الأخبار
أفضل وسطاء الفوركس لتعزيز تجربتك في تداول الذهبأولمرت يشن هجوماً على نتنياهو ويتهمه بالتخلي عن الأسرى الإسرائيليين وإطالة أمد الحربالبيت الأبيض: ندعم إسرائيل بالسلاح ونقدم مساعدات إنسانية لغزة.. ولا نرغب بحرب في لبنانالمتطرف بن غفير: سياستي حصول الأسرى الفلسطينيين على الحد الأدنى من الطعامتقرير: تكتيك حماس العسكري يحرم إسرائيل من النصرأردوغان: نتنياهو يسعى لشن حرب في لبنانأونروا: انهيار شبه كامل للقانون والنظام في غزةأردوغان يعلن دعمه لبنان ويستنكر الدعم الأوروبي لإسرائيلمؤسس موقع ويكيليكس "حر" بعد اتفاق مع القضاء الأميركيالاحتلال يغتال فادي الوادية أحد أعضاء (أطباء بلا حدود) بغزةسارة نتنياهو تتهم الجيش بمحاولة تنظيم انقلاب عسكري ضد زوجهاالأردن: لن ننظف وراء نتنياهو ولن نرسل قوات إلى قطاع غزةالقضاء الفرنسي يصدّق على مذكرة توقيف بحق بشار الأسد بشأن هجمات كيميائيةمهاجمة كلب إسرائيلي مسنة فلسطينية تشعل منصات التواصلثمانية شهداء على الأقل في قصف للاحتلال على شمال ووسط قطاع غزة
2024/6/27
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

توظيف التراث في شعر معين بسيسو, بقلم : أ. نادر ظاهر

تاريخ النشر : 2012-08-06
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى اله وأصحابه اجمعن ومن سار على هديه إلى يوم الدين .
أما بعد :
احتلت كلمة (تراث) في الثقافة العربية مكانة مرموقة وذلك ما للتراث العربي بكافة أشكاله وأنواعه من أهمية كبيرة , فهو ماضي الأمة العريق وأصالتها المشرقة , فقلما نجد إنسانا عربيا يتخلى عن تراثه ولا يفتخر به , لأن ذلك أمر ليس من شيمه , بل نجد أن العرب قد اهتموا بالتراث العربي اهتماما كبيرا , ووضعوه في ميزان حياتهم , وعملوا على توعية الأجيال الجديدة بعراقة هذا التراث , وكان من أهم وسائل الاهتمام بالتراث العربي العمل على توظيفه في الأدب روايتا ومسرحا وشعرا , ونظرا لاحتلال الشعر المكانة الأبرز بين سائر ألوان الأدب الأخرى ؛ فقد حظي الشعر العربي بشتى ألوان التراث , وأصبحت القصيدة العربية تتغنى بالتراث في أحضان أبياتها , بل ويمكن لنا القول بأن جمال القصيدة العربية أصبح يتوقف على قدرة استدعائها للتراث .
وبما أن الشعر الفلسطيني جزء لا يتجزأ من الشعر العربي فقد اعتنى هو الآخر بالتراث بشكل عام , وعمل على توظيفه مستخدما في ذلك وسائل متعددة لتتغنى القصيدة الفلسطينية بالتراث , فكل من محمود درويش وسميح القاسم واحمد دحبور ومعين بسيسو وغيرهم الكثير وظفوا التراث في قصائدهم توظيفا كبيرا , حتى أن القارئ العربي عندما يقرأ قصائدهم ويسبح في فضاء نصها ينتقل إلى حالة شعورية تجعله وكأنه يرى التراث مسطرا أمام عينه .
إن الشعر الفلسطيني يشوق أي باحث لتناول موضوع توظيف التراث فيه , ولكني أردت أن يكون بحثي أكثر عمقا وتفصيلا , وذلك من خلال إفراده لدراسة التراث في شعر احد الشعراء الفلسطينيين , وليس بشكل عام , وقد وقع اختياري على الشاعر الفلسطيني معين بسيسو بعد أن قمت بقراءة مجموعة من دواوين الشعراء الفلسطينيين , فوجدت في شعر معين بسيسو توظيفا كبيرا للتراث , كما أن شعره جذبني كثيرا لموضوع الدراسة لما في هذا الشعر أصالة وعراقة , فمعين بسيسو شاعر ثوري أمضى حياته في رفض القهر والعدوان المسلط على رقاب الشعب الفلسطيني.
ولا شك أن عملية توظيف التراث عملية ليست باليسيرة ؛ لأنها تعتمد على استدعاء النصوص التراثية الغائبة , وتضمينها في بنية النص الحاضر , ليحدث نوعا من التلاحم البنيوي بين كلا النصين , وهذا يتوقف بالطبع على اتساع الجانب المعرفي والثقافي بالتراث من ناحية , ومن ناحية أخرى يتوقف على مدى إمكانية امتلاك الشاعر لأدوات التوظيف المختلفة , والتي يظهر مدى توفرها عند الشاعر من خلال عملية تحليل وتذوق قصائده .
وبما أن هناك اختلاف على تحديد مفهوم التراث ومادته , فقد بدأت دراستي هذه بتمهيد تلاه ثلاثة فصول , اشتمل التمهيد على توضيح لمفهوم التراث قدر الإمكان , بالإضافة إلى أشكال هذا التراث ومصادره المختلفة التي نهل الشعراء المعاصرين بشكل عام من ينابيعه.
وقد جمعت في الفصل الأول كلا من التراثين الأسطوري والتاريخي , لوجود نقاط تلاقي بسيطة بينهما , حيث بدا الفصل الأول بالحديث عن مفهوم التراث الأسطوري , والفرق بين أنواعه المختلفة , ومن ثم عرض للقصائد الشعرية التي اشتملت على ذلك الموروث في شعر معين بسيسو , وفي المبحث الثاني تناولت الموروث التاريخي من حيث مفهومه وبيان كيفية استدعاء الشاعر لذلك الموروث , أما المبحث الثالث فكان بمثابة نقطة التلاقي بين هذين الموروثين فيما يسمى بالتراث التاريخسطوري مع تحليل نماذج شعرية اشتملت على هذا اللون التراثي .
أما الفصل الثاني فيرصد أشكال الناص الديني عند الشاعر , وقد عمدت إلى عدم تسمية الفصل بالتراث الديني نظرا لمكانة الدين الذي يحتل قلوبنا , لذلك من الأفضل ألا نطلق عليه مصطلح التراث , فالدين لم نرثه عن آبائنا بقدر ما نمتلكه في قلوبنا وأرواحنا , لذلك يبدو لي أن استخدام مصطلح التناص الديني أفضل من التراث الديني أفضل .
وقد تناول هذا الفصل رصدا للآيات القرآنية التي استدعاها الشاعر من القرآن الكريم , وكيفية توظيفه لها والتي كان للشاعر أهدافا من وراء ذلك الاستدعاء , كما انه كان للشخصيات الإسلامية اثر بارز في شعره , فقد تحدثت عنه في هذا الفصل وبينت أهداف الشاعر من استدعاء تلك الشخصيات العريقة , وفي نهاية هذا الفصل أشرت إلى أن الشاعر لم ينس الديانات الأخرى التي أعطاها نصيب من ذلك التوظيف .
أما الفصل الثالث والأخير فقد اشتمل على رصد القصائد التي ورد فيها كلا من التراث الأدبي والشعبي , فقد بدا الفصل بالتطرق إلى الشخصيات الأدبية العريقة في شعرنا العربي والعالمي أيضا , وكيف اقتدى بها معين بسيسو وجعلها عنصرا أساسيا في النص , لينطلق من خلالها إلى قضايا واقعه المرير .
أما النصوص الأدبية التي استوحاها شاعرنا فكانت عربية بحتة , وذلك للتوافق اللغوي فليس من المعقول أن يوظف الشاعر في قصيدته قصيدة أخرى من لغة أخرى على الرغم من إعجاب الشاعر بشعراء الغرب وتمجيده لهم .
وفي نهاية الفصل كان الحديث منصبا على التراث الشعبي , وخاصة الحكايات الشعبية التي استوحاها الشاعر من تراثنا العربي , كألف ليلية وليلة التي استدعى الشاعر الكثير من شخصياتها ومحورها في بنية النص الأدبي .
وفي الختام احمد الله رب العالمين على توفيقي في انجاز هذه الدراسة , وأتمنى أن تكون دراستي المتواضعة هذه قد قدمت شيئا يحمل بضعا من الفائدة لدارسي ومحبي الشعر الفلسطيني.


نادر ظاهر ...
‫‬
التمـهـيــد
معين بسيسو حياته وأعماله الأدبية .
مفهوم التراث ومصادره .
مفهوم التوظيف في الشعر العربي الحديث .
هو معين ابن توفيق بسيسو ولد في العاشر من شهر أكتوبر لعام ألف وتسعمائة وستة وعشرين في حي الشجاعية بمدينة غزة .
نشأ معين في هذا الحين الصغير , وقضى أيام طفولته فيه ؛ فأثرت الحياة البيئية التي عاشها تأثيرا كبيرا على حياته الأدبية , فقد نشأ في بيئة شعبية , وعاش سنوات عمره الأولى في أحضانها .
أحب معين بسيسو الشعراء منذ نعومة أظفاره , واقرأ العديد من القصائد التي ترجع لكبار الشعراء حتى دخل الشعر قلبه , فقد كان يقول : "في رمضان كانوا يحضرون شاعرا لكي يغني لهم سيرة (أبو زيد الهلالي) . كنت اجلس تحت النافذة وأصغي للشاعر حتى خيوط الفجر , وما أكثر ما كانت أمي تجدني ممدا تحت النافذة . من يومها أحببت الشاعر وأحببت ربابته".(*)
أنهى معين مرحلته الابتدائية , وانتقل إلى كلية غزة ليدرس المرحلة الإعدادية والثانوية فيها , وتخرج منها عام 1948 , وأثناء دراسته للمرحلة الثانوية بدا ينشر باكورة قصائده وهي بعنوان " الفلاح الفلسطيني " عام 1946 , وبعد أن أنهى معين مرحلته الثانوية انتقل إلى القاهرة ليدرس الصحافة في الجامعة الأمريكية فيها , وقبل تخرجه من الجامعة بأشهر قليلة اصدر أول ديوان له وهو بعنوان "المعركة" , وكان معين يلتقي بالعديد من الكتاب والأدباء والشعراء في مصر .
اتجه معين وجهة الفكر الشيوعي , وقام بالعديد من النشاطات السياسية , واعتقل في السجون المصرية مرتين : الأولى من 1955 إلى 1957 , والثانية من 1959 إلى1963 .
عاد معين بسيسو إلى ارض الوطن , وعمل مدرسا في أكثر من مدرسة في قطاع غزة , وفي مصر أيضا , وسافر إلى العديد من الدول العربية : كلبنان وتونس والعراق والجزائر وسوريا , وبدأت دواوين معين تصر الواحد تلو الآخر , كما كان لعمله المسرحي اثر كبير في توعية المواطن العربي بما يدور حوله .
انخرط معين في العمل الوطني وكان وطنيا شيوعيا وأصبح أمينا عاما للحزب الشيوعي في قطاع غزة .
عرف معين في حياته ما بين الصحفي والأديب , فقد كانت مشاركاته الصحفية ذات بصمة واضحة في الإعلام العربي , فقد كان يكتب الكثير من البرامج الإذاعية والتلفزيونية في جميع الدول العربي في سوريا ولبنان وغيرها .
وفي يوم 23/1/ 1948 سافر معين من تونس إلى الاتحاد السوفييتي لحضور إحدى مؤتمرات اتحاد كتاب آسيا , لكنه استراح في مدينة لندن انتظارا للطائرة التي سيسافر بها إلى موسكو , وفي احد فنادق لندن أصيب بأزمة قلبية حادة ليفارق الحياة عن عمر يناهز السابعة والخمسين , "ومن خلال التقرير الطبي تبين أن الإرهاق والتعب هما السبب الرئيسي في وفاته ودفن في مقبرة مدينة نصر في إحدى ضواحي القاهرة"(*) .
أعماله الشعرية
• المسافر (1952م).
• المعركة، أول دواوينه الشعرية دار الفن الحديث، القاهرة، 1952م).
• الأردن على الصليب (دار الفكر العربي، القاهرة، 1958م).
• قصائد مصريّة / بالاشتراك (دار الآداب، بيروت، 1960م).
• فلسطين في القلب (دار الآداب، بيروت، 1960م).
• مارد من السنابل (دار الكاتب العربي، القاهرة، 1967م).
• الأشجار تموت واقفة / شعر (دار الآداب، بيروت، 1964م).
• كرّاسة فلسطين (دار العودة، بيروت، 1966م).
• قصائد على زجاج النوافذ (1970م).
• جئت لأدعوك باسمك (وزارة الإعلام، بغداد، 1971م
• الآن خذي جسدي كيساً من رمل (فلسطين، بيروت، 1976م).
• القصيدة / قصيدة طويلة (دار ابن رشد، تونس، 1983م).
• الأعمال الشعرية الكاملة / مجلد واحد (دار العودة، بيروت، 1979م).
• آخر القراصنة من العصافير.
• حينما تُمطر الأحجار.
أعماله المسرحية
• مأساة جيفارا (دار الهلال، القاهرة، 1969م).
• ثورة الزنج (1970م).
• شمشون ودليلة (1970م).
• ثورة الزنج.
• الصخرة.
• العصافير تبني أعشاشها بين الأصابع.
• محاكمة كتاب كليلة ودمنة. (3)
أعماله النثرية
• مات الجبل، عاش الجبل (1976).
• نماذج من الرواية الإسرائيلية المعاصرة (القاهرة، 1970م).
• باجس أبو عطوان / قصة (فلسطين الثورة، بيروت، 1974م).
• دفاعاً عن البطل (دار العودة، بيروت، 1975م).
• البلدوزر / مقالات (مؤسسة الدراسات، 1975م).
• دفاتر فلسطينية / مذكرات (بيروت، 1978م).
• كتاب الأرض / رحلات (دار العودة، بيروت، 1979م).
• أدب القفز بالمظلات (القاهرة، 1972م).
• الاتحاد السوفيتي لي (موسكو، 1983م).
• 88 يوماً خلف متاريس بيروت (بيروت، 1985).
• عودة الطائر / قصة.
• وطن في القلب / شعر مترجم إلى الروسية - مختارات موسكو.
• يوميات غزة - غزة مقاومة دائمة (القاهرة) 1971. (*)

مفهوم التراث ومصادره :
مفهوم التراث :
وردت كلمة "تراث" بمعاني مختلفة في المعاجم العربية , وان كانت في النهاية لا تبتعد عن معناها الاصطلاحي , ففي الصحاح جاءت "الميراث أصله مِوْراثٌ، انقلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها.والتُراثُ أصل التاء فيه واو. تقول: وَرِثْتُ أبي، ووَرِثْتُ الشيءَ من أبي، أرِثُهُ بالكسر فيهما، وِرْثاً ووِراثَةً، الألف منقلبة من الواو، وَرِثَةً الهاء عوض من الواو.وتقول: أورثه الشيءَ أبوه، وهم وَرَثة فلان.ووَرَّثَهُ توريثاً، أي أدخله فيماله على ورثته. وتوارثوه كابراً عن كابرٍ." (*)
أما في مقاييس اللغة "فالواو والراء والثاء: كلمةٌ واحدة، هي الوِرْث. والميراث أصله الواو. وهو أن يكون الشّيءُ لقومٍ ثم يصيرَ إلى آخرين بنسبٍ أو سبب. قال:
ورِثْناهُنَّ عن آباءِ صدق ونُورِثُها إذا مُِتْنا بَنِينا"(*) .
ولا يبتعد المعنى الاصطلاحي للتراث كثيرا عن معناه اللغوي , فالتراث هو : " ما تراكم من خلال الأزمنة من عادات وتقاليد وتجارب وخبرات وفنون وعلوم في شعب من الشعوب , وهو جزء أساسي من قوامه الاجتماعي والإنساني والسياسي والتأريخي والخلقي "(*).
فمن خلال التعريف السابق يتضح أن التراث هو ما تركته الأجيال السابقة للأجيال اللاحقة في مختلف المجالات باعتباره موروث سابق فقط من وجهة نظر القدماء , أما في العصر الحديث فقد احتلت كلمة (تراث) مكانة كبيرة ليس على الصعيد الأدبي فقط بل على الصعيد الفكري والثقافي بشكل عام , فلم يعد التراث عبارة عن مخلفات سابقة تركها الآباء والأجداد , بل أصبح امتدادا للحضارة الفكرية والحياتية المعاصرة , فعملت الشعوب على الاستفادة من ذلك الموروث وتوظيفه في شتى مجالات الحياة .
مصادر التراث :
اختلفت وتنوعت مصادر التراث من حيث ماهيتها , وبرغم هذا الاختلاف إلا أن الأدباء نهلوا من جميع تلك المصادر , فمنهم من اهتم بالتراث الشعبي باعتباره التراث الذي يمثل ماضي الآباء والأجداد خير تمثيل , ومنهم من اهتم بالتراث الديني وخاصة الإسلامي باعتباره أساس كل امة مسلمة , ومنهم من اهتم بالتراث التاريخي بشكل عام وبشخصياته على وجه الخصوص , ومنهم من لم يرغب في الخروج عن إطار الأدب , فاهتم بالتراث الأدبي وأهم أدبائه , لذلك أرى انه لا بد من ذكر مصادر التراث المتنوعة والتي تشمل :
- التراث الأسطوري
- التراث التاريخي
- التراث الديني
- التراث الأدبي
- التراث الشعبي

مفهوم التوظيف في الشعر العربي الحديث
إن مصطلح توظيف التراث مصطلح جديد ظهر في العصر الحديث , والمقصود به أن يستلهم الشاعر من التراث ما يلاءم فكره وظروفه أو ظروف مجتمعه ويضمنها داخل النص الأدبي , فتوظيف الشخصية التراثية "يعني استخدامها استخداما تعبيريا لحمل بعد من إبعاد تجربة الشاعر المعاصر أي أنها تصبح وسيلة تعبير وإيحاء في يد الشاعر فهو يعبر من خلالها - أو "يعبر بها"- عن رأياه المعاصرة"(*) , فهو يعتبر الشخصية التراثية رمزا لشخصية معينة تؤثر في حياته أو حياة مجتمعه .
ولكن وجهات النظر النقدية تختلف من حيث طريقة تعامل الشاعر مع هذا الموروث ولكن يكاد يكون هناك "قدرا من الإجماع على أن للتراث وظيفة في الإبداع والمعرفة والسلوك , وان التعامل معه بوعي هو الذي يحقق الفائدة المرجوة"(*) .
على أية حال نستطيع القول بان اغلب الشعراء في العصر الحديث انكبوا على التراث ونظروا إليه نظرة جديدة تختلف عن نظرة السابقين له , فبعد أن كان الشاعر يتعامل مع التراث باعتباره جزءا من الماضي فقط لا يمكن تحويره , أصبح الشاعر في العصر الحديث "يرى في هذا التراث إمكانات تجدد لا تنفذ , تحيا وتخلد بالاختيار الدائم بينها , بالإضافة الدائمة إليها , وتبني ما يلاءم تجربة كل شاعر منها"(*) , أي انه "لم يقف منه موقفا محايدا أي لم ينسب التراث إلى ماضي منعزل عن الحاضر , أو إلى مصدر منفصل عن واقع العصر"(*) , فالتراث لا يناقض التطور , بل يعمل على إكمال دوره ويعطيه الحيوية والحركة للنهوض أكثر , والشاعر في تناوله لشخصيته التراثية لا يعمل على تصويرها كما هي , بل يرسم لنا صورة فنية لشخصية جديدة ويجعلها "شخصية تراثية معاصرة في نفس الوقت وذلك بان يختار من بين ملامح الشخصية التي يتناولها ما يتناسب وتجربته المعاصرة ثم يسقط أبعاد تجربته على هذه الملامح التي اختارها "(*) .
سنقتصر في هذه الدراسة في الفصول التالية على شعر معين بسيسو , وتحليل أشعاره لإظهار موهبة الشاعر وقدرته في توظيف التراث بشتى ألوانه , فقد اشتمل ديوانه على قصائد كثيرة حملت في باطنها ذلك الموروث , وربما باستطاعتنا القول إن اغلب شعر معين بسيسو وُظف فيه التراث , وان دل هذه الأمر على شيء فإنما يدل على اهتمام شاعرنا بالتراث فهو الذي قال : "نحن لسنا نباتا شيطانيا ينمو بعيدا عن كل ما في التراث من إبداع وحضارة وجمال وشجاعة ونبالة , تراثنا مليء بالبطولات ومليء بالمواقف الحضارية الكبيرة ولذلك يجب أن نستفيد من هذا التراث وان نوظفه"(*) .

الفصل الأول / التراث الأسطوري والتاريخي

توظيف الأساطير والخرافات .
توظيف الشخصيات التاريخية .
توظيف الأحداث التاريخسطورية .
وردت كلمة (أساطير) في لسان العرب "بمعنى الأباطيل وبمعني الأحدوثة فواحد الأساطير أُسْطُورَةٌ، كما قالوا أُحْدُوثَةٌ وأَحاديث , والأَساطِيرُ الأَباطِيلُ.
والأَساطِيرُ أَحاديثُ لا نظام لها، واحدتها إِسْطارٌ وإِسْطارَةٌ، بالكسر، وأُسْطِيرٌ وأُسْطِيرَةٌ وأُسْطُورٌ وأُسْطُورَةٌ"(*) .
لذا فإن الأسطورة عبارة عن قصص قديمة ترتبط ارتباطا وثيقا بالمعتقدات الدينية , فهي " بمثابة التعبير القولي عما يمارس عمليا في الطقوس القبلية"(*) , فالإنسان القديم كان يؤمن كثيرا بالغيبيات , وطالما أن الأسطورة ترتبط ارتباطا وثيقا بالغيبيات ؛ فقد "ترسخت الأسطورة في الإيمان الديني وطقوس العبادة وأسرار الوثنية وعبرت عن صمود الحياة إزاء العدم"(*) , وبالتالي لا بد من فهم المعتقدات القديمة حتى يسهل علينا فهم الأساطير , وذلك بسبب الارتباط الوثيق بينهما.
"والأسطورة لا مؤلف لها , ويتعين أن يكون أصلا غامضا إلى حد ما"(*) , كما تتميز الأسطورة بعمقها الفلسفي والفكري , وتكون الشخوص فيها عبارة عن آلهة أو نصف آلهة , أما الإنسان فهو مكمل لها لا أكثر , أي أن "جوهر الأسطورة هو الأحداث الخارقة للتي تصدر عن شخصيات لا وجود لها في الواقع التاريخي"(*) .
وتتناول الأسطورة الكثير من العلوم الإنسانية والفلسفية كالظواهر الطبيعية أو نشوء الكون والإنسان وغيرها من المواضيع , ومن أشهر الأساطير القديمة (اوزيس واوزوريس – حرب طروادة – بجماليون - بروميثيوس ..الخ ) .
وقد تنوعت الأساطير تبعا لاختلاف مضامينها فجاءت على النحو التالي :
1- الأساطير الطقوسية , وهي التي عنيت بالعبادة .
2- الأساطير التعليمية , وهي التي ظهرت بظهور فكرة وجود كائنات وراء الظواهر الطبيعية كالرعد والبركان والبرق .
3- الأساطير الرمزية , وهي مرحلة أكثر تعقيدا من المراحل التي قطعتها أساطير التقوس والتعليم .
4- التاريخسطورية , "وتتضمن عناصر تاريخية ومجموعة خوارق تأخذ إطار الحكاية وتنتقل بالتواتر من جيل إلى جيل"(*) .
أما التراث التاريخي , فهو كل ما يتعلق بالإنسان عبر التاريخ من وقائع وأحداث تاريخية , "فتلك الحوادث التاريخية التي حدثت ليست مجرد ظواهر تاريخية حدثت وانتهت بانتهاء الوجود الواقعي وإنما لها دلالاتها الشمولية الباقية القابلة للتجدد , وهي صالحة لان تتكرر من خلال مواقف جديدة , كما أنها قابلة لتحمل تأويلات جديدة وتلك الدلالات هي التي يستغلها الأديب المعاصر في التعبير عن بعض جوانب تجربته ليكسب تجربته لونا من العراقة والشمول"(*), "فدلالة البطولة في قائد معين أو دلالة النصر في كسب معركة معينة تظل – بعد انتهاء الوجود الواقعي لذلك القائد أو تلك المعركة – باقية , وصالحة لان تتكرر من خلال مواقف جديدة وأحداث جديدة , وهي في نفس الوقت قابلة لتحمل تأويلات جديدة وتفسيرات جديدة "(*).
ومن خلال قراءتي لشعر معين بسيسو لاحظت قدرة الشاعر على توظيف الأساطير والشخصيات التاريخية , كما وظف أحداث تقع ما بين التاريخ والأسطورة , وسأقوم برصد تلك القصائد كل قصيدة حسب موروثها .

أولا / توظيف الأساطير :
لقد حظيت الأسطورة بمكانة عظيمة في أدبنا العربي , وقد توفرت في الشعر الجاهلي أيضا , "ولكنها كانت بالطبع إشارات عابرة لا تمثل منهجا في توظيف الأسطورة"(*).
أما في أدبنا المعاصر العربي خاصة والعالمي عامة , فقد حظيت الأسطورة بمكانة عظيمة فيه , ويعتقد (نورثروب) "أن الشعر ولد من الأسطورة , فالأساطير هي التي شكلت مصدر انبثاق الأدب تاريخيا"(*) , وذلك بسبب التوافق الكامل بين الشعر والأسطورة " وقد انتهى هذا التوافق والتكامل بين الأسطورة والشعر إلى توفر النتاج الشعري في أشكال ملحمية يستمد منها الكثير من الشعراء العظام"(*) .
وتعتبر الأسطورة في أدبنا المعاصر على وجه الخصوص نموذجا هاما من نماذج توظيف التراث , فقد عمل الشعراء والأدباء بشكل عام على دمج الأسطورة في شعرهم وأدبهم لكي تكون بمثابة إنارة للقارئ , وذلك من خلال فتح الأبواب أمامه لتفهم الأسطورة وربطها بالواقع المعاش , وذلك لما في الأسطورة من أهمية كبيرة عند اعتبارها معادلا موضوعيا يوازي ما يحدث في عصر الشاعر , "ولذلك فقد ظلت الأسطورة عودا سخيا للشعراء في كل عصر وفي كل بقعة يجسدون عن طريق معطياتهم الكثير من أفكارهم ومشاعرهم مستغلين ما في لغة الأسطورة من طاقات إيحائية خارقة"(*) , " لذا يمكن اعتبار أن دراسة أسطورة ما كافية لان تبرز صورة هذا المجتمع إبرازا كاملا في جميع نواحي حياته , فهي معبرة عن أشواقه وصراعاته وارتفاعه وزلاته أيضا"(*) .
ولكن هل يمكن لأي شاعر مهما كانت ظروفه أو ظروف مجتمعه أو عصره أن يستلهم ما شاء من الأسطورة ؟ قطعا لا , فلا بد للشاعر أن يعي جيدا عند استخدام الأسطورة ولا بد " أن يحس بان استخدام هذه الأسطورة حاجة فنية , لا يتم لتجربة الشكل على النحو الأكمل إلا من خلالها , أما محاولة التلفيق المصطنع بين التجربة وأية أسطورة لا توائم حاجاتها التعبيرية فيه جناية على الأسطورة والتجربة الشعرية .
وهذه ليس من شيم شاعرنا الفلسطيني معين بسيسو بل وكل الشعراء الفلسطينيين ؛ لأنهم عاشوا تجربة مريرة من ظلم وقهر وتعسف وكل ما يمارسه الاحتلال الإسرائيلي ضد شعبهم المجروح , لذلك كان استخدامهم للأسطورة استخداما موافقا بكل ما تحمله الكلمة من معنى , فقد" استقى الشعراء الفلسطينيون رموزهم الأسطورية من منابع شتى وعالجوا موضوعات سياسية واجتماعية وواقعية عبروا من خلالها عن البطولة والتجدد والانبعاث والتشبث بالأرض والوطن والهوية"(*) , ففي قصيدة (القمر المحنط) يوظف الشاعر الفلسطيني معين بسيسو أسطورة حرب طروادة ليعبر من خلالها عن الوطن الضائع فلسطين وتخلي العرب عن هذه البقعة المغلوبة على أمرها يقول :
يا وطني
يا قمرا محنطا صغير
احمله في حقيبة السفر
مهاجرا على جواد من خشب
ابحث عن طروادة العرب
مهاجرا شريد (*)
لقد كانت الهزيمة عام 1967 وما أدت إليه من نتائج وهجرة الفلسطينيين خارج أرضهم بمثابة تحطيم لكل أمال الفلسطينيين , وبمثابة صدمة قوية وقعت على تفكير كل فلسطيني وخاصة الشعراء والمفكرين في ظل صمت عربي رهيب مكتف الأيدي , فكتب الشاعر هذه القصيدة ليعبر من خلالها عن وضع الشعب الفلسطيني بعد تلك الهزيمة , فجواده الذي رحل عليه من فلسطين ما هو إلا جواد خشبي لا يتحرك , وبالتالي لا يدري إلى أين يذهب , وهو يحلم بان يذهب إلى مكان محصن يحتمي فيه , يحلم أن يذهب إلى أي طروادة من الدول العربية حتى تحميه من بطش الاحتلال الغاشم , لان طروادة في ذلك الزمن تعبر عن الصمود والتضحية فقد استطاعت الوقوف في وجه اليونان عشرة أعوام , لذلك يتمنى الشاعر أن تقف إحدى الدول العربية وقفة طروادة في وجه الاحتلال الصهيوني .
ووجهة نظري في هذا التحليل تكون مخالفة لرأي الدكتور صلاح البردويل الذي يرى بان الشاعر يقصد "بطروادة العرب هي فلسطين التي يحاول الشاعر أن يعيد فتحها بحصان من خشب كما فعل عوليس الذي فتح طروادة بحصان الخشب المخادع للأعداء"(*) .
ولم يكتف الشاعر بتوظيف طروادة لتصوير معاناة شعبه , بل ها هو يوظفها للدفاع عن الإنسانية جمعاء في قصيدة (تانيا) التي يقول فيها:
ومات البيت كطفل في حضن الشارع
أصبحتِ وحيده
مليون حصان خشبي , لكن مدينتك المولودة
من قبلة دميتك المكسورة
لم تصبح طروادة (*)
لقد تأثر الشاعر معين بسيسو بحادثة قتل النازيين للطفلة تانيا في مدينة (لينغراد) , تلك الطفلة التي لا تملك شيئا تحتمي به من رصاص النازيين الذين يمتلكون مليون حصان خشبي لاقتحام طروادة (تانيا) , ولكن يكفي تلك القبلة التي ولدت من دمية تانيا والتي لا يستطيع النازيون أن يقمعوها ؛ لأنها ليست طروادة , وبالتالي لا فائدة من أحصنتهم الخشبية .
وقد وظف معين بسيسو أساطير أخرى وان كانت حرب طروادة من الأساطير اليونانية فالسندباد وعلاء الدين من الأساطير العربية التي وظفها الشاعر "وان لم يكونوا أبطالا أسطوريين بالمفهوم الدقيق فأنهم يحملون بعض الملامح الأسطورية , المتمثلة في تلك المغامرات الخارقة التي كانوا يقومون بها والتي لا يمكن أن توجد في الواقع كاتصالهم بالكائنات فوق الطبيعة ومغامراتهم معها"(*) , ففي قصيدة (البحار العائد من الشطآن المحتلة) يوظف الشاعر شخصية السندباد بطريقة جميلة يقول الشاعر:
لو أنّ يا حبيبتي أشعاري
تعيش كالزيتون كالأنهار ..
لو أنّ يا حبيبتي الدّوالي
في العام مرتين تثمر الدّوالي
لو أنّ يا حبيبتي أشجاري
تعيش في بستان سندباد
تثمر الطيور كالأوراق
وتثمر الأطفال كالأثمار
***
لو أنّ يا حبيبتي ملاّحي
يعود من جزيرة الرياح
يعود يرتمي على الضفاف
بالجرح والشّراع والمجداف
في صدره عجائب البحار
يعود فوق ظهره شراعي
وسلّة الهدير والثّمار .. (*)
شخصية السندباد هي شخصية مغامرة معروفة بكثرة السفر والترحال من مكان إلى مكان , وكان في كل مغامرة له يرى الموت بعينيه إلا انه يفلت منه , " والسندباد بهذه الصفات يعد نموذجا مثاليا للشعر, وجد فيه الرواد صفات وملامح تنسجم مع تجاربهم الإنسانية المختلفة الإبعاد وهم يرتادون المجهول ويبحثون عن الحقيقة الصافية والكلمة الصادقة والنظام العادل أو وهم يعانون في المنافي بسبب أوضاع بلادهم السياسية , أو يبحثون عن دواء لعللهم الجسدية لذلك تكرر وجوده في شعرهم وتنوع بشكل لافت للنظر"(*) .
ومعين بسيسو يندرج تحت القسم الذي يعاني شعبه في المنافي بسبب الأوضاع السياسية لفلسطين , فالسندباد الذي كان يرى الموت بعينه في كل رحلة له لا يبتعد كثيرا عن الشعب الفلسطيني الذي يعاني الأمّرين في شتاته يعاني بعده عن وطنه ويعاني صعوبة العيش في الشتات .
أما شخصية علاء الدين " فكل القصائد التي استخدمته اعتمدت على الملمح الأسطوري في شخصيته وهو امتلاكه للمصباح السحري الذي بواسطته أن يسيطر على الجني خادم المصباح"(*) , وهذا ما فعه معين بسيسو فقد ركز على مصباح علاء الدين أكثر من علاء الدين نفسه في قصيدة (مصباح علاء الدين إلى صهباء) التي يقول فيها :
أعطيك طير الرخ يا حبيبتي
أعطيك خاتم الطلب
أعطيك كنز المارد المخبوء في السحب
وكل ما جمعته , من بيض هذه الحيات
في الطريق
وما التقط من أساور الثعالب الخضراء
والطيور .(*)
يوجه الشاعر حديثه في الأبيات السابقة إلى زوجته مخبرا إياها بأنه جمع لها كل شيء وهو في طريقه إليها عائدا من المنافي , ومن أثمن هذه الأشياء مصباح علاء الدين ولكن ماذا حدث ؟
لكن طير الرخ طار
ريشة لم يعطني
وهاجرت بكنزها السحب
واسترجع الجني خاتم الطلب (*)
يريد الشاعر من وراء هذه الأبيات السابقة إيصال فكرة , وهي أن الفلسطيني في شتاته إنسان محروم من كل شيء , فهو يلاقي القهر من إخيه العربي الذي ينزل ضيفا عنده , فمن رابع المستحيلات أن يمتلك الفلسطيني قطعة ارض باسمه أو أن يشتري منزلا أو الكثير .

ثانيا / توظيف الشخصيات التاريخية :
لقد حظي التاريخ باهتمام الأديب العربي حيث عمل الأخير على انتقاء بعض الوقائع والأحداث والشخصيات التاريخية بما يتلاءم وظروف العصر الذي يعيش فيه الأديب , والتي يحتاج إليها المجتمع الذي يعتبر الأديب جزءا لا يتجزأ منهم , "وبالطبع فان الشاعر يختار من شخصيات التاريخ ما يوافق طبيعة الأفكار والهموم التي يريد أن ينقلها إلى المتلقي , ومن ثم فقد انعكست طبيعة المرحلة التاريخية والحضارية التي عاشتها امتنا في الحقبة الأخيرة وإحباط الكثير من أحلامها , وخيبة أملها في الكثير مما كانت تأمل في الخير , وسيطرة بعض القوة الجائرة على بعض مقدراتها , والهزائم المتكررة التي حاقت بها رغم عدالة قضيتها ... انعكس كل ذلك على نوعية الشخصيات التاريخية التي استمدها شاعرنا المعاصر"(*) .
ويعمل الأديب في توظيفه للتراث التاريخي على رسم صورة فنية لها هدف مستوحاة من التاريخ ويدمجها داخل العمل الأدبي , لهدف يبتغيه من ورائه , فهو لا يقوم بسرد الأحداث التاريخية كما هي , بل يضفي عليها طابعا جماليا لا يتمتع به المؤرخ .
ولقد عني معين بسيسو بالشخصيات التاريخية ووظفها بما يلاءم تجربته الشعرية , فاستقى من التاريخ الشخصيات التي تعتبر نموذجا للظلم , والشخصيات التي تعتبر نموذجا للثورة , ووضع كل شخصية في الإطار الملائم لها حسب موضوع القصيدة .
ففي قصيدة (قصيدة فلسطينية إلى لينين) يستقي الشاعر شخصية غير عربية وهي شخصية لينين قائد الثورة البلشفية , ذلك القائد - وان كان غير عربي – الذي واجه الظلم والاستبداد وساعد شعبه على الثورة والنهوض في وجه الظالمين يقول الشاعر :
كان لينين فكان الحزب
يا فارس البحر على الصخرة
تلد ملائكة الشعب
موسكو في القلب
في نافذة في احد شوارع العالم
كان لينين وكانت فوق أصابعه
تتجمع كل أوراق الأشجار السرية والعلنية
كانت لحظة إبداع العالم
كانت لحظة إعطاء العالم
اسما آخر
والثورة شاعر
كانت كل أصابعنا - أمشاط بيانو-
والعالم يولد من لمسة أصبع
من طلقة مدفع
يا أول بحار
يا أول قبطان
يا أول من دق الموجة مسمارا
في عنق القرصان (*)
كان معين بسيسو احد أعضاء الحزب الشيوعي في قطاع غزة , وقد ترأسه لفترة فهو يعتبر لينين قدوة له , على أي حال فان لينين يعتبر نموذجا من نماذج الثورة على أصحاب الظلم والقهر والاضطهاد , فهو أول مفجر للثورة , وهو أول بحار وأول قبطان سار العالم اجمع من خلفه يردد لا للظلم , لذلك يفخر الشاعر باسمه متمنيا أن يكون من بين الحكام العرب احد كلينين ليقود العرب اجمع لمواجهة الظلم الصهيوني .
وان كانت شخصية لينين التي وظفها الشعر شخصية أعجمية , فقد وظف أيضا الكثير من الشخصيات العربية , ولكننا نراه يستقي شخصية عربية تمثل القهر والظلم وتكميم أفواه الحق , وهي شخصية الحجاج بن يوسف الثقفي الذي يعتبر من "شخصيات الحكام والأمراء والقواد الذين يمثلون الوجه المظلم لتاريخنا سواء بسبب استبدادهم وطغيانهم , أم بسبب انحلالهم وفسادهم"(*) , وذلك في قصيدته (الحجاج والفيلسوف الأخرس) يقول الشاعر :
وأرى رؤوسا قد أينعت , ورأى القطاف
ورأى الدماء ,
بين العمائم واللحى, تبت يداك
بغداد أسكرها النواح
وعلى الضفاف الخضر
تغتسل الضباع وشهرزاد
أخرى مزيفة وألف حكاية
شوهاء في نجم النهار
وعلى الجماجم في ملابس شهريار (*)
يستدعي الشاعر في هذه الأبيات رمزا من رموز الظلم والقهر والتعسف في تاريخنا العربي وهو الحجاج بن يوسف الثقفي الذي كمم الأفواه وقطع الرؤوس وابكي نساء العراق ويتم أطفاله , ويستحضر الشاعر معه فيلسوفا اخرس مصاحبا له , أي أن فيلسوفه مكمم لا يستطيع أن ينطق بما يريد .
وإذا نظرنا إلى عصر الشاعر نجد تطابقا إلى حد كبير بين ما ذكره الشاعر وبين الوضع السياسي الذي عاشه الشاعر , فالحجاج يمثل الأنظمة العربية التي تكمم أفواه الحق , والفيلسوف نموذجا للإنسان العربي الذي لا يستطيع أن يتفوه بكلمة حق .
فالشاعر يستهل قصيدته بمقولة الحجاج المشهورة "إني أرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها" ولكن الشاعر غير راض علا الحجاج لذلك نراه يقول له :"تبت يداك" , وذلك لما رآه العراق من ظلم واستبداد , فبغداد قد أسكرها نواح المظلومين حتى أن شهرزاد أصبحت تقص حكايات مشوهة على جماجم شهريار – وهنا يستحضر الشاعر رموز تراثية بغدادية ليفضح من خلالها جريمة الحجاج- حتى أن السندباد الذي كان حرا طليقا يتمتع بمغامراته كل يوم أصبح مقيدا , فقد فقأ الحجاج عينيه حتى لا يسافر .
إذا استطاع الشاعر من خلال هذه القصيدة أن يجسد الواقع العربي المرير من اضطهاد الأنظمة العربية للإنسان العربي فهي لا تبتعد كثيرا عن الحجاج .
ومن الشخصيات التاريخية التي وظفها معين وزير الخارجية الأمريكية (جون فوستر دالاس)(*) في قصيدته "المخلص الكذاب جون فوستر دالاس" , حيث وصفه بالصفات الدنيئة وذلك بسبب وقوفه ضد الشيوعية في العالم , كما وظف الشعار شخصية الإسكندر المقدوني الذي حكم العالم وملأه ظلما وقهرا في قصيدته الاسكندر المقدوني وزهرة عباد الشمس , أما التاريخي المصري الفرعوني فكانت نفرتيتي نموذجا لذلك التاريخ في شعر معين بسيسو .

ثالثا / توظيف الأحداث التاريخسطورية :
ونقصد بالأحداث التاريخسطورية تلك الأحداث التاريخية التي وقعت بالفعل في الواقع ولكنها استمد صفات عظيمة جعلت منها حدثا أسطورية , أي أنها " تتضمن عناصر تاريخية ومجموعة خوارق تأخذ إطار الحكاية وتنتقل بالتواتر من جيل الى جيل"(*) , ومن أمثلة الشخصيات التاريخيسطورية شخصية عنترة بن شداد التي استمدت سماتها الأسطورية من شجاعة ونبالة ذلك الفارس , وتناقلت قصته عبر الأجيال وأصبح نموذجا للقوة والشجاعة , وكذلك الحال بالنسبة لـ (حرب البسوس) فهي تعد من الأحداث التاريخسطورية وذلك لأنها أصبحت تنتقل من جيل إلى جيل وذلك لفظاعة هذه الحرب , "وقد حاول لويس عوض أن يتعقب الملامح الشبيهة بين كثير من جزئيات قصة الزير سالم وأسطورة اورست في اسخيلوس وسوفوكليس واوربيدس [ يوربيديس]"(*).
وتقوم هذه القصة على أن كليبا كان يحكم قبيلة ربيعة (بكر وتغلب) , وكان رمزا من رموز الظلم والجبروت , وهذا لم يعجب جساس التغلبي فقتل كليبا , واشتعلت الحرب بين بكر بقيادة جساس وبين تغلب بقيادة المهلهل بن ربيعة الملقب بالزير سالم والتي استمرت حوالي اربعين عاما .
أما شاعرنا فقد وظف هذه الحكاية التاريخسطورية توظيفا دراميا جعل القارئ الذي يقرأ تلك القصيدة وكأنه يطلع على تلك الأيام من حياة العرب وذلك في قصيدته (على قبر كليب) , يقول الشاعر :
اطعنه في الخاصرة اليسرى
بجناح حمامة
اطعنه بين العينين
بغصن الزيتون
هذا عصرك يا جساس
هذا عصر يُشرب فيه
نخب السيف الأحدب
يا جساس الكأس
شق بجرس صدر كليب
وانتزع القلب
يوظف الشاعر في الأبيات السابقة حادثة تاريخية ولكن لشهرتها اتخذت شكل الأسطورة , تلك الحرب التي مكثت ما يقرب أربعين عاما كانت بسبب الظلم والقهر المتمثل في (كليب) , ويرى الشاعر معين بسيسو أن كل الأنظمة العربية تتجسد في كليب الظالم , لذلك نجد الشاعر في الأبيات السابقة يطالب الإنسان العربي بالتخلص من ذلك النظام القاهر الفاسد , فهو يطلب من جساس أن يطعن كليبا بكل ما أوتي من قوة لشفاء غليل الناس المظلومين , فهل سيأتي جساس اليوم ليخلص الشعوب العربية من ظلم أنظمتها ؟
كما وظف الشاعر أيضا شخصية عنترة التي لها وجودها التاريخي ولكنها اكتسبت صفة الأسطورة , وتناقلت من جيل إلى جيل وأصبحت نموذجا للقوة والشجاعة , ولكن الشاعر يوظفه في هذه القصيدة اثر حادثة في مصر حيث سقط شاب ميتا أمام الأسد الذي هرب من حديقة الحيوان في مصر حيث يقول الشاعر على لسان ذلك الأسد في قصيدة (دفاع الأسد عنترة) :
وكبرت
عاما بعد الآخر وعرفت
أنهمو سموني "عنترة العبسي"
أول ما اعترض عليه : هو اسمي
فانا اكره حنجرته
اكره قافيته
اكره صوت الطبل ولا حرب
وصرخت :
اعترض على اسمي
ما أعظم مأساتي
اسمي عنترة العبسي
وزئيري صار صهيل جواد (*)
يعترض الأسد على كل ما فعل له الإنسان فهو أصبح قاتلا من شدة معاناته وقسوة تعامل الإنسان معه , حيث يتخذ الشاعر من ذلك الأسد رمزا للفلسطيني الثائر الذي لم يصبح ثائرا إلا بعض اغتصاب أرضه حيث لاقى ويلات الظلم والتعذيب والقتل على يد الاحتلال الصهيوني مما دفع به إلى النضال في وجه ذلك المحتل الغاشم .

الفصل الثاني / التناص الديني

التناص القرآني .
توظيف الشخصيات الإسلامية .
التوظيف اليهودي والمسيحي .
الدين هو كل ما يتعلق بالأديان السماوية , الإسلام واليهودية والمسيحية , وإن كان الدين الإسلامي أوفرها حظا في قلوب وعقول الأدباء , فقد وظف الأدباء وخاصة الشعراء الدين الإسلامي في شعرهم وخاصة النصوص القرآنية , حيث يعتبر القرآن الكريم المصدر الأول للتعاليم الدينية , "فهو المعجزة التي ليس لها سابقة ولا لاحقة في تاريخ الحياة الروحية الإنسانية"(*) , سواء كان ذلك التوظيف باستدعاء النصوص أو بالتلميح بمضامينه الكريمة , كذلك اهتم الأدباء والشعراء بسيرة الرسول وصفاته الكريمة وصحابته رضوان الله عليهم .
أما فيما يتعلق بالأديان الأخرى فقد كان لها نصيب من التوظيف في أدبنا العربي بما يخدم القضية العربية والفلسطينية خاصة , على أية حال نستطيع القول : "إن تفاعل الشعراء الفلسطينيين مع الكتب السماوية الثلاثة , وامتصاصهم للغاتها وأساليبها ومضامينها وشخصياتها الدينية , باعتبارها أديانا سماوية وفق ثوابت الشخصية الوطنية والقومية والإنسانية للأمم المؤمنة بها , جعل الشعراء يبتعدون عن التعبير التقليدي المباشر والخطابي في اغلب الأحيان , إلى التعبير الموحي الذي يكتنز برصيد روحي يوسع من دائرة الإنتاج الدلالي , ويفتح على عوالم جديدة وطازجة في التجربة الشعرية"(*) , , كل ذلك أدى إلى إنتاج شعري فلسطيني يفوح برائحة الأديان السماوية من خلال التناص الديني الذي يشكل "بنية فنية وجمالية عميقة الصلة بنسيج القصيدة وخيوطها الدلالية وأبعادها الذاتية والإنسانية "(*).
ولم يكتف شعراؤنا الفلسطينيين بالتناص القرآني , بل سجلوا ما ورد عن رسلنا الكرام من أحداث شريفة , "فقد أحس الشعراء من قديم بان ثمة روابط وثيقة تربط بين تجربتهم وتجربة الأنبياء فكل من النبي والشاعر الأصيل يحمل رسالة إلى أمته , والفارق بينهما أن رسالة النبي رسالة سماوية , وكل منهما يتحمل العنت والعذاب في سبيل رسالته"(*) , لذلك أكثر الشعراء الفلسطينيين من توظيف شخصيات الأنبياء عليهم السلام , إلى جانب توظيف بعض الشخصيات الإسلامية وخاصة صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم .
وبالنسبة للشاعر معين بسيسو فقد كان اهتمامه بالموروث الديني كبير جدا , لذلك وجدت من الأفضل إفراد التراث الديني في هذه الدراسة في فصل مستقل , وذلك لإكثار الشاعر من الاستحضار بذلك الموروث العريق .
وقد نوع الشاعر في استدعائه لذلك الموروث , فنجده يوظف النصوص القرآنية والشخصيات الإسلامية أيضا , كما انه أعطى الديانات الأخرى : اليهودية والمسيحية , نصيبا من ذلك التوظيف , وذلك كما سنرى من خلال التحليل .

أولا / التناص القرآني :
كان للقرآن الكريم النصيب الأوفر في تضمين الشعر الفلسطيني لآياته أكثر من الكتب السماوية الأخرى , وذالك" باعتباره مصدرا أدبيا , يتسنم ذروة البيان والفصاحة أولا , وباعتباره كتابا دينيا يمنح الخطاب الشعري سمة التصديق ثانيا, وباعتباره تجليا نورانيا لقصص شخصيات دينية منها المؤمن والكافر , والمصدق والمكذب..الخ"(*) , وقد جاء ذلك التضمين على قسمين "الأول: الاقتباس الكامل لآية أو جملة من آية قرآنية مع تحوير بسيط أحيانا بإضافة أو حذف كلمة أو بإعادة ترتيب مفردات الجملة وغالبا ما يكون هذا التصرف له علاقة بالوزن الشعري , والثاني: اقتباس المعنى فقط وصياغته بلغة شعرية مع الإبقاء على كلمة من الكلمات الدالة على الآية"(*) .
ومن خلال دراسة شعر معين بسيسو وجدت أنه يوظف القسم الثاني وذلك من خلال اقتباسه للمعنى فقط وصياغته بلغة شعرية مناسبة إلى جانب ذكره لبعض الكلمات لتدل على الآية , وذلك كما في قصيدة " يافا في بطن الحوت" التي يقول فيها :
النسر من تابوته الحجري
بالمصباح طار
بجناحه شق الجدار
سم ولؤلؤة بكاسك
أيها الأعمى حذار
ودم ومعجزة بلا قمر
تسير بلا حجاب
قمصان عثمان الذي بليت على الأيدي
ومصحفه المخصب بالدماء
في كل سارية قميص خافق
وفم على بوق معار
يافا ببطن الحوت ما زالت
يجوب بها البحار
الحوت تاه
من ذا يدل الحوت يا طفلي
ويطويه العباب
من ذا يعلق في رقاب
هذي الذئاب السود
أجراسا
ويطمع في الإياب (*)
قبل البدا في تحليل القصيدة ينبغي الإشارة إلى العنوان الذي يحمل في طياته الفكرة الرئيسية للقصيدة , فالعنوان يشير إلى معاناة مدينة من مدن فلسطين - ولا يعني الشاعر مدينة بعينها بل كل مدن فلسطين- كمعاناة سيدنا يونس في محنته وهو في بطن الحوت .
يستهل الشاعر هذه القصيدة بالحديث عن قصة مقتل سيدنا عثمان والمتاجرة بدمه قاصدا بذلك فلسطين التي تركها العرب لتباع بالمزاد العلني دون إحساس ودون مسؤولية , فالأصوات تخرج من البوق في ذلك المزاد والقميص بدوره ينتظر اجله المحتوم فنهايته الدمار على أيدي الاحتلال الإسرائيلي .
ثم يستحضر الشاعر آية من القرآن الكريم تلك الآية التي تحكي قصة سيدنا يونس عندما بلعه الحوت وحماه الله سبحانه وتعالى وهو في بطن الحوت قال تعالى :
{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ *إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ* فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ*فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ *لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}(*) . يظهر التناص واضحا في القصيدة بعد ذكر الآية الكريمة , فالشاعر اقتبس المعنى من الآية ووظفه في لغة شعرية لها دلالاتها الإيحائية , فيافا بل وفلسطين كلها في قلب الفلسطيني الثائر الذي يحميها كما حمى الله سيدنا يونس في بطن الحوت , ولكن الفلسطيني تاه من شدة ما لقاه من عذاب من قبل المحتل الغاشم , فهو يحتاج مساعدة من إخوانه العرب حتى يظل محتفظا بفلسطين داخل قلبه , ولكن متى سيأتي ذلك العربي الذي يدل الفلسطيني بعد أن تاه , ويقهر الأعداء المحتلين الذين وصفهم الشاعر بالذئاب السود .
وقد وظف الشاعر نفس الآية الكريمة في موضع آخر من شعره وذلك في قصيدة "أقدم أوراق اعتمادي كسفير" حيث يقول :
الحوت
خبأ يونس وحماه
الحوت حمى يونس
لكنا نبحث في هذا الوطن الواسع
في هذا البحر الواسع
نبحث عن حوت نبحث عن ورقة توت (*)
من الملاحظ أن الشاعر استوحى نفس القصة ومن نفس الآية الكريمة في القصيدتين ولكنه في القصيدة الثانية يصوغ ذلك الاقتباس بلغة أخرى ويترتب عليه دلالات إيحائية مغايرة تماما للغة السابقة , " فإذا كان الله قد حمى يونس عليه السلام في بطن الحوت , فلم يهمش له لحما , ولم يكسر له عظما , فمن للفلسطيني يحميه من قمع الاحتلال وتكسير العظام"(*) .
وفي موضع آخر من دواوينه يستوحي الشاعر من النص القرآني قصة أخرى وهي قصة أهل الكهف وذلك في قصيدته "ثلاث كؤوس لأهل الكهف" التي يقول فيها :
الكأس الأولى آه
سقط الأسد وجر النخاس والأشبال
والمخلب كالزهرة, والناب كعود الريحان
يا من يرسل في الليل الموال
الكرمل ما زال بعيدا
والخنجر في ظهر القمر الجوال
قلبي انفطر على جبل النار
هُز التينة, هز الزيتونة
لا تقرب شجر البارود
قرؤوا حتى ابيضت أعينهم
وانسكب مع الليل الموال
كبرت مع القفص الأشبال
والغابة تحت بساط الشاه
الكأس الأولى آه (*)
أول ما يلفت أنظارنا في هذه القصيدة هو العنوان "ثلاث كؤوس لأهل الكهف" , " وتعرض قصة أهل الكهف كما وردت في القرآن الكريم إلى أن جماعة من المؤمنين بالله هربوا إلى الكهف خشية بطش الملك الظالم الذي كان يعذب كل من يؤمن بالله ولكنهم ناموا في كهفهم ثلاثمائة وتسع سنوات"(*) .
استفاد الشاعر من هذه القصة القرآنية وضمنها قصيدته الشعرية بما يخدم الواقع الفلسطيني المعاش , ففلسطين التي تلاقي ويلات الاحتلال تقاوم وحدها , في حين نجد أن العرب هم أهل الكهف الذين ناموا في سبات عميق , فقد استوحى الشاعر ذلك من قوله تعالى :{ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا}(*) , لذلك يرسل الشاعر لهم ثلاث كؤوس فيها ثلاث آهات من قلب الإنسان الفلسطيني المعذب لعلهم يستيقظون من سباتهم العميق , وفي صيحاته يتحسر الشاعر على جبل الكرمل الذي اغتصبه الاحتلال وجبل النار الذي حُرم الشاعر من رؤيته , أهل الكهف (العرب) يتيحون للفلسطيني أن يفعل ما يشاء في الدول العربية , ولكن دون أن يقترب من البارود والمقاومة حتى لا يُسمى إرهابي ويستوحي الشاعر هذه القصة من موضعين من القرآن الكريم : الأول قوله تعالى : {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا}(*) , والثاني قوله تعالى : {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ}(*) .
وقد ضمن الشاعر نفس القصة القرآنية في قصيدة أخرى بعنوان "ثلاثة رابعهم كلبهم" التي يقول فيها :
وجاء عاويا من الذئاب
اعور الذئاب
الثعلب المقطوع ذيله
وآكل الديدان
وتاجر الأجراس والضباب
ثلاثة وكلبهم مضوا
والآخرون سرجوا الخيول
ماذا أقول للذين يسألون
الماء في فمي لكنما في الجرح
لا نبيض هذه السكين (*)
إن الملاحظ لعنوان القصيدة يجد التناص القرآني واضحا من قوله تعالى : {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا}(*) , ولكن الشاعر يوظف هذه القصة بأسلوب مغاير يتمثل "في توظيف الملامح التراثية للشخصية في التعبير عن معاني تناقض المدلول التراثي للشخصية"(*) , وهذا ما عناه الشاعر في استخدامه لصفات أهل الكهف , فقد أضفى عليهم صفات مغايرة تماما , فمن المعروف أن صفات أهل الكهف : الطهارة والإيمان , ولكن الشاعر استخدم لهم صفة المكر رامزا لهم بالثعلب وصفة الغدر رامزا لهم بالذئب , ثم عكس هذه الصفات على الشخصيات التي تمر في عصره والمقصود بهم الأنظمة العربية .
وفي قصيدتي "العندليب في البئر" , وقصيدة "سورة يوسف سلمان" استوحى الشاعر النص القرآني الذي يحكي قصة سيدنا يوسف في سورة يوسف يقول تعالى : {قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ}(*) .
أما في قصيدة "ثلاثية" فقد تجسد التناص بشكل ملحوظ من سورة المسد يقول الشاعر:
ورثت عن أبي لهب
وزجه , حمالة الحطب
ورثت جمرة وحبلا من مسد
الحبل في أيديكو
والجمر في يدي (*)
حيث قال تعالى : { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} .
وفي سورة طه قال تعالى : {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى}(*) . لقد صاغ الشاعر ذلك النص بأسلوب لغوي شعري , يقول :
أعطى الله عصاه لموسى , ليشق البحر ويهرب
لم يعط الله عصاه لموسى ,
كي يضرب . (*)

ثانيا / توظيف الشخصيات الإسلامية :
وظف الشاعر شخصيات الإسلامية وخاصة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواضع متفرقة من ديوانه كعبد الله بن المقفع وعمار بن ياسر وأبي ذر الغفاري .
ففي قصيدة "أحلام عبد الله بن المقفع" يستحضر الشاعر تلك الشخصية الإسلامية التي تعد نموذجا من نماذج الإيمان والطهارة والعلم يقول الشاعر:
وشيت بي , قتلتني
وكنت شاهدا عليّ في بلاط دبشلم
وكنت صاحبي القديم
سقطت من مخالب العنقاء
يا حورية الجحيم سقطت في سريرك الصغير
والخمر في جرار بيديا
والجمر حواصل الطيور
قتلت حينما علمتك الكلام
يا سارق الأحذية الحمراء
من أعناق هذه الأصنام
قتلت حين قلت للأسد
تموت أيها الملك
تموت حين تسقط اليمامة الزرقاء
في الشرك (*)
إن عنوان القصيدة ينقلنا إلى شخصية إسلامية وهي عبد الله بن المقفع العالم الجليل الذي لاقى ويلات التعذيب والنفي بسبب رفضه للظلم السائد في الدولة العباسية , فقد اتهم بالزندقة نتيجة ما يقوم به "فمن أقدم القائلين بها الجاحظ الذي جعل الكاتب متهما في دينه"(*) , كذلك الحال بالنسبة لمعين بسيسو الذي عانى في المنفى بسبب أشعاره وأقواله , واتهم بالكفر بسبب التحاقه بالحزب الشيوعي الرافض للظلم , لذلك تعتبر هذه القصيدة نموذجا من نماذج شخصية القناع حيث لبس الشاعر قناع عبد الله بن المقفع واختفى ورائها ليقول للقهر لا مستفيدا من اضطلاع وعلم عبد الله بن المقفع .
وفي قصيدة "إكليل نار" يوظف الشاعر شخصية إسلامية أخرى من صحابة رسولنا الكريم ألا وهي شخصية عمار بن ياسر حيث يقول :
شجر الزقوم قد أخصب
لم يسقم مطر
ولدت أصنامك السود حجر
وأبا صار هبل
خبأ الليل القمر
فالقرابين طيور وشجر
ونجوم وبشر
فكلي عينيك يا أم هبل
خبأ الليل القمر
وتعالي نار عمار
فقد دق لك الطبل الحطب
وكليه وهو في أقماطه
هذا الحجر
قبل أن يحبو , وان ينمو
وان يغدو صنم (*)
لقد أبدع الشاعر في توظيف هذه الشخصية التي صبرت على العذاب , حيث ذاقت شتى ألوانه , ولكنها لم تستسلم , وقاومت حتى آخر رمق , فهو يحذرها من آن تلد تلك الأصنام وتتكاثر, فيطلب من ناره أن تحرق تلك الأصنام قبل أن تتكاثر وتصبح تهديدا للإنسانية عامة .
لقد استوحى الشاعر هذه الشخصية ليعبر من خلالها عن الواقع الفلسطيني المرير ويطلب من الفلسطيني أن يشعل ناره وان يحرق الاحتلال الإسرائيلي قبل أن يكبر ويهدد العالم العربي اجمع فعمار بن ياسر رمزا من رموز التضحية والفداء الذي يعتبر قدوة لا بد وان يقتدي بها كل إنسان فلسطيني بل وعربي مسلم .

ثالثا / التوظيف اليهودي والمسيحي :
لقد كان للأديان السماوية الأخرى نصيب من التوظيف في شعر معين بسيسو , حيث أن الشاعر انتقى من هذه الأديان ما يوافق قضية مجتمعه الفلسطيني ليعبر من خلالها عما يعانيه شعبه من ظلم واضطهاد , ففي قصيدة "اله أورشليم" يقول :
لتنسني يميني
لتنسني عيون
حبيبتي
لينسني أخي
لينسني صديقي الوحيد
لينسني الكرى
على سرير سهاد
مثلما السلاح
في عنفوان المعركه
ينسى يد المحارب
ومثلما الناطور
ينسى على كرومه الثعالب
إذا نسيت
أنّ بين ثديي أرضنا ببيت
إله أورشليم
وأنّ من قطوف
دمنا يعتصر
الشهد واللبن
وخمرة السّنين
لكي يعيش
ويفرخ الوحوش
وكي أشيد
من الدموع
جدار مبكى وكي أحيل
خيمتي منديل
للعويل
على الذهاب
بلا إياب
لتنسني يميني
لتنسني عيون شعبي المغرّده
إذا نسيت
أن أغرس الطريق
لصدر بيّاراتنا وللكروم
سيفا من الجحيم
في عينيّ إله أورشليم (*)
يوظف الشاعر في هذه القصيدة من التراث الديني بما يخدم القضية الفلسطينية , فهو يصور في هذه القصيدة الدين اليهودي بصورة المكر والخداع , إله أورشليم الذي اغتصب أرضنا وداهمها وأكد لأتباعه اليهود أن فلسطين هي ارض الشهد واللبن , ولكنه يعصر هذا الشهد وذلك اللبن من دماء الشعب الفلسطيني , أما جداره المسمى بحائط البكاء فقد شيده من دروع أمهات فلسطين , أمهات الشهداء , لذا يقسم الشاعر في القصيدة انه لن ينسى ما فعله اليهود بشعبه وسوف يغرس السيف في عين اله أورشليم ليكون السيف طريقا لعودة اللاجئين إلى أرضهم .
وفي قصيدة "كاس الخل" يوظف الشاعر من التراث المسيحي حادثة صلب المسيح - كما يعتقدون- وذلك في قوله :
واقترعوا يا شعبي
من يأخذ ثوبي
بعد الصلب
كاس الخل بيمناي
وإكليل الشوك على راسي
باراباس بن السكين طليق
وابنك يا شعبي
ساقوه إلى الصلب والرجم
يا شعبي
أن اصرخ لا تدخلني
في تجربة, لا يا شعبي
أدخلني في تجربة الصلب
وجرعني كاس الصلب
لن اهرب من دربي
لن اهرب من كاس الخل
وإكليل الشوك
وسأنحت من عظمي
مسمار صليبي وسأمضي
ازرع حبات دمائي في الأرض
إن لم أتمزق
كيف ستولد من قلبي
كيف سأولد من قلبك
يا شعبي (*)
يستخدم الشاعر في هذه القصيدة المسيح كقناع ليختفي من ورائها ويبث كل ما في داخله من هموم عن طريق تلك الشخصية , حيث يصور لنا مشهدا دراميا وهو يساق إلى الصلب والرجم وهو ينظر إلى عيون شعبه قبل موته , فمن سيأخذ ثوبه بعد موته , ومن سيأخذ كاس الخل من يده , كل هذا يحدث وباراباس(*)الذي كان من المفروض أن يكون هو المصلوب ها هو الآن طليق لا يطارده احد ولكن الشاعر يصر على الصلب , يريد أن يدخل هذه التجربة حتى يحيا شعبه فلا بد أن يضحي احدنا حتى يعيش الباقي ويزرع حبات دمائه في الأرض حتى يولد الشعب ويحيا .
يضع الشاعر في هذه القصيدة كل إنسان فلسطيني مكان المسيح فلا بد أن يضحي الفلسطيني من اجل كرامة شعبه وأمته أجمعين .
في الحقيقة قد أبدع الشاعر في هذه القصيدة أيما إبداع , حيث يصور لنا صورة الشهيد الفلسطيني وهو يودع شعبه وأرضه ذاهبا إلى الشهادة , حقا إنه لمنظر مؤثر جدا .
كما وظف الشاعر حادثة الصلب والتراث المسيحي بشكل عام في قصيدة "المصلوب على ناطحة" سحاب حيث يقول :
لا ليست روما ,
قد سقطت فوق السيف الخافق كالراية,
روما
والقيصر قد مات
والبابا ما عاد
يبيع صكوك الغفران
يا وطن جميع الألوان
إلا لون الإنسان
كذاب
حتى الحبر الصاخب
في شريان المطبعة
وحتى الشباك
في البيت الأبيض كذاب
فأبو الأطفال
ما زال على ناطحة سحاب
مصلوبا ما زال
كاله الأجراس (*)
إن التراث المسيحي يظهر واضحا من خلال قراءة عنوان القصيدة , فالسيد المسيح عند ربه في السماوات , أما أهل الديانة المسيحية في الأرض فما زالوا يعيثون فيها فسادا فالبابا يبيع صكوك الغفران والبيت الأبيض الذي ما زال يبث سمومه الكاذبة في قلب الشعب , فأين هؤلاء من السيد المسيح عليه السلام .

الفصل الثالث / التراث الأدبي والشعبي

توظيف الشخصيات الأدبية .
تضمين النصوص الأدبية .
توظيف الحكايات الشعبية .
يمثل التراث الأدبي الرصيد الفكري والفني لأمة من الأمم , لما هذا التراث من اعتزاز في قلوب الشعوب , لذلك عني الشعراء في العصر الحديث بالاهتمام بالتراث الأدبي خاصة الشعري , ووظفوه في ثنايا قصائدهم إما بالاقتباس وإما بالتلميح وإما باستدعاء النص الشعري من دون التلميح تاركا للقارئ فرصة التفكير في سبب الاستدعاء وطرق غيرها كثيرة , أي أنهم لم يتعاملوا مع تلك النصوص الشعرية بطريقة سطحية بل بطرق جديدة "تتعدد فيه الدلالة ويتم تحويرها بما يتناسب مع طبيعة الرؤيا الشعرية والواقع المعاش , دون انفصال عن نسج القصيدة ودلالتها العامة"(*).
كما أن الشخصيات الأدبية كان لها نصيب من ذلك التوظيف وخاصة الشعراء , لان تلك الشخصيات "هي التي عانت التجربة الشعرية ومارست التعبير عنها , وكانت هي ضمير عصرها وصوته , الأمر الذي اكسبها قدرة خاصة على التعبير عن تجربة الشاعر في كل عصر , فلا غرابة إذن أن تكون شخصيات الشعراء من أكثر الشخصيات شيوعا في شعرنا المعاصر , , وفي ذات الوقت من أكثرها طواعية للشاعر المعاصر وقدرة على استيعاب أبعاد تجربته المختلفة"(*) .
وعند دراسة التراث بأشكاله المتنوعة يتم التفريق بين الشخصيات التاريخية والشخصيات الأدبية , على الرغم من أن الشخصيات الأدبية هي شخصيات تاريخية بالدرجة الأولى ولها وجودها التاريخي , "ولكنها كان لها إلى جانب هذا الوجود التاريخي هوية خاصة تميزها عن كونها مجرد شخصية تاريخية وحسب , وهذه الهوية هي الشعر" (*).
كما ويعد التراث الشعبي من أهم مصادر التراث عند الشعوب , لما لهذا الموروث من تمثيل العادات والتقاليد الأصيلة لآباء وأجداد الشعوب , فهو يشمل "الشعر الشعبي والأغاني الشعبية بجميع ألوانها , وبما يرافقها من الحان وموسيقى , والحكايات والأمثال والأساطير"(*), لذلك حظي هذا الموروث باهتمام الشعراء المعاصرين وعملوا على توظيف أمثاله وحكاياته الشعبية وشعره واهم ميزاته .
وقد يظن البعض انه لا فرق بين الحكاية الشعبية وبين الأسطورة , لذلك رأيت انه لا بد من توضيح أهم الفروق بينها والتي تكمن في أن "الحكاية الشعبية لا تحمل في ثناياها القداسة والهالة"(*) , بخلاف الأسطورة التي تحمل معتقدات مثل هذه كما أن الأسطورة تتميز "بأن أشخاصها لا يصورون بطريقة واقعية بينما نجد أشخاص الحكاية الشعبية يصورون بطريقة واقعية"(*) , فأشخاصها إنسانية مثلنا يأكلون ويشربون ويعيشون مثلنا مع اختلاف بسيط في بعض الظروف .
وإذا انتقلنا إلى الشاعر معين بسيسو للبحث في شعره عن التراثين الأدبي والشعبي سنجده قد اهتم بهما اهتماما كبيرا وخاصة الأدبي , فضمن النصوص الأدبية العربية القديمة داخل نصه الشعري , ووظف أهم الشخصيات الأدبية التي يفتخر بها والتي استخدمها أيضا كنماذج يعبر من خلالها عن قضية أو تجربة معينة .
أما فيما يختص بالتراث الشعبي فكان توظيفه نادرا في شعر معين بسيسو , فقد اشتمل على توظيف الحكايات الشعبية في الأغلب , وسنلاحظ ذلك من خلال تحليل القصائد التي وظف فيها شاعرنا كلا من التراث الأدبي والشعبي .

أولا / توظيف الشخصيات الأدبية :
لقد عشق معين بسيسو الشعراء منذ نعومة أظفاره وكان يحب الاستماع إلى أشعارهم يقول الشاعر في ذلك : "في رمضان كانوا يحضرون شاعرا لكي يغني لهم سيرة (أبو زيد الهلالي) . كنت اجلس تحت النافذة وأصغي للشاعر حتى خيوط الفجر , وما أكثر ما كانت أمي تجدني ممدا تحت النافذة . من يومها أحببت الشاعر وأحببت ربابته"(*).
إذا احتلت شخصية الشاعر في قلب معين بسيسو مكانة كبيرة ؛ لذلك كان يقتدي بالعديد من الشعراء في شعره , فقام باستدعاء تلك الشخصيات وتضمينها داخل نصه الشعري , ومن أهم الشخصيات التي استدعاها هي شخصية الشاعر العربي الكبير أبو الطيب المتنبي , فالمتنبي من أعظم الشعراء العرب في العصر العباسي بل وفي كل العصور , لذلك لم يقتصر ذكره في شعر معين بسيسو فحسب بل "تجسد حضوره في الخطاب الشعري الفلسطيني المعاصر بإلحاح شديد لما يحمله من طموح وكبرياء وسطوة في عالم الإبداع , من تنوع شعري يعبر عن عالم إنساني فياض بالمشاعر والأبعاد النفسية"(*) .
كما أن توظيف شخصية المتنبي اختلفت من شاعر إلى شاعر , فكل شاعر تناول هذه الشخصية من وجهة نظره تبا للبعد الذي يراه في تلك الشخصية , وعلى الرغم من أن "البعد السياسي بالذات من إبعاد شخصية المتنبي كان أكثرها اجتذابا لشعرائنا الذين حاولوا أن يعبروا من خلاله عن كثير من الجوانب السياسة في تجربة الشاعر المعاصر"(*) , إلا أن معين بسيسو تناول هذه الشخصية من بعد مغاير , وهو البعد الفني حيث يرى شاعرنا أن المتنبي من فحول الشعر العربي ومن الصعب أن يصل شاعر من شعراء اليوم إلى منزلته , فهو يرى أن اغلب شعراء هذا العصر بعيدون كل البعد عن قوة الشعر وعظمته كما هو الحال في شعر المتنبي , هذا ما أراد أن يقوله معين بسيسو في قصيدة "الشعر وخصيان السلاطين" حيث يقول:
يا أبا الطيب خصيان السلاطين
وغلمان القياصر
كل ذي قرط وخلخل
وعقد وأساور
كل من قد شده النخاس
من وحل الضفائر
كل من لطخ بالحبر الأظافر
كل من لم يعرف الخيل ولا الليل
وبيداء المخاطر
والقوافي وهي كالبض البوات
جاءنا يركب صهوات القصائد
أين أخفيت - أخا القصر- النياشيين
وخبأت القلائد؟
يا أبا الطيب قم صح النواطير
وقم صح القياثر
دقت الأجراس للصيد
ثعابين المحابر
بشمت من لحمنا
هذي الثعالب
صار درع الفارس المقتول
بيتا للثعالب
آه يا سيف المحارب (*)
يستنجد معين بسيسو في القصيدة السابقة برمز الشعر أبو الطيب المتنبي , ويشكو إليه ضعف الشعر وانتهاز الشعراء في هذا العصر , فأين هم وأين شعرهم من الشعر العربي الأصيل , ويصفهم الشاعر بأبشع الصفات , يصفهم بخصيان السلاطين وغلمان القياصر وخدم للنساء صاحبات العقود والأساور , ويصفهم أيضا بالعبيد الذين يباعون في سوق النخاسين , ويشير إلى أنهم لا يعرفون السهر في الليل وخطورته ولا ركوب الخيل ومهارته مستشهدا بذلك ببيت المتنبي المشهور :
الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم
لذلك يطلب الشاعر في نهاية القصيدة من المتنبي أن يثور على هذه الزمرة التي تدعي انتسابها للشعر , وان يوقظها من غيبوبتها ويوقفها عند حدها , تلك الزمرة التي وصفها شاعرنا بالثعالب التي تنهش لحم الإنسان العربي .
كما وظف الشاعر شخصية المتنبي في قصيدة أخرى بعنوان "كان زمانا يكذب يا مولاتي" حيث يقول :
كان زمانا لم تغرس فيه
أبرتها نحله
كان زمانا قد دس السم- المتنبي-
فيه إلى سيف الدولة
كان زمان الزنزانة وزمان السكين
كان زمانا من غير جبين
كان زمانا يغرق
يكره يا مولاتي الزنبق (*)
وظف الشاعر شخصية المتنبي في هذه القصيدة توظيفا مغايرا تماما وذلك "بالإسناد إلى آلية "اللقب" وتقنية "المخالفة", حيث يجعل المتنبي خائنا لسيف الدولة , ويدس له السم ليقتله . والحقيقة إن الشاعر لا يدين المتنبي بقدر ما يدين العصر/ الزمان من خلال شخصية المتنبي"(*) , والحقيقة أن الشاعر وفق في هذا التوظيف , وذلك من خلال الاتهام غير المباشر للزمن , وهذه طريقة جيدة في بنية النص الشعري , لأنها تساعد على اتساع فضاء النص وشموله لأكثر من معنى .
ومن الشخصيات الأدبية العربية في شعر معين أيضا الشاعر العباسي البحتري وذلك في قصيدته , قصيدة على سيف البحتري .
وإذا كان معين بسيسو قد وظف في شعره شخصيات أدبية عربية فانه قد وظف أيضا شخصيات أدبية أجنبية كثيرة مقارنة من الشخصيات الأدبية العربية فقد كان الشاعر ينتمي إلى الحزب الشيوعي ومعجب جدا بالتيار الماركسي لذلك اهتم كثيرا بالشعراء الغرب الذين ينتمون إلى ذلك الحزب, ومن هؤلاء الشعراء (بوشكين)(*) الذي وظفه في قصيدة بعنوان " بطاقة معاينة إلى بوشكين" حيث يقول :
لو عشت في بلاط عصرنا
في هذه الأيام
حيث الأرانب العرجاء
تركب الأفيال
وترتمي العنقاء في قفص
وتكتب الأسماك والحيات
أجمل الأسعار والقصص
لو عشت في بلاط عصرنا
لجاء أصلع الجناح , من بطاقة الأمير
مبارزا
وأشهرت في وجهك السلاحف والرماح
فالشعر في المخلاة والنجوم
في مذاود البقر
فما الذي تقول
زهرة البراكين للحجر ؟ (*)
"على الرغم من استغراق بسيسو بهمومه التي هي هموم الإنسان العربي بوجه عام والفلسطيني بوجه خاص , إلا أن حالتي الرفض والتمرد ملازمتان له وكأنه يرسم في مخيلته عالما يريد أن يوصل شعبه إليه , وهذا نابع من البناء الفكري الخاص بالشاعر"(*), لذلك يؤكد في هذه القصيدة أن الشاعر لا بد وان يلتزم إلى جانب قضايا أمته وشعبه , فهو يرى بان للشعر هدف سامي وهو الدفاع عن الظلم والجبروت , وهذا ما كان يفعله الشاعر الروسي بوشكين حيث وقف بالقلم في وجه القيصر الظالم الذي كان يمارس الاستبداد في الأرض , فيوجه معين بسيسو الحديث إليه قائلا : لو عشت في بلاط عصرنا لرأيت كل شيء منقلب على أصله الأرانب العرجاء تركب الفيلة وستجد العنقاء سجينة , ويصف الشاعر شعراء عصره - الذين يرون أن الشعر غرضه الفن فقط - بالسلاحف والبقر فهم لا يستحقون أن نطلق عليهم لقب شعراء .
وقد وظف الشاعر نفس الشخصية الأدبية في قصيدة أخرى بعنوان "إلى بوشكين" حيث يقول :
الشاعر يحشو بالحبر الأبيض غليونه
ويدخن في وجه القيصر, يا بوشكين
قصائده
ويلقم في وجه الرقباء أظافره
آه تعبت أفتش عنك فما أصعب
أن يفتقد الشاعر شاعره
أنا لن أجدك تختبئ في محبرة
أو في داخل أيقونه
كلصوص الشعر الكذابين (*)
إن ثورة معين بسيسو وغضبه على شعراء هذا العصر تبدو واضحة وجلية في القصيدة , فهو يصفهم بأنهم خدم عند القيصر لا يكتبون الشعر إلا للمدح , ثم يتحسر الشاعر على بوشكين لفقده لأنه الشاعر الذي يعرف كيف يكتب قصائده ولم يكتبها ولمن يكتبها .
ونظرا لاتجاه معين بسيسو نحو الشيوعية فانه قد عشق الأدب الأوروبي كثيرا وخاصة الشيوعي , فمن الشعراء الأوروبيين الذين وظفهم في شعره الشاعر الفرنسي (آرثر رامبو)(*) الذي اعتزل الشعر بعد إصابته من صديقه وذلك في قصيدة "إلى رامبو" , فالقصيدة عبارة عن حسرة الشاعر معين على رامبو لأنه اعتزل الشعر لان الشعر لا يعتزل , ومن هذه الشخصيات الشاعر الهنغاري: جوزيف اتيلا (*) والشاعر السوفييتي مايكوفسكي(*), حيث افرد كل شاعر بقصيدة خاصة تربع اسماهما على العنوان وفي مجال السينما الممثل الانجليزي فرانك سيناترا(*) .

ثانيا / تضمين النصوص الأدبية :
اختار الشاعر معين بسيسو من شعرنا العربي ونثره أفضل النصوص التي تلاءم تجربته الشعرية وواقع شعبه المريرة وضمنها في قصائده , بحيث يلاحظ القارئ لقصائده - من خلال قدرة الشاعر في عملية التناص - الاندماج الكامل بين النص الغائب والنص الحاضر , ففي قصيدة"مقامة إلى بديع الزمان الهمذاني" يستخدم الشاعر أسلوب المقامة الذي عُرف عن بديع الزمان الهمذاني , وهي عبارة عن قصص قصيرة كان يكتبها الهمذاني بأسلوب أدبي رفيع في مجلس أدبي , "ولعل أشهر فن عرف به بديع الزمان كان فن المقامات , لأنه أول من ابتكر فكرتها وأطلق عليها هذا الاسم حتى اشتهر بها ونسج على منواله كثير من الأدباء الذين عاشوا بعده " (*), فقد اتبع الشاعر ذلك الأسلوب في قصيدة شعرية وكأنها إحدى مقامات الهمذاني وذلك لينفذ من خلالها إلى قضايا عربية معاصرة يقول الشاعر :
حدثني وراق في الكوفة
عن خمار
في البصرة , عن قاض في بغدان
عن سائس خيل السلطان
عن جارية, عن احد الخصيان
عن قمر الدولة , حدثني قال :
كنا في مجلس مولانا ,
في شمس الرابع من رمضان
مولانا انطقه الله فصاح
من يقع خلف الأبواب
من الفقهاء , من الشراح
- مولانا في بابك عبدك واواء النطاح
وهناك عبدك خفاش بن غراب
والشيخ الواثق بالله , ابن مضيق
صاحب ألف طريق وطريق
تسلكه الزنديقة والزنديق
مولانا عطس ثلاثا يرحمه الله
وانتصبت أذناه
- الىَّ بوأواء النطاح
وانزلق الشيخ من الباب
وبرك أمام السلطان
مولانا كفا في كف ضرب
وهمهم يا وأواء
أقسمت ثلاثا للجارية الرومية وطفاء
أن اطرق مخدعها,
ضلت قدمي, واختلطت في عينيَّ الأبواب
وصحوت مع الديك , فإذا بي ,
أتمدد في ذنبي
في حجرة احد الغلمان
وتنحنح , بسمل , حوقل
وأواء النطاح وصاح :
ليس على مولانا السلطان جُناح
فالقسمة غلبت , والعبرة في النية ,
إلى أين تسير القدمان ...
وسواء , في المخدع انس أو جان
والذنب على الجارية ,
فلو وضعت في باب المخدع مصباح
ما ضلت قدما مولانا
والله تعالى اعلم والسلطان
وخازن بيت المال (*)
يعالج معين بسبسو في القصيدة الهمذانية قضية قديمة ومعاصرة , وهي قضية رضوخ حاشية السلطان أو الملك أو الرئيس له , والوقوف معه حتى في ظلمه وعدوانه , وهذه القضية عاشها معين بسيسو وما زلنا نعيشها نحن في أنظمتنا العربية التي لا تقر بأخطاء الرؤساء إطلاقا , فهم معصومون من الخطأ , وهم ليسوا من طبقات البشر التي تخطأ , فالصواب ملازم لهم دائما وابدأ .
يطرح معين بسيسو هذه الإشكالية من خلال مقامة تتحدث عن وجود سلطان فاسد ذو حاشية فاسدة أيضا تطيعه في كل شيء حتى في المعصية , وتحرف الدين بأيديها إذا كان الدين يظهر أن السلطان مخطأ , لذلك يقلبون الفتاوى حتى يظهر أن السلطان لا عتب عليه في أي فعل يقوم به , ففي إحدى الليالي وعد السلطان الجارية الرومية وطفاء أن ينام في مخدعها فإذا هو ضل الطريق في الليل ونام في غرفة احد الغلمان وفعل معه المعصية ولم يعرف انه قد ضل الطريق إلا في الصباح مع صياح الديك , لذلك أراد من المفتين أن يعرف أعليه لوم وحرج في ذلك ؟ ولكن أهل الفتاوى الكاذبة يضعون اللوم على الجارية التي كان من المفترض - على حد زعمهم - أن تضع مصباحا على باب مخدعها حتى لا يضل السلطان الطرق .
ومن النصوص الشعرية التي ضمنها معين بسيسو قول المتنبي في قصيدة "الشعر وخصيان السلاطين" والتي أشرت إليها آنفا في مبحث توظيف الشخصيات الأدبية حيث يقول المتنبي :
الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم

يقول الشاعر :
كل من لطخ بالحبر الأظافر
كل من لم يعرف الخيل ولا الليل
وبيداء المخاطر
والقوافي وهي كالبض البوات
جاءنا يركب صهوات القصائد (*)
يشير الشاعر في الأبيات السابقة إلى شعراء العصر الحديث الذين يصفهم بأنهم لا يعرفون ركوب الخيل ومهارته , ولا يعرفون الليل ومخاطره , ولا يعرفون البيداء , كل هذه الصفات التي ذكرها كانت شكوى منه إلى المتنبي لذلك استوحى الشاعر نصا من شعره وقلب فخره هجائها عليهم , وكان الشاعر يستخدم تلك الكلمات كإشارة لهؤلاء الشعراء فقط , فهو لم يقلها على لسان المتنبي بل قالها من لسانه هو , وهذا يدل على قدرة الشاعر على توظيف النص الغائب في داخل النص الحاضر من خلال عملية التناص الشعري بحيث يجعل القارئ عند وصوله إلى تلك الصفات يخترق حقبة زمنية ليصل إلى شعر المتنبي نفسه فيصبح حائرا أهو يقرأ شعر فلسطيني معاصر لمعين بسيسو؟ أم يقرأ شعر عباسي لأبي الطيب المتنبي ؟

ثالثا / توظيف الحكايات الشعبية :
يمثل التراث الشعبي رصيدا من العادات والمعتقدات وكل ما يتصل بالحياة اليومية لدى شعب من الشعوب , وتمتلك الشعوب العربية عامة والشعب الفلسطيني خاصا نصيبا كبيرا من ذلك الرصيد , ويظهر ذلك من خلال الاهتمام بذاك الموروث في جميع جوانب الحياة التي يعتبر الأدب أهمها , فقد اهتم الأدب وخاصة الشعر بالتراث الشعبي وعمل على استدعاء أمثاله وحكاياته وغنائه ...الخ ووظفه في بنية النص الأدبي مما يجعل القارئ العربي يتجه وجهة ذلك التراث البعيد .
ومن هؤلاء الشعراء شاعرنا الفلسطيني معين بسيسو الذي أحيا تراثنا الشعبي في شعره , وكان أكثر ما يشغله من التراث الشعبي ألف ليلة وليلة وحاكياتها العجيبة , حيث تمثل شهرزاد ذلك المنبع من القصص والحكايات , فوظف معين شهرزاد نفسها وأميرها شهريار في شعره كما وظف القصص التي قصتها شهرزاد .
ففي قصيدة (شهرزاد وفارس الأمل جمال عبد الناصر) يقول الشاعر :
يا شهرزاد-
على جناح السيف كان " أبو الليالي " شهريار
يهوي إليك وفي الركاب
النطع والسّياف –
يا أمّ اللّيالي والحكايه
غير الحكايه والجراح
غير الجراح
فلقد مضى عصر القصائد ببغاوات تطير
في روضة الملك السعيد
فالشرق في قمم النّهار
الشرق نجم فوق جبهة مصر فارسنا جمال
وله غناء
أشواق أجنحة الدماء لكي تطير
وكفّي ترفرف خلف قضبان وسور
وغرام عينيّ اللتين تغرّدان
للفجر أغنية السماء بلا حديد
للدّرب أغنية الخطى العطشى إلى نبع الدروب
وإلى الرفاق مع الشوارع عناق
وبلا فراق
ولحلم فلاّح بشمس من سنابل لا تغيب
للبلبل الصدّاح في شفتيّ حبيب
ومغرّدا بالقبلة الأولى التي تلد الحبيبة والحبيب
ولبحر غزة والهدير
من قلب صيّاد هناك يهبّ كالريح الهدير
وحنيني الخفّاق في شفتيّ حين ترفرفان
وتطرزان وبالقبل
الباب والشبّاك في بيتي الصغير
بيتي الذي ما كفّ ينبض في نوافذه الضياء
فمن يقول
في بيتنا الحالي , النوافذ مطفأه
وبصدر شعبي لؤلؤه
لن تستحيل إلى رماد
يا شهرزاد (*)
شهرزاد هي "ابنة الوزير التي قبلت أن تعيش كجارية في قصر شهريار تترقب الموت بين ليلة وأخرى , ولكنها في نفس الوقت تلك الحكيمة المثقفة الواسعة الأفق , التي عرفت كيف تُقوّم طغيان شهريار بعذب أحاديثها وعجيب قصصها , حتى استطاعت أن تضمن حياتها عنده ألف ليلة وليلة, لم تجد نفسها بعدها في حاجة إلى أن تخترع له أحاديث جديدة فقد ردت إليه ثقته في المرأة , وجعلته ينظر في الأمور ببصيرة أكثر نفاذا"(*) .
"وقد أعطته شهرزاد , ما كان يبحث عنه .. وأعطته هذا "الزاد" العقلي , حين أخذت تقص عليه مئات القصص , التي تتنوع بين الحكمة الكاشفة أول الشارحة والعبرة الفلسفية , وبين أخبار غرائب الكون , والطبيعة , وغرائب النفس والسلوك , وبين أخبار النماذج المختلفة من التجار , والملوك والوزراء , والحمقى والصعاليك , والنساء , وأصحاب الحرف , فكأنها كانت - في الحقيقة - تفتح عينيه , وتفتح عقله , على معرفة أسرار كثيرة , موجودة في هذه الحياة الإنسانية القائمة على الأرض , ومجاهل هذه الأرض ذاتها التي نعيشها عليها"(*) .
شهرزاد في قصيدة معين بسيسو هي نفسها شهرزاد في ألف ليلة وليلة , ولكنها في هذه القصيدة لا تقوم بدور الراوية , بل هي الآن تقوم بدور المستمعة , مستمعة إلى رواية جديدة يرويها عليها الشاعر معين بسيسو الذي يلعب دور الراوي , حيث يروي لها رواية جديدة تعينها في لياليها الطويلة عند شهريار , بل يمكن أن يعفي عنها إلى الأبد إذا سمع تلك القصة العجيبة من لسان شهريار , إنها قصة الشعب الفلسطيني المغلوب على أمره , والذي حمله الفارس جمال عبد الناصر في قلبه وأصبح يغني الشعب لذلك الفارس في كل صباح ومساء .
لقد رأينا كيف استطاع الشاعر في القصيدة السابقة أن يوظف شهرزاد والتي أعطاها دورا مغايرا للدور الذي عرفناه عنها إنها تستمع لأجمل وارق الروايات من لسان فلسطيني ثائر أحب ذلك الفارس .

الخاتمة
يعتبر الشاعر الفلسطيني الغزي مهين بسيسو من واحدا من الشعراء الفلسطينيين الذين حملوا القضية الفلسطينية على اكتنافهم , أمثال محمود درويش وسميح القاسم وغيرهم كثيرون , لذلك نجد شعر بسيسو عبارة عن حلقة كاملة من النضال والمقاومة والبسالة ضد المحتل الغاشم , فلم يكن يرى معين هدفا أمامه سوى الأرض والمقدسات وقد ساعد على ذلك فكره الشيوعي الذي يرفض الظلم ويسعى نحو التحرر .
أما فيما يتعلق بتوظيفه للتراث , فقد أشرت في الدراسة إلى مقولة للشاعر مفادها : أننا لا يمكن أن ننفصل عن تراثنا , لأنه مليء بالبطولات والأصالة والعراقة , لذلك لا بد لكل شاعر أن يهتم بذلك التراث ويوظفه , وقد صدق معين في هذه المقولة , فيكاد يكون شعره عبارة عن كومة من التراث القديم بكافة أشكاله .
ولم يميز معين في شعره بين هذا التراث أو ذاك بل دخل عليه من جميع أبوابه واخذ ينهل منه , ومن خلال الدراسة تبين لي ما يلي :

1- اطلاع معين بسيسو الواسع وثقافته العميقة في الكثير من المجالات , حيث درس الأساطير والتاريخ والأدب العربي والغربي , فكان رمزا من رموز العلم في فلسطين .
2- سيطرة الفكر الاشتراكي على معين جعله يهتم اهتماما كبيرا بالشعر الأوروبي وشعرائه وخاصة شعراء الاتحاد السوفييتي أمثال مايكوفسكي , بوشكين , آرثر رامبو , وغيرهم كثير.
3- وظف معين التراث بكافة أشكاله لينفذ من خلالها إلى قضايا شعبه المعاصرة , فيذكر طروادة ويرد بها العرب , ويذكر الحجاج ويريد به ظلم الأنظمة العربية وهكذا , أي انه عبر عن قضايا الشعب الفلسطيني بطرق ملتوية استخدم فيها التراث كأداة ليخفي خلفها ما يريد أن يقوله قلوبه , وهذه سمة من سمات الشعر العربي المعاصر .
4- لعب التناص القرآني دورا كبيرا في إثراء شعر معين بسيسو وتوضيح غاياته , حيث اكتسب شعر معين سمة الصدق من اصدق كتاب على وجه الأرض .
5- استخدم الشاعر التراث اليهودي ليس من اجل التفاخر به , بل من اجل إظهار صورته البشعة التي هي كذلك فاظهر ظلمه وغدره وقسوته .
6- تحسر الشاعر معين بسيسو على المنزلة الدنيئة التي وصل إليها شعرنا العربي في هذا العصر , لذلك وجدناه يستحضر شعراء فحول من العربية ليتفاخر ويستنجد بهم.
7- يحتل التراث التاريخي وكذلك الأدبي المنزلة الأولى في شعر معين من حيث الكم , حيث جاءت اغلب أشعاره التي تحمل في باطنها التراث الأدبي وكذلك التاريخي , ولا ننسى التناص الديني وشخصياته التي كان لها دورا كبيرا في شعر أيضا , بينما يحتل التراث الأسطوري وكذلك الشعبي المرحلة الدنيا في شعره , فلم يتوفر في شعره ذلك الكم الهائل من كلا المصدرين .
وأخيرا نستطيع القول أن معين بسيسو برع في توظيفه للتراث بكافة مصادره وعمل على صهر الموروث الغائب في النص الحاضر من خلال قدرته على التلاعب بالألفاظ في سياق شعري جذاب .
ملخص
معين بسيسو شاعر فلسطيني من غزة , عشق الأدب منذ صغره , وخاصة الشعر , فكتب الكثير من القصائد مدافعا فيها عن قضية شعبه .
عشق معين التراث بكافة مصادره ورفض الانفصال عنه , لذلك اخذ الشاعر ينهل من ينابيعه المتفجرة , ويوظفها في شعره , حتى أصبح شعره أشبه بصالة للتراث بكافة أشكاله , فوظف الأساطير العربية والإغريقية , ووظف التاريخ بشخصياته وأحداثه , واستدعى النصوص القرآنية وضمنها داخل النص الشعري , كما وظف الشخصيات الإسلامية التي تمثل الجانب المضيء في تاريخنا الإسلامي , كما انه أعطى الديانات الأخرى نصيبا من ذلك التوظيف , كما نهل من تراثنا الأدبي فاستدعى نصوصه وتفاخر بشعرائه إلى جانب الشعراء الغربيين أيضا , أما الحكايات الشعبية فكانت بمثابة تزيين لشعر معين بسيسو .
ومن خلا تحليل القصائد التي احتوت على ذلك الموروث تبين أن الشاعر يمتلك قدرة في استدعاء النصوص الغائبة وربطها في بنية النص الشعري

Abstract:

Mo’en Bseiso is a Palestinian poet who is from Gaza. He loved the literature when he was a child especially the poetry. He wrote many poems defending about his people issue .Moreover he loved all sources of heritage and connected between the present and the past ;therefore, the poet took writing his poems from various sources of heritage .Mo’en also uses them in his poetry even it has become like a hall that is doused with heritage's forms. In addition to that he also used the Arabic and Greek legends and history with all its characters and events .The poet used the Holly Quran's verses testifying them within the poetic texts. He also used the Islamic characters that represent the bright side in our Islamic history ;granted a chance to other religions to be used with his poetry. Moe’n Bseiso also quoted from our literary legacy ;used his texts and boasted with his poets in addition to western poets also. Regarding to the popular tales which were to decorate Moe’n Bseiso's poetry.
In brief , through the analysis of the poems, which included on that heritage indicates that the poet has the ability of using the missing texts and connect them in the structure of the modern poetic text .

المصادر والمراجع :
أولا / القرآن الكريم

ثانيا / المصادر :-
1- الأعمال الشعرية الكاملة , معين بسيسو , الطبعة الثانية , دار العودة , بيروت ,1987م.
2- ألف ليلة وليلة , رشدي صالح , دار مطابع الشعب , المجلد الأول .
3- الإلياذة , الملحمة الخالدة لشاعر اليونان القديم هوميروس , ترجمة أمين سلامة , الطبعة الثانية , دار الفكر العربي , القاهرة , 1981م .

ثالثا / المراجع :-
1- الأسطورة في الشعر الفلسطيني المعاصر , احمد جبر شعت , الطبعة الأولى , مكتبة القادسية , خان يونس , 2002م .
2- استدعاء الشخصيات الراثية في الشعر العربي الحديث , د علي عشري زايد , دار الفكر العربي القاهرة 1417هـ / 1997 م .
3- التراث أثره وتوظيفه في مسرح توفيق الحكيم , وطفاء حمادي هاشم , المجلس الأعلى للنشر 1998م .
4- التراث الإنساني في شعر أمل دنقل , د جابر قميحة , القاهرة .
5- التراث الشعبي الفلسطيني ملامح وأبعاد , د خليل إبراهيم حسونة , مكتبة اليازجي , غزة 2002م .
6- التراث في شعر رواد الشعر الحديث , د احمد عرفات الضاوي , الطبعة الأولى , مطبعة البيان , 1998م .
7- الموسوعة في الأدب العربي , عبد الله بن المقفع , جورج غريب . دار الثقافة , بيروت.
8- آفاق الرؤيا الشعرية (دراسات في أنواع التناص في الشعر الفلسطيني المعاصر) , د إبراهيم
نصر موسى , الطبعة الأولى, وزارة الثقافة - الهيئة العامة للكتاب , 2005م .
9- بديع الزمان الهمذاني رائد القصة العربية والمقالة الصحفية , د مصطفى الشكعة , الطبعة الأولى, عالم الكتب , بيروت , 1403هـ - 1983م .
10- توظيف التراث الشعبي في المسرح العربي في مصر , د أحمد صقر , مركز الإسكندرية للكتاب .
11- دفاتر فلسطينية , معين بسيسو , منشورات صلاح الدين , القدس , 1980 م .
12- في التراث والشعر واللغة , د شوقي ضيف , دار المعارف .
13- ما قالته غزة للبحر , دراسة نقدية في تجربة معين بسيسو الشعرية , د نادي ساري الديك , الطبعة الأولى , وزارة الثقافة الفلسطينية , رام الله , 1998م .
14- معين بسيسو حياته , شعره , مسرحه , بسام علي أبو بشير, دار الثقافة العلمية , الإسكندرية .

رابعا / الرسائل الجامعية :-
1- توظيف التراث في الشعر الفلسطيني المعاصر , صلاح البردويل , رسالة دكتوراه , جامعة عين شمس – الجامعة الإسلامية - غزة 1422هـ - 2001م .
2- توظيف التراث في ثلاثية السبعاوي , إعداد الطالبة باسمة صبح , رسالة ماجستير , جامعة عين شمس – جامعة الأقصى 2002 م .

خامسا / المجلات والدوريات :
رؤية نقدية في أعمال الشاعر معين بسيسو المسرحية , د غسان عبد الله وكتاب آخرون بعنوان "لم تسقط من يده الجمرة" , وهي دراسات وقصائد في الذكرى الرابعة لرحيل معين بسيسو , اتحاد الأدباء والكتاب الفلسطينيين , 1988م .
 
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف