الأخبار
2024/5/17
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

الزعيم المفقود عربيا بقلم:عادل بن مليح الأنصاري

تاريخ النشر : 2011-08-27
شخصية مثيرة للجدل حقا , عندما أجد عبر وسيلة إعلامية ما خبرا عنه أتوقف قليلا أمامها , الغريب في هذا الرجل وفي شخصيته أنه ومنذ عقود يحارب طواحين الهواء ولم يمل أو يستسلم ,تقبع في شخصيته بقايا رموز وشخصيات تاريخية وسياسية وخاصة الثورية منها , يحاول ان يكون الجميع في شخصه , يرى نفسه كاسترو تارة وجيفارا تارة وماوتسي تارة وعبدالناصر أحيانا.


القذافي شخصية اقرب ماتكون لشخصية رجل صدم في تاريخه الوهمي , كان يسعى يحاول ويظن أنه قادر على التغيير ليس في بلده ولكن في التاريخ الاجتماعي والسياسي البشري .


ربما الكثير من تخبطات القذافي ومغامراته ونزواته أحيانا تنبع من ذلك النداء الداخلي في قرارة نفسه أنه منقذ البشرية أو منقذ أفريقيا أو العرب يحاول أن يهز العالم بأطراف أصابعه لأنه خلق لذلك .


على مدى أكثر من أربعة عقود سقطت أوهام القذافي عظيمها قبل صغيرها , فمشاريع الوحدة التي يحلم بها والنظال في سبيلها كانت مجرد أوهام وأحلام تراكمت هزائمها لترتسم على وجهة تلك النظرة التي لا يمكن قراءتها , هرب من إحباطاته السياسية ليقع في إحباطات اجتماعية عبر الكثير من الأراء والنظريات والكتب التي لم تؤثر في أسرة واحدة في المجتمع العالمي وكأنها نظريات للمطالعة وتضييع الوقت .


لقد انحدرت أحلام القذافي من محاولة التأثير في المجتمع الدولي إن لم يكن في الاستئثار به وتزعمه روحيا على الأقل لمغامرات واهية وفاشلة في تشاد إلى الوقوع في مستنقع طائرة ناضل وجاهد طويلا للخلاص من تلك البقعة الصغيرة , أي أحلام تلك التي انتهت عبر طائرة , وربما تلك الانهيارات الممتدة عبر عقود ساهمت في إضفاء شيء من الضبابية على شخصية القذافي .


الملازم أول معمر القذافي ومن خلال حركة الضباط الوحدويين الأحرار استولت على السلطة في ليبيا في العام 1969 وسرعان تفجرت في نفس الملازم الثائر محاولة غرس أصابعه في جسد التاريخ فقام بإجلاء القواعد الأمريكية والإنجليزية عن ليبيا وأصدر قانونا بمنع شرب الخمر ثم ألغى الدستور ومظاهر الحياة المدنية من صحافة والأحزاب وفرض الزكاة وبدأ مسلسل المغامرات الوحدوية مع مصر وتونس وتشاد , وغير بدء التاريخ بدءا من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم .


إن محاولة التسارع بعجلة التاريخ ومنذ بداية ثورة الملازم القذافي تتدل على نفس مشبعة ومتضخمة بالأحلام والتطلعات , ثم تتابعت أحلام الملازم نحو الخارج القريب والبعيد فتدخل في تشاد والفلبين وأوغندا وبين باكستان والهند وبنغلاديش وتوطيد العلاقات مع الاتحاد السوفيتي .


القذافي الذي مازال يحلم بأمانة القومية العربية كما منحه ذلك جمال عبدالناصر , يقف اليوم وربما تمتليء نفسه انكسارا وخيبة لسقوط أحلامه في الدهاليز الخلفية للتاريخ ,


لقد كان هاجسه الأكبر ربما الوحدة العربية ثم تقلصت أحلامه لتكتلات وحدوية أصغر , (مصر السودان ليبيا) عبر ميثاق طرابلس الوحدوي ,اتحاد الجمهوريات العربية ليبيا مصر سوريا , الوحدة الاندماجية مع مصر , الجمهورية العربية الإسلامية مع تونس ,اتحاد ليبيا الجزائر , اتحاد سوريا السودان ليبيا ,الاتحاد العربي الإفريقي مع المغرب ودعوة الدول العربية للانضمام إليه , اتفاقية مراكش لوحدة دول المغرب العربي , الاتحاد العربي , الاتحاد العربي الإفريقي .


لاشك أن هذا العقيد وكما يقال (إذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام) , لا أريد أن أعلق على نزواته ومغامراته الغير محسوبة والغير مدروسة غالبا ولكني أقر له بالطموح والعمل والسعي لما يؤمن به , وبتمسكه بأفكاره ومعتقداته حتى ولو لم تعجب الكثيرين .


ولكن يبدو أن العقيد قد استسلم أخيرا لإحباطاته , وودع أحلام الثورة وانتشار أفكارها وأثارها خارج ليبيا , وهذا أمر طبيعي فما عاد في العمر بقية لمزيد من الأحلام وربما الحفاظ على بعض المكتسبات أفضل , لقد ألقى العقيد جلبابه الثوري ثم أناب ’ لم يعد يقوى على مطاردة الأحلام الثورية أو فقد القدرة على ذلك , فحادثة صغيرة بالنسبة لطموحات ثائر كلوكربي أطاحت بأخر أحلام الثائر الكبير , وحلمه الكبير بفروسية القرون الوسطى أرتد ليحطم طاولته المستديرة ليكتشف أن سيفه من خشب وأن ثورته من فقاقيع , كيف لا ومازالت تطارده لعنة الصدر وهو الزعيم الذي يحلم بحكم العرب ولم يستطع وأد ذكرى رجل واحد , الزعيم الحالم يصطاد في بحيرة آسنة قضية ممرضات الإيدز ليكسب خطوة باهتة نحو العالم الكبير .


وأخيرا يجد الزعيم الحالم فرصة تاريخية فيقف ليعنف العالم ويلقي بكل ما في جعبته نحو إسقاطاته وكأنه ينتقم من المجتمع الدولي الذي حرمه نعمة الزعامة و مكاسب الثورة ليقف مدة ساعة ونصف في الجمعية العامة في 23ديسمبر من العام 2009 ليغرس سيفه الخشبي في أوصال المجتمع الدولي , كان خطابه عقلانيا ومليئا بالصدق والحسرة والنقمة , كان يسطر كشف حساب لهذا المجتمع الدولي وكأنه يلقي أخر كلماته مودعا أحلاما أرقته عقود , لم يترك العقيد شاردة ولا واردة من أحداث وسياسات إلا وهزها في وجه الحاضرين ابتداء من عبثية المنظمة الدولية مرورا بهيمنة الولايات المتحدة عليها وأنها ليست إلا منبرا للخطابات وعرج على تعويضات الدول المستعمرة إلى غزو غرينادا وحرب العراق وأفغانستان وإعدام صدام حسين وأبو غريب وصبرا وشاتيلا واغتيال لومومبا وكنيدي وحتى انفلونزا الخنازير ومعاهدة أتوا لحظر الألغام ودار فور والقرصنة البحرية ودافع عن القراصنة الصوماليين .


إن محاولة القذافي تدويل نظرياته السياسية والاجتماعية وزعمه تطوير نظام ثالث بين الماركسية والرأس مالية ,وبدعة دولة إسراطين لحل القضية الفلسطينية , كل ذلك ويزعم أنها خلاصة تجربة البشرية وكأن تجارب البشرية توقفت عند طموحات العقيد أو كأنها نظرية جديدة عن نهاية التاريخ , لتدل على عمق تأثره بالثوريين ومحاولة طموحة ليجد مكانا أسطوريا بينهم ,لقد آمن القذافي أن خلاص العالم لن يكون إلا عبر أفكاره من خلال الكتاب الأخضر والأبيض .


القذافي رجل أعتقد الزعامة وأمن بها وحيدا وغامر كثيرا وظهر كثائر تارة وكمجنون أخرى وكمضحك أحيانا , لم يترك شأنا دوليا حتى صغائر الأمور إلا وخاض فيها بعمل أو برأي أو بتصريح .


هل القذافي أخر المحاربين الثائرين ؟


هل هو أخر الفرسان الحالمين ؟


هل كان صادقا مخلصا في رؤيته عالما عربيا موحدا ؟


أم هو مجرد رجل حطمته أحلامه وزعامته الوهمية ؟


ربما حتى التاريخ سيعجز عن إعطاء هذا الرجل مكانة واضحة المعالم . .

( ربما لو استوعب هذا العقيد المثير للجدل صيف الثورات العربية وخاصة الأفريقية المجاورة وأطر حالة بن علي ومبارك في ذهنه , واحتضن ثورة الليبيين قبل استفحالها وقدم بعض التنازلات التي كانت ستحسب له لا عليه , لاستمر في تنظيراته السياسية وقدم نفسه للتاريخ كأول زعيم عربي يخرج من ثورة بلاده منتصرا , وربما كان أنموذجا مثاليا لغيره من زعماء العالم , هذه الخصوصية كانت لائقة بشخصية كشخصية القذافي المثيرة للجدل أصلا كما أن خلفيته القبلية وطبيعة المجتمع الليبي تخدم غرضه هذا وأي خدمة , ولكنه وبكبريائه الأحمق وتصرفه الذي لا يخرج عن طبيعة تصرفاته عامة والتي لا تخرج عن إطار الغرابة آثر تلك العنجهية وفوت فرصة تاريخية لن تحدث عبر حياته إلا مرة واحدة , لقد كانت أمام العقيد صور لم تزل تحتل شاشات الفضائيات عبر العالم , فهناك صورة مبارك وهو في محكمته وقد حطم تاريخا سياسيا وعسكريا باذخا , وصورة بن علي الهارب المريض المطارد , ناهيك عن بقية الصور العربية السياسية ولكن الأقربون الأفارقة أولى بأخذ العبرة منهم , وبقيت صورة واحدة لم يحتلها زعيم عربي بعد , ألا وهي صورة الزعيم الذي ركع أمام رغبة شعبه وأحنى رأسه أمام رياح الغضب الجماهيري الكاسح وانتقل بوطنه وشعبه نحو العدل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي , ولحق بركب الأمم المتحضرة بدل استخدام العسكر وألـ (بلطجية أو الشبيحة وما سيظهر من مسميات أخرى ) ضد مواطنيه , صورة هذا الزعيم العربي لو ظهرت ستكون هي الانقلاب الحقيقي لتاريخ العرب السياسي ).

فهل سنجد تلك الصورة قريبا لذلك العقيد الزعيم المفقود؟؟؟
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف