الأخبار
2024/6/16
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

لوكيميا

تاريخ النشر : 2012-07-03
لوكيميا

عندما يكون المرء محاطاً بهواجسه يكون لتصاريف القدر أمور لا يمكن له تكهنها .
فقصة حمدي وعائلته هي لمن القصص التي تعتمل في تفاصيلها إرادة الله مع طغيان البشر .
فهو أبٌ لأربعة وخطيب مفوه لا يبارى إذ يقال أنه من قاد حرب الاستنزاف في أعقاب الحرب العربية الإسرائيلية الثالثة في الجزء الجنوبي من الجولان , حمل السلاح وتزنر بحبل من الرصاص السوفييتي الطويل كما اعتمر شماخه المذهب وأخذ يدعو الرجال للكفاح المسلح , فالتف حوله الكثير من الرجال والنسوة , ويتذكر الناس في قريته والقرى المحيطة خطابه لحظتها بعينان تشتعلان وطنية وصدقاً , يصفه أحد الشيوخ لي بأنه وقتها وقف بجبين شامخ وأخذ يصرخ بالجموع بعينان كعينا الصقر قائلاً :
-" يا أهلي الطيبين ست سنين ونحن نصبر على لأوآئهم وما فتئوا يوماً على أذيتنا , ست سنين والإسرائيليون ما برحوا يستنزفوا أرضنا وعرضنا ودمنا , إلى متى نسكت فتعالوا لنقذف بحقنا على باطلهم ونطهر هذه الربى من زبلهم المر , تعالوا لنخرج لهم كالفطر من بين الرجوم كلما رعدت آلاتهم وأبرقت ضغينتهم , كما نقف أمامهم كالطود ونطبق تلك الوديان على أذنابهم .
تعالوا ولتلكع حرابنا اليوم أيديهم الآثمة ولنحرر ما بقي لنا من أرضٍ حتى لو لثمت هذي الشمس أكفاننا النازفة ... "

هدئت الحرب
أربعينياً كان هو وابنه عندما عوت خلفهما دورية إسرائيلية مفاجئة بالقرب من خط وقف إطلاق النار . معصوب اليدين والرجلين كان عندما دحرجه جنديان إسرائيليان في مؤخرة سيارة زيل عسكرية مموهة .
مشدوهاً .. فاغر الفم ومشدود الأعصاب ينتظر مصير ابنه " تيم " الراكض عنهم باحثاً عن الحياة وعن مكان ينزوي فيه من نزف رصاصهم المدوي خلفه بعصبية ..
"- بالله عليكم لا تقتلوا ابني .."
يصرخ أبيه محاولاً استعطاف قلوبهم وشحذ عزيمته ..
"-... اركض يا تيم .. أهرب يا حبيبي .. بالله عليكم لا تقتلوه .. نحن إخوة يا قوم , نحن إخوة .."
لا جدوى
سقط تيم
لكنه يقف من جديد .. فترديه رصاصة أخرى تبقيه ساكناً .. يستجمع قواه لكن طعم الدم المتسايل من خياشيمه وفمه أقوى من أن يدفعه للنهوض مرة أخرى , يستذكر في لحظات عمره الأخيرة خطيبته " زينب " التي تنتظر بصمت مخجول ليلة عرسها , والدته , إخوته " صلاح ورباب وبسمة " , رفاقه و الخمسة وعشرون عاماً من عمره التي تحشرجت في صدره كرصاصة لا تعرف سوى استجلاب الذكريات ..
*****
عصبوا عيناه, وفي غرفة ساكتة معتمة أقعدوه على كرسي صغير لا يناسب مؤخرته .
زعق صوت قادم من آخر الغرفة بلكنة عربية سريعة ومكسرّة :
- اسمك ..؟
- نعم ..؟
- ما اسمك ..؟
- حمدي ... حمدي يوسف شنيور
- العمر ..؟
- أربعون عاماً
- السكن ..؟
- في قرية حيتل قبل أن تغتصبوها
- متزوج ..؟
- وقبل إحضاري إلى هنا قتلتم بِكري ورابع إخوته ..
قال ذلك فتذكر ابنه وقد همى الدمع من عينيه .. ثم صُفق باب الغرفة وخرج المحقق بأجوبته , مرت بضع ساعات حتى فُتح الباب من جديد و قدم شخص آخر بخطوات قاسية وعميقة مقترب صوب حمدي الذي لازال مربوطاً مذ اعتقلوه , صرخ المحقق الجديد :
- أهلاً .. أهلاً سيد حمدي .. رحمة ربي على ابنك
- لا تذكر ابني على لسانك أيها النذل ..
- مم .. سأسامحك على هذه الإهانه ليس إلا لأننا دولة ديمقراطية , كما لستُ ألومك يا رجل فأنا أب أيضا , وقد سمعت بقصة ابنك أيضا وتأثرت كثيراً , لكن العرب تقول أن الحي أبقى من الميت ..
قال تلك الكلمات ثم دس فمه بأذن حمدي وأكمل بصوت خافت :
- وبكل أدب أتمنى أن يلحقوك بالميت قريباً .
عاد لوضعيته يجول الغرفة ذهاباً وإياباً مكملاً حديثه المسموم بصوت عالٍ هذه المرة :
- اسمع يا هذا لن أخفيك سراً أني لا أطيقك , وأن اسمك على اللائحة السوداء في تل أبيب وأن نشاطاتك في الهضبة تغضب الإسرائيليين وتزعجني , لكن للقيادة لدينا فلسفات وحسابات أخرى , لذا ستكون في ضيافتنا إلى أن تشاء القيادة وتبت في أمرك ... ها .. ألسنا مؤدبون معك ..؟
تحدثوا طويلاً ولساعات , ثم دُك حمدي في السجن إلى أن مضى شهر ونيف على احتجازه , بعدها أدخلوه عيادة طبية وأجروا له عدة فحوصات , وبالقرب من الحدود وحيث اعتقلوه جذفته سيارة جيب بيضاء تابعة للأمم المتحدة ليعود إلى دياره .

وبعينان عاجزتان متألمتان وحيل فاتر منهك أخذ يذرع الربى وهاتيك الهضاب مستجلباً في رأسه الذي وخطه الشيب ولحيته الكثة كيف صرف هو وابنه الأيام قبل استشهاده على هذا التراب , يمضي الى بيته محاولاً نسيان كل شيء لكن طعم الأبوة أقوى من ألا يسوقه الى المكان الذي ذُبح فيه ابنه , كما هو أقوى من ألا يجعله يسقط ليشتمّ التراب الممزوج بدم ابنه الطاهر , أقوى من كل شيء في هذا العالم , كما طعم الأبوة أضعف من أن يجعله لا ينشج على رحيل ابنه كالطفل ..

عاش حمدي بين أهله ستة شهور , مكسوراً حزيناً , وبعدها باتت تتبدى على جسده علائم ضعف بائن , حتى إذا عاود الطبيب بدفع من بنيه وأجرى له فحوص مخبريه سأله :
- أأجريت يوماً عملية سيد حمدي ..
-عملية ..؟ وأي نوع من العمليات ..؟
- عفواً لا أقصد عمليات فدائية , إنما عمليات جراحية .
- أبداً لا أذكر شيء كهذا سوى أني بترت إصبعي الإبهام جراء شظية .. صديقي الطبيب أظن أني لا أعاني شيء سوى إني مكسور الخاطر لفقدي ولدي وأعتقد أن أبنائي يبالغون بإحضاري إلى هنا , لذا أخبرهم أني لا أعاني شيء ودعني أرجع إلى بيتي ..
- ألم يتعرض جسدك لأشعة أو غازات سامة يوماً .
- لا أظن سيدي الطبيب ... لكن لما تسأل ..؟
- لستُ أخفيك أن الفحوص والتحاليل تشير إلى تعرض جسدك لأشعة غريبة ..
سمع ذاك الجواب ثم نزل عن السرير وأخذ يزر إزار قميصه وقال كمن تذكر شيئاً :
- لحظة , قبل ستة أشهر كنت أسيراً لدى الإسرائيليين وبعد شهر من الأسر , وقبل إطلاق سراحي أجروا لي فحوص طبية شاملة , ثم أدخلوني في غرفة شديدة النور وبعدها بثواني قلال أغمي عليّ وعندما استيقظت وجدت نفسي مرمياً عند الحدود ..

وقف الطبيب وقد وضع يديه في جيوبه فبانت قامته الطويلة وشفتيه العاجزتان عن النطق :
- يؤسفني القول أنك مريض ..
سكت حمدي ثم حملق بعينان مفتوحتان إلى الطبيب وقال بصوت خافت :
- وما هي علتي ..
- لوكيميا
سمع تلك الكلمة فاصفر وجهه , فضرب يداً بيد , ثم قال :
- أولاد الكلب كنت أعرف أنهم لن يخرجوني حياً .
******
كلما زاغت شمسٌ وبزغت أخرى ما كانت تخفى عليه نظراتهم المتعاطفة مع حاله وابتساماتهم الدافعة للأمل , لأن حاجته لأهل قريته كبيرة ... وحاجته إلى الله أكبر , فعندما يقترب المرء من الموت تكون الطريق إلى الله طريق شاقة وطويلة , ولا يقصّر المسافة بينهما سوى ابتسامتهم ... فالمجتمع وجد كي يحمي العاجز من الوحدة وينسي المهوم بالمآسي أساه .. لكن كثير من الناس لم يفهموا أن الحياة ابتسامه وانه سينقرض اولئك الذين لم يتعلموا كيف يبتسموا , ولم يتعلموا كيف يصرفوا صباهم ...

استقرت الشمس في كبد السماء عندما زف له الطبيب - وبقدرة قادر - خبر شفائه , وأن الفحوصات تشير إلى أنه هزم المرض وغلبه .
عاد إلى البيت مسرعاً , ليشارك فرحته بنيه وأهله , لكنه لا يقدر على الانتظار فيرجع ليستأذن الطبيب فيرفع سماعة هاتف العيادة فرِحاً ليخبر أهله أنه تغلب على المرض , يغلق السماعة ,يطلق ساقاه الطويلتان للريح, مهطعاً يختصر المسافات فيذهب في طريق فرعي ويجتاز الحاجز الإسمنتي بسرعة قبل أن ترتطمه دراجة نارية مسرعة يقودها شاب في العشرين ليتكوم هامداً على الرصيف بالقرب من حمدي النازف بقسوة.

جفأت عيناه , وهرعت القرية لنجدة المصابين
الكل يهز كتفيه بعصبية وبخوف وبشيء من الهستيرية ..
والكل يصرخ " حمدي .. أبو تيم .."
لكن لا جدوى ..
" إسعاف .. أحظروا الإسعاف .. هذا الشاب ينزف "
يصرخ آخر " يا إلاهي .. يا ألاهي .. هذا صلاح .. يا إلهي الأب والابن يموتون في نفس الليلة .. سقياك ربي .. سقياك ربي .."
" حمدي لا تغمض عيناك ستأتي سيارة الإسعاف .. لا تدع صلاح يغمض عيناه "
الكل يذرف دمعاً .. والكل ينظر بألم وحسرة وبكامل العجز ..
يدس احدهم إصبعه الغليظ صوب وريدهما عله يكتشف نبضا أو حرارة أو حتى عرقاً يضخ دماً ..
لكن لا جدوى لأنهم قرروا النوم ونوم المعذبين على هذه الأرض المخمورة بالآلام ثقيل .
لا جدوى ...
لأنهم قرروا الرحيل ...
تمت في 1332012
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف