بين فولتير وعطية .. (عادل بن مليح الأنصاري)
( كان فولتير قبيحا بشعا , مختالا , معجبا بنفسه , فصيحا بذيئا مستهترا وأحيانا غادرا وفاسقا , لقد كان رجلا يحمل أخطاء زمنه وعصره ومكانه ..) . نقلا عن قصة الفلسفة.
هذا هو فولتير الرجل الذي تأثر بالحياة الفرنسية المضطربة وطحنته الظروف الاجتماعية والسياسية والمؤامرات والأحقاد , ومن هنا ندرك كيف اكتسب فولتير كل هذه الصفات القبيحة التي يمكن أن نقول أنها إفراز طبيعي للهيكل الاجتماعي والسياسي السائد في ذلك الوقت , وكان فولتير عنصرا فاعلا في كل ما يحيط به من أحداث بين عامي ( 1715 – 1778م) أي لمدة تقارب 63عاما , مليئة بالأحداث الجسام .
والوجه الآخر لفولتير نزيل الباستيل هو ذات الوجه الذي أنتج أول فلسفة عن التاريخ , فولتير الذي وضع في حياته تسعة وتسعين كتابا , والذي كان أكثر معاصريه إنتاجا وتألقا .
فولتير الذي قال عنه "فكتورهوجو" (أن اسم فولتير يصف القرن الثامن عشر كله) , والذي كان سمة فرنسا كلها .
وقال عنه "لامارتين" (أن فولتير أعظم كاتب في أوربا الحديثة بلا منازع) .
كيف استطاع هذا الرجل أن يحمل في نفس واحدة كل هذا التناقض العجيب في شخصيته , فإلى جانب قبحه وبشاعته وبذاءته نجده فيلسوفا أديبا متكلما متألقا , وإلى جانب غدره وفسقه نجده أعظم المفكرين حيوية ونشاطا , ورغم تمرغه في تراب الباستيل إلى أنه جال أفخم قصور أوربا , كيف استطاع هذا الرجل بكل صفاته السلبية أن يقتحم القلوب الأوربية ويحفر اسمه في ذاكرة الزمن وبكل هذه القوة ؟
لكن هذا الرجل القبيح احترف الفكر !
نعم لقد استطاع من خلال قلمه أن يجسد معاناة المجتمع الفرنسي خاصة والأوربي عامة في ذلك الوقت , وتعرض للكنيسة بكل ما تعج به من خرافات وانحرافات , وذلك من خلال رواياته مثل ( لانجينو) , وتعرض لبشاعة الحروب والتكالب على المادة وعدم الاقتناع بما وهبنا الله من نعم من خلال روايته( ميكرو ميجاس) , وتعرض للغدر والخيانة والطمع الذي يتصف به الإنسان , والحب والوفاء والأمل عبر قصته ( صادق) , ومن خلال كتاب (كنديد) ناقش الكثير من القضايا الأوربية ابتداء من التطاحن المسلح ومرورا بمحاكم التفتيش وانتهاء بسلبيات الإنسان الأوربي وقسوته , وكل ذلك بأسلوب فلسفي جريء .
وفي المقابل ( كان عطية رجلا مهذبا خلوقا متواضعا هادئا رقيقا كريم النفس وفيا مثقفا محبا للخير , لا يحب الإساءة لغيره ولا يتحدث إلا بالخير , يتناول قهوته في الصباح ثم يتوجه إلى عمله مرتديا ابتسامة صافية كقلبه , يؤدي ذلك العمل كل يوم بإخلاص وتفان وقناعة , ثم يعود إلى زوجته وأطفاله حاملا حبه لهم وشيء من فاكهة وخبز , وحين يغيب قرص الضياء الدافئ ينام قرير العين هادئ البال ) .
هذا كل ما يمكن أن يقال عن "عطية" ذلك الرجل الطيب الهادئ ,
ربما كان عطية يقول بأفعاله وسلوكياته وابتسامته ما لا يمكن لفولتير وأدبه من أن يصوره , ففولتير كأديب حارب القسوة والخداع والغش والحرب والعنف والخرافات والمؤامرات , ومجد الحب والوفاء والحق والمثابرة والجد والعمل بقلمه , لا بسلوكه , بينما عجز كإنسان أن يقوم نفسه وسلوكياته من البذاءة والاستهتار والغدر والفسوق , أما عطية فقد كان صورة حية للوفاء والأمانة والمحبة والإخلاص والتفاني وإنكار الذات من أجل الكل , كما كان مثالا للاستقامة الحميدة .
فأين تكمن الفجوة بين فولتير وعطية ؟
ربما كان فولتير من فئة ( وأنهم يقولون مالا يفعلون) , والله يقول في كتابه ( وفي أنفسكم أفلا تبصرون) , فالفجوة بينهما عميقة عمق الإنسانية ذاتها , فأغلبية الناس قديما وحديثا لم يتعودوا على أن التأمل واستخلاص الحكمة من أنفسهم ومن كل ما يحيط بهم , بل ركنوا إلى "التخصص " , فالمرض يبحث فيه الطبيب والسعادة يبحث عنها الحكماء وأسرار الطبيعة يبحث عنها العلماء , وهكذا , وإن كان التخصص وما يؤديه من تكامل اجتماعي مطلب فطري وبديهي , إلا أننا يجب أن نترك شيئا لأنفسنا , وربما درس الإنسان قديما الظواهر الخارجية من باب الخوف والعجز أمام قوة الطبيعة وقسوتها أحيانا , ولكنه عندما درس دواخله واتجه إلى نفسه وجد الأعجب والأغرب , فوجد الجسم البشري وقد احتوى على أسرار لا نهاية لها من التنظيم والدقة والترابط الذي ربما يفوق ما علمه عن مظاهر الطبيعة .
وكذلك ما وجده علماء السلوك والنفس من خبايا وأسرار لا تنتهي داخل هذا المخلوق العظيم , وهذا العلم لم يخرج عن دائرة التخصص , فذهب علماء النفس والاجتماع بجزء منه وذهب الفلاسفة والحكماء بجزء آخر , وربما أهمل هذا العلم من قبل العامة , وهذا ما سبب فجوة حياتية بين فولتير وعطية , فلو تعود الناس على التأمل والتدبر في أنفسهم وقوموا أخطاءهم وتعلموا من بعضهم السلوكيات الحسنة لوجدنا مجتمعا مثاليا لأفراده ثقافة فولتير وأخلاقيات عطية , وكانت الكلمة للسلوك قبل القلم , وربما لما أحتاج الناس لمن يأمرون بالبر وينسون أنفسهم , فيسأل الكذاب عن فضيلة الصدق والبذيء عن الأدب والفاسق عن الفضيلة .
(عن فولتير مرة أخرى) من قصة الفلسفة ..
يقول فولتير " لقد اتخذت لي مرشدا ومثلا أعلى القديس (توماديديموس) الذي أصر دائما على الفحص والتجربة بيديه " , فولتير الذي يتمتع بثقافة إنسانية هائلة وفكر متألق وسعة اطلاع لا حدود لها يتخذ من القديس "توما" مثلا أعلى لأخذه بالمنهج التجريبي ؟
ألم يبلغه أن العشرات من العلماء المسلمين اتخذوا من المنهج التجريبي ركيزة لهم في علومهم وتجاربهم وأبحاثهم التي أضاءت أوربا حتى القرن السابع عشر ؟
أم أنها صفة من صفات فولتير السلبية ألا وهي ( الجحود وتجاهل الآخر ) .. ربما
( كان فولتير قبيحا بشعا , مختالا , معجبا بنفسه , فصيحا بذيئا مستهترا وأحيانا غادرا وفاسقا , لقد كان رجلا يحمل أخطاء زمنه وعصره ومكانه ..) . نقلا عن قصة الفلسفة.
هذا هو فولتير الرجل الذي تأثر بالحياة الفرنسية المضطربة وطحنته الظروف الاجتماعية والسياسية والمؤامرات والأحقاد , ومن هنا ندرك كيف اكتسب فولتير كل هذه الصفات القبيحة التي يمكن أن نقول أنها إفراز طبيعي للهيكل الاجتماعي والسياسي السائد في ذلك الوقت , وكان فولتير عنصرا فاعلا في كل ما يحيط به من أحداث بين عامي ( 1715 – 1778م) أي لمدة تقارب 63عاما , مليئة بالأحداث الجسام .
والوجه الآخر لفولتير نزيل الباستيل هو ذات الوجه الذي أنتج أول فلسفة عن التاريخ , فولتير الذي وضع في حياته تسعة وتسعين كتابا , والذي كان أكثر معاصريه إنتاجا وتألقا .
فولتير الذي قال عنه "فكتورهوجو" (أن اسم فولتير يصف القرن الثامن عشر كله) , والذي كان سمة فرنسا كلها .
وقال عنه "لامارتين" (أن فولتير أعظم كاتب في أوربا الحديثة بلا منازع) .
كيف استطاع هذا الرجل أن يحمل في نفس واحدة كل هذا التناقض العجيب في شخصيته , فإلى جانب قبحه وبشاعته وبذاءته نجده فيلسوفا أديبا متكلما متألقا , وإلى جانب غدره وفسقه نجده أعظم المفكرين حيوية ونشاطا , ورغم تمرغه في تراب الباستيل إلى أنه جال أفخم قصور أوربا , كيف استطاع هذا الرجل بكل صفاته السلبية أن يقتحم القلوب الأوربية ويحفر اسمه في ذاكرة الزمن وبكل هذه القوة ؟
لكن هذا الرجل القبيح احترف الفكر !
نعم لقد استطاع من خلال قلمه أن يجسد معاناة المجتمع الفرنسي خاصة والأوربي عامة في ذلك الوقت , وتعرض للكنيسة بكل ما تعج به من خرافات وانحرافات , وذلك من خلال رواياته مثل ( لانجينو) , وتعرض لبشاعة الحروب والتكالب على المادة وعدم الاقتناع بما وهبنا الله من نعم من خلال روايته( ميكرو ميجاس) , وتعرض للغدر والخيانة والطمع الذي يتصف به الإنسان , والحب والوفاء والأمل عبر قصته ( صادق) , ومن خلال كتاب (كنديد) ناقش الكثير من القضايا الأوربية ابتداء من التطاحن المسلح ومرورا بمحاكم التفتيش وانتهاء بسلبيات الإنسان الأوربي وقسوته , وكل ذلك بأسلوب فلسفي جريء .
وفي المقابل ( كان عطية رجلا مهذبا خلوقا متواضعا هادئا رقيقا كريم النفس وفيا مثقفا محبا للخير , لا يحب الإساءة لغيره ولا يتحدث إلا بالخير , يتناول قهوته في الصباح ثم يتوجه إلى عمله مرتديا ابتسامة صافية كقلبه , يؤدي ذلك العمل كل يوم بإخلاص وتفان وقناعة , ثم يعود إلى زوجته وأطفاله حاملا حبه لهم وشيء من فاكهة وخبز , وحين يغيب قرص الضياء الدافئ ينام قرير العين هادئ البال ) .
هذا كل ما يمكن أن يقال عن "عطية" ذلك الرجل الطيب الهادئ ,
ربما كان عطية يقول بأفعاله وسلوكياته وابتسامته ما لا يمكن لفولتير وأدبه من أن يصوره , ففولتير كأديب حارب القسوة والخداع والغش والحرب والعنف والخرافات والمؤامرات , ومجد الحب والوفاء والحق والمثابرة والجد والعمل بقلمه , لا بسلوكه , بينما عجز كإنسان أن يقوم نفسه وسلوكياته من البذاءة والاستهتار والغدر والفسوق , أما عطية فقد كان صورة حية للوفاء والأمانة والمحبة والإخلاص والتفاني وإنكار الذات من أجل الكل , كما كان مثالا للاستقامة الحميدة .
فأين تكمن الفجوة بين فولتير وعطية ؟
ربما كان فولتير من فئة ( وأنهم يقولون مالا يفعلون) , والله يقول في كتابه ( وفي أنفسكم أفلا تبصرون) , فالفجوة بينهما عميقة عمق الإنسانية ذاتها , فأغلبية الناس قديما وحديثا لم يتعودوا على أن التأمل واستخلاص الحكمة من أنفسهم ومن كل ما يحيط بهم , بل ركنوا إلى "التخصص " , فالمرض يبحث فيه الطبيب والسعادة يبحث عنها الحكماء وأسرار الطبيعة يبحث عنها العلماء , وهكذا , وإن كان التخصص وما يؤديه من تكامل اجتماعي مطلب فطري وبديهي , إلا أننا يجب أن نترك شيئا لأنفسنا , وربما درس الإنسان قديما الظواهر الخارجية من باب الخوف والعجز أمام قوة الطبيعة وقسوتها أحيانا , ولكنه عندما درس دواخله واتجه إلى نفسه وجد الأعجب والأغرب , فوجد الجسم البشري وقد احتوى على أسرار لا نهاية لها من التنظيم والدقة والترابط الذي ربما يفوق ما علمه عن مظاهر الطبيعة .
وكذلك ما وجده علماء السلوك والنفس من خبايا وأسرار لا تنتهي داخل هذا المخلوق العظيم , وهذا العلم لم يخرج عن دائرة التخصص , فذهب علماء النفس والاجتماع بجزء منه وذهب الفلاسفة والحكماء بجزء آخر , وربما أهمل هذا العلم من قبل العامة , وهذا ما سبب فجوة حياتية بين فولتير وعطية , فلو تعود الناس على التأمل والتدبر في أنفسهم وقوموا أخطاءهم وتعلموا من بعضهم السلوكيات الحسنة لوجدنا مجتمعا مثاليا لأفراده ثقافة فولتير وأخلاقيات عطية , وكانت الكلمة للسلوك قبل القلم , وربما لما أحتاج الناس لمن يأمرون بالبر وينسون أنفسهم , فيسأل الكذاب عن فضيلة الصدق والبذيء عن الأدب والفاسق عن الفضيلة .
(عن فولتير مرة أخرى) من قصة الفلسفة ..
يقول فولتير " لقد اتخذت لي مرشدا ومثلا أعلى القديس (توماديديموس) الذي أصر دائما على الفحص والتجربة بيديه " , فولتير الذي يتمتع بثقافة إنسانية هائلة وفكر متألق وسعة اطلاع لا حدود لها يتخذ من القديس "توما" مثلا أعلى لأخذه بالمنهج التجريبي ؟
ألم يبلغه أن العشرات من العلماء المسلمين اتخذوا من المنهج التجريبي ركيزة لهم في علومهم وتجاربهم وأبحاثهم التي أضاءت أوربا حتى القرن السابع عشر ؟
أم أنها صفة من صفات فولتير السلبية ألا وهي ( الجحود وتجاهل الآخر ) .. ربما