما أمر الله عز وجل فليس بفار.
فمال الشيعي بوجهه إلى بعض أصحابه فقال: أتسمع ما قال الشيخ، قال: انحاز إلى فئة كما أمر الله سبحانه.
فقال مجيباً - وهو يشير بيده - وأي فئة أكثر من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان حاضراً ولم يتحيز إليه وكأنه تخافت في كلامه ويسمع من يليه.
فقلت: جاء عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "عمر فئة" فمن تحيز إلى عمر فقد تحيز إلى فئة.
فسكت، فحركه بعض أصحابه، وقال: ألا تسمع ما يقول الشيخ؟
فقال: صدق، أو نحو ذلك من القول سمعتها أنا منه ومن كان يليه.
يتبع
=====
الدولة العبيدية (الحلقة 11)
قتل وامتحان فقهاء المسلمين
متابعة مساجلات ابن الحداد مع أبي عبد الله الشيعي
محمد فاروق الإمام
قال أبو عبد الله الشيعي لأبي عثمان: هلا كان عندك من قول الله عز وجل حكاية عن نبيه صلى الله عليه وسلم في قوله لأبي بكر (لا تحزن إن الله معنا) دلالة أن حزنه كان مسخوطا لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهاه عنه.
فقال أبو عثمان: لم يكن قوله له إلا تبشيراً بأنه آمن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى نفسه معه مما كان يحذره من غلبة المشركين، وكان خوفه لما خاف من ذلك من أجل أنه لا يظهر على غيب ما تجري به مقادير الله عز وجل ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي بغيب ما يكون قبل أن يكون فكان في قوله: (لا تحزن إن الله معنا) ما يبين أن الله معهما، بنصرته إياهما وذلك لا يكون إلا بوحي من الله عز وجل وقد بين الله تعالى إطلاعه أنبياءه المرسلين على غيبه بقوله: (فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول). فقال له أبو عبد الله: وهل تجد لهذا نظيراً من التنزيل: (لا تفعل) يراد به التبشير ولا يراد به النهي عن أمر مسخوط؟
فقال له أبو عثمان: نعم. قال الله عز وجل لموسى وهارون عليهما السلام: (لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى) لما خافا من فرعون أن يفرط عليهما أو أن يطغى، ولم يكن خوفهما يسخط الله عز وجل عليهما من أجله. لأنهما لو أديل لفرعون عليهما لكان في ذلك طغياناً لفرعون وتضعضعاً للدين وهما رسولان داخلان في معنى قوله تعالى: (إلا من ارتضى من رسول)، فأطلعهما الله عز وجل على غيب ما خافا كما أطلع محمداً نبيه صلى الله عليه وسلم على غيب ما يؤول إليه الأمر الذي خافه أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، فصار قول الله عز وجل في أبي بكر شرفا لم يبلغه أحد بعده، فإن الله تعالى أنزل فيه وفي الأمر الذي خافه من التبشير بالأمن منه ما أنزل على موسى وهارون عليهما السلام.
فقال له أبو عبد الله: أفلا أوجب قول الله تعالى عند من سمعه: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) انقلاب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؟
فقال له أبو عثمان: لا، لأن معنا أفإن مات أو قتل أفتنقلبون على أعقابكم لأن معنى (أفإن مات): استفهام ومعنى (انقلبتم): افتنقلبون. والاستفهامان إذا جاءا في قصة واحدة اجتزئ بأحدهما عن الآخر. وهذا الاستفهام إنما هو في معنى التقرير بأن لا تنقلبوا على أعقابكم.
فقال له: فهل تجد في كتاب الله عز وجل نظيراً يكون من هذا دليلاً؟
فقال له: نعم. قول الله عز وجل: (أفإن مت فهم الخالدون) أي إنك إن مت فهم لا يخلدون، فلما التقى استفهامان أجزأ ذكر أحدهما عن الآخر، فكان لفظ الاستفهام من ذلك مراد به التقرير: (بأنهم لا يخلدون).
فقال أبو عبد الله: يا أهل المدينة إنكم تبغضون علياً.
فقال أبو عثمان: على مبغض علي لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وكيف أبغض علياً وقد سمعت سحنون بن سعيد - وهو إمام أهل المدينة بالمغرب - يقول: علي بن أبي طالب إمامي في الدين أهتدي بهديه واستن بسنته وأقتفي أثره، رحمة الله عليه.
فقال أبو عبد الله: أراد أن يقول: صلى الله عليه، فرجع فقال: رحمة الله عليه.
فقال أبو عثمان - ورفع بها صوته - : نعم. صلى الله عليه وسلم، لأن الصلاة في كلام العرب: الرحمة والدعاء، قال الأعشى:
    تقول بنتي وقد قربت مرتحـــلاً … يارب، جنب أبي الأوصاب والوجعا
    عليك مثل الذي صليت، فاغتمضي … نوماً فإن لجنب المرء مضطجعــا
فالصلاة من الله رحمة ومن الآدميين دعاء، نعم فصلى الله على علي وفاطمة والحسن والحسين وعلى أهل طاعته أجمعين من أهل السماوات والأرضين.
فقال له أبو عبد الله: أليس قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من كنت مولاه فعلي مولاه" أفليس علي مولاك ؟
فقال أبو عثمان: هو مولاي بالمعنى الذي أنابه مولاه، ومعنى مولاي: على الولاية في الدين لا مولى عتاقة، وذلك أن المولى في كلام العرب: الولي وابن العم والمعتق والمنعم عليه. قال الله عز وجل في ابن العم - حكاية عن زكريا عليه السلام - : (وإني خفت الموالي من ورائي) يريد به العصبة. وقال في ولاية الدين: (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم) ، أي لا ولي لهم، وقال في المؤمنين: (بعضهم أولياء بعض) ، فعلي مولى المؤمنين بأنه وليهم، وهم مواليه بأنهم أولياؤه، فهو مولاي بالمعنى الذي أنا به مولاه.
فقال أبو عبد الله: ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: "علي مني بمنزلة هارون من موسى"؟
فقال أبو عثمان: نعم إلا أنه قال: "إلا أنه لا نبي بعدي" وهارون كان حجة في حياة موسى، وعلي لم يكن حجة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وهارون كان شريكاً لموسى، أفكان لعلي شرك مع النبي صلى الله عليه وسلم في النبوة؟ إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "علي مني كهارون من موسى" على التقريب والوزارة والولاية.
قال أبو عبد الله: أليس هو أفضل؟
فقال له أبو عثمان: أليس الحق متفقاً عليه غير مختلف فيه؟
قال أبو عبد الله: نعم.
قال: فقلت له: قد ملكت مدائن كثيرة قبل مدينتنا هذه - وهي أعظم مدينة - واستفاض الخبر عنك أنك لم تكره أحداً خالفك في مذهبك على الدخول فيه فاسلك بنا مسلك غيرنا.
فألح بعض أصحابه في قصدنا.
فقال لهم: نقول كما قال شعيب عليه السلام: (وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين).
ثم نهضنا.
قال أبو عثمان: ودخلت يوماً على أبي العباس، فأجلسني معه في مكانه وهو يقول لرجل ممن ينتسب إلى العراقيين: أليس العالم أعلم من المتعلم أبداً؟ والعراقي يقول له: نعم، وأهل المجلس لا ينطقون.
قال: فقلت له: بقي شيء، أو نتكلم؟
فتمادى، فقال له: أو ليس المتعلم يحتاج إلى المعلم أبداً؟ قال: والعراقي يقول له: نعم.
قال: وفهمت مراده ومقصده ليؤكد بذلك الطعن على أبي بكر رضي الله عنه في سؤاله علياً رضي الله عنه عن فرض الجدَّة. قال: فبدرت وقلت له: إني أسمع كلاماً يجب لله علي فيه أن لا أسكت.
قال أبو العباس: وما ذلك؟
قلت له: المتعلم يكون أعلم من المعلم أبداً ويكون أفضل منه وأفقه.
فقال: وما دليلك؟
قلت: رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: "رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب حامل فقه غير فقيه".
وآخر: ما هو متعارف بين الخليقة، أن المعلم يعلم الصبيان القرآن فلا يزال يعلمهم حتى يكبر الصبي. فيعطي الله عز وجل للصبي من الفهم بعامّ القرآن وبخاصه وبظاهره وباطنه ما لا يقدر معلمه على علمه أبداً.
قال: فقال لي: فاذكر من عامّ القرآن وخاصه شيئا؟
قال: فقلت له: قال الله عز وجل: (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) فاحتمل أن تكون هذه الآية أراد بها عامّاً فلما قال الله عز وجل: (اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم). علمنا بهذه الآية أن مراده في الآية الأولى خاص دون عام. أراد ولا تنكحوا المشركات غير الكتابيات حتى يؤمن.
قال: ومن المحصنات؟
قلت: العفائف.
قال: المحصنات: المتزوجات.
قال: قلت: الإحصان في كلام العرب - التي بلسانها نزل القرآن - : الإحراز، فكل من أحرز شيئاً فقد أحصنه، فالإيمان: انحراز يحرز دم صاحبه وماله وسبيه، وهو يحصنه. والعتق: يحصن المملوك لأنه يحرزه من أن يجري عليه ما يجري على المماليك. والتزويج: يحصن الفرج لأنه أحرزه من أن يكون مباحا له ما كان له قبل التزويج. والعفاف: إحصان للفرج لأنها أحصنت فرجها بالعفاف.
قال: ما يكون الإحصان - عندي - إلا التزويج.
قال: فقلت له: منزل القرآن يأبى ما ذكرت. قال الله عز وجل: (ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها) يريد أعفته.
قال: أعفته؟
قلت: نعم أعفته. وقال: (محصنات غير مسافحات) عفائف غير زوان.
قال: فقال لي: فقد قال في الإماء: (فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة، فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) ، فكيف جعل العذاب على المحصنات وهن عندك قد يكن عفائف؟
قال: قلت: سماهن بمتقدم إحصانهن قبل زناهن، قال الله عز وجل في كتابه العزيز: (ولكم نصف ما ترك أزواجكم) وقد انقطعت العصمة بالموت. يريد اللآئي كن أزواجكم وهذا كثير.
يتبع
======
الدولة العبيدية (الحلقة 12)
قتل وامتحان فقهاء المسلمين
متابعة مساجلات ابن الحداد مع أبي عبد الله الشيعي
محمد فاروق الإمام
قال ابن الحداد: فعارضني أبو عبد الله الشيعي - معيناً له بعض من سمى، فاجللت أنا كتابي عن ذكره - قال: فقلت له: أمسك عن هذا يا حدث - بصيحة - قال: فلم يطق.
فقال لي أبو العباس: فعذاب المحصنات: الرجم، فكيف يعقل نصف الرجم وقد يقتل بواحدة وربما لم يقتل بأكثر من ذلك؟
قال: فقلت: هذا مما كنا فيه، أراد خاصاً دون عام، أراد نصف ما عليهن من عذاب الجلد دون الرجم.
فقال لي: ومن يقول بالجلد مع الرجم؟
قال: قلت: علي بن أبي طالب رضي الله عنه جلد شراحة مئة ورجمها. وقال: جلدتك بكتاب الله ورجمتك بسنة رسول الله.
قال: ثم جرى ذكر شيء فقال لي: أنت يا شيخ تلوذ.
قال: قلت: ليس أنا الذي ألوذ - لأني أنا المجيب لك - وأنت الذي تلوذ لأني إذا أتيتك بالجواب ووقفتك منه على حد له رجعت إلى مسألة أخرى غير ما سألتني عنه، فأنت الذي لذت.
قال: ثم صحت والله صيحة: ألا أحد يكتب ما أقول ويقول غضباً لله تعالى. قال: فو الله لقد وقى الله تعالى شره.
قال: فكأنك تقول أنك أعلم الناس؟
قال: قلت: أما بديني فنعم.
قال: فما تحتاج فيه إلى زيادة؟
قلت: لا لأن ديني الذي أنا عليه هو الحق الذي ليس الحق في سواه أبدا.
قال: فأنت أعلم من موسى بن عمران عليه السلام إذ يقول: (هل اتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا).
قال: فقلت له: قائل هذا طاعن على نبوة موسى عليه السلام إذ يزعم أن الله تعالى اصطفاه برسالته وبكلامه ونبوته وهو محتاج إلى أن يتعلم بعد ذلك شيئاً من دينه - معاذ الله - إنما كان العلم - الذي كان عند الخضر - دنيوياً: سفينة خرقها لعلمه بالملك الذي يأخذ كل سفينة غصبا، وغلاماً قتله: علم كفره وإيمان أبويه، وجداراً أقامه: علماً بالكنز الذي تحته. وذلك كله لا يزيد في دين موسى شيئاً.
قال: فأنا أسألك. قلت له: أورد وعلي الإصدار بالحق بلا مثنوية. قال: فقال لي: ما تفسير الله؟ قال: فقلت له: ذو الإلاهية. قال: وما الإلهية؟ قلت: الربوبية.
قال: وما الربوبية؟
قلت: الملك للأشياء كلها.
فقال لي: فقريش - في جاهليتها - كانت تعرف الله.
فقلت له: لا، ماكانت تعرف الله.
قال: فقد حكى الله عنهم قولهم: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى).
قال: قلت له: لما أشركوا معه غيره فقالوا: ذو الشركاء والآلهة لم يعرفوه، وإنما يعرف الله من قال: إن الله ليس له شريك وقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول: (قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون) فلو كانوا يعبدون الله ما قال: (لا أعبد ما تعبدون).
قال: ثم قال لي: فمن الذين آمنوا؟ فقلت: نحن ومن ترى، وأوميت بيدي إلى أصحابنا وهم بين يديه.
قال: ومن الذين هادوا؟
قال: فقلت: أين المتكلم آنفاً بما لا يدري. هذا من ذلك الذي أنكرت. سماهم وهم كفار بمتقدم كلمة كانت منهم تابوا بها فكانوا بها مسلمين بقولهم: (إنا هدنا إليك).
قال: فمن النصارى؟
قال: قلت: الذين تكلموا في المسيح عليه السلام.
قال: فمن الصابئين؟ فقلت: هم الذين عبدوا الملائكة وزعموا أنهم بنات الله - تبارك الله تعالى.
قال أبو عثمان: وهذا قول أهل العلم: فبدأت بجوابهم قبل أن أجيبه بكلام المتكلمين.
قال أبو عثمان: فقال لي: هم الذين عبدوا الملائكة؟
قال: قلت: نعم وزعم هشام: أنها أصل المنانية (المانوية) أصحاب بابك الخرمي.
قال: فمن الذين أشركوا؟
قال: فتبينت أنه إنما أراد بإيمائه، وبما استدللت منه أنهم عنده مسلمون.
قال: فقلت: المشركون الذين كانوا يعبدون الأصنام، الذين أرسل إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقرأ عليهم آيات من سورة براءة.
قال: فقريش ما كانت تعبد؟
قلت له: الأصنام.
فقال لي: وما الأصنام؟
قلت له: الحجارة.
قال: والحجارة كانت تعبد ؟ - على النكير منه أن تكون الحجارة هي الأصنام - .
قال: فقلت له: نعم. والعزى كانت تعبد وهي شجرة، والشعرى كانت تعبد وهي نجم.
قال: فقال لي: الله يقول: (أمن لا يهدي إلا أن يهدى) ، فكيف تقول أنها الحجارة والحجارة لا تهتدي إذا هديت لأنها ليست من ذوات العقل.
قال: فقلت للمعارض: أمسك. مالك ولذا؟
ثم قلت: قد أخبرنا الله عز وجل: أن الجلود تنطق في الآخرة وليست من ذوات النطق.
فقال: نسب إليها النطق على سبيل المجاز، والنطق للأفواه.
فقلت له: منزل القرآن يأبى ما ذكرت، فقلت: قال الله عز وجل: (اليوم ختم الله على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون).
قال: - وأشرت بإصبعي السبابة إلى فمي - فقلت: ختم الله على أفواههم: ثم بين بقوله تعالى: (وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء). وما الفرق بين جسمك وأجسامهم وبين الحجارة إلا أنه عقلنا الله فعقلنا ولو لم يعقلنا لم نعقل، وكذلك الحجارة إذا شاء أن يعقلها عقلت.
هذا الجبل لما عقله الله عقل جلال تجليه: اندك. قال تبارك وتعالى: (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً).
===
الدولة العبيدية (الحلقة 13)
قتل وامتحان فقهاء المسلمين
قاضي القيروان وناسكها حماس بن مروان بن سماك الهمداني
محمد فاروق الإمام
القاضي العادل والزاهد المتعفف والصالح المؤمن والورع الناسك، كان فقيه البدن، بارعاً في الفقه، وكان الفقه أكثر شأنه.
قال ابن حارث: معدود في العبّاد مذكور بصلاة الليل وصيام النهار ولباس الصوف مع الفقه البارع والكلام الجيد عليه.
ذكر عبد الله بن سعد قال: خرج حماس من بيته ذات ليلة فسمع ابنه سالماً يتهجد، ثم ذهب إلى بيت العجوز فوجدها تتهجد، ثم ذهب إلى بيت الخادم فوجدها تتهجد، قال فملئ بذلك سروراً ووقف في وسط الدار وقال: يا آل سماك هكذا فكونوا.
وقال غير عبد الله: فذكر أنهم باعوا الخادم فاشتراها قوم فرأتهم لا يصلون بالليل فظنت أنه من لم يصل بالليل فليس بمسلم فهربت من الدار إلى مواليها - دار حماس - فقالت لهم: هكذا يحل لكم بعتموني من قوم يهود لا يصلون بالليل.
قال أبو العرب: سمع بمصر من محمد بن عبد الحكم وغيره، وبإفريقية من سحنون، وحماد السجلماسي، وأبي الحسن الكوفي، وابن عبدوس.
وسمع منه أبو العباس بن ريان، وأبو العرب، وأبو محمد بن خيران.
قال ابن أبي ديلم: وكان جيد القريحة.
بداية علم حماس
قال ابن حارث: اختلف إلى سحنون في الصغر، فلما مات واظب على ابن عبدوس فانتفع به، فكان يعد من أفقه أصحابه، وأفقه أهل القيروان، عالماً، استاذاً حاذقاً بأصول علم مالك وأصحابه، جيد الكلام عليه، يحكي في معانيه ابن عبدوس، حتى لقد قال القائل: كان الاسم في ذلك الوقت ليحيى بن عمر، والفقه لحماس.    
وكان بعضهم يقول: لما دخل حماس حلقة محمد بن عبد الحكم، وابن عبد الحكم لا يعرفه، وتكلم حماس، فصرف إليه ابن عبد الحكم وجهه، ثم زاد في الكلام، ثم سأله ابن عبد الحكم عن مسألة من الجراح، فأجابه، ثم سأله عن أخرى فأجاب وجود، فقال ابن عبد الحكم: يمكن أن تكون حماس بن مروان؟ قال: نعم، فعاتبه إذ لم يقصد إليه. ثم قرّبه وأكرمه.
قال لقمان بن يوسف: لما قدم علينا يحيى بن عمر من المشرق أتاه بعض أصحابنا فقال له: إن لنا حلقة يجتمع فيها يوم الجمعة أصحابنا، فلو تفضلت وحضرتم فترى كيف هم؟ فجاء به - وأنا معه - يحيى إلى القوم، فأكرموه وجلس معهم، وفي القوم حماس بن مروان، وابن أبي فيروز، وسرور، وابن أخت جامع العطار. فأخذ محمد بن بسطام يسأل عن تفسيرات محمد بن عبدوس التي ألفها في الشفعة والقسم وأشباه ذلك، وحماس بن مروان يجاوب، وباقي القوم يتكلم كل واحد منهم بما تهيأ له، ويحيى بن عمر ساكت، فلما انقضى مجلسهم وقام يحيى بن عمر، سأله الرجل الذي جاء به: كيف رأيت - أصلحك الله - أصحابنا؟ فقال: ما تركت ببغداد من يتكلم في الفقه بمثل هذا الكلام.
توفي القاضي حماس رحمه الله سنة ثلاث وثلاثمائة هجرية عن عمر يناهز الواحد والثمانين سنة. فقد كانت ولادته سنة اثنتين وعشرين ومئة.
يتبع
===
الدولة العبيدية (الحلقة 14)
قتل وامتحان فقهاء المسلمين
الشهيد الزاهد محمد بن عبد الله السدري
محمد فاروق الإمام
كان أبو عبد الله محمد بن عبد الله السدري من العباد والزهاد البدلاء المريدين العاملين ينتحل التوكل، كثير الحج والأسفار والتغرب عن الأوطان.
ذكره أبو القاسم إبراهيم السيطوسي، فأثنى عليه خيراً، وكان قد صحبه طويلاً بالمشرق وقال: انتهت صحبتي معه إلى أن صعدنا الطور فلما انتهينا إلى الموضع الذي قيل إن الله تعالى كلم فيه موسى عليه السلام خرَّ صعقاً فاستعنت بمن بالموضع على حمله وإنزاله وأقام مغشياً عليه باقي يومه وليلته.
جهاد أبو عبد الله ومقتله
لقد بايع أبو عبد الله على جهاد عبيد الله و (زداجة) - قبيلة بربرية ناصرت عبيد الله المهدي - فبلغ عبيد الله خبره فأمر بطلبه، فقيل له هو في ناحية باجة، فوجه في طلبه خيلاً فوجدوه واحتاطوا به، فلما جن الليل قرن قدميه فهو قائم بين يدي الله عز وجل حتى انصدع الفجر، فرجع أصحاب الخيل بعضهم على بعض وقالوا: هذا رجل من أولياء الله عز وجل نعين على قتله ولا يدخل أيدينا من ذلك شيء إلا الآثام والأوزار، الرأي أن نخليه ونقول ما وجدناه فخلوا سبيله ورجعوا فقالوا: ما أصبناه ولا وقعنا على خبره.
ومضى أبو عبد الله - بعد أن نجّاه الله من عساكر بني عبيد - إلى مكة المكرمة فأقام بها.
وبينما هو يطوف حول الكعبة التقى رجل أخذ بيده بعد انقضاء طوافه، وقال: والله لا قتلني إلا عيد، فذكر في رواية: أنه كان لعبيد الله بمكة عين تكاتبه بكل ما يجري بمكة في الموسم، فكاتبه بخبر السدري واستنفاره الناس عليه. وكان السدري يسأل ربه عز وجل في الشهادة فرأى في منامه كأن قائلا يقول له: إن أردت أن تنال الشهادة فارجع إلى المغرب تنلها.
ورأى الشيخ المجاهد الذي تطيب نفسه إلى الشهادة مثل ذلك مراراً كثيرة، فلما كثر عليه ذلك أفل عائدا إلى المغرب ممني النفس بأن يفوز بالشهادة.
وكانت عيون ابن المهدي ودعاته تكاتبه بأخبار السدري حتى وصل إلى الساحل، فبلغ عبيد الله وصوله، فأرسل في طلبه البريد - وكان نازلاً عند رجل من إخوانه الصالحين - فخرج من عنده وخرج الرجل الذي كان السدري نازلاً عنده يشيعه - وكان أشبه الناس به - فلما سار عن المنزل قليلا عرض له حقن، فمال إلى ناحية وبقي صاحبه على الطريق فلقيه البرُد فلما رأوه قالوا له: أنت السدري؟ فقال لهم: نعم، فجعلوا في رجله قيداً وكبلوه وأركبوه دابة من دوابهم وساروا به إلى عبيد الله - لعنة الله عليه - وهم يحسبون أنه السدري، فأدركهم السدري. فلما قرب منهم أشار إليه صاحبه أن يذهب، فقال له: إني لهذا قدمت، ثم قال للبُرد: من تطلبون؟ فقالوا له: السدري، فقال لهم: أنا السدري وليس هو هذا. فأزالوا القيد من رجل الرجل وجعلوه في رجله وحملوه على الدابة ووصلوا به إليه.
فلما وقف بين يديه قال له عبيد الله اللعين: أنت الشاتم لنا الذاكر عنا أنا أحدثنا في الإسلام الحوادث؟ فقال له: نعم، أنا القائل ذلك. فقال له: وما الذي رأيته منا؟ فأخبره بكل ما يعتقده في الدين والإسلام وكل ما أحدث فيهما. فقال لهم اضربوا عنقه فأخرجوه ليضربوا عنقه، فلما قرب للقتل قال: اللهم لا تبقه بعدي. ثم قتل رحمه الله ليلقى وجه ربه بعد أن أدى الرسالة التي التزم بها طيلة حياته في الذَبِّ عن الإسلام والمنافحة عن السنة المطهرة ومجاهدة أهل الكفر والبدع والضلال. وكان مقتله رحمه الله سنة(309هـ/921م).   
واستجاب الله سبحانه وتعالى لدعوة السدري، فابتلي عبيد الله اللعين بعلة عظم فيها جسده وانتفخ حتى صار كالعِدْل وتفجّر بالدماء، فكان إذا ألقي عليه بالرقيق من الأردية الشرب صاح ثم رفع عينيه إلى السماء وشخص يقول:
أنمرود أنا؟ أفرعون أنا؟ أقارون أنا؟ إلى أن مات. خلد الله تعالى عليه ما هو فيه وبارك له في العذاب الذي صار إليه.
وذكر عن أبي عبد الله بن خراسان، أن أبا عبد الله السدري لما وصلوا به إلى المهدية أدخلوه على البغدادي فقال له: يا شيخ إن أمير المؤمنين كثير العفو فإذا دخلت عليه فاعط الإمارة حقها.
ثم قام ودخل على عبيد الله بعد أن شاور عليه، فأمر بدخوله، فدخل إلى مجلس فيه بساط من حرير وفروش، ثم عطف عليه البغدادي فقال له: إن أمير المؤمنين كثير العفو، فقال له السدري: أتكذب عليه في وجهه؟ فقال له عبيد الله: كيف كذب يا شيخ؟ قال: سماك بأمير المؤمنين ولو كنت أمير المؤمنين ما أمرت بسب السلف وأظهرت الخمر والقبالات والمراصد. قال عبيد الله: احبسوه فما زال الصالحون يدخلون على الملوك ويعظونهم؟ فقالوا له: هذا يكون جرأة عليك واستخفافاً بالسلطنة، فقال: اضربوا عنقه، فهم خارجون به وهو يضحك، فقال له عبيد الله: ما الذي أضحك؟ فقال: تعجبت من حلم الله عز وجل فيك. فأتوا به عند النخل ليقتلوه فهرب العسكر كله فلم يجدوا أحداً يقتله فأخذوا رومياً سقوه خمراً حتى سكر فقتله ثم صلبه، فلما كان الليل انفتح باب في السماء ونزل عمود من نور من السماء. فوقع الصياح، فطلع عبيد الله على قصره فرأى نوراً على خشبته أضاءت منه الأرض فأمر في الوقت من فتح باب المدينة وأنزله من خشبته ودفنه.
وقيل إنه لما أخرج من السجن ليقتل ضربه السجان للوجه. فقال له: قطع الله يديك ورجليك، فلما أتي به إلى الرملة قال لهم: لا تقتلوني إلا بالسيف ياعبدة الطاغوت، فضربه أسود بالرمح فقال له: فيك وفي نبيك، فقتل بالرماح، ونقب السجن تلك الليلة فخرج منه ثلاثة عشر رجلا، فلما أصبح الصبح قطعت يدا السجان ورجلاه وأجاب الله تعالى دعوة الرجل الصالح.
وافتخر الذي قتله، فقام إليه إنسان منهم فضربه ضربة رمى بذراعه مع كتفه.
وعن عبد الله بن خراسان قال: رأيته في اليوم الذي خرج به للقتل وقد تغير لونه وعلاه خوف ثم سقط على وجهه إلى الأرض، فنظرت إلى لونه وقد حسن واستبشر وجهه، وجعل يسير مسرعا، ثم قتل. فلما كان الليل رأيته في منامي فقلت له: يا أبا عبد الله، قال: لبيك. قلت: رأيتك في حين خروجهم بك متغير الون خائفا من الموت، قال: نعم قد كان ذلك، قلت له: ثم رأيتك وقد سقطت ثم قمت وقد حسن لونك واستبشر وجهك ثم سرت مسرعاً، قال: نعم. لما سقطت سمعت قائلاً يقول: يا سيدي أتكره لقاء الله عز وجل؟ قال: فأزال الله تعالى ما كان بقلبي وسارعت إلى ما رضيه الله عز وجل لي.
وقيل: إنه لما سجن رأى في المنام كأنه أتي بقطعة من شهد فتحساها فأصبح، فحكاها لمن حضره، فقال له رجل منهم: هذه شهادة أتتك، فما أضحى نهار ذلك اليوم حتى قتل رحمه الله، فلما قُدِّمَ للقتل كأنه جزع، فقيل له: أتكره القدوم على الله عز وجل؟ فوثب كأنه نشط من عقال، وهو يقول: لبيك لبيك… حتى قتل رحمه الله.
ولما بلغ مروان المتعبد قتل السدري بلغ منه مبلغاً عظيماً وداخله وله. وقيل لمروان: سألناك بالله هل خفت هؤلاء القوم، يريد بني عبيد الله؟ فقال: ما خفتهم إلا مرة واحدة لما قتلوا السدري.
وقتل مع السدري في ذلك اليوم أبو القاسم بن مفرج وصلب برملة المهدية.
يتبع
===
الدولة العبيدية (الحلقة 15)
قتل وامتحان فقهاء المسلمين
فقيه إفريقية أحمد بن نصر بن زياد الهواري
محمد فاروق الإمام
العالم المتقدم بأصول العلم، الحاذق بالمناظرة فيه، الحسن الحفظ، الفقيه الصدر، الجيد القريحة، الحسن الكلام في علم الفرائض والوثائق، الصحيح المذهب، الشديد التواضع، السليم القلب.
كان لا ينظر ولا يتصرف في شيء من العلم غير مذهب مالك، فإذا تكلم فيه، كان فائقاً راسخاً حاضر الجواب. 
كان علمه في صدره، من الفقهاء المبرزين، والحفاظ المعدودين، لا يدانيه في ذلك أحد في زمانه.
قال الشيخ أبو الحسن القابسي رحمه الله: نزلت بالقيروان مسألة، وذلك أن امرأة سقت زوجها شيئاً فجذمته فاضطرب علماء القيروان فيها، فسئل عنها أحمد بن نصر، فقال لهم: المسألة في المدونة، فقالوا له: أين هي؟ فقال لهم: قال مالك رحمه الله: في كتاب الجراح في السن إذا ضربها رجل فاسودت أو اخضرت فقد تم عقلها ووجبت فيها الدية. لأن السن إنما يراد منها بياضها وجمالها فإذا ضربت فاسودت أو اخضرت فقد ذهب جمالها ووجبت فيها الدية وكذلك الإنسان إنما أريد منه جماله وحسنه فإذا تجزم ذهب حسنه فوجبت فيه الدية، فإن قتل بعد ذلك ففيه دية أخرى وكذلك السن أيضاً.
وقال: ذكر أن قاضياً كان في زمن أحمد بن نصر كانت له أحكام خطأ فكان أحمد ينبه على خطئه ويتكلم في أحكامه، فدخل القاضي على عبيد الله فقال: هاهنا رجل من البربر مطاع وله ذكر ونحن لا نأمنه - وكان يتوقع أمر أبي يزيد الخارجي - فوجه وراءه وسجنه وقيده، وكان يعتريه الإسهال، فلما جعل القيد في رجله دعا الله عز وجل أن لا يبتليه في السجن بالاختلاف فارتفع عنه الإسهال طول إقامته في السجن.
فلما تبين لعبيد الله أنه ليس قبله شيء مما رمي به أمر بإخراجه فلما وصل إلى داره عاد إليه الإسهال. أقام في السجن تسعة أشهر ثم سعى أبو سعيد الضيف عند عبيد الله في إطلاقه فأطلقه.
قال رحمه الله: حبست في بيت الدم مع السُراق وأصحاب الدماء وكنت أخرج في كل جمعة يفتقد قيدي، أقمت على هذا شهرين ثم أخرجت بعد ذلك من ذلك البيت إلى الموضع الذي يحبس فيه جميع الناس.
قال: ثم أخرج قدمه وضرب بيده عليه قال: وجعل الحبل فيه شهرين على غير ذنب ولا جناية، والله ما سرقت ولا زنيت ولا كان ذلك إلا على محبة صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم.
قال تميم بن خيران الموثق: أتى رجل إلى أبي جعفر أحمد بن نصر فقال له: أصلحك الله جئت أشاورك في شيء؟ فقال له: ما هو؟ فقال له: لي ولد وليس لي غيره، وقد خطب إلى قوم فقالوا له: إن أعطاك والدك داره زوجناك وإلا فلا، وهي - أصلحك الله - دار شريفة لها قدر. فقال له أحمد: لا تفعل، فمضى الرجل فاطرح كلام الشيخ وكتب الدار لولده وتزوج إلى القوم الذين خطب إليهم، فما كان إلا مدة يسيرة حتى أقبل الأب إلى أبي جعفر وشكا إليه ما هو فيه من الحاجة وشدة الفقر، فقال له أحمد بن نصر: قد نهيتك فلم ركبت ما نهيتك عنه. ثم أنشأ رحمه الله يقول:
    إذا احتاج البنون إلى أبيهم … أتوا بالبر والفضل الجزيـل
    وإن احتاج والدهم إليهم  … يقاسي الهم في الليل الطويل
    فأحسن والد لم يعط شيئاً  … وعاش بماله حتى الرحيـل
قال الشيخ أبو الحسن الفقيه ابن الفارسي رحمه الله: قال أحمد بن نصر: امرأة معها ألف دينار تُعطاك بدرهم واحد غالية، ثم أنشد:
    لا يعجبنك يا فتى … حسن فرش ومتكا
    إن للعرس فرحـة… بعدها النوح والبكا
قال الشيخ أبو الحسن: وكان أحمد بن نصر يقول: تزوجت امرأة حافظة لكتاب الله عز وجل وحفظت الموطأ، ولقد توفي لها ولد أكله السبع فلما بلغها ذلك، توضأت وجلست تقرأ، ولم تعبأ بما طرأ عليها، ولم تحزن، وعلى هذا كله مادام لي معها سرور ثلاثة أيام متوالية قط.
يتبع
===
الدولة العبيدية (الحلقة 16)
قتل وامتحان فقهاء المسلمين
قصة محنة أحمد بن نصر
محمد فاروق الإمام
قال ابن حارث: دارت على ابن نصر محنة من ابن أبي المنهال سنة (308هـ/920م) وذلك أن ابن نصر كان يجلس في مسجد رحبة القرشيين، وكان يجلس إليه من أتاه. فخطر به صاحب المحرس يوماً ومعه بعض المشارقة، فاستعظموا جلوسه واجتماع الناس حوله، فوكل صاحب المحرس عليه وعلى من كان معه الشرط، وسار إلى علي بن إسحاق الطبيب(1) فأعلمه بخبره - وكان يخلف صاحب القيروان إذ ذاك - فأبى أن ينظر في أمره. فسار إلى ابن أبي المنهال، فأرسل إليه جماعة من العدول فوقفوا عليه، ثم أمر به إلى السجن من غير أن يدخله إلى نفسه، وأوصل من كان معه إلى نفسه واستنطقهم رجلاً رجلاً، ثم كتب بخبرهم إلى عبيد الله. فأعرض عبيد الله عن خبرهم. فبقي في السجن حتى عنى به أبو سعيد الضيف، فأمر بإطلاقه. فلزم بيته حتى مات.
توفي الفقيه الجليل أحمد بن نصر رحمه الله في ربيع الآخر من سنة (317هـ/929م). وكان مولده سنة (235هـ/849م). وصلى عليه أبو ميسرة الفقيه سراً في داره، في جماعة من أصحابه، خوفاً ممن يصلي عليه من قضاة الوقت، فلما خرج به، وكفاه الله ذلك، أعاد الصلاة عليه مرة ثانية.
الفقيه الشهيد
أبو الفضل عباس بن عيسى بن عباس الممسي
في رجب الخير من عام (333هـ/941م) صعدت روح الفقيه الشهيد أبو الفضل عباس بن عيسى بن عباس الممسي إلى ربها تشتكي بني عبيد ظلمها وجورها وانحرافها وابتداعها، ترافقها أرواح خمسة وثمانين فاضل خيّر، سقطوا وهم ينافحون عن الإسلام ويذبّون عن السنة المطهرة في حرب بني عبيد لعنهم الله مع أبي يزيد الخارجي. التقوا بالوادي المالح فقتل في التحام القتال، ولم توجد له جثة.
كان الشهيد أبو الفضل فاضلاً، عالماً، صوّاماً، قواماً، وكان معه ورع كثير، وكان أبو إسحاق السبائي يحبه محبة عظيمة خارجة عن محبة من سواه.
===
الدولة العبيدية (الحلقة 17)
قتل وامتحان فقهاء المسلمين
مؤرخ إفريقية ومحدثها
أبو العرب محمد بن أحمد بن تميم التميمي
محمد فاروق الإمام
عقد العزم على مجاهدة بني عبيد والخروج عليهم، في أيام أبي يزيد الخارجي، فعقد - كما يقول ابن سعيد الخراط - وفقهاء القيروان اجتماعاً في الجامع لهذا الغرض، والخروج مع أبي يزيد إلى المهدية، وكان من أعيان الفقهاء - إضافة إلى أبي العرب - أبي الفضل الممسي، وأبي سليمان ربيع بن سليمان القطان، وأبي عبد الملك مروان، وأبي إسحاق السبائي.
وتكلم الفقهاء في الخروج وتناظروا حتى قال أبو العرب: اسكتوا.. اسكتوا.. فسكت الناس، فقال: حدثني عيسى بن مسكين عن محمد بن عبد الله بن سنجر يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يكون في آخر الزمان قوم يسمون الرافضة فإن أدركتموهم فاقتلوهم فإنهم كفار)). فلما تم الحديث كبَّر الناس وارتفعت أصواتهم ثم خرجوا واعترضوا عند الجامع وفي السماط وعلى كثير منهم المصبغات وابن القصطيلة المغبّر يقرأ: (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه).
وتنادى الشيوخ بأجمعهم إلى باب أبي الربيع فضربوا أخبيتهم عند اليهودية ثم خرجوا.. ولما حاصروا المهدية سمع الناس على أبي العرب - في الموضع - كتابي الإمامة لمحمد بن سحنون رحمه الله، فقال أبو العرب عند ذلك: كتبت بيدي هذه ثلاثة آلاف كتاب وخمس مئة كتاب فو الله الذي لا إله إلا هو لقراءة هذين الكتابين علي في هذا الموضع أفضل عندي من جميع ما كتبت.
توفي الشيخ الفقيه المؤرخ رحمه الله في ذي القعدة سنة (333هـ/941م) بالقيروان ودفن بباب سلم. وصلى عليه أحمد بن أبي الوليد صاحب الصلاة والخطبة بعد أن قال لابنه ابي العباس: تقدم صل على أبيك، فقال: لا أفعل، هو أوصى أن تصلي عليه، فتحول إلى مروان وإلى أبي إسحاق السبائي فقال لهما: تقدما فصليا، فقالا له: أنت أحق، فصلى عليه جمع عظيم. وقيل: صلى عليه ولده.
وكان ابن أبي الوليد، صاحب الصلاة والخطبة في أيام أبي يزيد مبغضاً في بني عبيد كثير التنبيه على أحوالهم. لقد كان أبو العرب سليل أسرة عربية شهيرة بالقيروان، وجده تمام بن تميم أمير تونس هو الذي ثار على محمد بن مقاتل العكي بالقيروان سنة (183هـ/799م)، لسلوكه السيء وتصرفه الاستبدادي.
فقد أثار العكي بتصرفاته الحمقاء حفيظة الجيش وكبراء الأمة، فهجم عليه (تمام) هجمة مضرية بجيش من جنود الشام وخراسان، ودخل القيروان في 25 رمضان سنة (183هـ/799م)، وألحق بالعكي هزيمة شنعاء، وقد فرَّ على إثرها إلى طرابلس واستولى تمام على مقاليد الحكم دون أن تصله موافقة الخليفة العباسي، وتصدى لثورة تمام (إبراهيم بن الأغلب). حاكم الزاب، واسترد القيروان وأعاد العكي إليها من جديد. وقبض على تمام وسير إلى بغداد وتوفي مسجونا.
لقد كان لحياة الأسرة التميمية أثر كبير في تكوين شخصية أبي العرب، حيث اغترف العلوم على يد فقهاء أجلاء، كان من بينهم: شجرة، وسليمان بن عمران، وبكر بن حماد.
ولد أبو العرب بالقيروان بين سنة (250 و260هـ/864 و873م)، وتوجه إلى طلب العلم من نعومة أظافره، ويصور لنا رفضه لمقاليد الإمارة التي كان يعيشها أهله، وانصرافه إلى طلب العلم بقوله: أتيت يوماً وأنا حدث إلى دار محمد بن يحيى بن السلام فرأيت عنده الطلبة، ورأيت أمراً أعجبني، وركنت إليه نفسي، فعاودت الموضع، وكنت آتي إليه، والطرطور على رأسي، ونعلي أحمر في رجلي، في زي أبناء السلاطين.
وكان الطلبة ينقبضون مني من أجل ذلك الزي، فقال لي رجل يوماً بجواري: لا تتزيا بهذا الزي فليس هو زي طلبة العلم وأهله. وزهدني، فرجعت إلى أمي فقلت: نلبس الرداء وثياباً تشاكل لباس أهل العلم والتجار، فأبت عليَّ وقالت: إنما تكون مثل آبائك وأعمامك. فاحتلت حتى اشتريت ثياباً وجعلتها عند صباغ في باب أبي الربيع، فكنت إذا أتيت من القصر القديم أتيت بذلك الزي الذي تحبه أمي ووالدي، فإذا وصلت إلى باب أبي الربيع ودخلت حانوت الصباغ خلعتها ولبست الثياب الأخرى، فكنت كلما ترددت فعلت ذلك، ثم قال لي رجل من أصحابي: أراك تأتي هذا المجلس فتسمع فيه العلم ولا تكتب شيئاً مما تسمع يكون عندك، ما هذا حقيقة طالب العلم. فقلت له: والدي راغب عن هذا وعن المعونة عليه وما مكنني من شيء اشتري به الرق، فقال لي: أنا أعطيك جلداً تكتب لنفسك وتكتب لي جلداً عوضاً منه. فرضيت له بذلك فكنت اكتب لنفسي ما شئت وأكتب له في جلوده ما يحب حتى يسر الله عز وجل ما اشتريت به الرق وما قويت به في طلب العلم.
وكتب أبو العرب بيده ما ينوف على ثلاثة آلاف كتاب. وكان ضابطاً كثير التقيد لكتبه، عالماً بما فيها.
وكان يصنع الشعر ويجيده، فمن شعره قوله:
    إذا انقطع الصديق لغير عذر … فزاد الله خلته انقطاعـــا
    إلى يوم التناد بلا رجـوع  … فإن رام الرجوع فلا استطاعا
    إذا ولى أخوك قفاه عنـك … فول قفاك عنه وزده باعــا
    وناد وراءه يارب تمــم   … ولا تجعل لفرقته اجتماعــا

ويمدح المؤرخون عامة أبا العرب ويقولون عنه: إنه كان ثقة عالماً بالسند والرجال من أبصر أهل وقته بها، كثير الكتب حسن التقييد، وكانت له مكتبة تحتوي على ثلاثة آلاف وخمس مئة كتاب خطها بنفسه. واشتهر بين مواطنيه بأنه رافع لواء التاريخ بإفريقية. وألف ستة عشر كتابا في مختلف العلوم.
ويقال أنه أخذ عن مئة وخمسين مدرساً، وأخذ عنه تلامذة كثيرون.
توفي العالم المؤرخ محمد بن أحمد (أبو العرب) رحمه الله في الثاني والعشرين من ذي القعدة أو ذي الحجة سنة (333هـ/944م) ودفن بباب سلم بالقيروان.
يتبع
===




الدولة العبيدية (الحلقة 18)
قتل وامتحان فقهاء المسلمين
العابد الشهيد ربيع القطان ابن سليمان بن عطاء الله القرشي
محمد فاروق الإمام
استشهد وهو يجاهد بني عبيد في حصار المهدية يوم الإثنين من صفر (334هـ/945م) وهو ابن ست وأربعين سنة ، فقد عثر عليه مضرجاً بدمائه بالوادي المالح.
كان ربيع رحمه الله حافظاً لكتاب الله عز وجل، قارئاً له بالروايات عالماً بتفسيره ومعانيه وغريبه، حافظاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، عالماً بمعانيه وعلله وغريبه وأسماء رجاله وكناهم وقويهم وضعيفهم.
ثورة القيروان واستشهاد ربيع القطان
كان ربيع القطان رحمه الله قد تحقق عنده أنه لابد له من الشهادة، فكان ذلك يجري على لسانه، وإنما ذلك لرؤيا رآها.
قال أحمد بن سليمان: دخلت على أخي ربيع رحمه الله مرة فأصبته جالساً في البيت نصف النهار، وهو ساكت متفكر، فقلت له: مالي أراك يا أخي متفكراً؟ فقال لي: تفكرت في أمري وفيما يُراد بي، فقلت له: في ماذا؟ فقال لي: يُراد بي وبرأسي هذا أمر عظيم! فقلت له: وكيف ذلك؟ فقال لي: رأيت رؤيا لها مقدار عظيم. فقلت له: وما هي يا أخي - وأقسمت عليه -؟ قال: رأيت الحق جل ذكره في المنام فأمرني أن أدنو منه، فدنوت منه، فشرف موضعاً من رأسي وعظَّمه - وهو ما بين صدغي وأذني من الجانب الأيسر - وأشار بيده إلى ذلك المكان.
فكانت الوالدة رحمها الله تعالى سألته إذا حلق الحجَّام ذلك المكان أن تأخذ ما اجتمع فيه من الشعر، فاجتمع لنا من ذلك شيء كثير، فلما ماتت أوصت أن يدفن معها لتتبرك به فضرب في ذلك الموضع بالسيف حين جهاده لبني عبيد، فحصلت له الشهادة بتلك الضربة رحمه الله.
قال الحسن بن فتحون الخراز: قال ربيع: يا حسن ليدارن بهذا الرأس - وأشار إلى رأسه - فشاء الله تعالى أن دير برأسه بطرابلس.
وعُوتب ربيع القطان رحمه الله في خروجه مع أبي يزيد إلى حرب بني عبيد، فقال: وكيف لا أخرج وقد سمعت الكفر بأذني، فمن ذلك أني حضرت يوماً إشهاداً، وكان فيه جمع كثير، أهل سنة ومشارقة، وكان بالقرب مني أبو قضاعة الداعي، فأتى رجل مشرقي من أعظم المشارقة، فقام إليه رجل من المشارقة وقال له: إلى ها هنا يا سيدي ارتفع إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني أبا قضاعة، ويشير بيده إليه - فما أنكر أحد منهم شيئاً من هذا، فكيف يسعني أن أترك القيام عليهم؟
وروى بخطه رحمه الله قال: لما كان في رجب سنة (331هـ/942م) قام الصبي المكوكب يقذف الصحابة ويطعن على النبي صلى الله عليه وسلم، وعُلقت عظام رؤوس أكباش وحمير وغيرها على أبواب الحوانيت والدروب عليها قراطيس معلقة مكتوب فيها أسماء يعنون رؤوس الصحابة رضي الله عنهم، فلما رأى ذلك ربيع لم يسعه التأخر عن الخروج عليهم لمّا أن وجد رجلاً من أهل القبلة قام عليهم، وكذلك كان جميع الشيوخ يتأولون.
قال الشيخ الفقيه أبو بكر بن عبد الرحمن الخولاني: حدثنا أبو الحسن الفقيه رحمه الله قال: خرج الشيخ أبو إسحاق السبائي رحمه الله مع شيوخ إفريقية إلى حرب بني عدو الله مع أبي يزيد، فكان أبو إسحاق يقول - ويشير بيده إلى عسكر أبي يزيد - : هؤلاء من أهل القبلة، ويشير إلى عسكر بني عبيد الله ويقول: هؤلاء ليسوا من أهل القبلة، فعلينا أن نخرج مع هذا الذي من أهل القبلة لقتال من هو على غير القبلة وهم بنو عدو الله فإن ظفرنا بهم لم ندخل تحت طاعة أبي يزيد، لأنه خارجي، والله عز وجل يسلط عليه إماماً عادلاً فيخرجه من بين أظهرنا ويقطع أمره عنا.
وخرج مع ربيع من الفقهاء والعبّاد: أبو العرب بن تميم، وابو عبد الملك مروان بن نصرون، وأبو إسحاق السبائي، وأبو الفضل الممسي وجماعة من العراقيين.
وقيل لأبي الحسن بن الخلاف: ما الذي عاق أبا ميسرة عما فعل أصحابه؟ قال: ذهب بصره، ولكنه قد أخرج محمداً ابنه وقال: أدخلني الله تعالى في شفاعة أسود رمى على هؤلاء القوم حجراً - وشهق الشيخ أبو الحسن بالبكاء - فقيل لأبي الحسن: إن أبا سعيد بن اخي هشام لم يخرج؟ فقال: قد شهر أبو سعيد السيف وحمله على عاتقه مصلتاً، وهذا غاية في أنه يقول بقول الشيوخ في الخروج عليهم، فقال له بعض من حضر: كان أبو سعيد يذكر أن الجبن منعه من حضور الحرب.
ويذكر أن أبا الفضل الممسي تكلم في أمر الجهاد للمشارقة مع الشيوخ، وكان من بعض خطابه أن قال لهم: إن كنتم تعزمون عزيمة رجل واحد وتجتهدون في هذا الأمر فإني لا أضن بنفسي عنكم. فقال له أبو إسحاق السبائي: جازاك الله يا أبا الفضل عن الإسلام وأهله خيراً، أي والله نشمر ونجد في قتال اللعين المبدل للدين، فلعلَّ الله أن يكفِّر عنا بجهادنا تفريطنا وتقصيرنا عما يجب علينا من جهادهم، فكلمهم أبو الفضل واحداً واحداً، فقال ربيع القطان أنا أول من يشرع في هذا الأمر ويخرج فيه، ويندب الناس إليه ويحضهم عليه.  
وتسارع جميع الفقهاء والعبّاد، فلما كان الغد خرج أبو العرب وخرج جميع الفقهاء ووجوه التجار إلى المصلى بالسلاح الشاكّ والعدة العجيبة التي لم ير مثلها، وضاق بهم الفضاء.
وتواعد الناس أن ينظروا في الزاد وآلة السفر إلى يوم السبت، وذلك يوم الاثنين،وركب بعض الشيوخ إلى الجامع بالسلاح، وشقوا سماط القيروان، وزادوا في استنهاض الناس.
فلما كان يوم الجمعة اجتمعوا في الجامع، وركبوا بالسلاح الكامل، وعملوا البنود والطبول، وأتوا بالبنود فركزوها قبالة باب النمسجد الجامع، وهو المعروف بالحدادين، وكانت سبعة بنود:
-بند أصفر لربيع القطان رحمه الله مكتوب عليه البسملة ومعها (لا إله إلا الله محمد رسول الله).
-وفي الثاني، وهو لربيع أصفر أيضا مكتوب عليه: (نصر من الله وفتح قريب).
-وفي الثالث، وهو أصغر، لأبي العرب: بعد البسملة: (قاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون).
-وفي الرابع، وهو بند أحمر، لعباس الممسي: (لا إله إلا الله محمد رسول الله).
-وفي الخامس، وهو بند أخضر، لمروان المتزهد، بعد البسملة: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين).
-وفي السادس، وهو بند أبيض، للسبائي، بعد البسملة: (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، (أبو بكر الصديق)، (عمر الفاروق).
-البند السابع، وكان لإبراهيم بن العمشاء، وكان أكبر البنود، لونه أبيض، فيه: (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا).
فلما اجتمع الناس وحضرت صلاة الجمعة طلع الإمام على المنبر، وهو أحمد بن محمد بن أبي الوليد - وكان الممسي هو الذي أشار به - وخطب خطبة أبلغ فيها، حرّض الناس على الجهاد وأعلمهم بما لهم فيه من الثواب، وتلا هذه الآية: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر) الآية . وقال:
يا أيها الناس جاهدوا من كفر بالله وزعم أنه رب من دون الله تعالى وغيَّر أحكام الله عز وجل وسب نبيه وأصحاب نبيه وازواج نبيه.
فبكى الناس بكاءً شديداً. وقال في خطبته:
اللهم إن هذا القرمطي الكافر الصنعاني المعروف بابن عبيد الله المدعي الربوبية من دون الله، جاحداً لنعمك، كافراً بربوبيتك، طاعناً على أنبيائك ورسلك، مكذباً لمحمد صلى الله عليه وسلم نبيك وخيرتك من خلقك، سابّاً لأصحاب نبيك وازواج نبيك، أمهات المؤمنين، سافكاً لدماء أمته، منتهكاً لمحارم أهل ملته، افتراءً عليك، واغتراراً بحلمك.
اللهم فالعنه لعناً وبيلاً، واخزه خزياً طويلاً، واغضب عليه بكرةً وأصيلا، واصله جهنم وساءت مصيرا، بعد أن تجعله في دنياه عبرة للسائلين، وأحاديث في الغابرين. وأهلك اللهم شيعته، وشتت كلمته، وفرق جماعته، واكسر شوكته، واشف صدور قوم مؤمنين منه.
ونزل فصلى الجمعة ركعتين وسلم. وقال: ألا إن الخروج غداً يوم السبت إن شاء الله تعالى.
وركب ربيع القطان فرسه وعليه آلة الحرب وفي عنقه المصحف وحوله جمع من الناس من أهل القيروان متأهبون معدون لجهاد أعداء الله، عليهم آلة الحرب، فنظر إليهم ربيع القطان، فسُر بهم وقال: الحمد لله الذي أحياني حتى أدركت عصابة من المؤمنين اجتمعوا لجهاد أعدائك، وإعزاز دينك، يا رب بأي عمل وبأي سبب وصلت إلى هذا؟ ثم أخذ في البكاء حتى جرت دموعه على لحيته، ثم قال لهم: والله لو رآكم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لسُر بكم. وقال في موطن آخر بعد أن أنصت الناس:
(يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين).
ثم تلا: (ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدؤوكم أول مرة اتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين. قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين. ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم). ثم أشار بيده وقال: اذكروا الله يذكركم، فكبَّر الناس، ومشى حتى بلغ الجامع، وأبو سعيد اين أخي هشام الفقيه تحت ركابه وفي يده سيف مسلط. فاستشهد ربيع القطان رحمه الله في قتال أعداء الله يوم الاثنين في صفر من سنة (334هـ/945م)، وكان بينه وبين أبي الفضل الممسي ستة أشهر. وقيل إنهما استشهدا في يوم واحد. وكان غرض المجوس بني عبيد لعنهم الله وشهوتهم أخذ ربيع حياً ليشتفوا منه. قال الشيخ الفقيه أبو الحسن بن القابسي رحمه الله: فلما تلاقوا في القتال أقبل ربيع وهو يطعن فيهم ويضرب وهم يتوقفون عن طعنه طمعاً أن يأخذوه حياً، فلما أثخنهم بالضرب والطعن حمل عليه جماعة منهم فقتلوه، وما ولى دبراً رحمه الله. واستشهد مع ربيع فضلاء وأئمة وعباد وصالحون. ذكر أبو القاسم اللبيدي رحمه الله قال: قال لنا الشيخ أبو الحسن علي بن محمد القابسي الفقيه رحمه الله أخبرنا شيوخنا الذين أدركناهم: أن الذين ماتوا في دار البحر بالمهدية من حين دخل عبيد الله إلى الآن أربعة آلاف رجل، في العذاب، ما بين عالم وعابد ورجل صالح. ولذلك يقول سهل الوراق رحمه الله:
ولقد رؤي لربيع رحمه الله بعد وفاته، رؤى كثيرة مما يدل على شهادته وصدق نيته.
يتبع
===
الدولة العبيدية (الحلقة 19)
قتل وامتحان فقهاء المسلمين
الشهيد محمد بن إسحاق الحبلي
محمد فاروق الإمام
قاضي برقة.. المعروف بابن خيرون.. كان فقيهاً صالحاً فاضلاً، عالماً نظّاراً، حسن الأخلاق سمحاً.
وليَّ قضاء برقة لإسماعيل، وكان ابن الكافي عاملاً عليها، فأتى إليه ابن الكافي فقال له: إن غداً العيد، فقال له: إن رئي الهلال الليلة كان ما قلت، وإن لم يُرَ لا أخرج لأنه لا يمكنني أن أفطر الناس يوماً من رمضان وأتقلد ذنوب الخلق، فقال له: بهذا وصل كتاب مولاي، فالتمس الناس الهلال تلك الليلة فلم يروه، فأصبح العامل إلى القاضي بالطبول والبنود وهيئة العيد، فقال له: لا والله، لا أخرج ولا أخطب ولا أصلي العيد ولا أتقلد أن أفطر الناس يوماً من رمضان ولو علقت بيدي.
ومضى ابن الكافي فجعل من يخطب ويصلي، وكتب بما جرى إلى مولاه السلطان إسماعيل.
فلما وصل إليه الخبر أمر برفعه إليه، فلما وصل قال له: إما أن تتصل بنا ونعفوا عنك أو نفعل بك ما قلت. فامتنع ابن خيرون من الدخول في دعوته، وقال: افعل ما شئت.
ونصب العبيدي لابن خيرون صارياً عند الباب الأخير من أبواب الجامع الذي يلي درب المهدي، وعلق بيده إليه في الشمس فأقام كذلك ضاحياً للشمس في شدة الحر يومه ذلك، فلما كان بالعشي مات رحمه الله.
مات ابن إسحاق الجبلي ولسانه خارج من العطش وهو يطلب من يسقيه الماء فلم يسق خوفاً من عامل البلد، وذلك في سنة (341هـ/1049م). فلما مات أخذوه رجال العبيدي وصلبوه بباب أبي الربيع رحمه الله، وكان الله عز وجل حسيب الظالمين والمنتقم منهم يوم الجزاء والدين.
القارئ المجاهد
أبو بكر يحيى بن خلفون المؤدب الهواري
كان من أقرأ أهل زمانه. وكان فاضلاً رحمه الله.
وكان قد ابتلي برجل مشرقي يقف بإزاء كتَّابه فيسب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لينكيه بذلك ويغيظه، فلما أكثر عليه من ذلك قال لصبيانه: إذا أقبل فأخبروني، فلما أقبل أخبروه، فقام فاستخف في زاوية من زوايا الكتَّاب وقال لهم: إذا وقف وسبَّ فابتدروه وأدخلوه الكتَّاب، فلما أقبل على العادة وثب عليه الصبيان، فأدخلوه الكتَّاب وجعلوا رجليه في الفلقة، فلما فعلوا ذلك قال لهم الهواري: ارفعوا أصواتكم بالقراءة، وقفوا بالباب وارفعوا ألواحكم، ففعل ذلك الصبيان وأقبلوا يصيحون لكيلا يعرف أحد بذلك، ثم ضربه المؤدب ضرباً عظيماً حتى أدماه وضربه الرأس والظهر، فلما أعيا وكلَّ قام إليه الصبيان فقالوا له: يا مؤدب قد نلت أنت سهمك من ضربه فدعنا نحن ننال من ضربه مثل مانلت أنت، فقال لهم: دونكم، فقاموا إليه فضربه كل واحد منهم ما قدر عليه، فلما لم يبق منه مفصل صحيح أخذوه بيد ورجل فرموه بالزقاق، فمرَّ به حّمال، فسأله، أن يحمله في القفة، فأتى الناس إلى الهواري فقالوا له: هو عند السلطان من حاله ومن شأنه كذا وكذا، فنخشى أن تمتحن على يديه، ولكن امض إلى فلانة الحرة،  ولا سيما ابنها عندك في الكتَّاب، فقال لهم: أحسنتم وأصبتم، فصاح بالصبي ولد الحرة وقال له: كلما أقول لأمك شيئاً فصدقني عليه، فقال: نعم.
فمضى المؤدب بعكازه إلى دار الحرة، فضرب الباب، وقال: الهواري، فخرج إليه والد الصبي فقال له: ما قصتك يا مؤدب؟ فقال له: الحرة لابد لي منها، فأذن له في الدخول، فدخل عليها، فقالت له: ما شأنك يا مؤدب؟ فقال لها: أتى فلان إلى كتَّابي فعارض الصبيان في الفساد، فإن كنت لم تصدقيني فيما قلت لك فسلي الصبي يخبرك، فقال الصبي: نعم سألني في الفساد، فقالت: هذا الفاعل الضائع عليَّ به،  فأُتي به إليها، فأخذ الهواري عصاه وأتى إليه فضربه برجله وقال له: أنا الهواري يا خنزير يا مشرقي.
محنة الهواري وجهاده
قال الشيخ أبو الحسن الفقيه رحمه الله: انتهى إلى أبي ذميم لعنه الله ما يتولى منه المؤدب الهواري من الشتم واللعن، فبعث في طلبه فوصل إليه صاحب المجوس، فدخل عليه وقال له: يا مؤدب، المعلم نصر يدعوك، فقال: من نصر؟ فقال له: السجّان. قال: فأردت التحيل في الانفلات فما وجدت، فأخذت قرقي وعصاي وإزاري ومضيت معه إلى سجن نصر، فأدخلوني فيه، وأتوا بي إلى غرفة في عتبتها حبل معلق، فقالوا: يا مؤدب، اطلع هنا، فقلت في نفسي: إنما أرادوا مني أن أتعلق بالحبل فينقطع بي فأسقط إلى الأرض، فأنكسر وأنا شيخ كبير، فجعلت يدي في العتبة وثرت، فصرت في الغرفة، فلما أن جلست دخل علي نصر وأعوانه ومعه قفة فيها الأنكال والأغلال، فقال: مدَّ رجليك يا مؤدب، فقلت: لماذا؟ فقال: أُمرنا بتقييدك، قال: فمددت رجلي، فلما أن قربت مني الأنكال دخل علي فتى جميل الوجه طيب الرائحة وقال: تنحوا عن الشيخ، وصاح عليهم، فقلت له: من تكون؟ فقال: أنا جوهر، فقلت له: أنت جوهر المذكور في مجالس العلماء والصالحين. وقلت في نفسي: باللعنة؟ فقال: نعم. فزالوا عني، ومضى بي، فأدخلني عند مؤدب ولده، ومضى يستأذن علي.
ثم أقبل فأخذ بيدي وأدخلني على ابن بادية، وهو معد، وكذلك كان يسميه المؤدب، فلما أن دخلت عليه في إيوانه وهو جالس على سرير ملكه ورأيته، أقبلت وأنا ألعنه وأدخلت يدي تحتي وأنا أعقد السفافل وأقول في نفسي: ابن بادية هذه في عينك، هذه في قلبك.
قال: فلما أن قُربت منه قال لي: يا مؤدب، بما استحققنا الشتم منك تشتمنا وتلعننا؟ قال: فقلت له: على ابن خيرون قرأته وتصاممت له، وأريته إنما سألني على من قرأت. قال: قال: فكرر علي الكلام ورفع صوته وقال لي: بلغنا أنك تشتمنا وتطعن علينا، فقلت له: القرآن قائل هذا، وحولت ظهري وقلت له: من ها هنا يؤخذ الحد، ولم يدر ما تحت ذلك. ثم أمر لي بعشرة دنانير وصرفني وقال لي: يا مؤدب لا تعود. قال: فقلت له: القرآن قلت لك القائل هذا. قال: فانصرف معي جوهر ودفع لي الدنانير. قال: فلما صرت في سقيفة القصر قام إلي البوابون وأرادوا أن يأخذوا مني مما أعطاني، فلما رأيتهم ضيقوا علي صحت: يا أبا الحسن جوهرا، فجرى إلي وقال لي: مالك يا مؤدب؟ وزجر البوابين عني، فخرجت بها.
قال الشيخ أبو الحسن الفقيه: فصر الدنانير في صرة وقال لنا: هذه إنما أخذتها لأستعين بها على هدم قصرهم نعطي لكل رجل ربع درهم. قال: فكان يسأل عن الصرف فإذا أخبروه أنه زاد ربع درهم فرح وقال: زادني في الهدّامين رجلاً، فلما أن توفي رحمه الله وجدت الصرة في صندوقه على حالها وعليها مكتوب: هذه دنانير أخذتها من ابن بادية تصرف أرباعاً ويعطى لكل رجل ربع درهم لهدم قصرهم. ولم يمس منها شيئا.
قال الشيخ أبو الحسن رحمه الله: وكنا يوماً في مسجد ابن خيرون ونحن نقرأ عليه حتى وثب قائماً وقال: قوموا معي، قال الشيخ أبو الحسن: فخرجت أنا وأبو الحسن ابن الجزري وأبو عبد الله بن الأندلسي ومن كان معنا، فوقف وقال: إذا قلت قولاً وفرغت منه فقولوا: آمين، ولا تختلف أصواتكم، فقلنا: نعم. فصاح بأعلى صوته وحول وجهه إلى جهة صيرة وقال: اللهم العن ذا الأمير الصنعاني. ثم قال: قولوا: آمين. قال: فعالجنا أن تتفق أصواتنا فلم نقدر، فنزق علينا، ثم قال: الهم العن ذا الأمير الديصاني فما اتفقت أصواتنا إلا عن جهد وشدة. قال: ثم أخذ عصاه وجاء إلى العمود الذي في المجنبة، فأقبل يطعن فيه بعصاه وهو يقول: ابن بادية هذه في قلبك، هذه في بطنك، هذه في عينك. قال: وهو في جهد حتى عرق عرقاً عظيماً، ثم دخل إلى المسجد فجلس وجلسنا حوله وهو يلهث ويقول: الحمد لله… الحمد لله…
قال الشيخ أبو الحسن: ومرض مرضة شديدة أشفى فيها على الموت. قال: فأريناه لابن الجزار الطبيب - وكان ابن الجزار على خلاف السنة - فلما رآه قال: ليس يغلّق الخمسة أبدا، هو ميت، فلما رجع الرسول من عنده قال له المؤدب: ما قال لك ابن الجزار؟ قال: فسكت الرسول. فقال له: أقال لك أني أموت من هذه العلة؟ فقال له: يا مؤدب لا تسأل عن هذا. قال: فقال لهم: اشتروا لي لحم بقري وباذنجان وقرعاً واعملوا لي سكباجاً محكماً، واشتروا لي خبزاً نقياً، فعملوا له ذلك، ثم أكل الجميع مع الخبز، ثم قال لهم:
دثروني، فدثروه، فعرق عرقاً عظيماً، فلما كان بعد العصر أفاق من غمرته ووجد الراحة فقال لهم: أعطوني قرقي وعصاي، فأعطوه ذلك، فمضى إلى دار ابن الجزار.
وأخبر بعض من كان جالسا عند ابن الجزار قال: بينما نحن جلوس معه تلك العشية حتى سمع حس قرق، قال: فوثب ابن الجزار وقال: هذا حس قرق الهواري وطلع الدرج وردَّ الباب على نفسه ووقف خلف الباب حتى طلع الهواري فقال: أين هذا الجزار ابن الجزار الذي يقطع في حكم الله عز وجل ويقطع علي بالموت؟ وحق هذه القبلة لو وجدته جالساً لجعلت عصاي هذه بين أذنيه، قولوا له: يا كذاب هذا أنا صحيح سوي، بهذه العصا أحارب الدجال ثم مضى.
وبقي هذا القارئ المجاهد يتحدى العبيديين إلى أن صعدت روحه إلى السماء تشكو ظلمهم، وذلك في سنة (347هـ/958م).
يتبع
===
الدولة العبيدية (الحلقة 19)
قتل وامتحان فقهاء المسلمين
العابد المجاهد أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد السبائي المتعبد
محمد فاروق الإمام
يوم الثلاثاء لثمان بقين من رجب من سنة (356هـ/966م) صعدت روح السبائي رحمه الله إلى الرفيق الأعلى. وصلى عليه أبو الحسن الدباغ وكان مولده سنة (270هـ/883م) . وأجداده من طرابلس.
كان أبو إسحاق وقّافاً عن الشبهات، مشهوراً بالعبادة، لا يدانيه أحد في ذلك من أهل وقته، شديد الغلظة على أهل البدع، كثير التنبيه على أحوالهم وزندقتهم، وثق بالله فحماه، وتوكل عليه فكفاه. وكان لا يُغتاب عنده أحد من المسلمين إلا مبتدع أو ملحد.
أبطأ عليه الرزق مرة، فقال في نفسه: امض فادخل فيما يدخل فيه الناس وتعرض للرزق فيما يمكنك. فخرج من موضعه إلى موضع يلتمس فيه الرزق، فسمع معلماً يقرأ في هذه الآية: (لقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين) فانتبه ورجع إلى بيته وجلس، فدخل عليه بعد ذلك رجل من إخوانه فقال له: هذا دينار فخذه سلفاً، فأخذه ومضى به إلى (الإبراهيمية) فاشترى به أبداناً، فكان يقصرها في داره على البئر، فكان يربح في البدن قيراطاً أو نحوه. فقام له من ذلك معاش كثير كما حدّث هو.
كان - كما يصفه أهل زمانه - ولياً لله عز وجل من الذين ينزل بدعائهم القطر، وتظهر عليهم البراهين والعجائب والكرامات بالدعاء والرقى.
ولقد كان من بالقيروان من أهل الدين والعلم إنما ينظرون إذا نزلت المعضلات إلى ما يفعل، إن أغلق بابه فعلوا مثله، وإن فتح بابه فتحوا أبوابهم،  وإن تكلم ونطق تكلموا مثل كلامه لتقدمه عندهم ومكانه من الفضل والعلم مع المعرفة بمحنة الوقت وكيف تلقى الحوادث.
صحب أبا جعفر أحمد بن نصر الفقيه، وأبا البش مطر بن يسار التونسي.
وكان من أصحابه أيضاً أحمد بن محمد بن عبد الرحمن القصري، وأخذ عنهم علماً كثيراً بكثرة ملازمتهم. وصحب الصالحين مثل ابن أبي المهزول، وأبي عبد الله محمد بن سهلون، معلم أبي إسحاق الجبنياني.
وكان السبائي شديد الأخذ على نفسه، شديد الورع. وكان أحد من عقد الخروج على بني عبيد الله. وكان الفقيه أبو محمد بن أبي زيد يصفه بكثرة الفضل والعقل ويقول: ما هذا الذي نحن فيه إلا من بركته ودعائه.
قال أبو الحسن الفقيه: ما انتفعت إلا بدعاء أبي إسحاق فإنه قال لي: أعلى الله تعالى قدرك في الدنيا والآخرة.
وقال أحمد بن نصر الفقيه: لا تعارضوا أبا إسحاق السبائي فلو وُزن إيمانه بإيمان أهل المغرب لرجحهم.
وسُئل أبو محمد بن أبي زيد فقيل له: أصلحك الله هل تعلم أحداً في أقطار الأرض يشبه أبا إسحاق السبائي؟ فقال: أما في إيمانه فما علمت أحداً يشبهه - يعني في وقته - .
قال أبو الحسن علي بن عبد الله القطان: ما قلدت أبا محمد بن أبي زيد حتى رأيت السبائي يقلده.
قال الأجدابي: بلغني عن بعض العلماء أنه كان يقول: بالقيروان رجلان يدعى كل واحد منهما باسم صاحبه وهما: أبو الحسن الدباغ، وأبو إسحاق السبائي.
ويقال: الدباغ عالم، وهو أولى بأن يسمى عابداً لكثرة حيائه وصمته وسكونه ولينه ووطائه وعلمه. وأبو إسحاق السبائي يسمى عابداً وهو أولى بأن يسمى عالماً لأنه كان يدري العلم ويعرفه ويتذاكر العلماء بحضرته وفي مجلسه، وهم: أبو محمد بن أبي زيد، وهو الملقي عليهم، وأبو القاسم ابن شبلون، وأبو الحسن القابسي، وسعيد بن إبراهيم، وغيرهم، كل من يعرف مسألة كان يحضر مجلسه. فإذا تنازعوا فصل بينهم بأمر يرجعون كلهم فيه إليه. وكانوا إذا نزل بهم أمر من المهمات يفزعون إليه ويستشيرونه في جميع أمورهم، وكان موفقاً، فهو أولى بأن يسمى عالماً من أبي الحسن الدباغ.
قال أبو الحسن الفقيه رحمه الله: وصل موت أبي إسحاق إلى مصر في تسعة عشر يوما لعظمه في صدور القوم ومحله من الإسلام. وكان لموته بمصر وجبة في قلوب أهل الجلالة من العلماء والصالحين. ولقد عزاني فيه كل جليل كأبي بكر محمد بن بكر النعالي الفقيه. وكانت حلقته تدور على سبعة عشر عموداً، لعظمها وكبرها. وكان النعالي يقول: لقد كان يطرقني ما يمنعني من النوم وأسهر عامّة ليلي إمّا لهم وغم، وإما لوجع فأكابد المعيشة في ليلي والتعب والسهر حتى إذا كان آخر الليل، وهو الوقت الذي كان يقوم فيه أبو إسحاق للتهجد، وكان قد أرسل لي وعقد لي على نفسه، أنه يذكرني ويدعو لي. فإذا جاء وقت ذكره إياي ألقيت علي الراحة وذهبت عني المشقة التي كنت أكابدها في أول الليل، وانتقلت إلى حال الراحة فأهدأ وأنام ويذهب عني الوجع أو التعب أو الهم الذي كنت مكروباً به من أول الليل إلى ذلك الوقت.
فهذا النعالي على جلالته كان يبيت في خفارته ويسكن إلى دعائه ويفرح بمودته وصداقته.
كان أبو إسحاق منزوياً عن الناس هارباً منهم، وكان أبو عبد الملك مروان في ذلك مشهوراً، فكان الناس يختلفون إليه ويزورونه، فهو الذي ستر على أبي إسحاق. فلما توفي انكشف أبو إسحاق فرجع الناس إليه. قال محمد ابن أخي مروان: لما أخبرت أبا إسحاق بموت عمي مروان قال: إنا لله وإنا إليه راجعون كشفني أبو عبد الملك.
ولما شغله الناس كان يقول: إذا كان الأمر هكذا فمتى يعمل الإنسان؟ قال: فكان يقول: هذا أمر قد نزل - يعني اختلاف الناس إليه - لا يزيله إلا الموت.
قال أبو عبد الله الأجدابي: قلت لأبي علي حسان بن محمد: هل خرج أبو إسحاق للصلاة على مروان ؟ فقال لي: ما علمت أنه خرج من باب داره متصرفاً من أيام أبي يزيد حتى توفي. بلى إنه كان يخلو في مسجد أبي الحكم قبل أن يعرف، أقام فيه عشرين سنة يخلو للعبادة.
قال ابو سعيد خلف القلاّل: قال لي الشيخ أبو إسحاق: افل لي كسائي، قال: ففليته، فوجدت فيه برغوثاً ميتاً، فقال لي: فلّيته ؟ قلت: نعم. وأخبرته بما وجدت فيه. فقال: ما مكناهم.
وكان إذا دخل في الصلاة لم يكن قلبه إلا فيها. قال علي بن حمود- وكان خصّيصا بأبي إسحاق- : دخلت يوما على أبي إسحاق في بيته فوجدته قائماً يصلي، فجلست ثم دخل شخص آخر فجلس إلى جنبي، قال: فلما سلم من صلاته أقبل علينا وقال: متى دخلتما؟ فقلنا له: منذ ساعة. قال: ما عرفت بكما في وقت دخولكما ولا رأيتكما إلا الساعة. قال أبو الحسن (علي بن حمود): إنما ذلك من شدة خوفه. وكان إذا أراد أن يتوضأ يتلو قوله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق) ثم يقول: نعم يارب.. نعم يارب.. ويكرر ذلك. ثم يغسل وجهه وذراعيه وهو تحت خوف عظيم ووله، يفعل ذلك في كل عضو حتى يفرغ من وضوئه.
وكان يحب سماع القرآن ممن له صوت حسن. قال الشيخ أبو الحسن (علي بن حمود): فعاتبت أبا القاسم ابن أخت الغساني (المقرئ) في قلة دخوله إليه، وأخذت بيده ومضيت به إلى دار أبي إسحاق فدخلنا عليه، فوجدنا عنده أبا القاسم الفزاري الشاعر، قال: فسلمنا على الشيخ وقلت له: هذا أبو القاسم جارك، ثم قلت له: يا أبا القاسم إقرأ، فقال: هيبة الشيخ تمنعني أن أقرأ ولكن اقرأ معي.
وعثرت لهذا الشاعر نفسه على قصيدة يمتدح بها المنصور العبيدي (إسماعيل بن محمد) المتوفي سنة (341هـ/952م) وهذا ما يؤكد قول الله جلت حكمته في الشعراء: (والشعراء يتبعهم الغاون ، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون) سورة الشعراء: الآيتين (224و225). يقول فيها:
قال الشيخ أبو الحسن: فابتدأ في سورة الواقعة، قال: وابتدأت معه بصوت منخفض، حتى انتهى إلى قوله عز وجل: (وكنتم أزواجاً ثلاثة) فرفع بها صوته وغلق عينيه وسكت أنا، ورجع فابتدأ من أول السورة، فعهدي بالشيخ أبي القاسم وقد انضم بعضه إلى بعض وهو يتنهد ويتأوه، وكأني أحس أن أضلاعه تجتلف، فقلت: الساعة يموت وندمت في مجيئي إليه، وطال علي تمام السورة، فما فرغ منها وأنا آمن على الشيخ، فقمنا وتركناه في غيبته تلك.
وكان ابن أخت الغساني هذا قوياً في الدين، قليل المبالاة بمن خالف الشريعة. لقد دخل النعمان إلى الجامع وهو جالس في حلقته، وإنسان يقرأ عليه.
فقالوا له: أصلحك الله النعمان دخل من الباب، فقال للذي يقرأ بين يديه: ارجع، ورفع صوته وهو يقول: (ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين) فتخيل النعمان في مشيته، فلما أراد الخروج قالوا له: أصلحك الله ها هوذا خارج، فقال للذي يقرأ بين يديه: مالك ارجع اعرف ما تقول وتقرأ، ورفع صوته وهو يقول: (وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به). فدهش النعمان وعثر في حصير من حصر الجامع ووقع على وجهه. وقام من سقطته وهو مدهوش، وأمر بخياطة حصر الجامع. فمن ذلك اليوم خيطت حصر الجامع.
محنة إبراهيم بن أحمد السبائي ومواقفه
حقد النعمان على أبي إسحاق فأمر بطلبه، وسجنه في حبس (الزيادية) مدة، فكان إذا قرأ في السجن اجتمع الناس في الأزقة خارج السجن، فخاف النعمان فأخرجه، فخرج أبو القاسم إلى الأندلس مهاجراً بدينه امتثالاً لقوله تعالى: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيما كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا) وقوله: (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة ومن يخرج من بيته مهجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفوراً رحيماً).
ووصل أبو القاسم إلى الأندلس وحط رحله عند أميرها الحكم، فرفع به وأدناه.
وذكر أن أبا القاسم قرأ عند الحكم أمير المؤمنين رحمه الله في إيوانه في سورة إبراهيم: (ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون). فلما انتهى إلى قوله عز وجل: (وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال) نزل الحكم من فوق سريره، وهو يبكي وينتحب، وجثا بين يديه.
وكان الحكم يقول: ليس أشتهي من دولة الشويعي إلا أربعة: أبو القاسم ابن أخت الغساني المقرئ، وابن الصيقل الشاعر، وابن الجزار الطبيب، وابن القصطلية المغبّر. فأما أبو القاسم ابن أخت الغساني وابن الصقيل فقد وصلا إليه وأقاما عنده حتى ماتا. وأما ابن القصطلية وابن الجزار فلم يصلا إليه.
رحم الله الشيخ العالم المجاهد السبائي وجزاه عن المسلمين كل خير وأسكنه فسيح جناته.
يتبع
===
الدولة العبيدية (الحلقة 20 والأخيرة)
قتل وامتحان فقهاء المسلمين
الشهيد الزاهد محمد بن أحمد بن سهل بن نصر الرملي ابن النابلسي
محمد فاروق الإمام
العبد الصالح الزاهد. كان يرى قتال المغاربة (العبيديين) واجباً، وكان يقول: لو أن معي عشرة أسهم لرميت تسعة في المغاربة وواحداً في الروم.
قال ابن الطحان: حدّث عن أبي جعفر محمد بن شيبان الرملي، وسعيد بن هاشم بن مرثد الطبراني، وعمر بن محمد بن سليمان العطار، وعثمان بن محمد بن علي بن جعفر، وأبي سعيد ابن الأعرابي.
وروى عنه تمام الرازي، وعبد الرحمن الميداني، وقال: الرجل الثقة الصدوق، وأبو الحسن الدارقطني.
وقال أبو ذر الهروي: أبو بكر النابلسي سجنه بنو عبيد وصلبوه على السنّة، وسمعت الدارقطني يذكره ويبكي ويقول: كان يقول وهو يسلخ: (كان ذلك في الكتاب مسطورا).
وقال أبو محمد الأكفاني: وفيها - يعني سنة 363هـ/973م - توفي العبد الصالح الزاهد أبو بكر محمد بن أحمد المعروف بابن النابلسي، وكان يرى قتال المغاربة ونهضهم واجباً. وكان قد هرب من (الرملة) إلى (دمشق) فقبض عليه الوالي بها أبو محمود الكتامي صاحب العزيز بدمشق وأخذه وحبسه في شهر رمضان وجعله في قفص خشب وحمله إلى مصر. فلما وصل إلى مصر قيل له: أنت الذي قلت: لو أن معي عشرة أسهم لرميت تسعة في المغاربة وواحداً في الروم؟ فاعترف بذلك وقال: قد قلته.
فأمر أبو تميم - المعز لدين الله - بسلخه فسلخ وحشي تبناً وصلب.
وكان من خبر أبي بكر بن النابلسي أن جوهراً القائد لما قدم إلى مصر وبنى القاهرة، جهز القائد جعفر بن فلاح لأخذ الشام فقاتل الحسن بن عبيد الله بن طغج بالرملة وأخذه، وعاثت عساكره فيما هنالك. وتوجه إلى دمشق فقاتله أهلها كما ذكر في خبره.
وقدم الحسن بن أحمد الأعصم القرمطي باستدعاء أهل دمشق له وصاروا في جملته فمضى إلى مصر فلما انهزم مضى القائد أبو محمود إبراهيم بن جعفر بن فلاح من قبل المعز لدين الله لأخذ دمشق وبها ظالم بن موهوب العقيلي.
وقد غلب أبا المنجي خليفة القرمطي وأخذ منه دمشق وسجنه هو وابنه وعدد من أصحاب القرامطة.
وصار النابلسي إلى دمشق فراراً من القائد أبي محمود عندما استولى عليها، وقد كان النابلسي قام بالرملة عند ورود القرمطي ودعا إلى قتال المعز. فلما نزل ابو محمود على دمشق لثمان بقين من شهر رمضان سنة (363هـ/973م) قبض ظالم بن موهوب على النابلسي وأخرج به، ومعه أبو المنجى نائب القرمطي على دمشق وولده، إلى أبي محمود فعمل لكل واحد منهم قفص من خشب، وحملهم إلى المعز.
قال ابن زولاق في كتاب سيرة المعز لدين الله أبي تميم معد:
ولأربع خلون من ذي القعدة - يعني سنة 363هـ/973/ - وصل ابن النابلسي وأبو المنجى وابنه ونيف وعشرون رجلاً من القرامطة فطيف بهم على الإبل بالبرانس والقيود. وكان ابن النابلسي ببرنس مقيد على جمل وخلفه رجل يمسكه، والناس يسبونه ويشتمونه ويجرون برجله من فوق الجمل، واشتغلوا بسبه عن الذين كانوا معه. فلما فرغ التطواف وردوا إلى القصر، عدل بأبي المنجى وابنه ومن معهما من القرامطة إلى الاعتقال، وعدل بابن النابلسي إلى المنظرليسلخ. فلما علم بذلك رمى نفسه على حجارة ليموت، فرد وحمل على الجمل، فعاد ورمى نفسه فرد وشد وأسرع به إلى المنظر فسلخ وحشي جلده تبناً، ونصبت جثته وجلده على الخشب عند المنظر.
ويقول ابن الجوزي في منتظمه وهو يتحدث عن المعز أبي تميم:
أحضر يوما أبا بكر النابلسي الزاهد، وكان ينزل الأكواخ من أرض دمشق، فقال له: بلغنا أنك قلت: إذا كان مع الرجل المسلم عشرة أسهم وجب أن يرمي الروم سهماً واحداً، وفينا تسعة. فقال: ما قلت هكذا فظن أنه رجع عن قوله، فقال: كيف قلت؟ قال: قلت إذا كان معه عشرة وجب أن يرميكم بتسعة ويرمي العاشر فيكم أيضاً، فإنكم غيرتم الملة، وقتلتم الصالحين وادعيتم نور الإلهية، فأمر حينئذ أن يشهر، فشهر في اليوم الأول وضرب بالسياط في اليوم الثاني، وأخرج في اليوم الثالث فسلخ، سلخه رجل يهودي، وكان يقرأ القرآن ولا يتأوه. قال اليهودي: أيداخلني له رحمة فطعنت بالسكين في فؤاده حتى مات عاجلاً.
وحكى صاحب النابلسي قال: مضيت مستخفياً أول يوم فتراءيت له وهو يشهر، فقلت له: ما هذا؟ فقال: امتحان، فلما كان اليوم الثاني رأيته يضرب فقلت: ما هذا؟ فقال: كفارات. فلما أخرج في اليوم الثالث يسلخ، قلت: ما هذا؟ قال: أرجو أن تكون درجات.
وكان كافور الإخشيدي قد بعث إلى هذا النابلسي بمال فرده وقال للرسول: قل له قال الله: (إياك نعبد وإياك نستعين) والاستعانة به تكفي. فرد كافور الرسول إليه وقال له: اقرأ (له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى) فأين ذكر كافور هاهنا، وهل المال إلا له. فقال أبو بكر: كافور صوفي لا تمن، فقبله.
وروى الحافظ السلفي عن محمد بن علي الانطاكي قال: سمعت ابن الشعشاع المصري يقول: رأيت أبا بكر النابلسي بعدما قتل، في المنام وهو في أحسن هيئة، فقلت له: ما فعل الله بك؟ فقال:
    حباني مالكي بدوام عزَ … وواعدني بقرب الانتصــار
    وقرّبني وأدناني إليــه … وقال: انعم بعيش في جواري
وقال القرّاب عن الماليني: وكان - يعني النابلسي - نبيلاً جليلاً رئيس الرملة كثير الحديث، هرب إلى دمشق فأخذه، وسلخ وصلب بمصر.
رحم الله ابن النابلسي فقد فاقت شجاعته كل شجاعة وهو بحق يمكن أن يطلق عليه اسم (كبير الشهداء).
 
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف