الأخبار
2024/5/17
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

بين العجز الحضاري والثقافي

تاريخ النشر : 2011-01-21
بين العجز الحضاري والثقافي
(عادل بنم ليح الأنصاري)

ربما يمضغ قطار الحضارة في طريقه لحم الجسد الاجتماعي أحيانا كثيرة , فالمخضرمين في العمر يدركون الدفء الذي كان يسكن الجسد الاجتماعي في حقبة زمنية ما ضية , ولت أزمنة الحواري والتجمعات تحت (إتريك الحارة) , وخروج قوافل الشباب لتنظيف أزقة الحواري قبل ليلة العيد من الأحجار وركام المخلفات المختلفة , ثم التخطيط بين مجموعات الجيران لزيارة بيوت الحارة دون إغفال أي بيت , ويمضي قطار الأيام ويمر بمحطات حضارية مختلفة , ويختفي ذلك الدفء شيئا فشيئا , وتذبل خيوط الشرنقة الاجتماعية ابتداء من الجيران مرورا بالأقارب وحتى أبناء العائلة الواحدة , عصرنة تعصر في طريقها أفئدة كانت رهينة للصخب الاجتماعي , وسحب داكنة من الرسائل الالكترونية وخيوط الشبكة العنكبوتية وفضائيات أغرقت ما تبقى من الزمن الجميل في مستنقع الحضارة الملتهب , وبتنا على شرفة الوقت نرقب تسارع الأيام والشهور وكأنها في سباق معنا لتصل بنا خط النهاية لتعلن للغافلين (End of Life) أو ( انتهت حياتك) .
ربما كانت مسيرة الحياة الاجتماعية معلقة بين عجلات قطار الحياة ولا بد لها من المرور بمحطات مختلفة الأطوار , ولكن لماذا يعجز الإنسان من الحفاظ على مكاسبه الاجتماعية عبر الزمن من ذلك الدفء الاجتماعي الذي غرب مع غروب شمس الحواري ؟
ولماذا نكتفي بقشور التغيير ونحصر أنفسنا بين إطارات التغيير الاجتماعي دون المنظومات الأخرى من الإطارات الحضارية ؟
وفي اعتقادي أن استبدال بيوت الطين والحجر والصنادق والأتريك والفانوس والزير بالبيوت الاسمنتية أو الصناديق الاسمنتية والفلل والقصور , واستبدال الجمل والحمار والحصان باللكزس والمرسيدس والفيراري كلها استبدالات قشرية تحت مظلة الشكل الاستهلاكي والمستعبد والعالة على دعم مجتمعات بعيدة , إن تلك المجتمعات تستطيع خنق ومحو الهيكل الحضاري الذي تغتر به المجتمعات الاستهلاكية المتلقية لكل جديد من تلك المجتمعات البعيدة , ولا شك أن هذه الحضارة (القشورية) ورثت لأبنائها قواعد عامة تبتلعهم من حيث يدركون ومن حيث لا يدركون , فمن تلك القواعد ( أنا ومن بعدي الطوفان ) واستبدلنا مقولة ( أنا وأخي على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب ) بمقولة ( أنا على أخي وابن عمي والغريب) , كما أصبح الرصيد البنكي أهم من الرصيد الأخلاقي والديني , ونبتت بين ظهرانينا براعم سوء طالت واستطالت وتجردت من روابط الأرض والوطن والمواطنة والدين والأخلاق , فخانت الأمانة وداست على أرواح الأبرياء مقابل ( رشوة أو واسطة أو هجرة لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها أو لن ينكحها ) .
هذا الأرث الحضاري الذي تفيأنا بظله وسنورثه لأجيالنا القادمة والذين حتما مع تنامي قسوة التغيير عبر كل جيل سيضيفون عليه بصماتهم التي تلوح في الأفق من عقوق ولهاث خلف المادة وارتماء بين أحضان التطور التكنولوجي ومحاربة كل صوت يدعو للتمسك بما تبقى من قيم (إلا ما رحم ربي) , ومع الغرق في التبعية الحضارية وصلب الابداع والتطور الذاتي والبعد شيئا فشيئا عن ملامحنا الاجتماعية العتيقة , وتوقف الحياة بكل نواحيها على ما يقذف إلينا من الشرق أو الغرب (ابتداء من ملابسنا الداخلية وحتى الطائرة التي نسافر فيها ) , سنكون كاللقمة التي تلوكها الأفواه حتى إذا ما فقدت طعمها لفظت كما تلفظ العلكة بعد استهلاكها .
إن المجتمع بحاجة ماسة وظرورية لأن يفتح دفاتره المغبرة , ويخلق ( مكاشفة ) اجتماعية جديدة ليبدأ (إعادة بناء) تبدأ من المواطنة الصادقة تحت ظل ( أحب لأخيك ما تحب لنفسك ) ومرورا بـ(المؤمن للمؤمن كالبنيان يَشُدُّ بعضُه بعضاً) وانتهاء (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) .
إن غياب الوازع الديني والذي يندرج تحت لوائه الوازع الحضاري , يظهر في جسد المواطنة كأسوأ ما يمكن أن يحدث من غياب الإحساس الصادق بالمواطنة وحب الآخرين وعدم الإساءة للوطن , وزرع بذور الشقاء الاجتماعي للأجيال القادمة وما بعدها . كما أن غياب الإحساس بالمسئولية الصادقة يضيع الأمانة التي يقع فوق كاهلها أرتال من الأدبيات الحضارية والمادية والإدارية والأخلاقية فكلنا مسئول عن نفسه وعن رعيته أولا ثم عن الهيكل الاجتماعي المحيط ثانيا .
إن أخطر ما يواجه أي مجتمع عبر التاريخ البشري هو تضييع الأمانة التي تبرأت منها الجبال وحملها الإنسان الذي ألقى بها في أحيان كثيرة تحت براثن مصلحته الشخصية وكأنه فرد واحد أحد وليس قطعة من لحم ودم داخل منظومة جسدية واحدة إذا تعفنت بجرثومة المد الحضاري بعيدا عن لقاح الأخلاق تعفن سائر الجسد واستكان لبوادر (الغرغرينا) الاجتماعية و (الغرغرينا) المادية و (الغرغرينا) الأخلاقية و (الغرغرينا) الوطنية .
إن الوطن والمواطنة بناء يحمينا من العواصف والتيارات الخبيثة التي تخطف الناس من حولنا , وليس من المواطنة في شيء الاهتمام بقشور الحضارة ونحن نعاني من عجز حضاري يتغلغل في أعماق تفاصيلنا اليومية , فالحضارة ليست مال وبناء وكماليات وتفاخر بالأنساب والأولاد , ولكن الحضارة الحقيقية هي بناء الذات وتملك مفاتيح القوة الاقتصادية والأخلاقية والحفاظ على سائر الجسد الاجتماعي من حمى العولمة المجردة من الإنسانية والاهتمام بالآخر والبعد عن الأنا .
إن تملك مفاتيح القوة الاقتصادية والاكتفاء عن الآخر أو الشراكة المتزنة والتنوع الإنمائي لهو جوهر الأمان بعد الله لمستقبل آمن .
وهذا التغيير المنشود هو أمانة عظيمة ستسألنا عنه أجيال الغد , وينبغي لأي غافل قد أصابه مرض العجز الحضاري أن يعي أن ما يغفل عنه من عجز حضاري هو مرض وراثي سيصيب أبنائه وأبنائهم من بعدهم شعر بذلك أو لم يشعر .
إن السعادة الحقيقية والبداية الصحيحة لبناء حضارة إنسانية يتفيأ الجميع بنعمها وهي البذرة الكريمة التي تخبيء الغد الواعد والمستقبل المطمئن لفلذات أكبادنا تقوم على قاعدة بسيطة المعنى سهلة القول يسيرة الفهم ولكنها عظيمة الغاية وتحوي بين معانيها على لبنة الهيكل الحضاري الراسخ هي ( أحب لأخيك ما تحب لنفسك) , فكل شر تسعى به ولو ( دون أن تقصد أو تقصد ) خلف ظهر الوطن والمواطن هو شر يصيبك كما يصيب الآخرين .
فمن أرتشى فهو عاجز حضاريا .
ومن قطع إشارة المرور فهو عاجز حضاريا .
ومن عبث في مصلحة عامة فهو عاجز حضاريا .
ومن عبث في أرزاق الناس فهو عاجز حضاريا .
ومن تسبب في عناء المواطنين فهو عاجز حضاريا .
ومن ألقى نفايات من سيارته فهو عاجز حضاريا .
ومن عبث في منشأة ترفيهية أو مقعد على شاطيء البحر أو لوث الحوائط بكتاباته فهو عاجز حضاريا .
ومن عبس في وجهك فهو عاجز حضاريا .
ومن قصر في وظيفته فهو عاجز حضاريا .
ومن حرص في وظيفته على أقل قدر من الجهد ولديه إمكانية التطوير فهو عاجز حضاريا .
وربما لا نهاية لصور العجز الحضاري الذي يمكن أن نعاني منه والذي قد يصادف أيا منا ذات وقت .

أما العجز الثقافي , فربما كان العجز الأكثر إيلاما والأسهل معالجة والذي لم يعد مستهجنا أو غاب عن وجه حياتنا اليومية , فلم يعد للكتاب صحبة وأصبحنا ننظر باستغراب وربما ببعض الاستهزاء بمن ينتظر في مكان ما وهو منهمك في قراءة كتاب ما , وهذا إن وجد , فمن منا عبر ممارساته اليومية المختلفة شاهد شخصا ما وفي أي موقع على خارطتنا المكانية وقد استخلص من أوقات الانتظار أجمل ما فيها ألا وهي الاختلاء بكتاب ما , ولربما استكان آلاف الأشخاص وفي مختلف الأماكن لساعات الانتظار وهم يلوكون الوقت بنظرات شاردة أو مراقبة الرائح والغادي أو إهدار لحظات من العمر في سبيل اللاشيء , لقد غاب الكتاب عن لحظات حياتنا اليومية وصار البعض يعاقره قهرا في سبيل حياة مادية يسعى إليها , وأصبحت المكتبات ترتكن لموظفيها ولأرتال الغبار والتصاق الصفحات , وخلت المنازل من غذاء الروح واستبدل الكتاب بالوجبات الثقافية السريعة وربما المسمومة من (نت و فضائيات , إلا ما رحم ربي) , وربما أخذت الكتب شكلا (ديكوريا) لا أكثر ولا أقل , وربما نجد في بعض المقابلات السريعة عبر بعض البرامج أسئلة بسيطة وتعتبر من مبادئ المعلومات الثقافية ولا تجد من يجيب عليها , وربما ايضا تجد شابا جامعيا لا يستطيع اإجابة عن أسئلة ثقافية سهلة المضمون أو لا يستطيع قراءة آية من القرآن قراءة صحيحة أو ربما بيت شعر لشاعر جاهلي مثلا , لقد مضى زمن المعلم الشامل الذي يستطيع أن يزود طلابه بكافة الوجبات الثقافية من قراءة ونحو وصرف وتاريخ وحساب وإملاء وحل محله المعلم المتخصص الذي يعجز ربما في توصيل تخصصه بطريقة سلسلة لطلابه , وظهرت نظريات (دفه لا تنشب فيه) بدلا من الحرص على نجاحه بجدارة (إلا من رحم ربي) ,
وما أسوأ العجز الثقافي حين تجد صاحب الشهادات العليا لا يستطيع كتابة جملة مفيدة دون خطأ أو لا يستطيع إلقاء خطاب دون أن يرفع المفعول وينصب الفاعل ( ذات مرة حضرت ندوة في جامعة ما وكان المحاضر رئيس قسم اللغة العربية ورصدت أكثر من عشر جمل يرفع فيها المفعول وينصب الفاعل ) .
إن تناول الثقافة عن طريق (الفضائيات أو النت) أشبه بالحقنة الموضعية التي تأخذ لعلة محددة ولكنها لا تشفي كافة البدن من علله , ولا ينتج عنها الإحساس بلذة ومتعة تلقي لطائف الكتب ورحيق الكلمات , إن احتضان الكتاب ومجالسته والتنقل بين عوالمه بهدوء وروية دون ضجيج الأضواء والأصوات لهو محض نشوة تجتاح الروح وتأخذ بالفكر والعقل والوجدان لعوالم مدهشة .
إن الخروج من ضائقة العجز الثقافي ليس لها حل سحري أو علاج خرافي أو نصائح خبير , ولكنه وبكل بساطة العودة لرياض الكتب وبدء التعود على صهر جزء من الوقت المهدر في الانتظار أو العبث أو استنزاف هذا الوقت في مواد لا تسمن ولا تغني من فكر , إن بداية اتخاذ مثل هذا القرار حتى ولو شابه الكثير من عدم القناعة الذاتية أو الإحساس بعدم الرغبة في خوض مثل هذه التجربة التي اصبحت غريبة علينا لهي كافية في زرع بذرة الحب الفطري للثقافة التي فقدناها بعد وقوعنا تحت عجلات قطار العجز الحضاري والثقافي .
إن وقوع أي مجتمع بين سندان العجز الحضاري ومطرقة العجز الثقافي لهو كاف لخلق أجيال جوفاء ومجتمعات اتكالية طفيلية , تنمو للداخل حتى تتبلد وتتعفن وتموت .
فابدأ بنفسك ,
فما أنت إلا جزء من كل ,
وإذا صلحت صلح الكل ,
وصلح اليوم ,
وصلح الغد لأجيال الغد الذين هم أبناؤنا وأحفادنا ,
فإما تركناهم يترحموا علينا أو يلعنونا .
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف