الأخبار
2024/5/17
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

بين الحقيقة والاعتقاد بقلم:عادل بن مليح الأنصاري

تاريخ النشر : 2010-10-23
بين الحقيقة والاعتقاد
(عادل بن مليح الأنصاري)

( والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك )

للإنسان رحلة غريبة مع الحقائق , ذلك الإنسان المادي وتلك الحقيقة المعنوية كم دار بينهما صراع اتسم بالدموية في كثير من الأحيان , بل نستطيع أن نقول عن بعض تلك الحقائق أنه كلما كانت هذه الحقائق متأصلة في أعماق الوجود الإنساني كانت الألسن المطالبة بوأدها في مهدها أشد وأعنف في محاربتها وإن اختلفت بعض هذه الحقائق في مضمونها إلا أنها تشترك غالبا في صفات معينة منها :
1- خروج هذه الحقائق عن المألوف فيما عهده الناس .
2- قلة مناصريها وكثرة معاديها .
3- قسوة وصرامة المعارضين في مواجهتها ومحاولة القضاء عليها .
4- الإصرار وبذل الروح من قبل حاملي لوائها في سبيلها .
5- طول الفترة الزمنية التي تقضيها الحقيقة حتى تثبت وجودها ثم انتشارها مع الاختلاف النسبيي بين حقيقة وأخرى .
6- وأخيرا تشترك هذه الحقائق في حتمية الظهور والتألق مهما كانت فترة الصراع قائمة .
ولكن هل الحقيقة طرف في الصراع العنيف مع الإنسان أم أنها معركة بين الإنسان واعتقاده ؟
إن الكثير من حوادث التاريخ تثبت لنا أن الحقائق سواء الحقائق الدينية أو العلمية قاسمت الإنسان وجوده منذ الأزل , بل أن الوجود البشري على الأرض ما هو إلا نتيجة لحقيقة دينية وهي معصية آدم لربه في الأكل من الشجرة المحرمة .
و نتج عن هذه الحقيقة الدينية حقائق علمية مثل قانون التناسل وقوانين متراكمة في تكوين المجتمعات البشرية , قال تعالى ( هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به ) الأعراف 189 .
فإذا كان الإنسان والحقيقة توأمين فماذا يكون الاعتقاد الذي تسبب في صراعات دموية عنيفة ؟
مما لا شك فيه أن الحقائق لا تتغير ولا تتبدل ولا تقبل الخداع والشك , ولكن الوصول إليها غالبا ليس سهلا فتختفي دهرا خلف الاعتقاد بها , ويأخذ هذا الاعتقاد أحيانا وجه مخادع للحقيقة ويستل سيفها ويحارب باسمها وتسفك في سبيل هذا الاعتقاد أنهار الدماء , ولو كانت الحقيقة سهلت المنال لوفرت البشرية أنهارا من تلك الدماء عبر التاريخ .
ومن المؤكد أن الحقيقة غير الاعتقاد إذا أن الإنسان قد لا يجرؤ على محاربة الحقيقة الواضحة الراسخة في وجوده , مثل وجود الشمس والقمر والأشجار والأنهار وغيرها , وبصور أخرى أن الاعتقاد هو محاولة أولية أو ربما نهائية غير صحيحة للوصول للحقيقة , ولذك تعتبر كثير من صراعات التاريخ ليست إلا إعتقاد بحماية حقيقة ما .
وهذا لا يمنع من ظهور بعض الجبارين الذي يحاربون الحقيقة وهم يعلمون أنها الحقيقة , ولكن التسليم بها قد يسلبهم بعض أو كل المكتسبات المادية والمعنوية التي أحرزوها قبل إثارة صراع ما حول تلك الحقائق .
لقد كان الإنسان والحقيقة توأمان حين كان آدم وحواء في الملكوت الأعلى , فبدأت أولى محاولات طمس معالم الحقيقة من قبل إبليس لعنه الله , قال تعالى على لسان إبليس في محاولته طمس إحدى الحقائق السماوية التى تجرأ عليها هذا اللعين ( ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما اني لكما لمن الناصحين ) الأعراف 20 , لقد كانت طاعة الله في الملكوت الأعلى حقيقة لا تقبل الشك , ولكن إبليس الخبيث بدل ذلك الإيمان بتلك الحقيقة إلى اعتقاد بوجود حقيقة أخرى غائبة عن عقولهم , واستطاع إبليس زرع أول بذرة للاعتقاد الباطل في نفس آدم , ووقع آدم في شرك أول اعتقاد باطل ظنه حقيقة وسعى خلفها , وسرعان ما كشف الله سبحانه له تلك الخدعة وجاءت التوبة سريعا ( قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ) الأعراف 22, ولم يستطع الاعتقاد الباطل أن يجد له مكانا في عالم الملكوت الأعلى ( فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم) البقرة 27, ولكن آدم وحواء وذريتهما دفعا ثمنا باهضا لخضوع آدم وحواء لاعتقادهم الفاسد دون تمحيص وتثبت فكان العقاب الإلهي والهبوط من جنة السماء لضنك الحياة على الأرض , وبدء الصراع الكوني بين الإنسان والشيطان وبين الحقائق والاعتقادات وما بينها من أنهار الدماء .

والأمر على الأرض اختلف , فمع أولى الصراع بين أبناء آدم تاهت معالم الحقيقة واستطاع إبليس أن يبدل الكثير من الحقائق إلى اعتقادات رسمت ملامح الحياة البشرية والتي تقوم على الصراع الدامي الدائم بين الحقيقة والاعتقاد بها .
ومع تكون المجتمعات البشرية وتعدد أنماط الحياة على الإرض وتشعب سبل العيش ونشوء الأنظمة المختلفة , ومرور السنين وتشابك المصالح واستفحال المطامع البشرية , ظل الإنسان في بحث دائم عن الحقائق , وكلما اعتقد في أمر ما أنه حقيقة تمسك به وقاتل دونه وكأنه حقيقة مطلقة , وربما لا يدرك أنه يقاتل من أجل اعتقاد لا من أجل حقيقة .
وتظل الحقيقة بيد الله ( فاما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) البقرة 38, و يظل الاعتقاد بعكس الحقيقة بيد إبليس ( قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين) ص 82 .

والحقائق المتأصلة في وجود الإنسان ( في رأيي , و من وجهة نظر إسلامية ) نوعان :
حقائق دينية , وعلى رأسها كلمة الحق ( لا إله إلا الله) , ثم التعليمات الإلهية المختلفة الواردة في الكتب المقدسة الصحيحة , ولم تتدخل اعتقادات المؤمنين بالأنبياء في هذه الحقائق لأنهم قبلوها كما هي من أنبيائهم وأمنوا بها دون إخضاعها لاعتقاداتهم على أنها حقائق مطلقة بغض النظر عن وجهة المخالفين لهم , وقد حمل لواء هذه الحقائق أنبياء الله .
والحقائق الدينية أكثر تأصلا في وجود الإنسان , بل نستطيع أن نقول أنها السبب في وجوده قال تعالى :
( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) .

ولما كانت هذه الحقائق الدينية أكثر الحقائق تأصلا في حياة المؤمنين بها , كانت الأكثر استحواذا بالدفاع عنها وبذل النفس والنفيس في سبيلها , وكذلك كان أعداؤها اشد تنكيلا ومقاومة لها ومنها القتل والحرق كما نجد ذلك في الكتب المقدسة ومنها :
- كان قوم نوح يهزأون به ويصفونه بالجنون , قال تعالى ( كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر ) القمر9 .
- وعن هود عليه السلام ( قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين ) الأعراف 66.
- وقصة ابراهيم عليه السلام فيها الكثير من صور المواجهة الشرسة , وابراهيم بدأ بالبحث عن الحقيقة المطلقة , واعتقدها في الكواكب ثم القمر ثم الشمس , ثم توصل للحقيقة المطلقة وهي أن الله هو خالق كل هذه المخلوقات العظيمة , ثم عرض تلك الحقيقة بدءا على أبيه ( يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني اهدك صراطا سويا ) مريم43, وكانت أولى أنواع مراحل المواجهة ( لئن لم تنته لأرجمنك) مريم46, ولقد كان قوم ابراهيم يعتقدون في اصنامهم ( وجدنا آباءنا لها عابدين ) الأنبياء53, وفي لحظة اهتزاز لهذا الاعتقاد قالوا ( اجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين ) الأنبياء 55, وانتهت هذه المواجهة بين الحقيقة والاعتقاد بالباطل بصورة تتناسب مع عظم الحقيقة ( قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين ) الأنبياء 68 .
وكذا بقية الأنبياء عليهم السلام لوط – شعيب - موسى مع فرعون وعيسى .

ولنبينا محمد صلى الله عليه وسلم مع كفار قريش رحلة مضنية مع الاعتقاد الباطل , والقرآن الكريم وكتب السيرة والأحاديث تزخر بهذه الأخبار , وقضى النبي أكثر من 23 سنة في هذا الصراع بين الحقيقة المطلقة وبين الاعتقاد الباطل .
ولنتأمل هذا الحوار بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين رجل من أهل الاعتقاد الباطل , دعا الرسول صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب عليه السلام , فقال له اكتب باسم الله الرحمن الرحيم , فقال سهيل بن عمرو : أما "الرحمن" فوالله لا ندري ما هو , ولكن اكتب "باسمك اللهم" كما كنت تكتب , ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اكتب هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله .. فقال سهيل بن عمرو :
" والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك " .

النوع الثاني من الحقائق المتأصلة في وجود الإنسان : الحقائق العلمية , وهذه الحقائق ربما ليس من السهل الحكم عليها والتعرف على مدى صحتها في وقتها إذ أن بعضها يحتاج إلى دراسة وتحليل وتجارب وبراهين حتى تقنع الجميع ولا ترقى إليها شبهة اعتقاد .
وبعض تلك الحقائق قضى مكتشفيها نحبهم في سبيلها بعد مواجهات عنيفة مع معارضيها , وخرجت بعد سنين طويلة من عباءة الاعتقادات الخاطئة وصرخت في وجوه الناس تبكي مكتشفيها , يقول الله عن تلك الحقائق ( وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها) النمل93 .
وحماية الحقائق العلمية في مواجهة الاعتقادات الباطلة نجد أمثلة صارخة عليها في العصور الوسطى وعلى يد رجال الكنيسة الذين اعتقدوا أنهم المصدر الوحيد للحقيقة والعلم , وأن كل اعتقاد مخالف لرأيهم يجب أن يقاوم بقسوة وعنف وتنكيل , وقد ورد في كتاب " موقف الإسلام والكنيسة من العلم" لعبدالله المشوحي :
- في عام 1500 م أُحرق "جيبورجيود" في بولونيا لأنه أنكر ألوهية المسيح.
- كما لاقى اكتشاف التخدير مقاومة شديدة من قبل الكنيسة , وذلك لاعتقادهم أن الآم الولادة تخلص المرأة من العقوبة .
- قامت حرب شديدة على كل من قال أن القمر يستمد نوره من الشمس , وذلك لاعتقادهم أن القمر عبارة عن ضوء عظيم .
- وقال "كوبرنيكوس" أن الشمس لا تدور حول الأرض بل أن الأرض وبقية الكواكب هي التي تدور حول الشمس , فلاقت نظريته حربا شديدة لأنهم يعتقدون أن الأرض ثابتة .
- وطرد "شيكودا سكوني " وكان فلكيا ذا شهرة وعلم من أستاذية جامعة كولونيا ثم أحرق حيا في فلورنسا لأنه علم مذهب " الانتيود" وهو العلم الذي يتناول حقيقة وجود بشر في الجهة المقابلة من الأرض وذلك بعد أن قيل بكروية الأرض .
- كما قامت حملة عنيفة ضد "جالليو" لأنه اكتشف بمنظاره أن هناك سيارات أخرى تزيد عن السبعة التي ذكرتها النصوص المقدسة , كما ثار عليه رجال الكنيسة لتأييده "كوبر" عن دوران الأرض حول الشمس .
- كان أساتذة الجامعات الفرنسية لا يستطيعون أن يظهروا أي حقيقة علمية إذا خالفت أراء الكنيسة مثل " ايبان" و "رينيكوس" .
- "لينيوس" واجه حملة عنيفة من قبل الكنيسة لأنه استطاع بتحليله أن يتوصل لمعرفة سبب إحرار المياه , وعندما استطاع بعض العلماء نتيجة الأبحاث والاكتشافات أن يبينوا بطلان أراء الكنيسة في كثير من العلوم , قام رجال الكنيسة بحملة همجية متوحشة واستحلوا دماء العلماء وأنشأوا محاكم التفتيش الدموية لمحاكمتهم , حتى بلغ عدد ضحايا هذه المحاكم الظالمة (10220) شخصا بين حرق وشنق وعقوبات مختلفة .

وفي (دراسة الكتب المقدسة) يورد "موريس بوكاي" نماذج كثيرة للاعتقادات العلمية الخاطئة , وقد أدت هذه المواجهات الشرسة بين الحقائق وبين الاعتقادات الباطلة إلى ظهور "العالمانية" واستخدمت كسلاح جديد ضد الأديان .

هذه صورة بسيطة للصراع التاريخي بين الحقيقة والاعتقاد , ومع الاختلاف بين صورة وأخرى إلا أنها تنتهي دائما بانتصار الحقيقة ولو بعد حين , لأنه سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا , كما أن الكثير من صور هذا الصراع عاشت فترات زمنية طويلة كما في قصة سيدنا نوح عليه السلام , وشاءت إرادة الله أن يقطف البعض ثمرة هذا الصراع بانتصار الحقيقة والبعض الآخر قضى نحبه دون أن يشهد انتصار الحقيقة , ومن المؤكد أن التاريخ لن ينسى أولئك النفر الذين ناضلوا من أجل الدفاع عن الحقائق التي اكتشفوها حتى وإن سقطت اكتشافاتهم تحت عجلات الاعتقادات الباطلة ردحا من الزمن .
وربما نتوقف لحظات مباركة مع وقفة رسولنا الكريم في الدفاع عن الحقيقة الربانية (لا إله إلا الله محمد رسول الله) حين سطر للتاريخ كلماته الخالده لعمه "أبو طالب " , كناية عن تمسكه بنور الحقيقة المطلقة والدفاع عنها فقال :
( يا عم , والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه , ماتركته )
.
ومع الاختلاف في الهدف والمضمون بين أنبياء الله وبين العلماء (مع أن بعض العلماء دافع عن اعتقادات ظنوها حقائق وأثبت الوقت عكس ذلك ) , إلا أن الحقائق العلمية ليست إلا سنة الله في الخلق والوجود وهو خالقها ومو جدها .
وتبقى مسألة الأديان مع العلم مسألة اعتقاد وحقيقة , لأن الحقائق الدينية ليست أرقام ومواد تحلل في المعامل بل هي نوع من الهداية الربانية يهيئها الله لمن يشاء من عباده ( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ) .
 
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف