الأخبار
2024/5/17
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

بين فولتير وعطية بقلم:عادل بن مليح الأنصاري

تاريخ النشر : 2010-11-02
بين فولتير وعطية .. (عادل بن مليح الأنصاري)
( كان فولتير قبيحا بشعا , مختالا , معجبا بنفسه , فصيحا بذيئا مستهترا وأحيانا غادرا وفاسقا , لقد كان رجلا يحمل أخطاء زمنه وعصره ومكانه ..) . نقلا عن قصة الفلسفة.
هذا هو فولتير الرجل الذي تأثر بالحياة الفرنسية المضطربة وطحنته الظروف الاجتماعية والسياسية والمؤامرات والأحقاد , ومن هنا ندرك كيف اكتسب فولتير كل هذه الصفات القبيحة التي يمكن أن نقول أنها إفراز طبيعي للهيكل الاجتماعي والسياسي السائد في ذلك الوقت , وكان فولتير عنصرا فاعلا في كل ما يحيط به من أحداث بين عامي ( 1715 – 1778م) أي لمدة تقارب 63عاما , مليئة بالأحداث الجسام .
والوجه الآخر لفولتير نزيل الباستيل هو ذات الوجه الذي أنتج أول فلسفة عن التاريخ , فولتير الذي وضع في حياته تسعة وتسعين كتابا , والذي كان أكثر معاصريه إنتاجا وتألقا .

فولتير الذي قال عنه "فكتورهوجو" (أن اسم فولتير يصف القرن الثامن عشر كله) , والذي كان سمة فرنسا كلها .

وقال عنه "لامارتين" (أن فولتير أعظم كاتب في أوربا الحديثة بلا منازع) .

كيف استطاع هذا الرجل أن يحمل في نفس واحدة كل هذا التناقض العجيب في شخصيته , فإلى جانب قبحه وبشاعته وبذاءته نجده فيلسوفا أديبا متكلما متألقا , وإلى جانب غدره وفسقه نجده أعظم المفكرين حيوية ونشاطا , ورغم تمرغه في تراب الباستيل إلى أنه جال أفخم قصور أوربا , كيف استطاع هذا الرجل بكل صفاته السلبية أن يقتحم القلوب الأوربية ويحفر اسمه في ذاكرة الزمن وبكل هذه القوة ؟

لكن هذا الرجل القبيح احترف الفكر !
نعم لقد استطاع من خلال قلمه أن يجسد معاناة المجتمع الفرنسي خاصة والأوربي عامة في ذلك الوقت , وتعرض للكنيسة بكل ما تعج به من خرافات وانحرافات , وذلك من خلال رواياته مثل ( لانجينو) , وتعرض لبشاعة الحروب والتكالب على المادة وعدم الاقتناع بما وهبنا الله من نعم من خلال روايته( ميكرو ميجاس) , وتعرض للغدر والخيانة والطمع الذي يتصف به الإنسان , والحب والوفاء والأمل عبر قصته ( صادق) , ومن خلال كتاب (كنديد) ناقش الكثير من القضايا الأوربية ابتداء من التطاحن المسلح ومرورا بمحاكم التفتيش وانتهاء بسلبيات الإنسان الأوربي وقسوته , وكل ذلك بأسلوب فلسفي جريء .

وفي المقابل ( كان عطية رجلا مهذبا خلوقا متواضعا هادئا رقيقا كريم النفس وفيا مثقفا محبا للخير , لا يحب الإساءة لغيره ولا يتحدث إلا بالخير , يتناول قهوته في الصباح ثم يتوجه إلى عمله مرتديا ابتسامة صافية كقلبه , يؤدي ذلك العمل كل يوم بإخلاص وتفان وقناعة , ثم يعود إلى زوجته وأطفاله حاملا حبه لهم وشيء من فاكهة وخبز , وحين يغيب قرص الضياء الدافئ ينام قرير العين هادئ البال ) .
هذا كل ما يمكن أن يقال عن "عطية" ذلك الرجل الطيب الهادئ ,
ربما كان عطية يقول بأفعاله وسلوكياته وابتسامته ما لا يمكن لفولتير وأدبه من أن يصوره , ففولتير كأديب حارب القسوة والخداع والغش والحرب والعنف والخرافات والمؤامرات , ومجد الحب والوفاء والحق والمثابرة والجد والعمل بقلمه , لا بسلوكه , بينما عجز كإنسان أن يقوم نفسه وسلوكياته من البذاءة والاستهتار والغدر والفسوق , أما عطية فقد كان صورة حية للوفاء والأمانة والمحبة والإخلاص والتفاني وإنكار الذات من أجل الكل , كما كان مثالا للاستقامة الحميدة .

فأين تكمن الفجوة بين فولتير وعطية ؟

ربما كان فولتير من فئة ( وأنهم يقولون مالا يفعلون) , والله يقول في كتابه ( وفي أنفسكم أفلا تبصرون) , فالفجوة بينهما عميقة عمق الإنسانية ذاتها , فأغلبية الناس قديما وحديثا لم يتعودوا على أن التأمل واستخلاص الحكمة من أنفسهم ومن كل ما يحيط بهم , بل ركنوا إلى "التخصص " , فالمرض يبحث فيه الطبيب والسعادة يبحث عنها الحكماء وأسرار الطبيعة يبحث عنها العلماء , وهكذا , وإن كان التخصص وما يؤديه من تكامل اجتماعي مطلب فطري وبديهي , إلا أننا يجب أن نترك شيئا لأنفسنا , وربما درس الإنسان قديما الظواهر الخارجية من باب الخوف والعجز أمام قوة الطبيعة وقسوتها أحيانا , ولكنه عندما درس دواخله واتجه إلى نفسه وجد الأعجب والأغرب , فوجد الجسم البشري وقد احتوى على أسرار لا نهاية لها من التنظيم والدقة والترابط الذي ربما يفوق ما علمه عن مظاهر الطبيعة .
وكذلك ما وجده علماء السلوك والنفس من خبايا وأسرار لا تنتهي داخل هذا المخلوق العظيم , وهذا العلم لم يخرج عن دائرة التخصص , فذهب علماء النفس والاجتماع بجزء منه وذهب الفلاسفة والحكماء بجزء آخر , وربما أهمل هذا العلم من قبل العامة , وهذا ما سبب فجوة حياتية بين فولتير وعطية , فلو تعود الناس على التأمل والتدبر في أنفسهم وقوموا أخطاءهم وتعلموا من بعضهم السلوكيات الحسنة لوجدنا مجتمعا مثاليا لأفراده ثقافة فولتير وأخلاقيات عطية , وكانت الكلمة للسلوك قبل القلم , وربما لما أحتاج الناس لمن يأمرون بالبر وينسون أنفسهم , فيسأل الكذاب عن فضيلة الصدق والبذيء عن الأدب والفاسق عن الفضيلة .

(عن فولتير مرة أخرى) من قصة الفلسفة ..
يقول فولتير " لقد اتخذت لي مرشدا ومثلا أعلى القديس (توماديديموس) الذي أصر دائما على الفحص والتجربة بيديه " , فولتير الذي يتمتع بثقافة إنسانية هائلة وفكر متألق وسعة اطلاع لا حدود لها يتخذ من القديس "توما" مثلا أعلى لأخذه بالمنهج التجريبي ؟
ألم يبلغه أن العشرات من العلماء المسلمين اتخذوا من المنهج التجريبي ركيزة لهم في علومهم وتجاربهم وأبحاثهم التي أضاءت أوربا حتى القرن السابع عشر ؟
أم أنها صفة من صفات فولتير السلبية ألا وهي ( الجحود وتجاهل الآخر ) .. ربما
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف