الأخبار
الصحة بغزة: ارتفاع شهداء العدوان الإسرائيلي لأكثر من 35 ألفانتنياهو: لن نسمح للفلسطينيين بإقامة دولة إرهابية يمكنهم من خلالها مهاجمتنا بقوةوزير الخارجية الأمريكي: لا يمكن أن نترك فراغا في غزة لتملأه الفوضىالأردن: إحباط محاولة تهريب أسلحة إلى المملكةقيادي بحماس: مصر لن تتعاون مع الاحتلال ويدنا لا تزال ممدودة للتوصل إلى اتفاقاستشهاد شاب برصاص الاحتلال عند المدخل الشمالي لمدينة البيرةالفلسطينيون يحيون الذكرى الـ 76 لـ النكبةالاحتلال ينسحب من حي الزيتون بغزة مخلفاً دماراً هائلاً وشهداءالاحتلال يغلق مكاتب (الجزيرة) في الضفةالقسام تعلن مقتل 12 جنديا إسرائيلياً بجباليا شمال قطاع غزةأبو الغيط: الاستقرار الإقليمي يظل هشاً ما لم تحل القضية الفلسطينيةدبابات جيش الاحتلال الإسرائيلي تتوغل في أحياء سكنية شرق رفحالأمم المتحدة: أبلغنا الجيش الإسرائيلي بتحرك موظفينا الذين تم إطلاق النار عليهم برفحصحيفة: مصر تدرس تقليص علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيلالرئاسة الفلسطينية: اجتياح رفح خطأ كبير والإدارة الأمريكية تتحمل المسؤولية
2024/5/15
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

تفسير سورة المائدة

تاريخ النشر : 2012-08-22
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه والتابعين

الشبيبة الإسلامية المغربية
www.achabibah.com
[email protected]

الإخوة الكرام
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
عيد مبارك، جعله الله تعالى مغفرة ورحمة لكافة المؤمنين.
في إصدارنا الجديد:

تفسير سورة المائدة

لفضيلة الشيخ عبد الكريم مطيع الحمداوي المرشد العام للحركة الإسلامية المغربية

الحلقة الخامسة: إكمال الدين وإتمام النعمة


قال الله تعالى:﴿ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)﴾ المائدة



في ليلة شديدة الخوف تحت حصارِ تحالفِ المشركين ويهود، عند الخندق، يقول صلى الله عليه وسلم:(مَنْ رجل ينظر لنا ما فعل القوم؟ جعله الله رفيقي في الجنة)، يقول حذيفة:يشرط رسول الله صلى الله عليه وسلم الجنة والرجوع، فما قام منا أحد، ثم عاد يقول ذلك ثلاث مرات، وما قام رجل واحد من شدة الجوع والقر والخوف، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك لا يقوم أحد، دعاني فقال:(يا حذيفة)، قال حذيفة:"فلم أجد بدا من القيام حين فَوَّهَ باسمي، فجئته ولقلبي وَجَبَانٌ في صدري"، فقال: (تسمع كلامي منذ الليلة ولا تقوم؟)، ثم قال: (اذهب فانظر ما فعل القوم، ولا ترمِيَنَّ بسهم ولا بحجر ولا تطعن برمح ولا تضرِبَنَّ بسيف حتى ترجع إلي) فقلت:"يا رسول الله ما بي يقتلوني، ولكني أخاف أن يمثلوا بي"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس عليك بأس)، ثم انطلق حذيفة لما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

هذه الحالة التي عاشها المسلمون يومئذ من الخوف والترقب والجوع والقر، لا أبْلَغَ في وصفها من قول الحق سبحانه:﴿ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا﴾ الأحزاب 10/11.

وعندما حيل بين المسلمين وبين نسكهم يوم الحديبية وهم مكتئبون حزانى محبطون أنزل الله تعالى:﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ الفتح1/4 ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد أنزلت علىَّ آيةٌ أحب إلي من الدنيا جميعا).

وعند الإعداد لفتح مكة يراسل البدري حاطب بن أبي بلتعة سرا مشركي قريش محذرا، فيخبر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك، فيقول له:(ياحاطب، ما حملك على هذا؟)، فيقول حاطب:" يا رسول الله، أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله، ما غيرت ولا بدلت، ولكني كنت امرأ ليس لي في القوم من أصل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل، فصانعتهم عليهم". فيغضب عمر بن الخطاب ويقول:"يا رسول الله دعني فلأضرب عنقه، فإن الرجل نافق". إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يكفه قائلا:(وما يدريك يا عمر، لعل الله اطلع على أصحاب بدر يوم بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).

هذه ثلاث نماذج مما عاشه المسلمون الأوائل وهم يؤسسون مع نبيهم صلى الله عليه وسلم أول مثال وأكمله لأمة حملت أمانة الدين، وإمامة البشرية نحو مجد الدنيا والآخرة، كانوا بين خوف ورجاء وتضحية وفداء، وترقب عدو وجوع وفقر ولأواء.

واستمر الوحي الكريم يرعاهم ويصبرهم، يرفع معنوياتهم، ويرشد تصرفاتهم، ويزكيهم ويحررهم، ويسكن روعتهم، حتى إذا ما فتحت مكة وآذن الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالالتحاق بالملأ الأعلى كانت حجة الوداع ونزول آخر تشريعات من القرآن الكريم، فتم لهم بذلك الدين وكسرت شوكة الخوف وذل الشرك ودانت لهم العرب، ولم يبق مبرر للخوف على مال أو ولد أو أهل كما كان حال حاطب بن أبي بلتعة إذ خاف على ذوي رحمه، ولم يبق عذر لمداهنة في أمر الله أو تستر على دعوة للعقيدة أو كتمان للحق.

ولأن من طبيعة النفس البشرية أن تغفل عن النعمة إذا ما غمرتها فلا تذكرها إلا حين تفتقدها، وتستسلم للرخاء إذا عمها فلا تنهض إلا عند زواله، فقد كان من رحمة الله بالمسلمين أن ينبههم إلى ما أفاض عليهم من فضل القوة والتمكين وما هداهم إليه من كمال الدين، وما ائتمنهم عليه من إمامة للبشرية وما ناط بهم من شهادة في الدنيا والآخرة، إعدادا لما ينتظرهم في مرحلة ما بعد النبوة، واستنهاضا لاستلام مسؤولية الرسالة بعد غياب صاحبها، وتبليغها بعد وفاة رائدها صلى الله عليه وسلم، وذلك بقوله عز وجل لهم ولمن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة:

﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ وقد نزلت هذه الآية الكريمة في نفس يوم عرفة من حجة الوداع بعد العصر، وسرعان ما أيقن الرسول صلى الله عليه وسلم باختتام رسالته ودنو أجله، فكانت هِجِّيرَاه[[1]] من عصر ذلك اليوم إلى الغروب جوابا منه عليها قوله تعالى:﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ آل عمران 18.

أما لفظ ﴿الْيَوْمَ﴾ في هذه الآية فيعني يوم عرفة من حجة الوداع، وهو الذي ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبته يومئذ بقوله:(إن الزمان قد استدار كهيئتِهِ يومَ خلق الله السماوات والأرض)[[2]]، وهو اليوم الذي تم فيه بنزول سورة المائدة بناء الدولة الإسلامية عقيدة وشريعة ونظام تدبير عام متماسك، له قيمُه التي تحدد الحقوق والواجبات الفردية والجماعية، ومبادئُه التي تضع صفاتِ المواطنةِ الصالحة وشروط التعايش السليم الآمن، وتحدد الآليات الشوروية الخاصة باتخاذِ القرارات وبناءِ الأجهزة الخدمية التنفيذية، فتكامل بذلك التصور الإسلامي الذي يتوج مسيرة الإنسانية بالرشد، ويعيدها إلى الوضع السوي الذي تنبذ فيه ضلالات الاستبدادِ والتحكم والقهر، وإلى ما فطرت عليه يوم خلق الله السموات والأرض، وبَرَأَ آدمَ وذريتَه على أحسن تقويم. فكان حريا بالأمة في ذلك اليوم أن تبلغ مرتبة عالية من الثقة بربها وبمنهج دينها وتصورها الإيماني المستنير وبما أعدها به وله نبيها صلى الله عليه وسلم من حسن تربية وتعليم، ولذلك ربط الوحي الكريم بين هذا اليوم وبين ما ينبغي أن يكون عليه حال الأمة دائما إزاء عدوها بقوله عز وجل:

﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ﴾ وفعل﴿ يَئِسَ﴾ من اليأس، وهو انقطاع الرجاء والأمل، أي: إن ما بلغه المسلمون يومئذ من قوة الإيمان والعلم والعمل والثبات على الصراط المستقيم قد أيأس الكفار من أن يزحزحوهم عن عقيدتهم أو يشككوهم فيها، أو يحملوهم على تغيير دينهم ونقضه، أو النيل منه بتحريف أو نقص، أو يستدرجوهم لنسيان بعض أحكامه أو كتمانها أو المتاجرة بها كما فعل أهل الكتاب الذين بدلوا دينهم ﴿وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِه﴾ المائدة 13، وأبطل ما كانوا يتناجون به سرا وعلانية، ويرجون تحققه من انهيار لحركة الدعوة الإسلامية عند كل موطن من مواطن المحنة والبلاء، كما حدث يوم حنين إذ انكشف المسلمون فظنها المشركون الهزيمة، وأخرجوا ما في أنفسهم من الضغينة، وقال أحدهم:"لا تنتهى هزيمتهم دون البحر"، وقال آخر:"ألا بطل السحر اليوم"، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في نفس خطبة يوم عرفة: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ فِي بَلَدِكُمْ هَذَا وَلَكِنَّهُ قَدْ رَضِيَ مِنْكُمْ بِمَا دُونَ ذَلِكَ فِيمَا تَحْقِرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ فَاحْذَرُوهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ).

لقد أضفى الله تعالى على المسلمين في حجة الوداع من مصادر القوة والمنعة والإعداد النفسي والحركي والتشريعي ما يقوي زخم اندفاعهم نحو الغاية التي خلقوا من أجلها، تتولاهم وتسدد خطواتهم عناية الله تعالى ومعيته، توفيقا ونصرا وثقة واستعلاء إيمان، وإن أمة بهذه الصفات لجديرة بأن يخاطبها الحق سبحانه بقوله عقب ذلك:

﴿فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ﴾ أي لا تخافوا هؤلاء الأعداء المتربصين بكم، فأنتم أقوى منهم بعقيدتكم وولائكم لربكم وثقتكم بنصره لكم، أنتم أولى بالأمن منهم لأن الله معكم، وهم أولى بالخوف منكم لأن كيدهم من الشيطان وكيد الشيطان ضعيف، وقوتكم من الرحمن وهو القاهر فوق عباده، ومن كان هذا حاله فالأولى به الخوف من ربه وحده، قال تعالى:﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ النازعات41، والأجدر به الاستعلاء بإيمانه والاعتزاز بعقيدته، قال عز وجل:﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ آل عمران139.

ولئن كان هذا الخطاب موجها للمسلمين في حجة الوداع، فإنه في جوهره موجه للمسلمين كافة في كل عصر ومصر إلى قيام الساعة، إن تمسكوا بالحق وعملوا به وكان خوفهم من الله وحده لم ينل منهم عدو، وما هزائمهم في عصرنا هذا إلا بما نقضوا من العهود وما استحلوا من الحرمات، وما قطعوا من أواصر الأخوة الإيمانية، والإسلام يبقى في كل الأحوال محفوظا على رغم انخذال أهله، وقويا بمنهج ربه، له من يؤمن به ومن ينتصر له، لا تخلو أرض من رجاله ولا زمن من مجدديه، قال الحق سبحانه:﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ محمد 38، وقال صلى الله عليه وسلم:(لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة) وقال: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين).

ثم انتقل الوحي الكريم إلى ثلاث منن أخرى يمنها الحق سبحانه على المؤمنين بعد منة يأس الكفار من اضمحلال أمر الإسلام، أما أولاهن فقوله عز وجل:

﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ ولفظ أكملت من فعل كمل، والكاف واللام والميم أصل واحد يدل على تمام الشيء، والكَمال هو التمام القابل للتجزئة فتقول: نصفه وبعضه، وأكملتُ الشيء: أجملته وأتممته، والمعنى أن الله تعالى أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في هذا اليوم بتمام شرائع دينهم عقائد وعبادات وأحكاما وآدابا إلى يوم القيامة، قال ابن عباس :"﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ هو الإسلام، أخبر الله نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان، فلا يحتاجون إلى زيادة أبداً، وقد أتمه الله عز ذكره فلا ينقصه أبداً، وقد رضيه الله فلا يسخطه أبداً".

ولا شك أن الشريعة الإسلامية لم تنزل جملة واحدة كما قرر القرآن ذلك وبين حكمته بقوله تعالى:﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ الفرقان32، وإنما كان الابتداء في مكة بواجب الإتيان بالشهادتين، والإيمان بالبعث والجنة والنار وركعتين غدوة وركعتين عشية، والصبر على أذى المشركين والكف عن القتال، ثم في ليلة الإسراء والمعراج فرضت الصلوات الخمس كما ورد في حديث البخاري ومسلم، وبعد الهجرة فرض الجهاد والزكاة والصوم والحج تباعا، ثم في حجة الوداع سنة عشر من الهجرة نزلت آية إكمال الدين وإتمام النعمة في ثنايا سورة المائدة التي لم ينزل بعدها شيء من الأحكام، وتوفي صلى الله عليه وسلم بحوالي إحدى وثمانين ليلة في الثاني عشر من ربيع الأول على أرجح الروايات.

وليس المراد بإكمال الدين أنه كان ناقصا قبل حجة الوداع ثم أكمله تعالى، لأنه ما كان ناقصا أبدا، وإنما هو تام بالنسبة لكل مرحلة من مراحل نزول الوحي، مراعاة للتدرج في التربية والتعليم، ثم في حجة الوداع أتم الله إنزال شريعته وحكم ببقائها إلى يوم القيامة، والدين على ذلك كامل أبدا، بدأ كاملا إلى زمن مخصوص وفترة معلومة، ثم كمل وصار مؤبدا وصالحا لكل زمان ومكان.

وأما المنة الثانية فقوله تعالى:

﴿ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ والنعمة اسم جنس لكل فضل وعطاء وكرم من الله للناس في أمر دينهم ودنياهم مما يستوجب الحمد والشكر، وتمامها أنه تعالى أفاضها بدون نقص على المسلمين ما التزموا بمنهجه وتمسكوا بحبله، كما أن كمال الدين يعني أنه غير قابل للزيادة لقوله صلى الله عليه وسلم: (كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة)، فمن أحْسَنَ العمل بدينه وأُلْهِمَ رشْدَه وحِيزَتْ له كفايتُه وأوزَعَه الله الشكر وزُحزِح عن النار ودخل الجنة فقد كمل له الفضل وتمت له النعمة، قال الحق سبحانه:﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ النحل18، وقال:﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾ لقمان 20.

وأما المنة الثالثة فقوله تعالى:

﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ والأمر في كلمة﴿ وَرَضِيتُ﴾ أمر تكليف وإيجاب، وإنما عبر بها تلطفا بالمؤمن الذي بلغ شأوا عاليا من الإيمان والطاعة والحرص على مرضاة الله تعالى، لأنه عز وجل جعل الإسلام دينا للكون كله، فقال:﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾ الرعد 15، وقال:﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ 19 آل عمران، وقال:﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ آل عمران85.

إن هذا الدين الذي ارتضاه الحق سبحانه لعباده منذ خلق السماوات والأرض وما فيهن هو ما واثق به جميع الرسل والأنبياء، وإنما كان لحكمة من الله ينزل لكل قوم على لسان نبيهم، تبعا لما يحتاجون إليه من أمر دنياهم وآخرتهم، ويتكامل حسب الحاجة على تعاقب الرسالات، وهو في كل تلك الأحوال كامل بالنسبة لزمانه ومكانه وقومه، ثم ختمت النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم مبعوثا للناس كافة، أبيضهم وأسودهم وأحمرهم، ولم تبق حاجة إلى أحكام أخرى بعد سورة المائدة، ولم تبق للأمة حاجة إلى نبوة أخرى بعد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ الأحزاب 40.

وإن هذا الدين الذي اصطفاه الحق سبحانه لعباده واجتباهم له مُيَسَّر لمن آمن به، عقيدته سمحة واضحة لا لبس فيها ولا غموض، وشرائعه منزهة عن الظلم، ترعى حق الله وحق الناس وحق الجسد والمال والأهل والولد، وما يخل بها عند تنزيلها في واقع الحياة إلا إحدى آفتين، آفة الإفراط والغلو وآفة التفريط والتقصير، أولاهما تتجاوز بصاحبها حدود الأمر والنهي، والثانية تمنع صاحبها عن كمال الطاعة، والمرء في غنى عن ذلك كله، فما يريد به ربه تعالى إلا اليسر، قال تعالى:﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ البقرة 185، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الدين يُسْر، ولن يُشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غَلَبه، فسدِّدوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيءٍ من الدُّلْجَةِ)، وقال: (إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين)

ولئن كانت ظروف المؤمن تتقلب بين العافية والسقم والاختيار والاضطرار، واليسر والعسر والظعن والمقام والأمن والخوف، فإن الله تعالى قد ختم هذه الآية بجزئيها، جزئها المتعلق بالأحكام الشرعية العملية وجزئها المتعلق بكمال الدين وتمام النعمة، بنعمة شاملة أخرى خامسة، تخفف على المؤمن جميع ما ينتابه من حالات الشدة والضيق، وما يواجهه من نصب ومحنة وفتنة بقوله عز وجل:

﴿ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ ولفظ:﴿مَخْمَصَةٍ﴾ معناه المجاعة، من الخمص وهو ضمور البطن من الجوع، ولفظ:﴿مُتَجَانِفٍ﴾ من فعل:"جنف" عن الحق إذا مال عنه وجار في قول أو عمل، وجنف إلى الإثم آثره واختاره ومال له، وقوله تعالى:﴿ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ﴾ أي غير مائل للإثم أو متعمد له، ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ يغفر للمؤمن إثم تناول الطعام المحرم في حالة اضطراره إليه، إذا لم يستحله أو يتجاوز حاجته إليه، أو يأكله على سبيل التلذذ والاستطابة.

إن اضطرار المؤمن في الحياة محتمل الوقوع في أي لحظة يقدره الله تعالى عليه اختبارا وابتلاء أو رفع درجة أو تطهيرا من الذنوب، لذلك عمت آيات اللطف والرحمة والمغفرة والتخفيف كلتا مرحلتي مكة والمدينة: ففي مكة نزل قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ النحل 115، وقوله عز وجل:﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ الأنعام 145.

وفي المدينة نزل قوله سبحانه:﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ البقرة 173وقوله:﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ البقرة 185، وقوله: ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا﴾ الأنفال 66. ثم في حجة الوداع ختمت آية كمال الدين وإتمام النعمة بقوله عز وجل:﴿فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ فتمت نعمة الله تعالى على المؤمنين مغفرة ورحمة ويسرا.






_____

[1] - هِجِّيرَى الرجل: كلامُه، ودَأْبُه، وشأنُه.

[2]- عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجته فقال: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان) صحيح الألباني.
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف