الأخبار
سرايا القدس تستهدف تجمعاً لجنود الاحتلال بمحيط مستشفى الشفاءقرار تجنيد يهود (الحريديم) يشعل أزمة بإسرائيلطالع التشكيل الوزاري الجديد لحكومة محمد مصطفىمحمد مصطفى يقدم برنامج عمل حكومته للرئيس عباسماذا قال نتنياهو عن مصير قيادة حماس بغزة؟"قطاع غزة على شفا مجاعة من صنع الإنسان" مؤسسة بريطانية تطالب بإنقاذ غزةأخر تطورات العملية العسكرية بمستشفى الشفاء .. الاحتلال ينفذ إعدامات ميدانية لـ 200 فلسطينيما هي الخطة التي تعمل عليها حكومة الاحتلال لاجتياح رفح؟علماء فلك يحددون موعد عيد الفطر لعام 2024برلمانيون بريطانيون يطالبون بوقف توريد الأسلحة إلى إسرائيلالصحة تناشد الفلسطينيين بعدم التواجد عند دوار الكويتي والنابلسيالمنسق الأممي للسلام في الشرق الأوسط: لا غنى عن (أونروا) للوصل للاستقرار الإقليميمقررة الأمم المتحدة تتعرضت للتهديد خلال إعدادها تقرير يثبت أن إسرائيل ترتكبت جرائم حربجيش الاحتلال يشن حملة اعتقالات بمدن الضفةتركيا تكشف حقيقة توفيرها عتاد عسكري لإسرائيل
2024/3/29
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

نصر أبو زيد: أغلاط ومغالطات بقلم:د. إبراهيم عوض

تاريخ النشر : 2010-08-10
نصر أبو زيد

أغلاط ومغالطات

د. إبراهيم عوض





حين طلب منى أحد الأصدقاء، عقب وفاة د. نصر حامد أبو زيد بقليل، أن أكتب شيئا عنه كنت فى البداية خامل النفس لا أجد لدىَّ نشاطا لهذا الموضوع. ثم لما ألح علىّ أن أفعل وشرع صدرى ينشرح للأمر بدأت بالبحث على المشباك عن مادة أستند إليها بالإضافة إلى بعض كتب الرجل التى أثارت فى وقتها العواصف والزوابع، فهالنى أمر بشع لم أحب أن أؤجل الحديث عنه إلى أن أدخل قلب هذه الدراسة، بل أردت أن أتناوله أول شىء. وهو أن عشرات المواقع تردِّد دون تلجلج أو تريث أن د. عبد الصبور شاهين، عضو لجنة ترقية د. نصر حامد أبو زيد فى تسعينات القرن المنصرم إلى رتبة الأستاذية، قد كفّر فى تقريره الخاص بذلك الموضوع الدكتور نصر، الذى يوصَف فى عشرات المواقع بشهيد الفكر وما إلى ذلك من هذه الألقاب المعجرمة التى يبرع فى صياغتها إخواننا البعداء من التنويريين والحداثيين ومن يرددون ما يقول التنويريون والحداثيون ترديد الببغاوات لما تسمع دون فهم أو عقل. والذى أعلمه أن الدكتور عبد الصبور شاهين لم يكفّر أبو زيد فى التقرير الذى كتبه عن أبحاثه قط، بل اقتصر فى كلامه على الجانب العلمى ناصًّا على وجوه الضعف والتهافت التى اتسمت بها تلك الأبحاث. ومن كان عنده رأى آخر فليرنا من تقرير الرجل خلاف ما نقول.

ولقد كنت قرأت هذا التقرير منذ سنوات وراعنى، بعد كل الضجة التى أحدثها إخواننا البعداء والتى ظننت فى البداية قبل أن أتحقق الأمر بنفسى أنها ضجة ذات أساس، راعنى أن الأستاذ الدكتور لم يتطرق فى أبحاث أبو زيد إلى إيمان أو كفر، بل كان رفيقا به إلى حد بعيد ولم يصنع ما يصنعه "التنويريون!" الجبناء حين يضعون أحدا من المتدينين فى أدمغتهم الخربة فيقصدونه بحرب غير متكافئة، إذ يغرزون الخناجر فى ظهره غلس الظلام ويسوّدون تقارير لا يرعَوْن الله فيها ولا الشرف أبدا، ثم إذا ما عومل واحد ممن ينتسب إلى ثلتهم بما يستحق لضعف أبحاثه صرخوا وتصايحوا وتباكَوْا بدموع كدموع العاهرات عندما يُضْبَطْن متلبسات بالفاحشة فيبكين وينهنهن مدعيات أنه "وعد ومكتوب". إن الجماعة لم يَرُقْ لهم أن ينكشف واحد منهم على حقيقته العلمية فانْبَرَوْا يسبّون الأستاذ الدكتور ويتهمونه الاتهامات الكاذبة غير مراعين سنه ولا مكانته العلمية. ولا أظن أحدا يمكنه أن ينسى مثلا ما ترجمه الرجل من مؤلفات مالك بن نبى، التى قرأناها واستمتعنا بها وتغذينا عليها وتفتحت بها عقولنا واستنارت منها بصائرنا ونحن لا نزال طلابا فى الجامعة.

وقد يحسب بعض الطيبين من الناس أن ما قيل عن تكفير الأستاذ الدكتور لنصر أبو زيد إنما هو خطأ غير مقصود، إلا أننى من معرفتى بألاعيب التيار الذى أخذ على عاتقه الدفاع عن د. نصر أبو زيد بالحنجل والمنجل أعلم تمام العلم أنها فرية مقصودة غايتها تشويه صورة الدكتور عبد الصبور حتى يظن السذج من القراء، وما أكثرهم، أنه ظلوم غشوم، وأن أبو زيد مسكين وقع ضحية لظلمه وغشمه، وأنه من ثم شهيد من شهداء الفكر ينبغى أن تُنْصَب له التماثيل وأن يُعْبَد فى الأرض من دون الواحد الأحد. الحق أن الدكتور عبد الصبور شاهين لم يكفّر نصر أبو زيد، كما أنه لم يرسّبه ترسيبا مطلقا بل ترك الباب مفتوحا لتعضيد أبحاثه بحيث يمكن أن ينجح فى المرة القادمة. وليراجع القراء التقرير المشار إليه للتحقق من هذه النقطة بأنفسهم، وهو متاح فى كتاب د. عبد الصبور شاهين: "قضية أبو زيد وانحسار العلمانية فى جامعة القاهرة".

وقد أُجْرِيتْ مع الأستاذ الدكتور حوارات مختلفة سئل فيها حول هذه النقطة، وكانت إجابته دائما أنه لا يمكنه تكفير أبو زيد ولا غير أبو زيد لأن الإسلام ينهى نهيا شديدا عن أن يكفر الواحد منا الآخر. وآخر هذه الحوارات فيما اطلعتُ عليه منها هو حوار جريدة "الدستور" بتاريخ الأحد 3/ 1/ 2010م، الذى أجراه معه الصحفى مجد خلف تحت عنوان "عبد الصبور شاهين: لم أكفِّر نصر أبو زيد مطلقا. والشيوعيون والعلمانيون أقاموا "مناحة" لإثارة الشارع". ومن بين الأسئلة التى طُرِحَتْ عليه السؤال التالى: "لماذا يعتبر كثيرون أنك المتهم الأول فيما حدث للدكتور نصر أبو زيد؟"، وكان الجواب هو: "الموضوع ببساطة أن نصر أبو زيد تقدم آنذاك بإنتاجه العلمي للترقية إلي درجة أستاذ. والطبيعي أن يقوم أعضاء اللجنة العلمية بفحص إنتاج الباحث وتقييمه، ويقرأ الأساتذة الفاحصون الإنتاج ثم يحكمون عليه كما يحكم القضاة بكل نزاهةِ وضميرِ القاضي دون اعتبار لأي شيء إلا تحقيق العدالة وأن يصل الحق إلى مستحقيه. وقد قدمت تقريري عندما اجتمعت اللجنة، ثم أرسل هذا التقرير إلي الكلية ثم إلي مجلس الجامعة الذي اعتمد التقرير الجماعي. وكان ملخص التقرير أن الأعمال التي تقدم بها الدكتور نصر حامد أبو زيد تحتاج إلي إعادة نظر، والإنتاج المقدم لا يرقّي إلي درجة أستاذ بقسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة القاهرة. إلي هنا والمسألة في غاية البساطة، فسقوط طالبِ ترقيةٍ شيءٌ طبيعيٌّ يحدث في كل زمان ومكان. وإذا جانبه التوفيق في جولة فقد يحالفه في جولة أخري حين يجتهد ويتلافى أخطاءه التي أخطأها في المرة الأولى".

ثم سأل الصحفى الأستاذ الدكتور: "هل اتهمتم في تقرير اللجنة العلمية الباحث الدكتور نصر أبو زيد بالكفر؟"، فكان الرد: "إطلاقا. فلا يمكن أن أورط نفسي في هذا الاتهام البشع، لأن رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: "من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما". وكلنا سنحاسب بين يدي الله تبارك وتعالى، وما كتبته في التقرير الذي أقرته اللجنة العلمية وأقره مجلس الجامعة كان تقييما علميا موضوعيا لأعمال الباحث، فنحن نفحص بحثا لا باحثا. ولم أتعرض في تقريري لعقيدة الباحث أو دينه، فهذا أمره إلى الله سبحانه وتعالى ولا شأن لي به". ومع هذا كله لا تكف المواقع المشباكية المختلفة عن ترديد هذه الفرية كأنها الحق الذى لا مرية فيه، فهم من أنصار "عنزة ولو طارت". بل إن موسوعة "الويكيبيديا" ذاتها فى مقالها عن د. نصر أبو زيد ردّدت للأسف الشديد هذا الاتهام الغريب.

والعجيب أن يشترك فى هذا الزعم د. جابر عصفور، الذى كتب ينوح على شهيد الفكر مقالا نُشِر على مرتين فى جريدة "الحياة" بعنوان "محنة نصر حامد أبو زيد بدلالاتها" أكد فيه هو أيضا أن الدكتور عبد الصبور شاهين قد كفّر فى تقريره نصر حامد أبو زيد. وهذه بعض فقرات مقتطفة من المقال ترينا كيف تناول عصفور هذا الموضوع: "الدلالة الأولى التي خطرت على بالي الآن، وأنا أكتب هذا المقال، هي الجامعة التي بدأت منها المحنة. فقد انحدرت هذه الجامعة انحدارا عظيما بعد أن تدخلت في شؤونها الداخلية الدولة التسلطية التي شاع نموذجها في العالم العربي. وقد سبق أن نقلت عن خلدون النقيب، عالم الاجتماع الكويتي المرموق، أن الدولة التسلطية هي الدولة التي تسعى إلى الاحتكار الفعال لمصادر القوة والسلطة في المجتمع لمصلحة الطبقة أو النخبة الحاكمة التي تنتسب إليها. وهي تتميز بخصائص دالة: أولاها أنها تحقق احتكارها للسلطة من طريق اختراق مؤسسات المجتمع المدني، وتحويل منظماته التضامنية كي تعمل بصفتها امتدادا لأجهزة الدولة. وثانيتها أن هذه الدولة تخترق النظام الاقتصادي وتلحقه بها، سواء من طريق التأميم أو توسيع القطاع العام، أو الزواج غير العنيف غالبا بين رجال الدولة ورجال الثروة. وثالثة هذه الخصائص أن شرعية نظام الحكم في الدولة التسلطية تقوم على العنف أكثر من الاعتماد على الشرعية التقليدية. ولذلك يقترن وجودها من حيث هي دولة بعدم وجود انتخابات لها معنى حقيقي، أو تنظيمات مستقلة عن الدولة، أو دساتير فاعلة أو مشوهة لمصلحة السلطة الحاكمة، أو إلغاء الدساتير أو تعليقها، في موازاة تجميد الحقوق المدنية، وتحويل نسبة كبيرة من الدخل القومي إلى الإنفاق على الأجهزة القمعية لهذه الدولة. والرابعة هي توجيه الأجهزة الأيديولوجية للدولة إلى أن ترسّخ في وعي المواطنين، الرعايا، أهمية الإجماع على ما تراه النخبة الحاكمة بصفته اليقين الوحيد الذي هو قرين الإلحاح على مركزية القيادة التي يختزلها الحاكم الأوحد، الزعيم الملهم، رب العائلة، أو المهيب الركن، أو القائد الأوحد، واستبدال قواعد الوحدة ورفض الاختلاف بمبادئ الحرية وحق الاختلاف، وتأسيس التراتب الهرمي الصارم بين القيادات بصفته الوجه الملازم للتراتب العسكري، ومن ثم إلزام المرؤوس بالطاعة العمياء للرئيس في كل مجال، تأصيلا لحضور البطريركية في المجتمع. وآخر هذه الخصائص التحالف مع القوى الدينية إذا لزم الأمر. فالدين بالملك يبقى، والملك بالدين يقوى. ولذلك إما أن تغض هذه الدولة النظر عن قمع السلطة الدينية أو تجاريها، أو تسمح لها بالعبث بالدستور أو الإسراف في تديين المواطنين ما ظل الأمر في مصلحة الدولة التسلطية، وإلا فإعلان القطيعة والحرب".

وهذا، كما يرى القارئ المطلع على حقائق الأمور، كلام لا رأس له ولا ذيل، إذ إن جابر عصفور هو واحد من أعمدة الدولة التسلطية المستبدة، كما أن دولتنا، التى هى دولة تسلطية مستبدة ولله الحمد، لا تنكل بأحد قدر ما تنكل بالمتدينين (المسلمين طبعا)، ولا تضع فى سجونها ولا معتقلاتها أحدا تقريبا من أهل الاعتقاد إلا المتدينين (المسلمين طبعا). ومع ذلك كله يجد الرجل فى وجهه الجرأة كى يقول هذا الكلام الخديج الذى لا يقنع قطة. وما الذى سيخسره؟ لا شىء طبعا. فليقل ما يشاء دون حسيب أو رقيب. ومتى كان أحد من الرعايا الذين لا قيمة لهم يحاسب أحدا من أهل الحكم أو ممن يلوذون بهم وينفذون سياساتهم الإقصائية؟ ولنستمر مع المقال وكاتبه:

"في هذا المناخ الجامعي، تقدم نصر أبو زيد بإنتاجه العلمي إلى اللجنة الدائمة لترقية الأساتذة في الجامعات المصرية في التاسع عشر من أيار (مايو) عام 1992، وتم توزيع الإنتاج في الثامن والعشرين من الشهر نفسه. وتشكلت لجنة لقراءة الإنتاج العلمي من شوقي ضيف ومحمود علي مكي وعوني عبدالرؤوف. أما الدكتور شوقي ضيف، رحمه الله، فقد كنت أعرف مدى محافظته، ورفضه تيار التجديد الذي كان يراني ممثلا له في الأدب والنقد، ونصر ممثلا له في درس الخطاب والتفكير الديني على السواء. وكنت أعرف من أستاذي شكري عياد، رحمه الله، رفضه الشخصي الحاسم لمواقف شوقي ضيف المتعصبة التي كان يقرنها برجعية الفكر وانغلاقه. وقد أخبرني ذات مرة أن شوقي ضيف كان أحد الذين تسببوا في محنة أحمد محمد خلف الله عندما كتب أطروحته الإشكالية: "الفن القصصي في القرآن الكريم" ورفض قبولها للمناقشة لخروجها على المأثور من القواعد المألوفة في معالجة النصوص القرآنية. وقد تم إلغاء أطروحة خلف الله، زميل شكري عياد في التتلمذ على يدي أمين الخولي، فاضطر شكري عياد إلى تغيير مساره في مدى البحث البلاغي، والاكتفاء بأطروحة الماجستير التي كانت تحليلا أسلوبيا لمشاهد القيامة في القرآن الكريم، وانتقل إلى دراسة "تأثير كتاب الشعر لأرسطو في البلاغة العربية". أما خلف الله فاضطر، بعد نقله من الجامعة عقابا له، إلى كتابة أطروحة جديدة عن صاحب "الأغاني" الأصفهاني. وكان كلاهما، شكري عياد وأحمد محمد خلف الله، يحاولان تطبيق ما نادى به أستاذهما أمين الخولي باسم "المنهج الأدبي في درس النص القرآني" وما يترتب عليه من تغييرات منهجية. وللأسف لم يكن نصر ولا أنا نعرف هذا التاريخ القديم لمواقف شوقي ضيف، التي كتمها شكري عياد في نفسه، وكان كتوما جدا، ولم يبح لي بها إلا بعد أن شكوت إليه من بعض ما كان يعاملني به أستاذي شوقي ضيف، الذي لا أزال أجلّه كل الإجلال، فانفجر شكري عياد في وجهي بما كتمه طويلا، وبما كتمته أنا عن نصر، ولم أخبره به إلى أن غادر الدنيا، عملا بوصية المرحوم شكري عياد، حفاظا على شكل العلاقات الإنسانية. وأجد نفسي في حلّ من هذه الوصية بعد رحيل الجميع، وبقائي وحدي منتظرا اللحاق بهم. وما لم أخبر به نصر كذلك ولا يعرفه أحد إلا أنا والدكتور محمود مكي وأحمد مرسي، مدّ الله في عمريهما، أن شوقي ضيف قرأ الإنتاج، فإذا به أمام منهج جديد لم يألفه من قبل، فضلا عن أنه ما كان راضيا عن منهج الخولي ولا المتابعين له، فاتخذ موقفا سلبيا من الإنتاج، وكتب تقريرا سلبيا. ولكنه، تحسبا للأمور، ومعرفة منه بأنني رئيس القسم الذي ينتسب إليه، بعدما انتقلت الرئاسة إليّ في تعاقب الأجيال، طلب لقاء محمود مكي، الذي كان يعرف قربه مني وقرأ عليه التقرير، وطلب رأيه.

والحق أن محمود مكي صارحه برأيه السلبي في تقريره الذي انتهى إلى رفض ترقية نصر، وأبلغه أن عوني عبدالرؤوف وهو، مد الله في عمريهما، انتهيا إلى الترقية في تقريرهما. وشعر المرحوم شوقي ضيف أنه سيكون في وضع محرج، فطلب من محمود مكي أن يناقش تقريره معي سرا بصفتي رئيسا للقسم الذي هو حريص على صورته فيه، ولا تزال هذه الصورة قائمة يجللها الاحترام، مهما كان الاختلاف الفكري. وجاءني محمود مكي بالتقرير في بيتي جوار بيت شوقي ضيف، وقرأت التقرير، وانتهيت إلى أن الرفض قائم على أساس اختلاف المنهج والفكر. وبعد أن انتهيت من القراءة والتفكير، وانتهى مكي من سؤال سهير ابنتي، رحمها الله، عن أحوالها في الدراسات الإسبانية، التي أسهم في إغرائها بها، سألت محمود مكي عن تقريره، فقال إنه يرى ترقية نصر لأن إنتاجه يستحق،. وإذا كانت هناك هفوة هنا أو هفوة هناك، فهي لا تقلل من قيمة الإنتاج العلمي على الإطلاق، فما أكثر الذين تولت اللجنة ترقيتهم، وهم أقل شأنا وقيمة. وحاولت أن أوضح للعزيز محمود مكي أن الترقية العلمية تتم على أساس من قيمة الجهد والاجتهاد في المجال المنهجي، وأن الإنتاج العلمي يرقى لا إلى اتفاقه مع آراء لجنة التحكيم أو منهجهم، فالأصح أن يرقى بسبب اجتهاده ومغايرة منهجه، وإلا ما تقدم البحث العلمي. وأخبرني مكي أنه مقتنع بذلك، وأنه حاول إقناع شوقي ضيف، ولكنه لم يفلح بسبب رفضه الجذري لمناهجنا الجديدة التي تستعين بالهرمنيوطيقا والسيميوطيقا والبنيوية والتفكيكية. فقلت: إذًا هو الخلاف الحتمي، وسأرفض تقريره في مجلس القسم، واثقا بأن هناك من سيقف معي، فنحن ورثنا احترام تقاليد الاختلاف منكم، ولن نقبل أن تصرفونا أو نصرفكم عنها.

وهنا قال محمود مكي: لا داعي لذلك كله، فلولا حرص شوقي ضيف على معرفة رأيك ما أرسلني إليك. وأنا سأجد حلا معه أو أقنعه بتغيير التقرير. وبعد أيام قابلت محمود مكي، فقال لي إن شوقي ضيف سينسحب من اللجنة الثلاثية، وأنه سيترك مكانه لعبدالصبور شاهين. وانتابني الوجوم، فأنا أعرف فكر عبدالصبور شاهين ومواقفه المعلنة، وانحيازه إلى جماعات الإسلام السياسي والتيارات السلفية. ولكنني قلت لنفسي: لا تتعجل الحكم، ودع الأمور تجري في أعنتها، وليرعَ الله إنتاج نصر في مواجهة أنياب الفكر السلفي المتزمت.

اجتمعت لجنة ترقية نصر أبو زيد بتشكيلها الجديد لقراءة التقارير الثلاثة، واختيار التقرير الذي يعبر عن رأي اللجنة النهائي، وكنت أعرف أن تقرير محمود مكي إيجابي، وكذا تقرير عوني عبدالرؤوف، ولم أكن أثق بعبدالصبور شاهين ولا حياد موقفه. فقد سبق له مهاجمة نصر علانية، وظل غاضبا لما أخذه عليه من علاقته بشركات توظيف الأموال ومهادنته الدولة وجماعات إرهاب التأسلم السياسي على السواء. ولكني كنت أمنّي النفس بانتصار العقل والتقاليد الجامعية الأصيلة. وظللت صامتا الى أن أخذت اللجنة قرارها الفاجع، حيث انحاز أحمد هيكل لزميله عبدالصبور شاهين بحكم عصبية الانتماء إلى دار العلوم، وخوفا من لغة التكفير التي استخدمها زميله والتي لا تليق بتقرير علمي، ولكنها تبعث الخوف في النفوس الضعيفة. واعترض سيد النساج بشدة على رفض تقريرين لعالمين جليلين بالترقية، هما محمود مكي وعوني عبدالرؤوف، وانقسمت اللجنة على نفسها بعد انسحاب سيد النساج احتجاجا، وقبلت تقرير عبد الصبور بفارق صوت واحد، هو صوت شوقي ضيف فيما أظن، وبعض الظن إثم في كل الأحوال. لكن المهم هو الدلالة العامة التي ظلت قائمة، وهي أن اللجنة التي رأسها شوقي ضيف، تلميذ طه حسين، الذي أشرف عليه في أطروحاته الجامعية، خانت منهج طه حسين في التوجه العقلي، وبدل أن تواصل طريق المحدثين الذي انطلق منه عميد الأدب العربي انقلبت على هذا المنهج واختارت طريق القدماء الذين يرفضون إعمال العقل، ويغلقون أبواب التجديد. والمؤسف أن شوقي ضيف، الذي صاغ تاريخ الشعر العربي فنيا في التحول ما بين أربع صيغ هي الطبع والصنعة ثم التصنيع والتصنع، وقد كان ذلك تصنيفا جديدا في زمنه، أخذ موقفا سلبيا من مصطلحات العصر، ورفض أن يكون موقف الإمام الشافعي الفقهي تعبيرا، في التحليل الأخير، عن الأيديولوجيا الوسطية، فضلا عن المصطلحات الجديدة التي استخدمها نصر، مثل الهرمنيوطيقا والسيميوطيقا والخطاب وغيرها من بدع الدراسات الإنسانية الحديثة التي لا ينبغي استخدامها في مجال قديم لا سبيل الى مثل هذا التجديد فيه. وكانت اللجنة بهذا القرار تنحاز الى أهل النقل لا العقل، وإلى المعادين للاجتهاد من أهل التقليد الذين ناصبوا طه حسين العداء الذي نسيه تلميذ طه حسين رئيس اللجنة.

وكانت ملاحظتي الثانية على تقرير عبدالصبور شاهين الذي تبنته اللجنة للأسف أنه تقرير لا علاقة له بالعلم الرصين، وإنما هو تقرير انفعالي خطابي تكفيري يستخدم عبارات لا يليق استخدامها في مجال العلم والخطاب الجامعي بوجه عام. ومن ذلك إشارة التقرير الى أن نصر وضع نفسه مرصادا لكل مقولات الخطاب الديني حتى لو كلفه ذلك إنكار البديهيات، أو إنكار ما علم من الدين بالضرورة. وأضيف الى ذلك صفات مثل كلام أشبه بالإلحاد. وقسْ على ذلك من الكلام الذي يعف قلمي عن ذكره. فالأهم هو أن لغة التكفير المستخدمة في هذا التقرير سرعان ما شاعت على الألسنة المعادية للدولة المدنية، وظلت ملازمة لخطاب التكفير الذي كان يرتفع صوته في موازاة ارتفاع حدة خطاب التأسلم السياسي الذي كان يشيع خارج الجامعة. وكان معنى ذلك أن رئيس لجنة الترقية، تلميذ طه حسين، سمح لخطاب التكفير الذي كان لا يزال خارج الجامعة أن يدخلها ولا يفارقها الى اليوم للأسف. فما أكثر ما حدث بعد ذلك من اتهامات اعتقادية دينية لباحثين اجترأوا على الاجتهاد في مجالات العلوم الإنسانية، خصوصا في مجال نقد الخطابات الاجتماعية السائدة، ومنها خطاب تحرير المرأة، ومواجهة النظرة الدونية إليها. والخطورة أن شيوع هذا الخطاب التكفيري وانتقاله من خارج أسوار الجامعة الى داخلها أحدثا كارثة كبرى في الفكر الجامعي. فقد سجن هذا الفكر في مدار مغلق، وجعل الأساتذة يؤثرون السلامة، ويخافون الاجتهاد، ويصنعون لأنفسهم من أنفسهم رقباء على ما يفكرون فيه أو يكتبون عنه. وكانت النتيجة الكارثة أن ذبلت روح الاجتهاد في الجامعة، ولم تخرج الجامعة المصرية وحدها من دائرة الجامعات ذات القيمة، بل خرجت كل الجامعات العربية تماما من مقياس أفضل خمسمائة جامعة في العالم.

وهناك ملاحظة أخرى على تقرير عبدالصبور شاهين الذي قبلته لجنة برئاسة تلميذ طه حسين، وهي ملاحظة تسجل انحراف اللجان العلمية، وانحراف التقييم الجامعي بوجه عام. فالأصل في التقييم الجامعي السليم هو الاجتهاد، والجدة، والاختلاف المقترن بأصالة المنهج بعيدا عن الموافقة على النتائج أو الاختلاف معها. فلا اجتهاد من دون اختلاف، وإلا فقد الاجتهاد معناه، ولا جدة إلا بالخروج على السائد، وإلا ما كانت جدة ولا اختلاف. ومن ثم لا اجتهاد إلا مع إقرار مبدأ حق الخطأ. فالمعرفة الإنسانية لا تتقدم بالإصابة في الاجتهادات وحدها، وإنما تتقدم بالقدر نفسه بالأخطاء. ولذلك حرصت الحضارة الإسلامية في عصور ازدهارها على ما أطلق عليه طه حسين، في مقال شهير نشره عام 1955، حق الخطأ الذي يعني إصابة المجتهد في كل الأحوال، حتى في الخطأ الذي يستحق عليه أجرا يضاعف في حالة الإصابة. وأصل الإثابة ومبررها تشجيع إعمال العقل، والمخالفة في الاجتهاد، وإلا ما تراكم العلم ولا تقدّمت المعرفة العلمية. ويترتب على ذلك أن التقييم العلمي الصحيح ليس الأصل فيه هو الاتفاق بين من يقوم بالتحكيم ومن يتم تحكيم إنتاجه، وإنما مراعاة قيم المنهجية والاجتهاد والإضافة بعيدا عن الاتفاق أو الاختلاف. وقد ترتب على قبول تقرير عبدالصبور شاهين، الذي لا أزال أراه وصمة عار في تاريخ الجامعة، وهو منشور مع تقرير قسم اللغة العربية في تفنيده علميا في كتاب نصر: "التفكير في زمن التكفير"، الذي طبع أكثر من مرة. وأضيف إلى ذلك ما هو متضمن في السياق من جانب ثأر شخصي ينطوي عليه التقرير الذي استغله كاتبه للثأر من نصر، الذي أشار إليه في أحد الكتب بوصفه مستشارا لإحدى شركات توظيف الأموال التي نهبت ثروات المسلمين المخدوعين فيها".

وقارئ هذا الكلام يخرج منه بصورة مقيتة لكل من د. شكرى عياد ود. شوقى ضيف: فالأول، كما يصوره المقال، غِلاّوىّ جبان منافق لا يعلن عن رأيه إلا فى الظلام ولا يستطيع المواجهة. فهل كان د. شكرى عياد بهذه الصورة؟ أما د. شوقى ضيف، الذى صوره جابر عصفور بصورة المتخلف الرجعى الذى لا يفهم فى البنيوية ولا التفكيكية ولا الهرمنيوطيقية ولا المهلبية ولا الملوخية، وهو كلام لا يليق فى حق ذلك الأستاذ الكبير الذى لا يعرف الهلس والهجص ويحرص على أن يقول كلاما مفهوما ومفيدا، ويزداد خروجا على اللياقة من د. جابر عصفور، الذى لا أنسى منظره فى احتفالية المجلس الأعلى للثقافة بالدكتور محمد حسين هيكل فى أواسط التسعينات من القرن المنصرم، وهو ممسك بورقة كان قد أعد فيها مسبقا سؤالا بالإنجليزية موجها لأحد المستشرقين الموجودين بالاحتفالية، ويقرأ السؤال ببطء قاتل ممايدل على ضعفه فى لغة جون بول، التى تحدى فيها مع ذلك أ. د. عبد العزيز حمودة فى معركة "المرايا المحدبة"، حيث وجه حمودة فى ذلك الكتاب إلى الحداثيين العرب لطمات عنيفة أفقدتهم صوابهم وتركتهم أباديد لا يدرون ماذا يصنعون، واتهمه بأنه لا يحسن النقل عنها رغم أن الرجل أستاذ كبير فى اللغة الإنجليزية وآدابها، وهو بالنسبة إليه لا يعد فى العيرولا فى النفير، أقول: أما الدكتور شوقى ضيف فإنى أكتفى بشأنه بإحالة القارئ إلى ما كتبه فى حقه قبل ذلك جابر عصفور، الذى كان يمجده دائما ولا يجرؤ أن يقول فيه أثناء حياته ولا واحدا على المليون مما كتبه هنا بعد مماته. ثم كيف بالله نستطيع أن نتحقق من هذا الكلام، وكل الذين يدور حولهم قد انتقلوا إلى جوار ربهم؟ ثم هل يصح أن ينتظر جابر عصفور حتى يموت الجميع ليقول بعد ذلك، وبعد ذلك فقط، إنه الآن فى حِلٍّ من قول ما قال؟

خلا لك الجو فبيضى واصفرى * ونقّرى ما شئت أن تنقّرى

ومع ذلك فقد أبى الله أن يمر هذا الكلام دون معقب، وهو معقب قريب جدا من الأحداث، إذ هو الأستاذ الدكتور عاصم شوقى ضيف، ولا أحد سواه. فقد ألفيته يعلق فى أحد المواقع المنشور فيها هذا المقال على ما كتبه جابر عصفور بالسطور التالية التى ترينا وجها آخر لسير الأحداث يختلف تماما عما حكاه جابر عصفور وهو آمن مطمئن يظن أن أحدا من عباد الله لن يعلق على هذا الذى كتب. قال د. عاصم ضيف بأدب وهدوء يذكراننا بأدب أبيه وهدوئه ودماثة طبعه واحترامه الشديد لنفسه وللآخرين وعدم تزيده فى الكلام وحرصه على وزن ما يقول رحمه الله على عكس قوم ابتُلِينا بهم فى العقود الأخيرة يذكروننا بالحوذية والبلطجية:

"هناك مغالطتان: أما خلف الله فقد اعترض عليه أساسا عبد الوهاب عزام، وشوقي ضيف فقط قال رأيه. ولو كان فكره سليما فلماذا لم يقف القسم مع أمين الخولي مشرفه ضد شوقي ضيف، وكان بعد مدرسا صغيرا؟ لأن "الفن القصصي في القرآن" يجعل من الأخير نص أدبي. وهي فكرة خطيرة. أما شكري عياد فقد كان يكن لشوقي ضيف احتراما كبيرا، وكان يزوره كثيرا. وأذكر أن قال لي مرة إن كتب والدك مصادر معتمدة. والمغالطة الأخرى هو أن شوقي ضيف لم يكتب تقريرا بل أبلغ محمود مكي أته يعتذر لما وجده في فكر نصر. فلما بلغ ذلك المساندين له، ومنهم كاتب المقال، وجدتهم يزورون والدي في منزله بالدقي، واجتمع عنده غير قليل منهم. فلما انصرفوا سألته: لماذا هذا الحشد عندك؟ فقال لي: يرجونني أن أوافق علي ترقية أحد المتقدمين للترقية بالقسم. ولم أكن أعرف اسمه بعد، فقلت له: إذا كان بقسمكم فلماذا لا تساعده؟ قال: اعتذرت لأن أعماله بها مخالفات واضحة (ولم يبين لي ما هي)، وعقيدتي لا تسمح لي بالموافقة عليها. لذلك أعتذر عن الحكم عليها. إذن فشوقي ضيف لم يقف ضده، واكتفي بالاعتذار مجاملة لبعض أعضاء مجلس قسمه مع أنه لا يوافقهم الرأي. وكان هذا شأنه دائما، لا يتعرض لأحد بالإساءة. والحقيقة أن السبب في عدم ترقية نصر هو قسم اللغة العربية لأنك إذا تأملت كيف تلاحقت الأحداث فهذان محكَّمان من القسم نفسه، وثالث من الخارج. إذن يبدو الأمر أمام اللجنة الكلية محسوما مقدما، وبالأخص أن رئيس اللجنة طلب أن يكون أحد المحكمين. ولقدره العلمي ستجعل الجميع موافقين بالضرورة. لكن ما أن اطّلع شوقي ضيف على الأعمال حتى تبين الخطورة فيها. إذن ليس كما يدعي كاتب المقال أن منهجها يستعين بالتفكيكية أوالبنيوية أو أنه أمام منهج جديد لم يألفه من قبل، بل لا يعدو الأمر أن يكون بسبب ما وجده عند المتقدم ما معناه أن القرآن الذي شب عليه المسلمون واعتقدوا أنه إلهي ما هو إلا منتج ثقافي ونص لغوي يمكن تطبيق عليه أساليب النقد. وهل يمكن لشوقي ضيف مفسر القرآن ومحقق القراءات العشر والمدافع عن السيدة عائشة على أنها لم تتزوج صغيرة ضد كلام المستشرقين أن يوافق على كلام يشبه كلامهم؟ إذن فقد أخفى القسم الحقيقة عن شوقي ضيف. ولو كان طلب منه أن يكون المحكَّم الثالث أحد الموافقين علي هذه الآراء، وكان منهم في اللجنة الكثير، لكان الموضوع "خلص علي خير". إذن فالخطأ أصلا هو خطأ القسم".

ويبقى قول جابر عصفور إن أ. د. عبد الصبور شاهين قد كفّر نصر حامد أبو زيد فى تقريره الذى كتبه عن إنتاجه العلمى حين تقدم للترقية لرتبة الأستاذية، وهو زعم غير صحيح بالمرة، وإلا فلينقل لنا نص ما كتبه الأستاذ الدكتور الذى يقول إنه كفر فيه نصر أبو زيد. ثم أليست مصيبة بل كارثة أن يتدخل ناس من خارج لجنة الفحص فى أعمال الترقية على هذا النحو المفضوح من أجل ترقية واحد بعينه، وقبل ظهور النتيجة؟ ألا إن هذا كلام خطير فى غاية الخطورة. ولقد شاء الله السميع العليم أن ينجر د. جابر عصفور فيذكر هذا الموضوع متصورا أن من حقه التدخل لإنجاح من يريد، مما كان من نتيجته تنحى الأستاذ الدكتور شوقى ضيف عن النظر فى أعمال نصر أبو زيد. وهو تصرف حضارى راق، ولكن كانت ثمرته أن أبو زيد رغم كل التدخلات والتوسلات والتربيطات لم ينجح، فقامت الدنيا من يومها وانتقل الخبر إلى وكالات الأنباء العالمية مع أن مثل هذا الأمر يحدث كل مرة تجتمع فيها لجان الترقية، إذ ينجح ناس ويرسب ناس، ولا من شاف ولا من درى. اللهم إلا أن يكون الراسب واحدا كالدكتور نصر أبو زيد، فعندئذ، وعندئذ فحسب، تبدأ القصائد الهجائية فى السباب، وتشرع المارشات العسكرية فى الدق والنفخ فى محاولة مفضوحة للترهيب والترويع، وتتنادى وكالات الأنباء المحلية والعالمية شأن من هم على ميعاد. ثم يتباكى بعض القوم على المنهجية العلمية والحيادية والتنويرية والحمصية والسمسمية والحلاوة الطحينية. والله إنه، لكما قال أحدهم تعليقا على ما جرى، شىء يفقع المرارة!

وأذكر هنا عَرَضًا ما سمعته مرارا من عضو فى لجنة منح الجوائز فى بعض الساحات الثقافية بإحدى البلاد العربية من أنه هو وزملاءه فى اللجنة يقضون الأيام والليالى ذوات العدد يفحصون أوراق المرشحين ويفاضلون بينهم. حتى إذا استقر الرأى على منحها لفلان أو لعلان هلّ عليهم "أبو وش كالح" وقال لهم: دعوكم من هذا كله، وخذوا فلانا الفلانى. فلا يملكون إلا أن يأخذوا فلانا الفلانى لأن "أبو وش كالح"، ربنا يأخذه، قد قال، ولا رجعة لما قال. وكان، أخزاه الله فى الأرض والسماء والدنيا والآخرة، لا يكف عن التشدق بالحرية ولا عن مهاجمة الدولة التى يخدم أهدافها كأى عبد ذليل ينتفش على عباد الله ممن ليسوا أذلاء مثله ويتظاهر أن بمستطاعه إعطاءهم محاضرة فى مكافحة الاستبداد والعسف والطغيان. إى والله الاستبداد والعسف والطغيان الذى يسبح بحمده آناء الليل وأطراف النهار، وإلا ضربوه بما فى أرجلهم ورَمَوْه رمية الكلاب! ويقول الذين يعرفون خبايا "أبو وش كالح" إنه لم يصل إلى منصبه الجامعى إلا باستعطاف حاكم دولته بعد أن رسب فى إحدى المواد ولم يعيَّن معيدا فى البداية بسبب ذلك، زاعما فى استعطافه الكاذب أن الأساتذة يضطهدونه لفقره وانتمائه إلى الطبقات الكادحة. قال ذلك وهو يتطلع إلى أن يكون أحد المنتمين إلى الطبقات المادحة. وقد أصبح المنافق منهم، لعنه الله لعنا كبيرا وصغيرا ومتوسطا وبكل الأحجام والمقاييس.

ولا بأس أن أقتطف بضع فقرات من مقال كتبه وائل عزيز فى مدونته عن ذات القضية بعنوان "حكاية نصر حامد أبو زيد" أشار فيه إلى التقرير الذى كتبه الأستاذ الدكتور عبد الصبور شاهين عن أعمال د. نصر. وهذا نص الفقرات المذكورة: "نشر الدكتور أبو زيد نص التقرير كاملا في كتابه: "التفكير في زمن التكفير"، كما نشره في مقدمة الطبعة الثانية من كتابه "نقد الخطاب الديني". ولم يكن في التقرير كلمة واحدة تشير إلى كفر أو تكفير أبو زيد كما شاع بعد ذلك وكرره نصر حامد نفسه. وإنما خلاصة ما جاء به أن أبحاثه بها "الكثير من الأخطاء التاريخية والعلمية، وأنه يجعل العقل الغيبي غارقا في الخرافة والأسطورة مع أن الغيب أساس الإيمان، وأنه ينعي على الخطاب الديني أن يرد كل شيء في العالم إلى علة أولى هي "الله"، ويرى أن ذلك إحلال لـ"الله" في الواقع ونفي لـ"الإنسان". كما أنه إلغاء للقوانين الطبيعية والاجتماعية. وهو يدافع بحرارة عن الماركسية الفكر الغارب ويبرئها من تهمة الإلحاد، بل ويقول بخطأ تأويل الماركسية بالإلحاد والمادية. ولعله يتصور أن ماركس كان مؤمنا روحاني النزعة". وختم الدكتور شاهين تقريره بقوله: "إن أبحاثه جدلية تضرب في جدلية لتخرج بجدلية تلد جدلية تحمل في أحشائها جنينا جدليا متجادلا بذاته مع ذاته، إن صح التصور أو التعبير. وليست هذه سخرية، ولكنها كانت النتيجة التي يخرج بها قارئ الكتاب غير المنشور حتى الآن".

وقد كان الرجل محقا في هذا الوصف، فالدكتور أبو زيد كمفكر مجتهد يفكر أسرع مما يكتب، ولا يستقر به الحال عند فكرة إلا لحقها بما يناقضها. وما أودعه في كتابه: "مفهوم النص" كان يحتاج منه إلى كثير من المراجعة قبل أن يخرج بالصورة التي خرج عليها، والتي أمكن بسهولة للمتربصين به (أو "الباحثين عن العفريت" بتعبيره) أن يقتطعوا منها العديد من الفقرات ليحاكموه بشأنها، فقد بحثوا عن العفريت (التجاوزات) فطلع لهم، فأخذوها إلى المحكمة، فحكمت لصالحهم في الاستئناف والنقض. ورغم أنه حاول الدفاع بعد ذلك عن آرائه وتوضيح ما قصده بكتابته عبر الندوات الخاصة واللقاءات التليفزيونية، ولكن ذلك كان بعد فوات الأوان.

لا يفوتني هنا أن أشير إلى الصراع المستمر وغير المعلن بين كلية دار العلوم وكلية الآداب، وهو صراع يعود إلى أيام طه حسين. أو قل: هو صراع بين ممثلي الفكر الإسلامي والعلمانيين في الجامعات المصرية خاصة في أقسام الفلسفة واللغة العربية والتاريخ. وقوانين الترقية لدرجة أستاذ تستلزم أن يكون هناك مقيّم خارجي، أي من خارج الكلية التي تقدم منها المرشح بأبحاثه. ومثل هذا القانون كان يستهدف الموضوعية في التقييم والبعد عن المجاملة، لكنه انتهى إلى سيف مسلط في أيدي الأساتذة الكبار من الفريقين يستخدمونه في تصفية الحسابات والمقايضة وتحقيق الانتصارات. وأعرف عددا من الأساتذة من المحسوبين على التيار الإسلامي الذين دفعوا ثمن هذا الصراع عبر تعنت أسماء مثل جابر عصفور وعاطف العراقي ومراد وهبة وحسن حنفي وغيرهم من الكبار، فتأخرت ترقياتهم شهورا وسنوات، ولم تُجْدِ معهم الشكاوى ولا الاعتراضات. ولا زال الصراع مستمرا، ولم يستطع حله وزراء التعليم العالي المتعاقبون ولا المجلس الأعلى للجامعات، وظل أحد الأدوات التي تستخدمها السلطة من أجل إبقاء التوتر قائما، وهو ما يحتفظ لها بدور الحكم دائما والحكيم أحيانا.

كان من الممكن رأب الصدع بسهولة، وتكرر هذا في عشرات الحالات السابقة. ولم يكن للدكتور عبد الصبور شاهين أن يقبل أن يضع اسمه على تقرير يجيز ترقية أستاذ يختلف معه فكريا إلى حد النقيض، خاصة مع ما ترشح من اتهامات من أبو زيد لشاهين في مسألة توظيف الأموال وعلاقته بالريان. واقترح الدكتور مأمون سلامة رئيس جامعة القاهرة حينذاك، وهو رجل منصف وحكيم، أن يتم اختيار مقيّم آخر غير الدكتور شاهين والقبول بتقريره، وهو ما يعني عمليا اختيار مقيّم من الجناح الآخر من الأساتذة الذي سينتهي بتقرير إيجابي وتحل المشكلة. وكاد الدكتور أبو زيد يقبل، غير أن أصدقاءه نصحوه بالرفض والتصعيد، وأوهموه أن الحق معه. ولعلهم أرادوا بهذا التصعيد أن يبعدوا الدكتور شاهين من الجامعة، فانقلب السحر على الساحر.

تولى الصحفي اليساري لطفي الخولي مهمة التصعيد في صفحة "الحوار القومي"، التي كان يشرف عليها في "الأهرام"، وأتاح الفرصة لعدد من المدافعين عن موقف أبو زيد للتعبير عن رأيهم والتباكي على ما انتهى إليه حال حرية البحث العلمي في الجامعات المصرية. وفي المقابل انبرى فهمي هويدي في صفحته بـ"الأهرام" ومحمد عمارة في جريدة "الشعب" وآخرون للدفاع عن موقف شاهينرفض التطاول على المقدسات باسم البحث العلمي النزيه. وخرجت المعركة عن حدود السيطرة".

بهذا ننتهى سريعا من إحدى المغالطات فى موضوع ترقية نصر أبو زيد بعدما كشفنا عن وجه الحق واتضح أن عبد الصبور شاهين لم يكفر فى تقريره أبو زيد على أى وجه من الوجوه وأن المسألة كلها مختلقة من الأساس. بيد أن للمسألة وجها آخر، وهو: هل يفهم من هذا أنه ليس فى الإسلام تأمين أو تكفير؟ الواقع أن فى الإسلام تأمينا وتكفيرا، وإلا انماعت المفاهيم وغامت الرؤى واختلطت المصطلحات واضطربت التصنيفات، وهو ما يربك الأمور ويشيع الحيرة والبلبلة فى النفوس والعقول والضمائر. ما معنى ذلك؟ معناه أنه كما يستخدم نصر أبو زيد وغيره مصطلحات التنويريين والظلاميين والرجعيين والمتخلفين... إلخ كذلك يستخدم المتدينون مصطلحات "الإيمان والكفر والنفاق والطاعة والمعصية والحلال والحرام والفرض والسنّة" جريا على أسلوب القرآن الكريم والسنة النبوية والتراث الإسلامى، كقوله تعالى فى سورة "النساء": "إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)"، وقوله تعالى فى سورة "المائدة": "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)"، وقوله عز شأنه فى سورة"الأعراف": "وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآَخِرَةِ كَافِرُونَ (45)"، "قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آَمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76)"، وقوله جل جلاله فى سورة "التوبة": الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)"، وقوله تبارك اسمه فى سورة "فُصِّلَتْ": "قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)"، وقوله تعالى جَدُّه فى سورة"المنافقون": "إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8)"، وقوله صلى الله عليه وسلم: من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك"، "من أتى ساحرا أو كاهنا أو عرافا فصدّقه بما يقول فقد كفر بما أُنْزِل على محمد"، "إذا قال للآخر: كافر، فقد كفر أحدهما: إن كان الذى قال له كافرا فقد صدق، وإن لم يكن كما قال له فقد باء الذى قال له بالكفر"، "شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس، إن هذه الأمة تبتلى في قبورها. فإذا الإنسان دُفِن فتفرق عنه أصحابه جاءه ملك في يده مطراق فأقعده، قال: ما تقول في هذا الرجل؟ فإن كان مؤمنا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. فيقول له: صدقت. ثم يفتح له باب إلى النار، فيقول: هذا كان منزلك لو كفرت بربك. فأما إذ آمنت بربك فهذا منزلك. فيفتح له باب إلى الجنة، فيريد أن ينهض إليه، فيقول له: اسكن، ويفسح له في قبره. وإن كان كافرا أو منافقا يقول له: ما تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري. سمعت الناس يقولون شيئا. فيقول: لا دريت ولا تليت ولا اهتديت. ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقول: هذا منزلك لو آمنت بربك. فأما إذ كفرت بربك فإن الله عز وجل أبدلك هذا. ويفتح له باب إلى النار ثم يقمعه مقمعة بالمطراق يسمعها خلق الله كلهم غير الثقلين. فقال بعض القوم: يا رسول الله، ما أحد يقوم عليه مَلَكٌ في يده مطراق إلا هِيلَ عند ذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت"، "الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق. فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله"، "من ترك الجمعة ثلاثا من غير ضرورةٍ طُبِع على قلبه: منافق"، "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خَلَّةٌ منهن كانت فيه خَلّةٌ من نفاق حتى يَدَعها: إذا حدَّث كذَب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فَجَر"، اللهم إلا إذا قيل بإلغاء هذا من القرآن والسنة كما ينادى المهاويس المهلوسون هذه الأيام بكل وقاحة، فى الوقت الذى لا يجرؤون أن يفكروا مجرد تفكير فيما عند غير المسلمين، إذ هم يعرفون أن ألسنتهم تُقْطَع فى الحال ويُنَكَّل بهم أيما نَكَال.

ذلك أن مثل هذه النصوص شىء لا ينفرد به الإسلام، بل يوجد فى كل دين ومذهب وعقيدة نصوص ترسم الحدود وتَسِم كل من يتمرد عليها بأنه لا يؤمن بها وتخطّئه وتخرجه عن العقيدة، سياسية كانت تلك العقيدة أو دينية أو فلسفية. ولقد تعدت الأمور أحيانا فى أوربا فى العصر الحديث حدود الخلاف الفكرى ووصلت عند الشيوعيين وغير الشيوعيين إلى "التصفية الجسدية". وهذا مصطلح أوربى لم يسمع به المسلمون إلا فى هذا العصر. فنرجو من المتحذلقين البكاشين أن ينقّطونا بسُكاتهم ويكفأوا على الخبر ماجورا ولا يقيموا من أنفسهم معلمين لنا، فى الوقت الذى يجب عليهم فيه أن يتبوأوا مجلس المتعلمين لا مقام العالمين. إن الحياة قائمة على التصنيفات والتقسيمات، وهذه النصنيفات والتقسيمات تستلزم مصلطحات معينة لا بد من استخدامها، وإلا فماذا نسمى من يقول إن محمدا هو مؤلف القرآن، أو إنه لا يوجد إله أصلا، أو إن الجنة والنار والثواب والعقاب هى أساطير ليس لها أية حقيقة فى خارج أذهان من يعتقدون بها؟ ببساطة: من يقول بهذا فهو كافر. إلا أن الأمر ليس بهذا التحديد الصارم دائما، إذ هناك مسائل حدودية يمكن أن يكون فيها أكثر من رأى، وتقبل أكثر من تفسير. وهذه المسائل الحدودية يصعب إصدار حكم بشأنها، وبخاصة إذا ما استعمل المتكلم أوالكاتب أسلوبا مراوغا فى التعبير عما فى نفسه، فتراه لا يحسم الكلام بل يصوغه صياغة لفافة دوارة حتى إذا ما آخذتَه على هذه النقطة أو تلك انبرى لك مؤكدا أنه لا يقصد ما فهمتَه. ولكن الصبر على التحليل والتفكيك والتركيب وما إلى ذلك من أدوات البحث ومناهجه يمكن أن تفيد فى الخروج من متاهة المراوغة التى يصطنعها بعض الكتاب، وإن ظل الأمر دائما غير حاسم تمام الحسم. وفى هذا السياق نذكّر بما قاله بعض علماء السلف من أننا إذا قرأنا أو سمعنا مقالة تحتمل الكفر من تسعة وتسعين وجها، والإيمان من وجه واحد فينبغى حملها على محمل الإيمان. وهو ما يجب أن يأخذ به المسلمون، أو على الأقل: يجب أن يكونوا على ذكر منه فلا يندفعوا مع التكفير، وبالذات إذا أكد الشخص المعنىّ أنه مسلم يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله مما يحفظه المراوغون أيضا ويرددونه فى مثل تلك الظروف للخروج من المأزق. ومع هذا نقول كما قال النبى عليه الصلاة والسلام لصحابى اتهم رجلا بعدم الإيمان: هلاّ شققتَ عن قلبه؟ يقصد، صلى الله عليه وسلم، أنه ليس من صلاحيتنا محاولة التدسس إلى أفئدة الآخرين والتلصص على ضمائرهم ما داموا يعلنون الإسلام حتى لو لم يكونوا مسلمين فى أعماق قلوبهم، إذ إن الكشف عما تكنه تلك القلوب ليس من وظيفتنا. لكن هذا يختلف عن تصدينا لأفكار الآخرين وكلامهم المكتوب وتحليلنا له واجتهادنا فى فهمه والحكم عليه دون الحكم على صاحبه ما دام لم يقل شيئا واضحا قاطعا من الكفر. وحتى هنا ليس من صلاحيتنا إكراهه على غير ما يؤمن به. إنما هو فكر إزاء فكر، والسلام.

ننتهى من هذا إلى أن التكفير مفهوم من المفاهيم لا يمكن أن يخلو منه أى دين، إذ معناه أن فلانا أو علانا لا يؤمن بهذا الدين. وهل هناك شك فى أنه ما من دين إلا ويرفضه الملايين بل عشرات الملايين بل مئاتها؟ فكيف نصنف هؤلاء الرافضين؟ إنهم كفرة بهذا الدين، مثلما يقول الماركسيون عن المتدينين: الظلاميون والرجعيون والمتخلفون، ويصفون أنفسهم بالتنويريين والتقدميين، وكما تقول أمريكا والدول الاستعمارية عمن يدافعون عن بلادهم: إرهابيون، وتصف نفسها بقوى التقدم والتحرر... إلخ. وفى داخل المذهب الشيوعى كانت هناك اتهامات متبادلة بين شيوعيى الصين والاتحاد السوفييتى ويوغوسلافيا وألبانيا. وهذه الأخيرة لم يكن يعجبها أحد، فكانت ترمى الجميع بالانحراف وترى نفسها الدولة الشيوعية الحقيقية الوحيدة. ومنذ سنوات صدر كتاب فى أمريكا يقول بنهاية التاريخ وأن الحضارة الغربية ستبقى هى الحضارة الصحيحة الوحيدة إلى الأبد.

وهنا نسمع بعض القوم يقولون لمن ينبرى للرد على ما يراه مسيئا للدين أو مخالفا له: وهل خَوَّلك أحد للحديث باسم الله؟ وطبعا لم يخَوِّل أحد أحدا، بل دفعه ضميره واستفزته غيرته على دينه مثلما تستفز الغيرةُ كلَّ مؤمن بعقيدة أو مذهب إلى وقوف هذا الموقف حين يستدعى الأمر ذلك، فلا يجد من يقول له: ومن الذى خَوّلك الحديث باسم الشيوعية أو اللينينية أو التروتسكية أو النازية أو الوجودية أو اللاأدرية أو الوضعية المنطقية أو الرأسمالية أو الليبرالية أو الناصرية أو التكعيبية أو التبقيعية أو البنيوية أو التفكيكية... إلخ؟ ولا يوجد عاقل يزعم أو يعتقد أنه عند قيامه بالدفاع عن الإسلام إنما يتحدث باسم الله، إذ لا يعدو الأمر أن يكون اجتهادا من المدافع يعبر فيه عن رأيه هو وفكره هو وفهمه هو، ويتحدث فيه عن نفسه هو لا عن الله ولا عن الرسول. وقد يكون اجتهاده مصيبا، وقد يكون مخطئا. ويستطيع الآخرون أن يناقشونا فيما نقول، فنقوم نحن بتوضيح رأينا ونرد عليهم، فيردون هم بدورهم، ونستطيع نحن بدورنا أن نرد على رد الرد... وهكذا دواليك إلى أن نصل إلى شىء نتفق عليه أو نصل إلى طريق مسدود فيتمترس كل منا وراء فكرته لا يريد عنها حِوَلا، وهذا حقه. ولا أحد منا معصوم، بل كل ما يمكننا قوله هو أننا نبغى إصابة الحقيقة. وقد نكون كذابين فى هذا الادعاء، وقد نكون صادقين. بل نحن لا ندرى ماذا يفعل الله بنا مهما كثرت صلاتنا وصيامنا وزكاتنا وحجنا وحرصنا على التقوى وعمل الصالحات. أما الإجلاب وإحداث الصخب والضجيج بعبارات من مثل: "من خَوّلك التحدث باسم الله؟" فهو الخبث بعينه، إذ معناه أنك تحرّم على المسلم الدفاع عن دينه أو توضيحه أو مناقشة أحد فيما يقول بشأنه، ومن ثم يترك الساحة لكل من هب ودب ليقولوا ما عندهم من سخف دون تعقيب أو تصويب. وأين العاقل المنصف الذى يقول بهذا؟

وكان د. نصر أيضا يلجأ إلى هذا الأسلوب الترهيبى الذى يراد به إخراس المخالفين وزرع الرعب فى قلوبهم، إذ كان يتهم من ينتقدونه هو وأمثاله بأنهم يتجاوزون صلاحياتهم وحدودهم ويجعلون من أنفسهم ناطقين باسم الله (انطر ص30 مثلا من "مفهوم النص"). ترى هل النصوص القرآنية تنطق بما تريد أن تقول بحيث يمكن أن نترك لها مهمة التعبير عن نفسها ونسكت نحن؟ أم هل لا بد أن يُنْطِقها البشر، أى يَنْطِقوا بما يعتقدون أنها تتضمنه؟ وإذا كان عمر قد قال إن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة فإن النصوص هى أيضا لا تنطق من تلقاء نفسها، بل نحن الذين نُنْطِقها. والمهم هو الإخلاص فى هذا الإنطاق، والتدقيق فيه ومراجعته والاستماع إلى ما عند الآخرين واستيعابه وتقليبه على كل الوجوه حتى يصل الـمُنْطِق إلى ما يطمئن إليه ضميره فى نهاية المطاف. صحيح أن هؤلاء المنطقين للنصوص قد يخطئون كما قلنا، لكننا لو جرينا على المبدإ القائل بأن كل من هو معرَّض للخطإ فعليه أن يسكت، فعندئذ لن يُقْدِم البشر على قول أى شىء أو فعله، إذ الخطأ متربص بهم فى كل خطوة على الطريق لا عند النواصى والمنعطفات فقط. وبالمناسبة فنصر أبو زيد يزعم أنه وأمثاله هم الوحيدون الذين يفهمون الحقيقة الدينية (انظر ص63 من "نقد الخطاب الدينى"). أليس هذا هو بعينه ما يأخذه على خصومه؟ ألا يضع نفسه بهذه الطريقة موضع المتحدث باسم الله؟ من الواضح الذى لا يمكن أن تخطئه العين أنه يحلل لنفسه ما يحرّمه على الآخرين. والسبب مفهوم طبعا، إذ هو لا يريد أن يرد عليه أحد حتى لا ينكشف عواره ويفتضح مستواه فى التفكير والتعبير. وبهذا يتبين لنا أن مزاعمه حول العلمية الصارمة التى ينتهجها، والأسطورية التخريفية التى يرمى بها خصومه، هى كلام فى الهواء لا قيمة له.

وفى كتاب "التفكير فى زمن التكفير" (بدءا من ص21) يعمم الكاتب تعميما خطيرا إذ يحمل على الخطاب الدينى كله فى كل العصور وفى كل البيئات حملة شعواء متهما إياه بأنه خطاب تكفيرى. وهو لون من الإرهاب يخوف به المتدينين حتى لا يفتحوا فمهم ويتركوا الساحة له كى يفعل ما يحلو له دون رقيب أو حسيب، فتراه يصورهم وكأنهم ليس لهم شغلة ولا مشغلة إلا القول بأن فلانا أو علانا أو ترتانا كافر ابن ستة وستين، وهو أمر غير صحيح ولا معقول. ثم إننا نراه بعد قليل يتراجع شيئا ما فيقول إن المقصود بذلك هو الخطاب الدينى المعاصر وحسب. ثم بعد ذلك يتراجع مرة أخرى فيستثنى بعض الأشخاص ممن يقول عنهم إنهم يعيشون رغم ذلك فى الظل لا يظهرون للعيان، وليس لهم من ثم أى تأثير. وهو فى هذا وذاك لا يحلل ولا يمحص ولا يتحقق مما يقول بل يلقى الكلام على عواهنه بعبارات إنشائية رنانة طنانة لا تسمن ولا تغنى من جوع حتى ليظن من يقرأ كلامه ولا معرفة له بالواقع أن كل من يكتب أو يتحدث فى الدين ينهال تكفيرا على الناس عَمّالاً على بَطّال من الصباح للمساء، ومن ظلام الليل إلى نور النهار... وهكذا إلى أن تقوم الساعة، وفى فم أحدهم تكفيرة، فلْيلفظها حتى يبرئ ذمته أمام الله ويُعْذِر إليه سبحانه.

ومما أَجْلَبَ به د. نصر أبو زيد فى وجه المتدينين وهجومه على الخطاب الدينى قوله إن هذا الخطاب يقوم، فيما يقوم، على تغيير المنكر باليد (انظر ص69 من كتاب "نقد الخطاب الدينى"/ ط2/ سينا للنشر/ 1994م). لكن هل أصحاب الخطاب الدينى (والمقصود الخطاب الإسلامى وحده طبعا) هم دون غيرهم الذين ينادون بالتغيير عن طريق اليد؟ ترى كيف غيرت الثورة الفرنسية والإنجليزية والروسية والرومانية والإيرانية الأوضاع التعيسة البائسة التى كانت تنوء بها الشعوب؟ أليس عن طريق التغيير باليد؟ لكن المشكلة هى أن بعض الناس الطيبين يظنون أن التغيير باليد يمكن أن يتم وينجح ويحدث التغيير على يد فئة صغيرة من المخلصين تنتمى عادة إلى الجيش فيما يسمى بالانقلاب العسكرى. وهناك الجماعات الشبابية المتحمسة دون تبصر والتى تظن أن تغيير الأوضاع السياسية يمكن أن يتم بمعزل عن وعى العشب بحقوقه ومشاركته فى هذا التغيير بناء على هذا الوعى. وفاتهم أن مثل ذلك التغيير الذى لا ينبع من نفوس الشعوب ولا يتم بأيديها إنما هو تغيير سطحى، فضلا عن أنه لا يدوم. وقد يكون الأمر مجرد مؤامرة من جانب إحدى القوى الكبرى لإيهام الناس أن التغيير قد تم، والحمد لله، فلا داعى لاتخاذ أى تصرف آخر، ومن ثم يتم إجهاض الرغبة فى التغيير. أما فى الثورات المذكورة فلم يتم التغيير إلا على يد طوائف الشعب بعدما استجابت لدعوات مصلحيها ولم تبق جالسة على المساطب تلعب السيجة والكوتشينة أو تكتفى بالغناء والرقص وهز الأرداف مدحا للتغيير دون أية مشاركة فيه. أما الانقلابات العسكرية وما شابهها فتنتهى دائما إلى الاستبداد والهزائم والتقهقر والفساد الذى يعصف بكل شىء. المهم أن د. نصر أبو زيد يدين الخطاب الدينى مع أن أعظم التغييرات فى التاريخ إنما تمت باليد، يد الشعوب صاحبة المصلحة.

وقد كنت قديما أستغرب الحديث النبوى الكريم الذى يقول: "من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه، فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات إلا مات ميتة جاهلية" ولا أحقق معناه، وبخاصة حين أرى بعض الناس يستشهدون به لإسكات كل نقد يمكن أن يوجَّه للحاكم، الذى هو فى كثير من بلاد المسلمين حاكم غشوم فاسد ظالم، إلى أن استنارت بصيرتى وفهمت عبقرية الرسول العظيم. ذلك أن الحديث يخلو تماما من أية مساندة للاستبداد أو تثبيط لهمم المصلحين والمنتقدين، بل المقصود به التنبيه إلى أن الأقلية التى لا يعجبها شىء فى سياسة الحكومة لا ينبغى أن تهب للتو ثائرة على الأوضاع متصورة أنها هى كل الشعب، ومن ثم فمن حقها أن تقوم فى الحال فتغيّر ما ترى أنه فساد وانحراف، إذ إن عواقب مثل هذا التصرف وخيمةٌ بشعة الوخامة. أما التصرف السياسى الحكيم الناجع فهو توعية المصلحين للناس من حولهم والمجاهدة بالكلمة. وعندئذ، وعندئذ فحسب، يستطيعون أن يحققوا ما يريدون من تغيير، وإلا فلا. وهذه هى فلسفة الحكم الشورِىّ والديمقراطىّ. أما الانقلابات العسكرية فإنها سبيل أكيد إلى الضياع والطغيان والفساد، الذى نشاهده عيانا بيانا فى كثير من بلاد المسلمين حيث يتحكم العسكر الجهلاء الخبثاء الأغبياء فى مقدرات البلاد والعباد، وتنتهى الأمور دائما على أيديهم إلى البوار والخسار.

وفى الصفحة الخامسة والعشرين من كتاب "التفكير فى زمن التكفير" يمضى اتهام أبو زيد للمتدينين خطوة أخرى، إذ يقول إن منهج النقل الذى يسير عليه المتدينون (يقصد منهج الحفظ دون فهم أو تعقل) يقوم على الاتباع، ويناقض الإبداع ويعاديه، ويؤدى إلى التكفير العقلى الذى يؤدى بدوره إلى التصفية البدنية. ثم يقفز قفزة بهلوانية فى الهواء قائلا إن اللغة لم تكن عابثة حين جعلت التفكير والتكفير متقاربين لفظا، إذ الفرق بينهما تقديم حرف على حرف فقط بحيث إن الشخص إذا لم يُحْكِم تفكيره فإنه يلجأ إلى تكفير الآخرين الذين يختلف معهم. والواقع أن هذا تلاعب بالألفاظ يستند إلى مقولة "الاشتقاق الأكبر" التى قال بها ابن جنى، رغم أن هذا الاشتقاق الأكبر عند ذلك العالم اللغوى الكبير لا يعتمد إلا على أمثلة جد قليلة مع اعتساف فى التطبيق، مما وضحته فى كتابى: "من ذخائر المكتبة العربية" فى الفصل الذى خصصته لكتاب ابن جنى: "الخصائص". وبناء على هذا الأساس أستطيع أن أقول أنا أيضا بنفس الطريقة إن الفكر والكفر قريب من قريب بحيث إن الشخص إذا لم يحسن الفكر فإنه يقع فى الكفر. فما رأى القراء فى هذا؟

ثم لقد فات نصر أبو زيد أن النقل مطلوب مثلما النقد مطلوب، وكما أن النقل قد يكون معيبا إذا تم على نحو عميانى، فإن النقد قد يكون معيبا إذا تم دون استكمال أدواته من القراءة الواسعة والعقل القوى والتمحيص الدقيق والأناة فى استخلاص النتائج والاستعداد الدائم لمراجعتها وتصحيحها والرجوع عنها إذا تبين له أنه كان مخطئا أو غير دقيق... وهكذا. ولنكن على ذكر من أن الإبداع والنقد لا يمكن أن يتمّا إلا إذا كانت هناك مادة من المعلومات يستندان إليها. وهذه المادة تأتى من النقل، حتى إذا استحصد عقل الشخص استطاع أن يمارس النقد والإبداع. أما أن يبدأ نقده وإبداعه وليس فى عقله شىء، فكيف يستطيع ذلك؟ ترى هل يمكن أن يبدأ الطفل بالاستقلال فى التفكير وليس فى ذهنه أية معلومات قد لُقِّنها فى المدرسة والبيت مثلا؟ ترى هل يمكن أن تدور الرحى على الفاضى دون أن يكون هناك حب تدشّشه؟ إنها فى هذه الحالة سوف تتآكل بالاحتكاك دون حَبٍّ وتظل تطحن نفسها حتى تتفتت وتنتهى.

وإنى لأسأل: ومن أين أتى نصر أبو زيد بما كتبَه فى أبحاثه؟ أليس من النقل من كتب الآخرين؟ إن هذا ليس اتهاما، فنحن أيضا ننقل عن الآخرين، وإلا ما استطعنا أن نؤلف ما ألفناه. إذن فالنقل ليس مسبة حتى ينصب المشانق للمتدينين ظنا منه أنه يستطيع تشويه صورتهم. إنما العيب كل العيب فى أن يكون الكاتب فقيرا فى النقل إلى الحد الذى يخلط عنده ذلك الخلط الشنيع الذى خلطه أبو زيد بين العصر الأموى والعصر العباسى حتى ليجعل الشافعى يتعاون مع الأمويين ويتولى لهم عملا إداريا فى اليمن. ولسوف نأتى إلى هذه النقطة بعد قليل. لكن ذلك لا يعنى أبدا أن يتوقف الشخص عند النقل مثلما يفعل الدكتور نصر مع المفاهيم والمصطلحات الحداثية، التى ينقلها عن النقاد الغربيين أو بالأحرى: عن مترجميها عن النقاد الغربيين، ثم يضطرب فى تطبيقها على الفكر العربى كما سوف يتضح من هذه الدراسة التى فى يد القارئ الكريم لأنه لم يقرإ التراث العربى الإسلامى كما ينبغى. أى كان حظه من النقل عن هذا التراث ضئيلا. لقد صور المرحوم إبراهيم المازنى هذه العملية تصويرا فكاهيا، وإن كان مع هذا صادقا وبديعا أيضا، إذ قال إنه يشبه عربة الرش التى يذهب بها السائق إلى محطة الماء ليملأها ثم يدور بها فى الشوارع فاتحا صنابيرها يرش الأسفلت الملتهب إلى أن تفرغ مما فيها من ماء فيعود بها إلى المحطة كرة أخرى لملئها من جديد... وهكذا. ووجه الشبه أنه يحتاج دائما إلى الرجوع إلى الكتب ليستقى مادته التى يستند إليها فى التأليف، وأنه كلما انتهى من مقال له أو كتاب شعر أنه عربة رش فرغت من الماء، مما يستلزم منه أن يعود فيملأ عقله بقراءات جديدة يستند إليها فى تأليف شىء جديد... إلخ. فهذا كاتب من كبار كتاب الأب العربى فى كل العصور يرينا فى هذه الصورة الفكاهية الجميلة الساحرة كيف أن النقل شىء أساسى لا يمكن أن يستغنى عنه الكاتب مهما كان عبقريا مثله رحمه الله.

وقد كتب أحد طلاب الدكتور نصر تعليقا فى بعض المنتديات يتبين منه أن حظ الدكتور من المعلومات التى تحتاجها موضوعات أبحاثه قليل، وهو ما كان يوقعه فى المآزق. قال الطالب المذكور، واسمه نور أبو مدين: "الدكتور نصر ليس متخصصًا في الدراسات القرآنية، بل في علم اللغة، ولكنه أقحم نفسه في تخصص غير تخصصه. لذلك أتى بالأعاجيب شأن كل من يتحدث في غير فنه. وسأحدثك عن واقعة جرت لي شخصيًا معه في ذلك، إذ أنني كنت ضمن أول دفعة يدرس لها الدكتور نصر كتابه: "مفهوم النص" بعد عودته من اليابان. ولم يكن الكتاب قد طبع بعد، وإنما كان مجرد مذكرات مكتوبة على الآلة الكاتبة (نعم الآلة الكاتبة وليس الكمبيوتر، فقد كان ذلك منذ 16 عاما). ودرسه لنا ضمن مادة "علوم القرآن"، التي أُسْنِد إليه تدريسها بقسم اللغة العربية بكلية الآداب. كما درس لنا مادة "علوم الحديث" والتي لم يكن هو نفسه دَرَسَها من قبل. ولا أقول ذلك على سبيل التخرُّص، بل كلي يقين من ذلك للحادثة التي ساقصها عليك: كان الدكتور قد قرر علينا كتاب "الباعث الحثيث" وبعض أجزاء من كتابَيْ "فجر الإسلام" و"ضحى الإسلام" لأحمد أمين... وكان الدكتور يشرح كلام أحمد أمين ويتجنب شرح كتاب "الباعث الحثيث"، حتى قام إليه أحد الإخوة وسأله أن يشرح له عبارة في الباعث وهي: "الرواية تخالف الشهادة في شرط الحرية والذكورة وتعدد الراوي". وهذه العبارة وردت في الهامش. أقصد أنها من كلام الشيخ شاكر رحمه الله. ولأن الدكتور كان يرى العبارة للمرة الأولى في حياته، ولأنه لا يدري أصلاً ما هي الرواية وما هي الشهادة، فقد قام بشرح العبارة على أن الشروط الثلاثة المذكورة هي من شروط الرواية، وليست من شروط الشهادة. وكنت جالسًا فما تحملت الجلوس، فقمت لأصحح له هذا الفهم السقيم. وأشهد أن الدكتور كان واسع الصدر لأقصى درجة في مناقشة تلاميذه. أصر على قوله، فأردت أن أفصّلها له واحدة فواحدة، فقلت له: شرط الحرية غير موجود في الرواية، وموجود في الشهادة،. فأصر على أنه موجود في الرواية أيضًا. والطريف أنه لم يخطر ببالي وقتها إلا موالي عبد الله بن عباس فاحتج بأنهم "موالي"، أي تحرروا. ولو بَقُوا عبيدًا لما قُبِلَتْ روايتهم! فلم أُطِل الجدال معه وانتقلت إلى الشرط الثاني: الذكورة، وذكرت له أن المحدِّثات من النساء يملأن بتراجمهن المجلدات، وعلى رأسهن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فراح يلقي عليّ محاضرة عن العصور الوسطى وقرون الظلام وحقوق المرأة إلى آخر تلك الطنطنة التي لا علاقة لها بما كنا نتحدث عنه. وفي أثناء محاضرته تلك لمعت في ذهني نصيحة من شيخي: أنه قال لي ألا أنصح أحدًا أبدًا على الملأ، وسيّما إن كان أكبر مني سنًا أو قَدْرًا، فبادرت بالجلوس وعزمت على أن أذهب إليه في مكتبه بعد المحاضرة. وبالفعل كان، ودخلت مباشرة في الشرط الثالث وسلكت سلوك المستفهم الجاهل، وليس سلوك الند المتحدي، فقلت له: لا أفهم هذا الشرط. فبادر إلى القول إن كثير من العلماء (هكذا!) يرفضون أحاديث الآحاد ولا يأخذون بها. ولم أرد أن أخوض في جدل أعلم أنه لن ينتهي لشيء، فسألت ببراءة: وهل الشيخ شاكر الذي كتب هذا الكلام منهم؟ وهنا تغير لون وجهه وفهم عبارة الشيخ أخيرًا، فقام بعكس الكلام وادعى أن ظاهر لفظ الشيخ كان غامضًا، فشكرته وانصرفت. هذه الحادثة أوجدت عندي يقينًا أن الدكتور مبتوت الصلة بكتب التراث وأنه لم يقرأ كتب علم الحديث بل قرأ عنها، وقرأ عنها في أسوأ المصادر التي يمكن أن يتعلم منها مسلم. أعني كتابات المستشرقين والمستغربين. وهذا ما أثبتته الأيام لي بعد ذلك، فقد راح يدرس لنا من كتب "مشبوهة" مثل كتاب "الثابت والمتحول" للشيعي المتنصر أدونيس وغيره..." (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/archive/index.php/t-88177.html).

وأذكر، بمناسبة الحديث عن النقل والإبداع وأهمية كل منهما فى الكتابة والتأليف، ما كتبته إحدى الناقدات الغربيات فى تعريف التناص وتصورها أنه يتلخص فى تركيب الفسيفساءات النصية المأخوذة من هنا وههنا بعضها بجوار بعض، وكان الله يحب المحسنين، فنبهت فى الفصل الذى عقدته للتناصيّة فى كتابى: "مناهج النقد العربى الحديث" إلى أن هناك شيئا جوهريا فات الناقدة المذكورة، وهو شخصية الكاتب نفسه وروحه وإبداعه الذى يركب تلك الفسيفساءات بطريقة معينة فيخلق منها خلقا جديدا ويجعل منها شيئا مدهشا للعقل، وممتعا للذوق معا.

والآن إلى بند آخر من الأغلاط والمغالطات. لقد قدم د. نصر حامد أبو زيد، ضمن ما قدم من أعمال بقصد الترقى لمرتبة الأستاذية، كتابه المسمى: "نقد الخطاب الدينى". والمقصود بـ"الخطاب"، فى لغة بسيطة يستطيع أن يفهمها شخص رجعى منغلق لا يفهم فى البنيوية والتفكيكية والسميوطيقية والمهلبية والعسلية ونبوت الغفير كالدكتور شوقى ضيف ثم العبد لله إذا كان لى أن أن ألتحق بشرف مصاحبة الأستاذ الدكتور حتى فى المعيب والمثالب، هو الكتابات أو الأحاديث التى تتناول القضايا الدينية، سواء فى التفسير أو الحديث أو السيرة أو الفقه أو الخطابة أو علم الكلام أو مقارنة الأديان أو الوعظ والإرشاد... وهلم جرا. وفى هذا الكتاب ينتقد أبو زيد الخطاب الدينى كله انتقادا مطلقا يشمل كل ألوان ذلك الخطاب فى جميع العصور والبلاد، ومن كل الألوان والأطياف والاتجاهات، ودون اعتبار للكاتب سواء كان هو الطبرى أو ابن هشام أو الشافعى أو مالك أو ابن حزم أو الغزالى أو ابن العربى أو الشوكانى أو العقاد أو مالك بن نبى أو خالد محمد خالد... إلى آخر هؤلاء الكتاب، وهم بالآلاف، وإلا لحدده مثلا بالخطاب الدينى الشعبى أو الخطاب الدينى فى العصر العباسى أو الخطاب الدينى المعاصر أو الخطاب الدينى السعودى أو الخطاب الدينى عند خطباء المساجد أو الخطاب الدينى عند فلان أو علان أو ترتان من الكتاب أو الخطباء أو المحاضرين. كما أن انفراد الخطاب الدينى بالنقد قد يوحى، بل المراد عند أبو زيد هو أن يوحى، بأن الخطابات (أو بلغة الرجعيين المنغلقين من أمثال د. شوقى ضيف القامع الظالم المفترى: "الكتابات") الأخرى بريئة من هذا العيب. أى أنه عيب ذاتى فيه لصيق به لا يفارقه. لماذا؟ ليس هناك تفسير أمامى إلا فى أن العيب فى الدين نفسه، ثم انجر إلى الخطاب الخاص به. وفى الصفحة الحادية والعشرين وما بعدها من الكتاب يؤكد الكاتب بكل وضوح أن الخطاب الدينى بجميع أنواعه معيب، وأنه خطاب متطرف إرهابى تكفيرى تحريضى (على القتل طبعا) منغلق رجعى لا عقل فيه ولا فكر بل نقل وترديد للنصوص ترديدا آليا دون فهم أو نقد أو تمحيص كما تفعل الببغاوات التى لا عقل لها، وأنه إذا كان هناك فرق بين خطاب وآخر منه فهو فى الدرجة لا فى النوع. فهل فى هذا التعميم المطلق الذى لا يستثنى أحدا ولا عصرا ولا بلدا فى مجال الكتابات الدينية ("الإسلامية" طبعا من فضلك) شىء من المنهجية العلمية والانضباط الفكرى الذى يصدعنا بعض القوم بالجعجعة فيه؟ أترك الحكم للقارئ.

ثم مغالطة أخرى. ففى الصفحة الثانية والثلاثين من "نقد الخطاب الدينى" نرى الكاتب ينكر إنكارا مطلقا أن يكون أبو زيد قد اتهم العقل الغيبى بشىء. وهذا نص ما قال، والإشارة فيه إلى تقرير الأستاذ الدكتور عبد الصبور شاهين الخاص بترقية د. نصر: "ينتزع عبد الصبور شاهين العبارات من سياقها ليقرر فى يقين عجيب وحسم قاطع غريب: "فى المقدمة يهجم الباحث على الغيب بأسلوب غريب فيجعل العقل الغيبى غارقا فى الخرافة والأسطورة مع أن الغيب أساس الإيمان". وحديثنا الذى يشير إليه مولانا الشيخ هو ما يتعلق بالخطاب الدينى الذى ساند شركات توظيف الأموال بالإسلام. ومسألة "العقل الغيبى" لا وجود لها فى النص المشار إليه من حديثنا تصريحا ولا تلميحا حيث قلنا: "إن عملية النصب الكبرى تلك لم يكن لها أن تحقق ما حقتته دون تمهيد الأرض بخطاب يكرّس الأسطورة والخرافة ويقتل العقل". فالحديث عن خطاب، وليس عن العقل الغيبى. لكن الشيخ أراد أن ينسب لنا إنكار الغيب لكى يدلل بعد ذلك على أن الباحث ينكر "ما هو معلوم من الدين بالضرورة" فيلقى به وبخطابه فى غيابة "الكفر" و"الردة"... إلخ. وفى تعليقه على تفرقتنا بين فصل سلطة الدولة وفصل الدين عن الحياة والمجتمع، وعن خلط الخطاب، بينما يهدف تشويه العلمانية وربطها بالإلحاد... يقول كاذبا فض الله فاه: "ولا أدرى إن كان ذلك عن جهل بمفهوم العلمانية أو هو يضاعف من خطورة هذا الاتجاه بتزييف المفاهيم". وهذا ينقلنا إلى تزييف عبد الصبور شاهين وأتباعه للمفاهيم، خاصة العلمانية والماركسية، بل وتزييفه للأقوال التى لم نقلها ونسبتها لنا، وهو ما يكشف عن دلالات خطيرة نناقشها فى الفقرة التالية".

هذا ما يقوله نصر حامد أبو زيد منكرا أن يكون قد هاجم العقل الغيبى على أى نحو من الأنحاء، بل ينفى نفيا قاطعا أن يكون قد ذكره أى ذكر فى كلامه، مع أن تقرير قسم اللغة العربية بآداب القاهرة الذى أخذ على عاتقه الدفاع عنه قد أتى بنص كلام أبو زيد فى هذا المجال، وفيه إدانة واضح صريحة للعقل الغيبى. والكلام موجود فى الصفحة السادسة عشرة من الكتاب الذى بين أيدينا، وهذا نصه: "يقول تقرير اللجنة إن الكاتب فى مقدمة بحثه "يهجم على الغيب بأسلوب غريب فيجعل العقل الغيبى غارقا فى الخرافة والأسطورة مع أن الغيب أساس الإيمان". والواقع أن الكاتب لم يتعرض للغيب الوارد فى قوله تعالى: "يؤمنون بالغيب"، أى ما غاب عنهم مما أخبرهم به النبى صلى الله عليه وسلم من أمر البعث والجنة والنار، وإنما كلامه بالنص (ص10): "لم تكن المعركة (يقصد المعركة التى دارت حول كتاب "الشعر الجاهلى" لطه حسين) معركة الشعر، بل كانت معركة قراءة النصوص الدينية طبقا لآليات العقل الإنسانى التاريخى لا العقل الغيبى الخارق فى الخرافة والأسطورة". ثم يقول فى تفسير ما يقصده بالعقل الغيبى: "قوى الخرافة والأسطورة (المتحدثة) باسم الدين والتمسك بالمعانى الحرفية للنصوص الدينية"...".

إذن فأبو زيد قد ذكر أولا "العقل الغيبى" على عكس ما أكده من أنه لم يأت له على أى ذكر وأن كلامه هو عن الخطاب الدينى ليس إلا. ثم إنه ثانيا لم يكتف بالحديث عن العقل الغيبى، بل هاجمه وحط من قدره كما رأينا. وثالثا سوف نرى من خلال كلامه هو نفسه ما الذى يقصده بذلك العقل الغيبى. فلن نورد شيئا من لدنّا، بل سيكون معتمدنا على ما قال هو ذاته. لقد أشار إلى كتاب "فى الشعر الجاهلى" للدكتور طه حسين قائلا إن المشكلة كانت فى "قراءة النصوص الدينية طبقا لآليات العقل الإنسانى التاريخى لا العقل الغيبى الخارق فى الخرافة والأسطورة". ومن ثم فعلينا أن نعود إلى ما كتبه طه حسين فى هذا الصدد. والنصوص الدينية التى يشير إليها نصر أبو زيد بالمناسبة هى القرآن، ولا شىء سوى القرآن، إلا أنه بطريقة لحن القول لا يريد أن يضع النقاط على الحروف، بل يوارى ويوارب ظنا منه أن جمهور القراء لن يتنبه إلى تلك اللعبة.

قال طه حسين بشأن ذهاب إبراهيم إلى بلاد العرب وبنائه الكعبة فى مكة هو وابنه إسماعيل عليهما السلام كما ذكر القرآن (أو "النصوص الدينية" بالتعبير المراوغ من نصر أبو زيد): "للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا. ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، فضلا عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلي مكة ونشأة العرب المستعربة فيها. ونحن مضطرون إلي أن نرى في هذه القصة نوعا من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهودية من جهة، والقرآن والتوراة من جهة أخرى. وأقدم عصر يمكن أن تكون قد نشأت فيه هذه الفكرة إنما هو هذا العصر الذي أخذ اليهود يستوطنون فيه شمال البلاد العربية وينشئون المستعمرات. فنحن نعلم أن حروبا عنيفة شبت بين هؤلاء اليهود المستعمرين وبين العرب الذين كانوا يقيمون في هذه البلاد، وانتهت بشيء من المسالمة والملاينة ونوع من المخالفة والمهادنة. فليس يبعد أن يكون هذا الصلح الذي استقر بين المغيرين وأصحاب البلاد منشأ هذه القصة التي تجعل العرب واليهود أبناء أعمام، ولا سيما قد رأي أولئك وهؤلاء أن بين الفريقين شيئا من التشابه غير قليل، فأولئك وهؤلاء ساميون. ولكن الشيء الذي لا شك فيه هو أن ظهور الإسلام وما كان من الخصومة العنيفة بينه وبين وثنية العرب من غير أهل الكتاب قد اقتضى أن تثبت الصلة الوثيقة المتينة بين الدين الجديد وبين الديانتين القديمتين: ديانة النصارى واليهود. فأما الصلة الدينية فثابتة وواضحة، فبين القرآن والتوراة والأناجيل اشتراك في الموضوع والصورة والغرض، فكلها ترمي إلي التوحيد، وتعتمد علي أساس واحد هو هذا الذي تشترك فيه الديانات السماوية السامية. ولكن هذه الصلة الدينية معنوية عقلية يحسن أن تؤيدها صلة أخرى مادية ملموسة أو كالملموسة بين العرب وأهل الكتاب. فما الذي يمنع أن تُسْتَغَلّ هذه القصة، قصة القرابة المادية بين العرب العدنانية واليهود؟ وقد كانت قريش مستعدة كل الاستعداد لقبول مثل هذه الأسطورة في القرن السابع للمسيح، فقد كانت في أول هذا القرن قد انتهت إلي حظ من النهضة السياسية والاقتصادية ضَمِنَ لها السيادة في مكة وما حولها وبسط سلطانها المعنوي علي جزء غير قليل من البلاد العربية الوثنية. وكان مصدر هذه النهضة وهذا السلطان أمرين: التجارة من جهة، والدين من جهة أخري. فأما التجارة فنحن نعلم أن قريشا كانت تصطنعها في الشام ومصر وبلاد الفرس واليمن وبلاد الحبشة. وأما الدين فهذه الكعبة التي كانت تجتمع حولها قريش ويحج إليها العرب المشركون في كل عام، والتي أخذت تبسط علي نفوس هؤلاء العرب المشركين نوعا من السلطان قويا، والتي أخذ هؤلاء العرب المشركون يجعلون منها رمزا لدين قوي كأنه كان يريد أن يقف في سبيل انتشار اليهودية من ناحية، والمسيحية من ناحية أخري. فنحن نلمح في الأساطير أن شيئا من المنافسة الدينية كان قائما بين مكة ونجران. ونحن نلمح في الأساطير أيضا أن هذه المنافسة الدينية بين مكة وبين الكنيسة التي أنشأها الحبشة في صنعاء هي التي دعت إلي حرب الفيل التي ذكرت في القرآن. فقريش إذن كانت في هذا العصر ناهضة نهضة مادية تجارية ونهضة دينية وثنية. وهي بحكم هاتين النهضتين كانت تحاول أن توجد في البلاد العربية وحدة سياسية وثنية مستقلة تقاوم تدخل الفرس والروم والحبشة وديانتهم في البلاد العربية. وإذا كان هذا حقا، ونحن نعتقد أنه حق، فمن المعقول جدا أن تبحث هذه المدنية الجديدة لنفسها عن أصل تاريخي قديم يتصل بالأصول التاريخية الماجدة التي تتحدث عنها الأساطير. وإذن فليس ما يمنع قريشا من أن تقبل هذه الأسطورة التي تفيد أن الكعبة من تأسيس إسماعيل وإبراهيم كما قبلت روما قبل ذلك ولأسباب مشابهة أسطورة أخري صنعها لها اليونان تثبت أن روما متصلة بإنياس بن بريام صاحب طروادة. أمر هذه القصة إذن واضح، فهي حديثة العهد ظهرت قبيل الإسلام لسبب ديني، وقبلتها مكة لسبب ديني وسياسي أيضا".

إذن فهذا النص الدينى القرآنى ليست سوى أسطورة وجدها محمد جاهزة فاستغلها. وهذا التصرف من جانبه لا يعنى إلا شيئا من شيئين: أنه كان على علم بأسطوريتها، لكنه قبلها بغرض نفعى لا علاقة له كما نرى بحق أو باطل، فهو إذن رجل براجماتى مكيافيلى، الغاية عنده تبرر الوسيلة، أو أنه كان رجلا جاهلا فصدق هذه الأسطورة ورددها فى قرآنه ظنا منه أنها حق لا ريب فيه. ومن كان عنده تفسير ثالث فليوافنى به، وله المثوبة والأجر من الله! والعقل الغيبى الخرافى الأسطورى هو الذى يصدق ما جاء فى القرآن ويأخذه على أنه حقيقة تاريخية، أما العقل العلمى فيرى فيه أسطورة ملفقة زيفها العرب فى الجاهلية، ثم جاء الإسلام فاستغلها لأسباب سياسية. ومن كان لديه تفسير مختلف لما قاله كل من طه حسين ونصر أبو زيد فله كل الشكر إذا أمدنا به. أما الرد على ذلك الكلام الفارغ الذى تقيأه طه حسين فليس هنا موضعه، إذ تولى كتابى: "معركة الشعر الجاهلى بين الرافعى وطه حسين" وبحثى المنشور فى المشباك: "نظرية طه حسين فى الشعر الجاهلى: سرقة أم ملكية صحيحة؟" هذه المهمة. وكانت نتيجة نشرى لكتابى عن "معركة الشعر الجاهلى" أن انقضت على صاحب الكتاب قوى الظلام والبطش الإجرامى التى لا تطيق أن يخالفها أحد، وبخاصة إذا كشفت المخالفة زيف كلام طه حسين وبينت بالأدلة المنهجية الصارمة سخفه وتهافته، نعم انقضت قوى البطش الإجرامى التى تضرب ضربتها فى ظلام الليل البهيم دائما ولا تظهر فى نور النهار أبدا وانهالت بالمطارق الحديدية الثقيلة على دماغه تريد تحطيمه، وهيهات. وقد احتسبنا نحن ما وقع علينا من أَذَى المجرمين التافهين عند الله، الذى لا يضيع عنده ما يحتسبه عبده الراجى رحمته وثوابه.

وبهذه المناسبة فقد قال طه حسين أيامئذ فى بعض الصحف إن "العالِم ينظر إلى الدين كما ينظر إلى اللغة، وكما ينظر إلى الفقه، وكما ينظر إلى اللباس، من حيث إن هذه الأشياء كلها ظواهر اجتماعية يحدثها وجود الجماعة وتتبع الجماعة فى تطورها. وإذن فالدين فى نظر العلم الحديث ظاهرة كغيره من الظواهر الاجتماعية، لم ينزل من السماء ولم يهبط به الوحى، وإنما خرج من الأرض كما خرجت الجماعة نفسها، وإن رأى دوركايم أن الجماعة تعبد نفسها، أو بعبارة أدق: أنها تؤله نفسها" (مصطفى صادق الرافعى/ تحت راية القرآن/ المكتبة العصرية/ بيروت/ 1423هـ- 2002م/ 267). وبهذه المناسبة أيضا هناك بحث لإسماعيل أدهم بعنوان "طه حسين- دراسة وتحليل" نشرته سامى الكيالى صاحب مجلة "الحديث" الحلبية عام 1938م، يمدح فيه أدهم الدكتور طه واصفا إياه بالإلحاد والثورة على الدين، ومشيرا إلى رأيه فى الأديان الذى نقلناه لتونا. فيمكن القارئ أن يرجع إليه ليتأكد مما نقول.

ومما يتصل بهذا الأمر تأكيد أبو زيد أن الدين الذى يدعو إليه هو الدين بعد تصفيته من الأساطير (انظر "نقد الخطاب الدينى"/ 30). ولنلاحظ أنه يقول: "الدين"، وليس "التدين"، وإن عاد بعد قليل قائلا إنه قد اتضح الآن الفرق بين الدين والتدين. يقصد أنه لا يهاجم الدين بل التدين كما يمارسه بعض المسلمين. إلا أن كلامه الأصلى لا يتحدث إلا عن الدين. نعم الدين نفسه لا فَهْم الناس له. فهل فى الإسلام أساطير؟ وما هى يا ترى؟ ثم كيف ننقيه منها؟ لقد وضعنا أيدينا، عند تحليلنا لكلام الدكتور نصر عن طه حسين فى سياق هجومه على ما سماه: "العقل الغيبى الخرافى الأسطورى"، على مثال مما يُعَدّ عند القوم من الأساطير، وهو زيارة إبراهيم لبلاد العرب وبناؤه هو وابنه إسماعيل الكعبة. فيا ترى ماذا يراد منا أن نصنع بالآيات التى تتحدث فى هذا الموضوع على أنه حقيقة تاريخية ويرى القوم أنها مجرد خرافات وأساطير؟ هل نلغيها من القرآن؟ أنا أكره الكلام المداور، وأحب أن تكون العبارة مُبِينة، وإن كنت أثق بقدرتى على كشف ما وراء اللف والدوران فى كتابات بعض الناس. ولا بد أن نوضح هنا أن سلامة موسى كان دائم الهجوم على "الغيبيات" فى الفاضية والملآنة، ومعروف أن الغيبيات موضوع من موضوعات علم الكلام الإسلامى، وتسمى أيضا بـ"السمعيات"، أى الموضوعات غير القابلة لأن نراها أو نسمعها أو نلمسها أو نشمها، بل نسمع بها من الوحى ليس إلا، مثل الملائكة والجن والجنة والنار والحساب... وما إلى ذلك. وأكتفى بهذا.

وثم نقطة أخرى، إذ يقول نصر أبو زيد: "لقد كان ارتباط ظاهرتَىِ الشعر والكهانة بالجن فى العقل العربى وما ارتبط بهما من اعتقاد العربى بإمكانية الاتصال بين البشر والجن هو الأساس الثقافى لظاهرة الوحى الدينى ذاتها. ولو تصورنا خلو الثقافة العربية قبل الإسلام من هذه التصورات لكان استيعاب ظاهرة الوحى أمرا مستحيلا من الوجهة الثقافية. فكيف يمكن للعربى أن يتقبل فكرة نزول ملك من السماء على بشر مثله ما لم يكن لهذا التصور جذور فى تكوينه العقلى والفكرى؟ وهذا كله يؤكد أن ظاهرة الوحى (القرآن) لم تكن ظاهرة مفارقة للواقع أو تمثل وثبا عليه وتجاوزا لقوانينه، بل كانت جزءا من مفاهيم الثقافة ونابعة من مواضعاتها وتصوراتها. إن العربى الذى يدرك أن الجنِّىّ يخاطب الشاعر ويلهمه شعره، ويدرك أن العراف والكاهن يستمدان نبوءاتهما من الجن، لا يستحيل عليه أن يصدق بملك ينزل بكلام على بشر. لذلك لا نجد من العرب المعاصرين لنزول القرآن اعتراضا على ظاهرة الوحى ذاتها، وإنما انصب الاعتراض إما على مضمون كلام الوحى أو على شخص الموحَى إليه. ولذلك أيضا يمكن أن نفهم حرص أهل مكة على رد النص الجديد (القرآن) إلى آفاق النصوص المألوفة فى الثقافة، سواء كانت شعرا أم كهانة... إن العلاقة بين النبوة والكهانة فى التصور العربى أن كليهما "وحى"، اتصال بين إنسان وبين كائن آخر ينتمى إلى مرتبة وجودية أخرى: ملَكٌ فى حالة النبى، وشيطانٌ فى حالة الكاهن. وفى هذا الاتصال/ الوحى ثمة رسالة عبر شفرة خاصة لا يتاح لطرف ثالث أن يفهمها على الأقل لحظة الاتصال، وذلك لأن النبى "يبلِّغ" للناس بعد ذلك الرسالة، والكاهن "ينبئ" عن محتوى ما تلقاه. وفى هذا كله تصبح ظاهرة "الوحى" ظاهرة غير طارئة على الثقافة ولا مفروضة عليه من خارج" (ص38- 39، 44 من كتاب مفهوم النص- دراسة فى علوم القرآن/ الهيئة المصرية العامة للكتاب/ 1993م).

وقبل أن ندخل فى مناقشة تفاصيل هذا الكلام نتساءل: هل كان الجاهليون يسمون وسوسة الشياطين للكهان: "وحيا"، ومن ثم يصح أن يقول نصر أبو زيد إن هناك علاقة بين مفهوم الوحى الجاهلى ومفهوم الوحى فى الإسلام؟ كل ما أورده د. نصر فى هذا الصدد نصان شعريان جاهليان ليس فيهما أدنى إشارة إلى أى وحى (ص39). وهذان هما النصان، ولا أدرى لم أوردهما ما داما لا يحتويان على الشاهد المراد. فأما النص الأول فهو للأعشى، ويتحدث فيه عن قرينه مِسْحَل، أى الشيطان الذى كان يعتقد أنه يساعده فى نظم الأشعار:

وَما كُنتُ شاحِردا وَلَكِن حَسِبتُني * إِذا مِسْحَلٌ سَدَّى لِيَ القَولَ أَنطِقُ

شَريكانِ فيما بَيْنَنا مِن هَوادَةٍ * صَفِيّانِ: جِنِّيٌّ وَإِنسٌ مُوَفَّقُ

يَقولُ فَلا أَعْيَا لِشَيءٍ أَقولُهُ * كَفانِيَ لا عَيٌّ وَلا هُوَ أَخرَقُ

وأما النص الثانى فلبدر بن عامر:

ولقد نطقتُ قوافيًا إنسيةً * ولقد نطقتُ قوافىَ التجنينِ

وهناك شاهد آخر أورده نصر أبو زيد لعلقمة الفحل، لا بمعنى اتصال الجن بالإنس، بل بمعنى حديث الثور الوحشى إلى أبقاره، وشتان الأمران. وهذا هو الشاهد:

يوحي إِلَيها بِإِنقاضٍ وَنَقنَقَةٍ * كَما تَراطَنُ في أَفدانِها الرومُ

ولقد بحثت بنفسى فى الموسوعة الشعرية الإماراتية لعلى أجد شيئا يعضد ما زعمه د. أبو زيد عن تسمية الجاهليين لاتصال الكهان والشعراء بالجن: "وحيا" فلم أجد فى الشعر الجاهلى إلا نصا واحدا لزهير بن جناب الكلبى أتت فيه فعلا كلمة "وحى"، ولكن بمعنى "حديث" الأطلال إلى الشاعر الحزين على فراق حبيبته لا بمعنى وسوسة الجن إلى الإنس كما يقول أبو زيد:

فَكادَت تُبينُ الوَحيَ لَمّا سَأَلتُها * فَتُخبِرُنا لَو كانَتِ الدارُ تَنطِقُ

هذا فى مجال الأسماء، أما فى مجال الأفعال فلم أعثر إلا على البيت الذى ساقه د. نصر لعلقمة الفحل ليس غير. ونخرج من هذا كله أن الأساس الذى أقام عليه نصر حامد أبو زيد دعواه بمشابهة الوحى القرآنى للوحى الكهانى والوحى الشعرى هو أساس منهار لم يكن يصح أن يتخذه مستندا فى مثل هذه القضية الحساسة التى يمكن أن يُزِيغ الأبصارَ فيها كلامُه المندفع غير المسؤول.

ولقد لاحظ القارئ كيف يكرر د. نصر أبو زيد عبارة "ظاهرة الوحى القرآنى"، مع أن القرآن حالة فردية لا تمثل ظاهرة، إذ هو لم ينزل على غير محمد صلى الله عليه وسلم، ولو كان ظاهرة لرأينا كثيرا من العرب أنبياء يتنزل القرآن عليهم. هذا هو معنى الظاهرة، أما إذا كانت الحالة فردية أو محصورة فى نطاق ضيق فلا تسمَّى: ظاهرة. ترى هل إذا اكتشف السكان مثلا فى مدينة من المدن أن بينهم لصا، هل يقال إن اللصوصية أصبحت تمثل ظاهرة فى مدينتهم؟ هل إذا اكتشف الأطباء فى بلد من البلاد حالةَ فشلٍ كٌلْوِىّ، هل يقال إن هذا المرض صار يشكل ظاهرة؟ واضح أن نصر أبو زيد لا يراعى معانى المصطلحات التى يستعملها، ويترك لنفسه العنان فى استخدامها كما يعنّ له دون تدقيق أو تبصر أو مراعاة لما استقر عليه العُرْف اللغوى والاصطلاحى. لو كان نصر أبو زيد قال إن "الوحى" (الوحى بإطلاق) يمثل ظاهرة لكان كلامه معقولا، فالوحى فعلا يمثل ظاهرة لتكرره وشيوعه فى التاريخ البشرى، إذ ما من أمة إلا وقد ظهر فيها نذير أو أكثر حسبما ينبئنا القرآن المجيد، أما الوحى القرآنى بالذات فهو حالة من الحالات التى تتمثل فيها تلك الظاهرة، لكنه لا يشكل وحده ظاهرة.

أيا ما يكن الأمر فإن كلام أبو زيد يفيد أن مفهوم الوحى فى الإسلام هو انعكاس للفكر الجاهلى. لكن هل جاء الإسلام للعرب وحدهم فاستغل مفهوم الكهانة عندهم ورتب عليه مفهوم النبوة؟ أم كيف يا ترى يفسر انتشار الإسلام فى كل بلاد العالم قديما وحديثا، وهم ليسوا عربا، ومنهم اليهودى والنصرانى والوثنى والمادى، والموحد والمثلث والثنوى والمتشكك، والفارسى والمصرى والتركى والإسبانى والأمريكى والهندى والصينى واليابانى والمكسيكى والأسترالى...؟ وبالمثل كيف يفسر تكذيب العرب بالكهانة بعد مجىء الإسلام بل تَرْك كثير من الكهان لكهانتهم إذا كان مفهوم النبوة امتدادا لمفهوم الكهانة؟ كذلك لو كان ما يحاوله أبو زيد من الربط بين الكهانة والنبوة صحيحا لكان الجاهليون قد سارعوا إلى الإيمان بالنبى من أول وهلة ما دام الأمران واحدا. لكنهم، فى واقع الأمر، كانوا بوجه عام يصدقون الكهان ولا يصدقون النبى إلا بعد أخذ ورد ومجادلات وحروب على ما هو معروف للجميع. وقد قال أبو جهل إن قبيلته وقبيلة النبى كانتا كفرسى رهان، أى متساويتين فى الشرف والكرامة، إلى أن قال محمد إنه نبى، وهو ما أكد أبو جهل أن قبيلته لا يمكنها شىء من ذلك. ترى لماذا؟ الواقع أنه لو كانت النبوة امتدادا للكهانة كما يزعم نصر أبو زيد ما قال أبو جهل ما قال. ولقد كان بعض الجاهليين، حسبما حكى القرآن فى مواضع عدة منه، يقولون عن النبى إنه كاهن، ومع هذا كذبوه. فلماذا إذن لم يؤمنوا به كما كانوا يؤمنون بصدق ما يقوله الكاهن لهم؟ وفوق هذا فإن وظيفة النبى ووظيفة الكاهن مختلفتان بل متناقضتان، إذ الكاهن إنما يزعم مقدرته على علم الغيب، وكان العرب لا يقصدونه إلا لمعرفة ما خفى عليهم، أما النبى فقد فاجأهم منذ البداية بالقول بأنه لا يعلم الغيب، إذ لا يعلم الغيب إلا الله، فضلا عن أن رسالته هى تتميم مكارم الأخلاق والدعوة إلى الإيمان بالله الواحد الأحد وإلى العبادة والعمل الصالح، وهو ما زادهم منه نفورا. كما أن الكاهن كان يحرص على لفلفة أقاويله فى ثياب الغموض حتى تحتمل عدة معان بحيث تصدُق على أى وضع، أما القرآن والحديث فمعانيهما واضحة لا لفلفة فيها ولا غموض. ثم إن كلام الكاهن قصير جدا لا يتجاوز عدة جمل، أما القرآن فقد يطول النص منه حتى ليبلغ صفحات وصفحات وصفحات، كما فى "البقرة" و"آل عمران" مثلا. ليس ذلك فقط، بل كان الكهان يأخذون جُعْلاً على ما يقولون، أما النبى فقد كرر القرآن منذ وقت جد مبكر أنه لا يسألهم على ما يقوله لهم أى أجر. واضح أن الأمرين مختلفان تماما حتى فى عقول الجاهليين.

وفى الصفحة السابعة والخمسين بعد المائة من كتاب "مفهوم النص" يزعم نصر أبو زيد أن العرب لم تستطع التمييز بين القرآن وبين الشعر وسجع الكهان، فلذلك قالوا عنه إنه شعر أو إنه من اسجاع الكاهنين. وهذا كلام غير صحيح، وإلا فإذا كان القرآن فى نظرهم شعرا وكهانة، فلماذا لم يؤمنوا به كما كانوا يؤمنون بصحة كلام الكهان مثلا؟ إن الفروق بين القرآن والشعر والسجع الكهانى واضحة تمام الوضوح، لكن عنادهم هو الذى أملى لهم فى الغى والكفر. وإذا كان القرآن قد اختلط عندهم بالشعر، وتحداهم بأن يأتوا ولو بسورة منه، فلماذا لم يقف من بينهم أحد ويقول: "هأنذا آتى بسورة من مثله"، ثم ينشد قصيدة من قصائده؟ كذلك قد رموا الرسول بالكذب، فهل كان القرآن فى ثقافتهم يشبه كذب الكذابين؟ وقالوا عنه إنه سحر، فهل كان السحر هكذا؟ وعلى كل حال هأنذا أسوق وصف عتبة بن ربيعة للقرآن، ومنه يتبين أن العرب كانوا واعين بالفروق التى تميز بين القرآن والكهانة والشعر تمام الوعى.

ففى سيرة ابن هشام أن "عتبة بن ربيعة، وكان سيدا حليما، قال ذات يوم وهو جالس في نادي قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحده في المسجد: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى هذا فأكلمه أمورا لعله أن يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكفّ عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة بن عبد المطلب، ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون. فقالوا: بلى يا أبا الوليد، فقم فكلمه. فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السِّطَة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت من مضى من آبائهم. فاسمع مني أَعْرِض عليك أمورا تنظر فيها لعلك أن تقبل منها بعضها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل يا أبا الوليد أسمع. فقال يا بن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت من هذا القول مالا جمعنا من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت إنما تريد شرفا شرّفناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد مُلْكا ملَّكناك، وإن كان هذا الذي يأتيك رَئِيًّا تراه ولا تستطيع أن ترده عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوَى منه. ولعل هذا الذي تأتي به شعر جاش به صدرك، فإنكم، لَعَمْرِي يا بني عبد المطلب، تقدرون منه على ما لا يقدر عليه أحد. حتى إذا فرغ عتبة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفرغتَ يا أبا الوليد؟ قال: نعم. قال: فاستمع مني. قال: أفعل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بسم الله الرحمن الرحيم* حم* تنزيلٌ من الرحمن الرحيم* كتابٌ فُصِّلَتْ آياته قرآنا عربيا". فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها عليه. فلما سمعها عتبة أنصت له، وألقى بيده خلف ظهره معتمدا عليها يستمع منه حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة فسجد فيها، ثم قال: قد سمعتَ يا أبا الوليد ما سمعتَ، فأنت وذاك. فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ فقال: ورائي أني والله قد سمعت قولا ما سمعت بمثله قط. والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا الكهانة. يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي. خَلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه. فو الله ليكونن لقوله الذي سمعتُ نبأ. فإن تُصِبْه العرب فقد كُفِيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فمُلْكه مُلْككم، وعِزُّه عِزُّكم، وكنتم أسعد الناس به. قالوا: سَحَرك والله يا أبا الوليد بلسانه. فقال: هذا رأيي، فاصنعوا ما بدا لكم".

ثم إن نصر أبو زيد لا يكتفى بهذا، بل يمضى على غُلَوائه فيرمى القرآن بالبراجماتية، إذ يزعم أن القرآن قد تقبل الكهانة فى البداية لأنها سبق أن بشرت بمجىء النبى، ثم لما تمت له الاستفادة من تبشير الكهان بمجىء النبى عليه السلام عاد فأنكرها وولاها ظهره بعدما أخذ منها ما يريد. كيف؟ يقول نصر أبو زيد إن القرآن فى السور المكية، أى فى المرحلة التى كان بحاجة إلى من يشهد له بالصدق (يقصد الكهان، الذين يقال إنهم قد بشروا بالنبى قبل مجيئه فمهدوا له الطريق)، قد حرص على ممائلة سجعهم فكانت الفاصلة فى سور المرحلة المكية، ولكنه بعدما أخذ من الكهان ما يريد واستقرت دعائمه ولم يعد فى حاجة إلى شهادتهم، حرص على أن يخالف سجعهم، فخلت السور المدنية أو كادت من الفاصلة (انظر "مفهوم النص"/ 161- 164).

هذا ما زعمه أبو زيد، أما حقائق التاريخ والواقع فشىء آخر غير هذه التخريفات: فأولا لقد نفى القرآن منذ وقت مبكر فى مكة أن يكون الرسول كاهنا، وهو ما يبرهن بكل قوة وحسم أنه يدين الكهانة والكهان ويتبرأ منهم منذ البداية، فكيف يقال إنه كان حريصا على مماثلتهم؟ يقول جل شأنه: "فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ" (الطور/ 29)، "وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ* وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ" (الحاقة/ 41- 42). وثانيا لم يكن السجع خصيصة مقصورة على كلام الكهان، بل كان الجاهليون يراعونه فى الخطب والأمثال. كل ما هنالك أنه عند الكهان كان متكلفا ثقيلا وغامضا يحتمل معانى متعددة كبيت الثعلب له عدة أبواب بحيث إذا أطبق عليه الصائد من بابٍ تسلل هو من بابٍ غيره دون أن يشعر الصائد به، أما فى الخطب والأمثال فكان السجع طبيعيا سلسا. وثالثا من قال إن الفاصلة قد اختفت أو ندرت فى القرآن المدنى؟ إنها موجودة فى كل سور القرآن: مكيها ومدنيها، وإلا فليشرح لنا د. نصر ماذا يعنيه بمصطلح "الفاصلة" حتى نفهم مرمى كلامه ذاك العجيب.

وهذه بعض الأمثلة من سجع الخطب والأمثال. فمن ذلك خطبة عبد المطب بن هاشم جد الرسول عليه السلام حين ذهب مع وفد من قريش لتهنئة سيف بن ذى يزن ملك اليمن على تخلص بلاده من الاحتلال الحبشى: "إن الله تعالى أيها الملك أَحَلَّك محلاًّ رفيعًا، صعبًا منيعًا، باذخًا شامخًا، وأنبتك منبتًا طابت أَرُومَتُه، وعزَّتْ جرثومتُه، وثبَتَ أصله، وبَسَقَ فرعه، في أكرم معدن، وأطيب موطن. فأنت، أَبَيْتَ اللعن، رأْسُ العرب وربيعُها الذي به تُخْصِب، ومَلِكها الذي به تنقاد، وعمودها الذي عليه العِمَاد، ومعقلها الذي إليه يلجأ العباد. سَلَفُك خير سلف، وأنت لنا بعدهم خير خَلَف. ولن يَهْلِك من أنت خَلَفُه، ولن يَخْمُل من أنت سَلَفُه. نحن، أيها الملك، أهل حَرَم الله وذمّته وسَدَنة بيته. أَشْخَصَنا إليك الذي أبهجك بكشف الكَرْب الذي فدحنا، فنحن وفد التهنئة لا وفد الَمْرِزَئة". ومنها خطبة قس بن ساعدة الإيادى فى سوق عكاظ: "أيها الناس، اجتمعوا واسمعوا وعوا. إنه من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آتٍ آت، أقسم قس قسما لا كذب فيه ولا إثم إن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعِبَرا. سقف مرفوعٌ، ومهادٌ موضوعٌ، وبحرٌ مسجورٌ، ونجومٌ تسير ولا تغور. ما لي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون؟ أرَضُوا بالمقام فأقاموا أم تُرِكوا فناموا؟ أقسم بالله قسمًا إن لله دينا هو أرضى من دينٍ نحن عليه. وأراكم قدتفرقتم بآلهةٍ شتى. وإن كان الله رب هذه الآلهة، إنه ليجب أن يعبد وحده". ومن الأمثال: "اختلط الحابل بالنابل"، "إذا أردتَ المحاجزة فقَبْلَ المناجزة، "إذا لم تَغْلِبْ فاخْلُبْ"، "إذا جاء الحَيْن، حارَ العَيْن"، "اِرْقَ على ظَلْعك، واقْدِرْ بذَرْعك"، "أَرِنِيها نَمِرَة أُرِكَها مَطَرَة"، "أَعْذَرَ من أَنْذَر"، "إننى لن أَضِيرَه. إنما أطوى مَصِيرَه"، "استغنت التُّفَّة عن الرُّفَّة"، "بِعْتُ جارى، ولم أَبِعْ دارى"، "جاء بالطِّمّ والرِّمّ"، "جَدَّك لا كَدَّك"، "حال الجَرِيض دون القَرِيض"، "الخَلاء بَلاء"، "دُهْدُرَّيْن سَعْد القَيْن"، "رُبَّ قَوْل أشد من صَوْل"، "الطريفُ خفيف، والتَّليدُ بليد"، "قُرْبُ الوِسَاد، وطُولُ السَّوَاد"، "لولا اللئام لهَلَكَ الأَنَام"، "ليس من العَدْل سرعة العَذْل"، "مَنْ لى بالسانِح بعد البارِح؟"، "المنايا على البلايا"، "اليومَ خَمْر، وغدًا أَمْر".

وهذا كله لو كان الكهان قد بشروا فعلا بالنبى عليه السلام قبل مجيئه فمهدوا له الطريق. بيد أن هذا غير صحيح، فهم لم يبشروا به. وكيف يبشرون به وهم بشر من البشر لا يعلمون الغيب؟ ثم لو كانوا بشروا به حقا فكيف لم يتخذ القرآن ولا الرسول ذلك حجة على الوثنيين فينبههم إلى ما كان الكهان يقولونه فى حقه قبل مجيئه، والكهان فى نظر العرب مصدَّقون؟ إن كل ما ذكره القرآن هو أن أهل الكتاب كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم لإتيان البشارة به فى كتبهم، ولم يقل شيئا من ذلك عن الكهان. ومع هذا فإنه لم يداهن أهل الكتاب، بل أعلن منذ وقتٍ جِدّ مبكرٍ رأيه فى مواقفهم وعقائدهم، وذَمَّهم بل كفّرهم ودعاهم إلى نبذ ما هم عليه والدخول فى الدين الجديد إذا أرادوا النجاة يوم القيامة. فإذا كان هذا حاله مع من ذكر أن كتابهم قد بشر بمحمد عليه الصلاة والسلام، فكيف يقال إنه قد حرص على مجاملة الكهان باحتذاء أسجاعهم حتى تم له ما أراد من اعتراف العرب به، وعندئذ انقلب عليهم وقلب لهم ظهر المجنّ؟ وإذا كان الأمر كذلك فلماذا يا ترى لم يحرص أيضا على مراعاة خاطر الوثنيين فيثنى على آلهتهم فى البداية حتى يجد لنفسه فى مجتمعهم موطئ قدم، ثم يلعن أبا خاشهم بعدئذ ولا يبالى؟

ولسوف آخذ نصا من نصوص الكهان التى يقال إنها فى التبشير بنبوة النبى عليه السلام قبل مجيئه بالرسالة، وهو حديث خنافر بن التوأم الحِمْيَرِيّ مع رَئِيّه شَصَار، وذلك كى أُرِىَ القارئ على الطبيعة تهافُت ما يقال عن تبشير الكهان الوثنيين به صلى الله عليه وسلم. ولسوف نقرأ النص أولا ثم نرى فيه رأينا بعد ذلك: "كان خُنَافر بن التوأم الحميري كاهنا، وكان قد أُوتِيَ بسطة في الجسم وسَعة في المال، وكان عاتيا. فلما وفدتْ وفود اليمن على النبي وظَهَر الإسلام أغار على إبلٍ لِمُرَاد فاكتسحها، وخرج بأهله وماله ولحق بالشِّحْر، فخالف جَوْدان بن يحيى الفِرْضِمي، وكان سيدا منيعا، ونزل بواد من أودية الشِّحْر مُخْصِبًا كثير الشجر من الأيك والعَرِين. قال خنافر: وكان رَئِيِّي في الجاهلية لا يكاد يتغيب عني، فلما شاع الإسلام فقدتُه مدة طويلة، وساءني ذلك. فبينا أنا ليلةً بذلك الوادي نائما إذ هَوَى (انحدر فى الجَوّ) هُوِىَّ العُقَاب، فقال: خنافر؟ فقلت: شصار؟ فقال: اسْمَعْ أَقُلْ. قلت: قُلْ أَسْمَعْ. فقال: عِهْ تَغْنَمْ. لكل مدةٍ نهاية، وكلُّ ذي أمدٍ إلى غاية. قلت: أجل. فقال: كل دولةٍ إلى أجل، ثم يتاح لها حِوَل. انتُسِخت النِّحَل، ورجعت إلى حقائقها المِلَل. إنك سَجِيرٌ (أى صديق) موصول، والنصح لك مبذول، وإني آنَسْتُ بأرض الشأم نَفَرًا من آل العُذَّام (يقصد قبيلة من الجن)، حكّاما على الحكّام، يَذْبُرون (يقرأون) ذا رونق من الكلام، ليس بالشِّعر المؤلَّف، ولا السجع المتكلَّف، فأصغيتُ فزُجِرْتُ، فعاودتُ فظُلِفْتُ (أى مُنِعْتُ)، فقلت: بم تُهَيْنِمون؟ وإلام تَعْتَزُون؟ قالوا: خِطَابٌ كُبَّار، جاء من عند الملك الجبار، فاسمع يا شَصَار، عن أصدق الأخبار، واسلك أوضح الآثار، تَنْجُ من أُوَار النار. فقلت: وما هذا الكلام؟ فقالوا: فرقانٌ بين الكفر والإيمان. رسول من مُضَر، من أهل المـَدَر، ابتُعِث فظهر، فجاء بقَوْلٍ قد بَهَر، وأَوْضَحَ نَهْجًا قد دَثَر، فيه مواعظ لمن اعتبر، ومَعَاذٌ لمن ازدجر، أُلِّف بالآىِ الكُبَر. قلت: ومن هذا المبعوث من مُضَر؟ قال: أحمد خير البشر. فإن آمنتَ أُعْطِيتَ الشَّبَر (أى الخير)، وإن خالفت أُصْلِيتَ سَقَر. فآمنتُ يا خُنَافر، وأقبلت إليك أبادر، فجانِبْ كل كافر، وشايِعْ كل مؤمن طاهر، وإلا فهو الفراق، لا عن تلاق. قلت: من أين أبغي هذا الدين؟ قال: من ذات الإِحَرِّين، والنَّفَر اليمانين، أهل الماء والطين. قلت: أَوْضِحْ. قال: اِلْحَقْ بيثربَ ذات النخل، والحَرّة ذات النعل، فهناك أهل الطَّوْل والفضل، والمواساة والبذل. ثم امَّلَسَ عنى، فبِتُّ مذعورا أراعي الصباح. فلما برق لي النور امتطيتُ راحلتي وآذنتُ أَعْبُدِي واحتملتُ بأهلي حتى وردتُ الجوف، فرددتُ الإبل على أربابها بحَوْلها وسِقَابها (أى بجِمَالها ونُوقها. جَمْع: "حائل" و"سَقْب") وأقبلتُ أريد صنعاء، فأصبت بها معاذ بن جبل أميرا لرسول الله فبايعته على الإسلام، وعلَّمني سورا من القرآن، فمنّ الله علي بالهدى بعد الضلالة والعلم بعد الجهالة".

وفى هذا الحديث نلاحظ ما يلى: أن رَئِىّ خنافر قد تركه فى عمايته فلم يُعْلِمه بأن نبيا جديدا ظهر بدعوته فى بلاد العرب، إلى أن أصبح الناس فى تلك البلاد كلهم يعلمون ذلك، اللهم إلا خنافرا. فعندئذ، وعندئذ فقط، تذكر شَصَارُ صاحبَه الكاهن المسكين النائم على أذنه لا يدرى خبر الإسلام رغم أن نوره كان قد دخل اليمن وأضحى لدولته فيها رسولٌ من لدن النبى الكريم هو معاذ بن جبل رضى الله عنه. ترى ما دور شصار إذن إذا لم يكن ما أنبأ به خنافرًا إلا خبرا يعرفه القاصى والدانى؟ إن معنى هذا أن شيطان خنافر قد هجره هجرا غير جميل طَوَال ما يقرب من عشرين سنة، أى منذ بدء النبوة إلى وقت دخول الإسلام اليمن فى أواخر حياته صلى الله عليه وسلم، فكيف كان خنافر يمارس كهانته إذن دون رَئِىٍّ من الجن؟ أم تراه توقف عن ممارستها كل تلك الفترة؟ لكن هل يمكن أن يكون ذلك؟ وهل يمكن أن يستعيض كاهن عن كهانته بالسرقة والإغارة على إبل الآخرين، وبخاصةٍ أن خنافرا لم يكن، كما هو بَيِّنٌ من القصة، ذا عزوة تمنعه من طلب القبائل المعتدَى عليها وعملها على الثأر منه؟ كذلك ليس هناك سبب مفهوم لهجر شَصَار لصاحبه كل تلك المدة، وهذه ثُغْرَة فى القصة تحتاج إلى ما يملؤها. كما أن تهديده له بأنه إذا لم يعتنق الإسلام مثله فلن يراه مرة أخرى هو تهديد لا معنى له، لأن معنى هذا التهديد أن شَصَار لن يساعد خُنَافِرًا فى كهانته، مع أننا نعرف جيدا أن الإسلام يكفِّر الكهان ويحاربهم دون هوادة، وهو ما يعنى بكل وضوح أن اللقاء بينهما من الآن فصاعدا سيكون لقاء مجرَّما ومحرَّما أشد التجريم والتحريم، وهذا إن قَبِلَ الجنى أن يقوم بدوره القديم المناقض لعقيدته الجديدة التى يدعو إليها خنافرا! فكما ترى هذه ثُغْرَة أخرى فى القصة يصعب بل يستحيل سَدّها. ثم أليست القصة تريد أن تقول إن شصار قد أتاه بخبر الغيب، فأى غيب هذا الذى كان يعرفه الجميع فى أرجاء الجزيرة الأربعة؟ بل لماذا لم يعرف شصار بدوره بنبإ الإسلام إلا من إخوان له من الجن كانوا قد آمنوا قبله؟ ولماذا يا ترى كانوا يزجرونه عن سماع القرآن الذى كانوا يتلونه؟ ألم يأت القرآن لهداية الجن والإنس؟ فهل مما يتناسب مع هذه الغاية أن يُزْجَر عنه من يريد سماعه؟ فكيف يعرف إذن ما جاء فيه من هدى ونور؟ إن سورة "الجن" والآيات 29- 32 من سورة "الأحقاف" تحدثاننا عن سماع نفر من الجن للقرآن من الرسول عليه السلام دون أن يزجرهم زاجر، فلماذا جرى الأمر فى قصتنا هذه على خلاف ذلك؟ ولماذا كان هؤلاء النفر من الجن من أهل الشام لا من أهل اليمن؟ أترى القصة تريد أن تقول إن "الشيخ البعيد سره باتع"؟ أم تريد أن تجرى على سُنّة المثل القائل: "من أين أذنك يا جحا؟"؟ كذلك ألم ينصح شَصَارُ لخنافر بأن يأتى النبىَّ فى المدينة؟ فلماذا اكتفى خُنَافِرُنا بلقاء مُعَاذ بن جبل بعد كل هذا الكلام المشوِّق لرؤية النبى الكريم؟ يا له من كاهن كسول! بل لماذا أراد صنعاءَ من الأصل، ولم يأت لها ذكر فى الحوار بينه وبين رَئِيّه؟

ثم إذا كان الأمر على ما ترويه القصة، فهل كان خبر خنافر لِيغيب عن كُتُب الحديث؟ إنه لا وجود له فيها. كذلك لو كان ما قرأناه هنا صحيحا لقد كان خبر ذلك الكاهن اليمنى سلاحا بتارا فى الدعاية لهذا الدين، فلماذا لم يستغله المسلمون؟ صحيح أنه إنما أسلم، كما رأينا، بأُخَرة، لكن لا شك أن خبره كان يمكن أن يكون ذا نفع جزيل فى معركة الدعاية بحيث يسهِّل إنجاز المهمة الباقية، وهى القضاء على فلول الوثنية فى بلاد العرب، تلك الوثنية التى لم تكن قد خمدت تماما حتى بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام وانفجرت متخذةً شكل رِدَّةٍ مستطيرة. ثم مصطلح "السجع المتكلَّف"، هذا المصطلح البلاغى الذى لم يعرفه العرب قبل عصر الازدهار الثقافى فى العصر العباسى، من أين يا ترى للعرب الجاهليين بمعرفته؟ بل إن فى النص سجعا متكلَّفا لا قِبَل للجاهليين به كما هو واضح فى المثال التالى: "خِطَابٌ كُبَّار، جاء من عند الملك الجبار، فاسمع يا شَصَار، عن أصدق الأخبار، واسلك أوضح الآثار، تَنْجُ من أُوَار النار"، علاوة على هذه البهلوانية البلاغية الجميلة المتمثلة فى هاتين الجملتين اللتين تبادلهما الكاهن والجنى: "قال: اسْمَعْ أَقُلْ. قلت: قُلْ أَسْمَعْ" والتى يصعب علىّ أن أتصورها من شِيَم الأدب الجاهلى. ليس ذلك فحسب، فهذا الكلام المنسوب للجن، هل يمكن أن نصدقه؟ إن الجن عالم خفىٌّ لا نعرف نحن البشر عنه شيئا سوى ما جاء فى الوحى كما هو الحال فيما أنبأنا به رب العزة من كلامهم عندما استمعت طائفة منهم إلى القرآن الكريم لأول مرة، أما ما عدا هذا فأنا لا أستطيع أن أهضم شيئا منه كما هو الحال هنا، وبخاصة أنه كلام عربى، فهل الجن يتحدثون العربية، ويصطنعون السَّجْع والجِنَاس وسائر المحسِّنات البديعية أيضا؟ وبطبيعة الحال لا يمكن القول بأنهم فى سُورَتَىِ "الأحقاف" و"الجن" قد استخدموا كذلك لسان بنى يعرب، إذ الواقع أن ما نقرؤه هناك من كلامهم إنما هو ترجمة لما قالوه بلغتهم التى لا ندرى نحن البشر عنها شيئا.

على أن القضية لمّا تنته عند هذا الحد، إذ نقرأ قوله: "كان رَئِيِّي في الجاهلية لا يكاد يتغيب عنى، فلما شاع الإسلام فقدتُه مدة طويلة، وساءني ذلك. فبينا أنا ليلةً بذلك الوادي نائما إذ هَوَى هُوِىَّ العُقَاب، فقال: خنافر؟ فقلت: شصار؟ فقال: اسْمَعْ أَقُلْ. قلت: قُلْ أَسْمَعْ. فقال: عِهْ تَغْنَمْ. لكل مدة نهاية، وكل ذي أمد إلى غاية. قلت: أجل. فقال: كل دولة إلى أَجَل، ثم يتاح لها حِوَل. انتُسِخت النِّحَل، ورجعت إلى حقائقها المِلَل. إنك سَجِيرٌ (أى صديقٌ) موصول، والنصح لك مبذول، وإني آنَسْتُ بأرض الشأم نَفَرًا من آل العُذَّام (يقصد أنه قابل قبيلة من الجن)، حُكّامًا على الحُكّام، يَذْبُرون ذا رونقٍ من الكلام، ليس بالشِّعر المؤلَّف، ولا السجع المتكلَّف، فأصغيتُ فزُجِرْتُ، فعاودتُ فظُلِفْتُ (أى مُنِعْتُ)، فقلت: بم تُهَيْنِمون؟ وإلام تَعْتَزُون؟ قالوا: خِطَابٌ كُبَّار، جاء من عند الملك الجبار، فاسمع يا شَصَار، عن أصدق الأخبار، واسلك أوضح الآثار، تَنْجُ من أُوَار النار. فقلت: وما هذا الكلام؟ فقالوا: فرقانٌ بين الكفر والإيمان. رسول من مُضَر، من أهل المَدَر، ابتُعِث فظهر، فجاء بقَوْلٍ قد بَهَر، وأوضحَ نهجًا قد دَثَر، فيه مواعظُ لمن اعتبر، ومعاذٌ لمن ازدجر، أُلِّف بالآى الكُبَر. قلت: ومن هذا المبعوث من مُضَر؟ قال: أحمد خير البشر. فإن آمنتَ أُعْطِيتَ الشَّبَر (أى الخير)، وإن خالفت أُصْلِيتَ سَقَر. فآمنتُ يا خُنَافر، وأقبلت إليك أبادر، فجانِبْ كل كافر، وشايِعْ كل مؤمن طاهر، وإلا فهو الفراق، لا عن تلاق. قلت: من أين أبغي هذا الدين؟ قال: من ذات الإِحَرِّين (أى الحجارة السُّود)، والنَّفَر اليمانين، أهل الماء والطين". ومعنى هذا الكلام أن خنافرا، كما هو واضح من مفتتح حديثه، كان يعرف بمجىء الإسلام منذ البداية، لكننا نفاجأ، من خلال أسئلته عن الدين الجديد والرسول الذى جاء به والكتاب الذى نزل عليه، بأنه لم يكن يعرف شيئا من ذلك بالمرة. فكيف يسوغ فى العقل هذا؟ وبعد هذه الجولة هل بقى فى ضمير القارئ شك فى تهافت ما قاله نصر أبو زيد عن استغلال القرآن لسجع الكهان فى توطيد دعائمه فى نفوس العرب ثم انقلابه عليهم بعد أن استقرت له الأوضاع؟

ومما تعرض له د. أبو زيد فى كتابه: "نقد الخطاب الدينى" رواية سلمان رشدى المسماة بـ"الآيات الشيطانية". ففى الطبعة الأولى للكتاب نراه يؤكد أنه لن يقوم بالحكم على القيمة الأدبية لتلك الرواية لأن هذا أمر له متخصصوه، بما يعنى أنه ليس منهم (انظر ص74 من الطبعة الثانية، وهى الطبعة المتاحة لى)، مع أنه فى مقدمة الطبعة الثانية من ذات الكتاب نجده ينسى هذا ويصدر حكما على الرواية مؤكدا أنها تافهة ليست ذات قيمة أدبية (انظر ص57- 58). ثم زاد فأخرج علماء الدين من نطاق القدرة على تقييمها، واتهم د. عبد الصبور شاهين بالعجز عن ذلك مع أنه أستاذ جامعى مثله بل بمثابة أستاذه، وأقرب إلى التعامل مع النصوص الأدبية منه، إذ هو متخصص فى اللغة، أما أبو زيد ففى الدراسات الدينية. وعلى كل حال فمعروف أن سبب غضب علماء الدين والمسلمين عموما من الرواية ليس قيمتها الأدبية، بل ما فيها من فحش ضد الإسلام والله والرسول وأمهات المؤمنين. ويكفى ما قيل فيها بتفصيل شنيع عن بيت الدعارة المسمى بـ"الحجاب" بمومساته التى يتسمين: عائشة وحفصة وزينب...، أى بأسماء أمهات المؤمنين وصفاتهن المعروفة وما يصنعه طالبو الدعارة معهن أثناء الجماع غير معف من ذلك زينب بنت خزيمة، التى توفيت فى حياة الرسول فجاء سلمان رشدى بعاهرة على اسمها وملامحها وجعلها تمارس الزنا وهى متخشبة الجسد كأنها ميتة حتى تكون صورة دقيقة لأم المؤمنين التى انتقلت إلى رحمة ربها، وذلك إرضاء لزبائنها الشواذّ المبتلَيْنَ برغبة ممارسة الزنا مع الموتى، فضلا عن اتهام النبى عليه الصلاة والسلام بمساومة قريش على حساب مبدإ التوحيد، وإن كان قد عاد عما كان بدأه من مساومة، لا لأن ضميره استيقظ بل لأن أتباعه قد اعترضوا عليه ورفضوا أن يتخلى عن مبادئه فتراجع، فضلا عن تصويره للرسول صلى الله عليه وسلم فى الفراش مع امرأة شبقة تداعبه فى صدره وتطعمه قطع البطيخ فى فمه هى هند زوجة أبو سمبل، أى زوجة أبى سفيا، حسب نظام الهلوسة التى تقوم عليها الرواية. ومعنى هذا أن د. نصر قد جرد علماء الدين من كل قدرة وذوق، وأسند إلى نفسه صلاحية الحكم على الرواية من ناحية الفن الأدبى والمضمون العقيدى والأخلاقى، مع أنه ليس ناقدا أدبيا ولا عالما من علماء الدين مهمته التصدى لمثل تلك الرواية. وأنا حين اقول هذا إنما أنطلق من منطلقه هو، وإلا فالأمر ليس بهذا الإعضال.

وهو يرجع غضب المسلمين من رواية سلمان رشدى إلى أخطار من صنع أوهامهم وخيالاتهم (انظر ص74)، وكأن الرواية بريئة مما نسبه إليها الغاضبون، وليست ممتلئة بل تفيض فيضانا بالهجوم على الله والتطاول عليه وعلى الإسلام والرسول وسيدنا إبراهيم والقرآن والصحابة، حتى إن شخصياتها لتشتم الله وتجدف فى حقه، وتسمى إبراهيم عليه السلام بـ"ابن الحرام"، وتسخر من كتاب الله بزعم أنه يتدخل حتى فى تنظيم عملية الفُسَاء وتحديد الجهة التى ينبغى أن يستقبلها المسلمون حين يريدون أن يخرجوا ريحا. والملاحظ أن نصر أبو زيد يأخذ دفاع سلمان رشدى عن روايته الشنعاء على أنه كلام صحيح، ويحاول أن يقنعنا أن الرواية ليس فيها ما يناقض الدين، مع أنها كلها من أولها إلى آخرها تناقض الدين بل تشوهه وتسخر منه وترسم له صورة فى منتهى القبح والشنع والتوحش والإجرام والميكافيلية. يقول سلمان رشدى حسبما نقل عنه نصر أبو زيد نقل المصدق لما يقول: "ليس فى الرواية هجوم على الإسلام ولا تتضمن أى استهزاء بالعقيدة. كما أنها لا تعنى توجيه إهانة لأحد. وأنا أشك أن يكون الإمام الخومينى أو أحد من المعترضين فى إيران قد قرأ الرواية، بل هم فى الغالب يستندون فى أحكامهم على الرواية إلى العبارات أو الجمل المنتزعة من سياقها... وإنه لأمر مخيف أن يكون رد الناس بهذه الدرجة من العنف ضد رواية، مجرد رواية، يتصورون أنها تهدد العقيدة وتقف ضد التاريخ الإسلامى كله" (نفس الصفحة الماضية).

وأستطيع أن أؤكد تأكيد من قرأ الرواية لدن صدورها ووَضَع عنها كتابا من مائتين وخمسين صفحة لم يكد يترك فيها شيئا لا فى اللغة ولا فى البناء الفنى ولا فى الموضوعات التى تناولتها ولا فى النزعة الأدبية التى اعتمدها صاحبها فى كتابتها، وهى النزعة الخـُرْئِيّة المغرمة بالبذاءات ولحس الوساخات وتشمم الفضلات... إلخ، إلا وفصل القول فيه تفصيلا، أستطيع أن أؤكد أن رشدى كاذب كاذب كاذب فى كل ما يقوله عن خلو الرواية من الإساءة إلى الدين أو إلى أحد من المسلمين. وما دام قد تطرق لسيرة الخومينى فلا بد من القول بأنه قد صوره تصويرا بشعا يبعث على النفور والقهقهة، ومسخه على نحو شنيع أخرجه من الإنسانية تماما جاعلا منه كائنا عجيبا لا ندرى إلى أى جنس من المخلوقات الوحشية ينتمى. بل ليغلو رشدى فى الهجوم على الإسلام والمسلمين فيدعى أنهم فى قرية من قرى الهند قتلوا بعد صلاة الجمعة طفلا رضيعا تقربا إلى الله لأنه لقيط، مع أن شيئا من هذا لم يحدث فى أى بلد من بلاد الإسلام ولا فى أية فترة من تاريخه، إذ ما ذنب هذا الكائن البرىء فيما صنعه والداه؟ ومعروف أن الإسلام، حتى عند مشاهدة أحدنا لامرأة ورجل يزنيان، يؤثر أن نغلق أفواهنا فلا نتكلم بما رأينا، بل نستر على الزانيين ولا نفضحهما، فضلا عن أن نشنّع بهما، طبقا لما قاله الرسول الكريم الرحيم لبعض صحابته حين حدثه عن زانيين رآهما: لو سترتهما بثوبك كان خيرا لك! فأين هذا مما يفتريه ذلك الكَيْذُبَان على ديننا العظيم؟ ثم يأتى د. نصر فيورد كلامه على أنه حجة مفحمة! ألا إنه لأمر عجيب!

كذلك يأخذ نصر أبو زيد على الخطاب الدينى تمسكه بعنصرين هما النص والقول بالحاكمية الإلهية (انظر ص67 من "نقد الخطاب الدينى"). والنص طبعا هو النص القرآنى كما هو واضح من عنونته لكتابه الذى يتناول دراسة علوم القرآن باسم "مفهوم النص". وإذا عبنا الخطاب الدينى بأنه يتمسك بالنص، أى النص القرآنى، فما الذى يبقى من الإسلام؟ وبأى نص يا ترى ينبغى أن يتمسك المسلم؟ برأس المال مثلا؟ أم بـ"مفهوم النص"؟ إن القرآن هو دستور المسلمين ومدوَّنة شريعتهم وكتاب عقيدتهم. فإذا نبذوه وراء ظهورهم واشتروا به مشورة أبو زيد حتى يرضى عنهم فهل يظلون حينئذ مسلمين؟ وهل القرآن معيب حتى نتبرأ منه؟ قد يراه بعض الناس كذلك، ويَرَوْن أن الرسول هو مؤلفه، وأنه حتى لو كان مفيدا فى وقته فقد تجاوزه الزمن. فليكن، فكل إنسان حر فيما يعتقد. والمسلمون بنفس المبدإ أحرار فيما يؤمنون به، ومن واجبهم، لا من حقهم فقط، أن يتمسكوا بالنص القرآنى، وإلا ما كانوا مسلمين. ترى لم جاء الإسلام ونزل القرآن على الرسول محمد عليه الصلاة والسلام إذا لم نتمسك بتشريعاته وأحكامه وننزل على مبادئه الأخلاقية والفكرية والذوقية؟ أم ترى القرآن نزل من السماء لنلفه فى ورق سيلوفان ونضعه فى الدواليب ثم نخرجه من مكمنه لنستمتع بمرآه ولمسه فى المناسبات؟ الأمر فى حقيقته لا يخرج عن الاحتمالات التالية: إما أننا نؤمن بأن هذا الكتاب هو من عند الله فنعض عليه بالنواجذ ونجتهد بكل طاقاتنا فى تطبيقه، وإما أننا لا نصدق بإلهية مصدره، بل نعتقد بأن محمدا هو مؤلفه، لكنه كذب علينا قائلا إنه من عند الله أو توهَّم مخدوعا بحسن نية أنه فعلا من عند الله، وإن لم يكن فى الواقع من عند الله، وإما أننا نعتقد بأنه نزل من السماء، لكنه لا يناسب ظروفنا وأوضاعنا الآن لأنه ليس صالحا لكل زمان ومكان، بل للعرب وحدهم فى القرون الهجرية الأولى. فأما الاحتمال الأخير فأرجو ممن يقول به أو يتظاهر أنه يقول به، حتى لو لم يؤمن حقا بأنه من عند الله لا على سبيل التأبيد ولا على سبيل التوقيت، أن يدلنا على نص فيه أو فى الأحاديث النبوية يقول هذا. وأما الاحتمال الثانى فنحن بطبيعة الحال، بوصفنا مسلمين نؤمن بالله وبالرسول محمد عليه الصلاة والسلام لا نبيا فحسب بل سيدا للأنبياء أجمعين، نرفضه رفضا باتا قاطعا. وهو ما لا ينبغى أن يلومنا عليه أحد حتى لو رأى أن فى عقولنا مسا شيطانيا أو فى سلوكنا وتصرفاتنا وتفكيرنا تخلفا حضاريا. ومع هذا فلصاحب الاحتمال الثانى الحق كل الحق فى أن يعتقد به، ولا دخل لنا فى اعتقاده، وكل ما نستطيعه ويحق لنا فى ذات الوقت هو أن نرد على ما يقول بكلام مثله. وعلى القراء أن يوازنوا بين ما نقول وما يقوله هو ويختاروا ما يرونه مقنعا للعقل ومتسقا مع المنطق والحضارة والتقدم والسعادة.

ويتصل بهذه الدعوة السخيفة ما قاله أبو زيد فى كتابه: "مفهوم النص" من أن الحضارة الإسلامية هى حضارة النص، أما اليونانية فهى حضارة العقل، على حين كانت الحضارة المصرية هى حضارة ما بعد الموت (ص11). ومعنى هذا أن الحضارة الإسلامية لا علاقة لها بالعقل ولا صلة بينها وبين الحياة الآخرة، مع أن هذا وذاك غير صحيح. فالقرآن دعوة إلى استخدام العقل حتى فى قبول الإيمان أو رفضه، وفى تقييم شخصية النبى ذاته، ودعوة إلى طلب المعرفة، ولا شىء فيه يعدل السعى وراء العلم، والعلماء فيه ورثة الأنبياء... كما يدعو إلى الاستعداد لما بعد الموت، ويحذر من الركون المطلق للدنيا ويؤكد لأتباعه أن ثم ثوابا وعقابا وجنة ونارا وسعادة وشقاء خلف هذا العالم. ثم هل الحضارة الإسلامية وحدها هى التى لها نص تتمسك به وتحترمه وتقدسه؟ أليس لدى الماركسيين البيان الشيوعى؟ أليس لدى النازيين كتاب هتلر المسمى: "كفاحى"؟ أليس لدى النصارى مجموعة الأناجيل؟ أليس لدى اليهود التوراة؟ أليس لدى الزرادشتيين الأفستا؟ أليس لدى الهندوس الفيدا؟ أليس لدى الطاويين الطاو تى تشينج؟ بل أليس لدى النحويين كتاب سيبويه؟ ألم يكن لدى التغلبيين معلقة عمرو بن كلثوم، الذى سخر منهم بسببها بعض الشعراء زاعما أنها ألْهتهم عن كل مكرمة لكثرة اشتغالهم بها وحفظهم لها وترديدهم إياها واستشهادهم فى كل صغيرة وكبيرة بأبياتها؟ ألم تكن مقدمة "كرومويل" لهيجو هى النص الذى يتمسك به كتاب المسرح الرومانتيكيون فى فرنسا وأوربا؟ ألم يكن كتاب "الديوان" هو النص الذى قلب دنيا الشعر والنقد فى وقته، ولا يزال الشغل الشاغل للشعراء والنقاد والباحثين؟ ثم إن حضارة النص معناها أن المسلم لا ينبغى أن يعمل شيئا سوى الالتزام بالنص عميانيا. فهل هذا هو الإسلام؟ وهل هكذا كان المسلمون؟

ترى ألو كان المسلمون يلتزمون بالنصوص (أى بآيات القرآن) عميانيا، أكانوا يسودون الدنيا فى عدد ضئيل من السنين ليس بشىء فى تاريخ العالم، فيقودونها سياسيا وعسكريا واقتصاديا وثقافيا، ويعتنق الناس دينهم ويتبنَّوْن أدبهم ويتحدثون ويكتبون بلسانهم على اختلاف مللهم ولغاتهم وثقافاتهم، ويحبون نبيهم ويفدّونه بالنفس والنفيس؟ وها نحن أولاء اليوم لنا عشرات الرؤساء، ونُعَدّ بمئات الملايين، ونعيش على رقعة ضخمة من البسيطة، ولدينا نفط غزير وأنهار كثيرة، وميزانيات بعض دولنا هائلة بشكل لا يخطر على البال، ومع هذا فنحن فى مؤخرة الأمم، ولا يحترمنا أحد، بل الكل ينظر إلينا على أننا ممسحة لأحذيتهم، وكثير من مثقفينا (المثقفين اسما فحسب) ليسوا سوى عملاءَ رِخَاصٍ لهذه الدولة أو تلك، ولا يتصدر المسرح منهم إلا زبالة الزبالة، على عكس ما كان الحال أيام عز الإسلام، الذى ينغص على بعض الناس عيشتهم فى اليقظة والمنام، ويمررها ويصيرها نكدا وغما. ترى ماذا يريد هؤلاء؟ ألا إنهم هم المفسدون، وهم بما يعملون يشعرون.

كذلك من المضحك أن يحاول أبو زيد إيهامنا أن كتابه هذا هو الكتاب الوحيد الذى يبحث عن "البعد" المفقود في التراث الإسلامى، ذلك البعد الذي يمكن أن يساعـدنا على الاقتراب من صياغة "الوعي العلمي" بهذا التراث. ولا يتأتى ذلك للبـاحث في القرآن إلا حين يعتمد أساسا على دراسة أدبيـة صحيحة لكتاب العربية الأوحـد تُفَهِّمه للآخرين. فهذه الدراسة، فى زعمه، هي الكفيلة بتحقيق "وعي علمي" نتجاوز به مـوقف "التوجيـه الأيديـولوجي" السـائد في ثقافتنا وفكرنا. إلاّ أن البحث عن هذا المفهوم وبلورته وصياغته لا يمكن أن تتم بمعزل عن إعادة قراءة "علوم القرآن" قراءة جديدة باحثة منقبة حسبما يقول (ص12- 13 من الكتاب السابق). ومعنى هذا أنه يجعل من نفسه مهدىّ آخر الزمان، ذلك الذى طال انتظار المسلمين له على مدى القرون، ثم آن الأوان أخيرا بعد طلوع الروح أن يهل علينا بطلعته البهية. والله سلامات! فقد تعبنا من طول الانتظار لسيادة السلام فى الأرض حيث يصطحب الذئب الشاة فى يده (engagé)، فيتنزهان ويتغازلان، ثم فى الليل يأخذها فى أحضانه ويأكلان أرزا باللبن، ثم بعد تسعة شهور ينجبان ذؤبانا وذئبات، وخرفانا ونعجات. أبوك السقا مات! لكنْ أىُّ غرور هذا، وأىُّ انحراف فى تقدير الذات؟ ألم يكن ثم مرآة يطالع فيها صورته ويرى نفسه على حقيقتها؟ أم إن المرايا التى حوله كانت "مرايا محدَّبة" تعكس الأشياء بصورة أضخم من حقيقتها؟ رحمك الله يا د. عبد العزيز حمودة، وبارك فى كتابك الذى أثار الزوابع وأقض مضاجع الجاهلين الحشاشين، ولا بارك الله فيمن تطاول عليك من كل عتل ذميم زنيم لا ترتفع رأسه إلى موطئ قدميك، على الأقل فى اللغة الإنجليزية وفى تراثها الأدبى والنقدى!

وفى كل من الصفحة الثلاثين والصفحة الثامنة والسبعين من "نقد الخطاب الدينى" نسمع كاتبنا يقول إن هناك مجالات فى الحياة لا تتعلق بها فعاليات النصوص القرآنية، زاعما أن الصحابة قد فطنوا إلى هذا منذ وقت مبكر. وهذا ما قاله بالحرف: "منذ اللحظات الأولى فى التاريخ الإسلامى، وخلال فترة نزول الوحى وتشكُّل النصوص، كان ثمة إدراك مستقر أن للنصوص الدينية مجال فعاليتها الخاصة، وأن ثمة مجالات أخرى تخضع لفاعلية العقل البشرى والخبرة الإنسانية ولا تتعلق بها فعالية النصوص. وكان المسلمون الأوائل كثيرا ما يسألون إزاء موقف بعينه ما إذا كان تصرف النبى محكوما بالوحى أم محكوما بالخبرة والعقل. وكثيرا ما كانوا يختلفون معه ويقترحون تصرفا آخر إذا كان المجال من مجالات العقل والخبرة. الأمثلة على ذلك كثيرة، وتمتلئ بها كل وسائل الخطاب الدينى وأدواته من كتب ومقالات وخطب ومواعظ وبرامج وأحاديث. ورغم ذلك يمضى الخطاب الدينى فى مد فعالية النصوص الدينية إلى كل المجالات (أى يحاول تكريس شموليتها كما سبق القول) متجاهلا تلك الفروق التى صيغت فى مبدإ "أنتم أعلم بشؤون دنياكم".

والحق أن هذا كلام غريب يرفضه التاريخ والعقل والإيمان، إذ ما دام هناك نص فلا بد من قبوله والعمل به. ففعاليته إذن مستمرة. والصحابة لم يحدث أن سألوا قط: هل نحن فى حل من تطبيق النصوص القرآنية؟ بل كان سؤالهم: هل هناك وحى بكذا أو لا؟ بما يعنى أنهم، حين يكون هناك وحى، فإنهم يعرفون تماما أنه لا مناص من تطبيقه. أما إذا لم يكن هناك نص فى الموضوع المطروح فكيف تكون هناك فعالية تعلَّق؟ هل يمكن أن تعلَّق فعالية لا وجود لها أصلا؟ ومع هذا فإن النصوص لا تترك شيئا دون أن تكون لها فعالية فيه. كل ما هنالك أن هذا قد يتم على نحو مباشر بحيث يقول النص فى موضوع من الموضوعات كلاما عاما دون تفصيل، مثل: "إن بعض الظن إثم"، و"قل: هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟"، "وأمرهم شورى بينهم"، ويقول الرسول عليه السلام: أنتم أعلم بشؤون دنياكم، والمجتهد إذا أصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر، وإن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه، وطلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، ولا ينبغى للمؤمن أن يذل نفسه بأن يتعرض من البلاء لما لا يطيق، وما خاب من استشار... إلخ. فهنا نجد أن فاعلية النصوص هى فاعلية غير مباشرة، بمعنى أنها لا ترسم لنا تفصيلات الطريق، بل تكتفى بالإشارة إلى الاتجاه حتى لا نتخذ طريقا أخرى لا توصلنا إلى ما نريد، مع إمدادنا بالتوجيهات التى تكفل لنا عدم الخروج عن الطريق.

فأما بالنسبة إلى الأمثلة التى لا توجد فيها نصوص بحيث يكون للصحابة مندوحة عن قبول رأى الرسول، فمنها ما كتبه ابن هشام فى "السيرة النبوية" عما حدث قبل معركة بدر، إذ استجاد النبى عليه السلام موضعا فنزل عنده متصورا أنه هو الموضع الإستراتيجى الناجع، بيد أنه كان لبعض الصحابة رؤية أخرى على ما يخبرنا النص التالى: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يبادرهم (أى يبادر قريشا) إلى الماء حتى إذا جاء أدنى ماء من بدر نزل به. قال بن إسحاق: فحُدِّثْتُ عن رجال من بني سلمة أنهم ذكروا أن الحباب بن المنذر بن الجموح قال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل: أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل. فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم تغوّر ما وراءه من القُلُب ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أشرت بالرأي. فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس، فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه، ثم أمر بالقُلُب فغُوِّرَتْ، وبني حوضا على القليب الذي نزل فَمُلِئَ ماء، ثم قذفوا فيه الآنية". فمراجعة الحباب للرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه لم تتم، كما رأينا، إلا بعد أن تيقن من خلال سؤاله للرسول نفسه أن اختياره صلى الله عليه وسلم لذلك الموضع لم يكن مبنيا على وحى نزل بشأنه، بل هو اجتهاد منه عليه الصلاة والسلام. ولأنه يعرف من القرآن أن الشورى قيمة كبيرة من قيم الإسلام لم يتردد لحظة واحدة عن إبداء رأيه فى ذلك الاختيار، ونزل النبى على مشورته، وكانت مشورة مباركة.

أما على الضفة الأخرى فها هو ذا نص يرينا أنه حين يكون هناك وحى من السماء فإن النبى والصحابة لا يملكون إلا النزول على هذا الوحى. ومرة أخرى نفتح "السيرة النبوية" لابن هشام، ولكنْ هذه المرة على غزوة الحديبية وما وقع عقب وثيقة الصلح، التى رأى عمر بن الخطاب أن فيها إجحافا بالمسلمين: "فلما التأم الأمر ولم يبق إلا الكتاب وثب عمر بن الخطاب فأتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر، أليس برسول الله؟ قال: بلى. قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى. قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ قال أبو بكر: يا عمر، الزم غرزه، فإني أشهد أنه رسول الله. قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله. ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ألست برسول الله؟ قال: بلى. قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى. قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى. قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ قال: أنا عبد الله ورسوله. لن أخالف أمره، ولن يضيعني! قال: فكان عمر يقول: ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ، مخافة كلامي الذي تكلمتُ به، حتى رجوت أن يكون خيرا". فانظر كيف ظن عمر فى البداية أن الأمر ما هو إلا اجتهاد من النبى عليه السلام لم ينزل فيه وحى. لكنه حين عرف أن النبى لم يفعل شيئا من تلقاء نفسه، بل كان الأمر وحيا من الله له، تراجع على الفور وشعر بالذنب وظل فترة طويلة يصوم ويصلى رجاء أن يغفر الله له هذا الموقف، الذى لم يقصد به مع ذلك إلا وجه الخير.

ولا يكتفى نصر أبو زيد بهذا، بل يزيد فيزعم أن تدشين الشافعى للسنة المحمدية مصدرا من مصادر التشريع يحولها من لانص إلى نص. وهو حين يقول هذا يقوله على سبيل الاستنكار، إذ لا يرى للسنة النبوية المطهرة مدخلا فى عملية التشريع (انظر ص31- 32 من كتاب "الإمام الشافعى وتأسيس الأيديولوجية الوسطية"/ سينا للنشر/ 1992م). فكيف بالله يصح هذا، والسنة فى الجانب الأكبر منها هى نصوص قالها النبى عليه السلام؟ بل لقد تحولت أفعاله أيضا إلى روايات يتناقلها المسلمون، فأصبحت هى أيضا بذلك نصا. فكيف يصفها بأنها لانص؟ وهل الشافعى هو الذى جعل من السنة مصدرا من مصادر التشريع؟ أم هل النبى هو الذى فعل ذلك؟ تعالوا نقرأ هذين الحديثين مثلا: "قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ (حين أرسله إلى اليمن ليقضى يين المسلمين هناك): بم تحكم؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو. قال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله"، "لا أُلْفِيَنَّ أحدَكم متكئًا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: بيننا وبينكم هذا القرآن. فما وجدنا فيه من حلال أحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرّمناه. ألا وإني أُوتِيتُ الكتابَ ومِثْلَه معه".

وحتى لو يكن النبى هو الذى جعلها كذلك فهل كان الشافعى وحده من بين الفقهاء وعلماء الدين هو الذى جعلها كذلك؟ لقد كان علماء المسلمين قبل الشافعى يتخذون من السنة مصدرا للتشريع، اللهم إلا ناسا قليلين جدا أشار إليهم الشافعى، لكنه لم يسمّهم لأنهم ليسوا بذوى خطر ولا أهمية، ولم يكونوا يعترضون على السنة كلها بل على ما ليس له حكم فى القرآن المجيد. فلم يكن الشافعى ابن بجدتها إذن رغم الخدمة العلمية الجليلة التى أداها لذلك المصدر التشريعى الكريم. وحتى لو لم يكن هناك مثل هذين الحديثين، أليس ينبغى أن يأتى النبى بعد القرآن فى ترتيب مصادر التشريع بوصفه المتلقى الأول لكتاب الله والمطبق الأول له والمتصل مباشرة بالسماء، فهو يعرف كيف يطبقه تطبيقا صحيحا؟ أم ماذا؟ ثم إن فى السنة تشريعات وأحكاما لم ينزل بها القرآن، وشروحا لما أجمله القرآن. ومن ذلك قوله عليه السلام: "إذا قامت القيامة وفى يد أحدكم فسيلة فليغرسها"، وحَثُّه على الاجتهاد فى العلم والدين وتبشيرُه المجتهدين بأنهم مأجورون فى كل الأحوال: أصابوا أم أخطأوا، واشتراطُه رضا الفتاة فى الخِطْبة، وإلا فالزواج غير صحيح، وتأكيدُه أن إماطة الأذى عن الطريق صدقة، وحِرْصُه على النظام والسكينة فى الصلاة، وتوصيته الرجال بالرفق مع نسائهم وتوسعة الصدر لنزق النزقات منهن، وتنبيهُه إلى أن الجنة جزاء من يحسن تربية ابنته ويزوجها، ونهيُه عن التبول فى الماء الراكد وفى ظل الأشجار، وأَمْرُه بترجيل الشعر وتسويك الأسنان وعدم تجاوز الوصية الثلث، وتحليلُ ما دون الجماع بالنسبة للحائض، وشَرْعُه الخلع وجمع العصرين والعشاءين والمسح على الخفين والصلاة فى النعلين وصلوات النوافل وصلاة الاستسقاء وصيام عاشوراء وستة أيام شوال والثلاثة البيض من كل شهر، وتحريمه الجمع بين الزوجة وعمتها أو خالتها، وتجويزُه الكذب فى الصلح بين الناس وفى مجاملة الزوجة ولخداع العدو فى الحرب، وتحريمه الصدقة على الأنبياء أو وراثة أقاربهم لهم، وحثه على الأكل باليمين، وتوضيحه لأحكام طهارة الماء ونجاسته والشفعة والإجارة والسَّلَم والمصرَّاة والزواج... إلخ.

كذلك لا دخل لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "أنتم أعلم بشؤون دنياكم" فيما يريد نصر أبو زيد تقريره من أن الرسول لا يشرّع بسنته شيئا. ذلك أن المقصود بشؤون الدنيا هو ما لا علاقة له منها بعقيدة أو تشريع أو أخلاق، مثل الاختراعات العلمية، وكيفية بناء المساكن وخياطة الملابس وسقى الأرض وزراعة المحاصيل، وحفر الترع وإنشاء شبكات الرى، وصناعة الأدوية، ومعالجة المرض ووصف الدواء، وتنظيم العلمية التعليمية، ووضع الترتيبات الإدارية، وممارسة شؤون الحرب، وطرق تطبيق الشورى والنيابة عن الأمة. أما الحلال والحرام والأخلاق الفاضلة والمنحطة فتدخل فى التشريع. وإلا فمن الممكن لأى ممارٍ مزعجٍ الادعاء بأن القرآن لا يشرّع هو أيضا لأننا نعلم شؤون دنيانا. ثم من هؤلاء الذين رفضوا السنة مطلقا واتخذ منهم نصر أبو زيد تكأة لرد الأحاديث النبوية أن تكون مصدرا من مصادر التشريع فى الإسلام؟ هلا ذكر لنا أسماءهم ومواقفهم وردود من يأخذون بالسنة عليهم. هل نفهم من هذا أن القرآنيين كانوا موجودين منذ ذلك الوقت المبكر؟ إن صح الأمر لقد كانوا، فيما هو واضح، جماعة ضئيلة محدودة شديدة الضآلة والمحدودية حتى إن الشافعى حين ناقش منطلقاتهم لم يُسَمِّ أحدا منهم، بل كل ما ذكره هو أن أحدهم قد راجعه فى موقفه من الأحاديث وأنه قد فهّمه الأمر ففهم، كما أن البغدادى، حسبما يخبرنا فى كتابه: "أصول الدين" على ما جاء فى "فجر الإسلام"، قد عد الخوارج من المنكرين للعمل بالأحاديث (انظر أحمد أمين/ فجر الإسلام/ ط10/ دار الكتاب العربى/ بيروت/ 1969م/ 232 فصاعدا، وبخاصة 242، و"الأم" للشافعى/ تحقيق رفعت فوزي عبد المطلب/ دار الوفاء/ المنصورة/3001م/ 9/ 5 وما بعدها). فهل كان على الشافعى أن يترك علمه وفهمه ويشذ عن سائر علماء الإسلام، الذين كانوا يأخذون بالسنة مصدرا للتشريع، ويتبع هذه الجماعة من النكرات المجهولى الحال حتى يرضى عنه نصر حامد أبو زيد؟ وهل الخوارج المندفعون للصدام مع الدولة والمجتمع الضيقو العطن المسارعون للتكفير رغم تحمسهم للدين قد أصبحوا الآن يمثلون الفكر العقلانى الذى ينبغى اتباعه عند أبو زيد وأمثاله؟ غريبة!

يقول د. أحمد أمين عن السنة ومكانتها فى التشريع: "وهناك نوع آخر من التشريع كان فى عهد رسول الله، وهو التشريع بالسنة. ويختلف عن الكتاب فى أن القرآن ألفاظه ومعانيه بوحى من الله، وأما السنة فألفاظها من عند الرسول. فالسنة أو أحاديث الرسول بينت كثيرا من آيات القرآن كالذى رأيتَ فى آيات الصلاة والزكاة. فالقرآن لم يبين هيئات الصلاة ولا أوقاتها، ولم يبين المقادير الواجبة فى الزكاة ولا شروطها. إنما بين ذلك النبىُّ بقوله أو فعله. كذلك حدثت حوادث وخصومات قضى فيها النبى بالحديث لا بالقرآن، فكان قضاؤه فى ذلك تشريعا. فكل ما قاله النبى أو فعله أو حدث أمامه واستحسنه كان تشريعا. ومتى ثبت ذلك عن رسول الله كان فى القوة بمنزلة القرآن. ولكن قل أن يثبت ثبوتا لا يحتمل الشك لما بينا فى كلامنا على الحديث... وأحاديث الأحكام كثيرة وردت فى كل الأنواع التى ورد فيها القرآن قبينت مجمله، وقيدت مفصّله، وزادت أشياء كثيرة لم يذكرها القرآن. وقد عُنِىَ العلماء قديما بجمعها ورتبوها حسب الترتيب الفقهى.

هذا الأصلان: الكتاب والسنة هما مصدر التشريع فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم. ومن ذلك يتبين أن أساس القانون الإسلامى إلهىّ مصدره الله فيما نص عليه من كتاب أو حديث ليس لأية سلطةٍ حقٌّ فى مخالفتها ولا الخروج على ما ورد فى نصوصها. إنما يجتهدون فيما لم يرد فيه نص مسترشدين بما ورد فى الكتاب والسنة من قواعد كلية. وبذلك تخالف القوانين الوضعية، ففيها تكون السلطة التشريعية فى منتهى الحرية فى تفسير قانون أو تعديله أو إلغائه. وليس الشأن كذلك فى القوانين الإلهية، فحرية الفقهاء والخلفاء محدودة فى دائرة فهم نصوص القرآن، ومقدار الثقة بالحديث وعدمها لم يرد فيه كتاب ولا سنة صحيحة".

وبعد أن تناول د. أحمد أمين مدرسة الرأى وبين أنها هى أيضا تأخذ بالحديث، ولكن ليس على النطاق الواسع الذى تأخذ به المدرسة المقابلة، انتقل إلى طائفة من المسلمين كانت تغالى فى هذا الأمر فلا تأخذ بها بتاتا متحججين بأنهم يشكون شكا مطلقا فى الرواة لكثرة من جرّحهم رجال الجرح والتعديل حتى ليكادون ألا يتفقوا على أمانة محدّث أو صدقه كما قالوا. ويتلخص موقفهم فى أنهم لا ينبغى أن يتركوا كتاب الله المقطوع به لمثل هذه الأحاديث المشكوك فيها (فجر الإسلام/ 233 وما بعدها). ود. أحمد أمين يعتمد فى هذا على ما جاء فى كتاب "الأم" للشافعى حين ناقش آراء هذه الطائفة. إلا أنه لم يذكر لنا اسما واحدا من أسماء أعضائها، مما يشير فى رأيى إلى أنها كانت جِدّ محدودة، ولم يكن لها خطر يذكر. والواقع أن حجة هؤلاء المتشككين فى السنة النبوية داحضة، إذ ليس من المعقول أن يكون الناس جميعا محل ريبة وتشكك: هكذا لله فى لله. كما أن الذين يأخذون بالأحاديث فى مجال التشريعات لا يتركون القرآن كما زعموا، بل يستعينون بالحديث حين لا يكون هناك نص قرآنى فى المسألة التى يبحثون لها عن حكم شرعى. وعلى أية حال فإن العمل بالحديث ليس معناه أن نقبله عشوائيا دون تمحيص ودون أن يكون سائرا مع روح الإسلام واتجاهه العام.

والواقع أن هجوم نصر أبو زيد على الشافعى لاتخاذه السنة مصدرا للتشريع مع القرآن لا يبعث على الاطمئنان. وأحسن ما يمكن تأويل كلامه به إن أغمضنا أعيننا عن الغاية الواضحة من هذا الكلام هو أن السنة المحمدية ليست تشريعا مستقلا بل مجرد شارحة للقرآن ومفسرة له (انظر ص38 من كتابه عن الإمام الشافعى). لكن حتى لو كانت السنة مجرد شارحة للقرآن، أفلا تعد المذكرةُ التفسيرية مصدرا من مصادر التشريع؟ ذلك أننا لا نستطيع أن نطبق التشريعات القرآنية فى كثير من الحالات إلا من خلال شرح السنة لها، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. فإذا عرفنا أن ثم أحكاما تشريعية وتوجيهات أخلاقية ونفسية كثيرة جاءت بها السنة ولم يتعرض لها القرآن قط أو تعرض لها من بعيد تبين لنا أن مكانة السنة فى التشريع الإسلامى مكانة عظيمة الخطر. قلت إن هذا هو أحسن ما يمكن تأويل كلامه به إن أغمضنا أعيننا عن الغاية الواضحة من هذا الكلام، أما إن أردنا أن نعرف ماذا يريد قوله، ومن صريح عبارته هو، فعلينا أن نقرأ ما كتبه بنفسه فى آخر فقرة من كتابه الذى بين أيدينا الآن، والإشارة فيها إلى ما يقول إن الشافعى رضى الله عنه قد صنعه بالسنة النبوية من تحويلها من لانص إلى نص مثل القرآن الكريم. يقول: "هذه الشمولية التى حرص الشافعى على منحها للنصوص الدينية بعد أن وسّع مجالها فحوّل النص الثانوى الشارح إلى الأصلى وأضفى عليه نفس درجة المشروعية، ثم وسّع مفهوم السنّة بأن ألحق به الإجماع كما ألحق به العبادات، وقام بربط الاجتهاد/ القياس بكل ما سبق رباطا محكما، تعنى فى التحليل الأخير تكبيل الإنسان بإلغاء فعاليته وإهدار خبرته. فإذا أضفنا إلى ذلك أن مواقف الشافعى الاجتهادية تدور فى أغلبها فى دائرة المحافظة على المستقر الثابت، وتسعى إلى تكريس الماضى بإضفاء طابع دينى أزلى كما رأينا فى اجتهاداته فى ميراث العبد وفى ميراث الأخت الوحيدة وفى مسألة زكاة الغراس، أدركنا السياق الأيديولوجى الذى يدور فيه خطابه كله. إنه السياق الذى صاغه الأشعرى من بعد فى نسق متكامل، ثم جاء الغزالى بعد ذلك فأضفى عليه أبعادا فلسفية أخلاقية كُتِب لها الاستمرار والشيوع والهيمنة على مجمل الخطاب الدينى حتى عصرنا هذا. وهكذا ظل العقل الإسلامى يعتمد على سلطة النصوص بعد أن تمت صياغة الذاكرة فى عصر التدوين، عصر الشافعى، طبقا لآليات الاسترجاع والترديد. وتحولت الاتجاهات الأخرى فى بنية الثقافة والتى أرادت صياغة الذاكرة طبقا لآليات الاستنتاج الحر من الطبيعة والواقع الحى كالاعتزال والفلسفة العقلية إلى اتجاهات هامشية. وقد آن أوان المراجعة والانتقال إلى مرحلة التحرر لا من سلطة النصوص وحدها، بل من كل سلطة تعوق مسيرة الإنسان فى عالمنا. علينا أن نقوم بهذا الآن، وفورا قبل أن يجرفنا الطوفان" (ص110). ولا أحسب مقصد الدكتور إلا واضحا أشد الوضوح، وإن كنت ألاحظ أنه يخلط خلطا مزريا بين ميدان الفقه وميدان العلوم الطبيعية، فالفقه إنما يختص بالعبادات والتشريعات، بينما العلوم الطبيعية تختص باكتشاف قوانين الكون وصناعة المخترعات المختلفة، فلا تعارض من ثم بين المجالين كما يتوهم أبو زيد أو يريد أن يوهمنا. وعلى هذا فكل ما قاله فى ذلك الموضوع هو ضجيج فارغ لا جدوى منه، ودعك من الإزعاج الذى يسببه لنا ذلك الضجيج.

ولقد كتب أحد المتحمسين لنصر أبو زيد، وهو غسان أبو حمد، مقالا ركيك الأسلوب سقيم الفكر فى جريدة "البناء" الفلسطينية فى 7 تموز 2010م بعنوان "نصر حامد أبو زيد ابن رشد المرحلة! دفع ثمن استخدامه العقل أداة لفهم الموروث الديني" جاء فى بدايته ما نصه: "نصر حامد أبو زيد، حياته كما وفاته إستمرت عرضة للجدل بين رجال دين متمسكين بأصولية النصّ الديني وبين مفكّرين عرب: أساتذة أو قل: فلاسفة في العلوم الدينية، شاؤوا الإبحار بعيدا عن النصّ في محاولة منهم للإنطلاق نحو رحاب الشمولية"، وهو ما يؤكد ما قلناه عن اتجاه الرجل. وفى هذا المقال، مثلما لاحظنا فى مقالات كثيرة، يشبَّه د. نصر بابن رشد. فهل كان ابن رشد ثائرا على النصوص الدينية من قرآن وحديث يدعو إلى التحرر منها ونبذها خلف الظهر؟ لقد كان رحمه الله فقيها قاضيا يحكم بالشريعة، أى بالنصوص الدينية التى يظن كاتب المقال عن جهل ونزق أن الفيلسوف الأندلسى كان متمردا عليها. وله كتاب مشهور فى الفقه كان يستعين به فى إصدار الأحكام القضائية اسمه: "بداية المجتهد ونهاية المقتصد". وهو ما يعطى القارئ فكرة عن نوعية المدافعين عن نصر أبو زيد، فهم يشقشقون بما لا يعقلون. وكان ابن رشد يؤكد أنه لا تعارض بين الدين والفلسفة، بما يدل على أنه كان ينطلق من النصوص الدينية ولا يدعو إلى الثورة عليها. وكتاباه: "مناهج الأدلة" و"فصل المقال" ينمان عن إيمان بالله سبحانه وباليوم الآخر وبالقرآن الكريم وبالرسول الذى أتى به. أقول هذا لأن الببغاوات يظنون أنه، رحمه الله، كان متمردا على الإسلام، ولذلك يمجدونه. وهم فى هذا إنما يرددون ما كان بعض الأوربيين فى عصر النهضة يقولونه عنه، وما أكثر من فى الحبس من مظاليم! وكان هناك مدرس يحاضرنا فى الجامعة فى مادة "الفلسفة الإسلامية"، ويلح فى محاضراته على هذا المعنى، فكنت أذهب إلى المكتبة وأرجع إلى ابن رشد فألفيه رجلا مسلما صيحح الإسلام، فأسأله فى المحاضرة: كيف تقول هذا عنه يا دكتور، وكتابا "مناهج الأدلة" و"فصل المقال" يقولان عكس ما تدعى عليه؟ فيجيبنى بأن آراءه الحقيقية موجودة فى شرحه لأرسطو. وكان هذا الموقف ولا يزال مبعث استغراب عندى، إذ المعروف أن ناقل الكفر ليس بكافر، فمن باب الأولى أن نقول إن شارح الكفر ليس بكافر أيضا، بغض النظر عن عقيدة أرسطو فى حد ذاتها، فهذه مسألة أخرى. ولكيلا يرى القراء كيف يخلط بعض الناس الأمور خلطا ويقلبونهاعن حقيقتها ألفت انتباههم إلى أنه فى الوقت الذى كتب فيه محرر مادة "" فى النسخة الإنجليزية من موسوعة "الويكبيديا" المشباكية أن من مبادئ الرشدية فى أوربا عصر النهضة "resurrection of the dead"، أى البعث وإعادة الموتى إلى الحياة من جديد، نرى محرر المادة فى النسخة العربية من ذات الموسوعة، رغم أنه لم يفعل شيئا سوى ترجمة هذه المبادئ من النسخة الإنجليزية إلى العربية، يحول هذا المبدأ إلى عكسه تماما فيورد، بين الأفكار الرئيسية لمذهب الرشدية، أن "إحياء الموتى غير ممكن". فانظر وتأمل.

وفى الصفحة الثالثة والستين من كتاب "نقد الخطاب الدينى" يزعم نصر أبو زيد بجرأةٍ متغشمرةٍ أن جوهر العلمانية ليس شيئا آخر سوى التأويل الحقيقى والفهم العلمى للدين. والواقع أن هذا كلام ما أنزل الله به من سلطان، فالعلمانية حسب التعريفات المخلتفة لها فى الغرب هى، طبقا لما جاء فى المادة المخصصة لها فى "الويكيبيديا"، كالآتى: "العَلْمَانِيَّة: ترجمة غير دقيقة بل غير صحيحة لكلمة "Secularism" في الإنجليزية، أو "Sécularité" أو "laïque" بالفرنسية. وهي كلمة لا علاقة لها بلفظ "العِلْم" ومشتقاته على الإطلاق، فالعِلْم في الإنجليزية والفرنسية يعبَّر عنه بكلمة "Science"، والمذهب العِلْمِي نُطلق عليه كلمة "Scientism"، والنسبة إلى العِلْم هي "Scientific" أو "Scientifique" في الفرنسية، والترجمة الصحيحة للكلمة هي "الدنيوية"، لا بمعنى ما يقابل الأخروية فحسب، بل بمعنى أخص، وهو ما لا صلة له بالدِّين أو ما كانت علاقته بالدين علاقة تضاد. وتتضح الترجمة الصحيحة من التعريف الذي تورده المعاجم ودوائر المعارف الأجنبية للكلمة:

تقول دائرة المعارف البريطانية، مادة "Secularism": "هي حركة اجتماعية، تهدف إلى صرف الناس وتوجيههم من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها، وذلك أنه كان لدى الناس في العصور الوسطى رغبة شديدة في العزوف عن الدنيا والتأمل في الله واليوم الآخر. وفي مقاومة هذه الرغبة طفقت الـ"Secularism" تعرض نفسها من خلال تنمية النزعة الإنسانية حيث بدأ الناس في عصر النهضة يظهرون تعلقهم الشديد بالإنجازات الثقافية والبشرية، وبإمكانية تحقيق مطامحهم في هذه الدنيا القريبة.

ويقول قاموس "العالم الجديد" لوُبِسْتَر، شارحا المادة نفسها: الروح الدنيوية أو الاتجاهات الدنيوية ونحو ذلك على الخصوص: نظام من المبادئ والتطبيقات "Practices" يرفض أي شكل من أشكال الإيمان والعبادة. الاعتقاد بأن الدين والشئون الكنسية لا دخل لها في شئون الدولة، وخاصة التربية العامة.

ويقول "معجم أكسفورد" شارحا كلمة ":Secular": دنيوي، أو مادي، ليس دينيا ولا روحيا، مثل التربية اللادينية، الفن أو الموسيقى اللادينية، السلطة اللادينية، الحكومة المناقضة للكنيسة. الرأي الذي يقول إنه لا ينبغي أن يكون الدين أساسا للأخلاق والتربية.

ويقول "المعجم الدولي الثالث الجديد"، مادة "Secularism": اتجاه في الحياة أو في أي شأن خاص يقوم على مبدأ أن الدين أو الاعتبارات الدينية يجب ألا تتدخل في الحكومة، أو استبعاد هذه الاعتبارات استبعادا مقصودا، فهي تعني مثلا السياسة اللادينية البحتة في الحكومة. وهي نظام اجتماعي في الأخلاق مؤسس على فكرة وجوب قيام القيم السلوكية والخلقية على اعتبارات الحياة المعاصرة والتضامن الاجتماعي دون النظر إلى الدين.

على المستوي السياسي تطالب العلمانية بحرية الاعتقاد وتحرير المعتقدات الدينية من تدخل الحكومات والأنظمة، وذلك بفصل الدولة عن أية معتقدات دينية أو غيبية، وحصر دور الدولة في الأمور المادية فقط. لقد استخدم مصطلح "Secular" (سيكولار) لأول مرة مع توقيع صلح وستفاليا، الذي أنهى أتون الحروب الدينية المندلعة في أوروبا عام 1648م، وبداية ظهور الدولة القومية الحديثة (أي الدولة العلمانية)، مشيرًا إلى "علمنة" ممتلكات الكنيسة بمعنى نقلها إلى سلطات غير دينية، أي لسلطة الدولة المدنية. والعلمانية هي عموما التأكيد على أن ممارسات معينة أو مؤسسات الدولة ينبغي أن توجد بمعزل عن الدين أو المعتقد الديني. وكبديل لذلك، مبدأ العلمانية تعزيز الأفكار أو القيم إما في أماكن عامة أو خاصة. كما قد يكون مرادفا للـ"الحركة العلمانية". في الحالات القصوى من أيديولوجيا العلمانية تذهب إلى أن الدين ليس له مكان في الحياة العامة.

في أحد معانيها، العلمانية قد تؤكد حرية الدين والتحرر من فرض الحكومة الدينية على الناس، أن تتخذ الدولة موقفا محايدا فيما يخص مسائل العقيدة، ولا تعطي الدولة امتيازات أو إعانات إلى الأديان. بمعنى آخر تشير العلمانية إلى الاعتقاد بأن الانشطة البشرية والقرارات، ولا سيما السياسية منها، ينبغي أن تستند إلى الأدلة والحقيقة بدلا من التأثير الديني.

العلمانية هي أيديولوجيا تشجع المدنية والمواطنة وترفض الدين كمرجع رئيسي للحياة السياسية، ويمكن أيضا اعتبارها مذهبا يتجه إلى أنّ الأمور الحياتية للبشر، وخصوصا السياسية منها، يجب أن تكون مرتكزة على ما هو مادي ملموس وليس على ما هو غيبي، وترى أنّ الأمور الحياتية يجب أن تتحرر من النفوذ الديني، ولا تعطي ميزات لدين معين على غيره، على العكس من المرجعيات الدينية تعتمد على ما تعتقده حقائق مطلقة أو قوانين إلهية لا يجوز التشكيك في صحتها أو مخالفتها مهما كان الأمر. وتُفسّر العلمانية من الناحية الفلسفية أن الحياة تستمر بشكل أفضل ومن الممكن الاستمتاع بها بإيجابية عندما نستثني الدين". ولا أحسب بعد كل هذه التعريفات المأخوذة من عدد من أهم المعاجم والموسوعات الأجنبية إلا أن يكون باب المِرَاء فى هذا الموضوع قد أُغْلِق بالضبة والمفتاح إلى الأبد.

ومن مزاعم أبو زيد المضحكة إنكاره القاطع أن يكون كارل ماركس ملحدا أو دعا يوما إلى الإلحاد، وادعاؤه أن كل ما فعله ماركس هو حملته على التأويل الرجعى للدين. ترى هل هذا الذى يقوله أبو زيد صحيح؟ لم يبق إلا أن يقول إنه كان يصلى التراويح فى مسجد السيدة زينب، ويعلق فى رقبته مسبحه ويمشى فى الشوارع يتطوح وهو يقول: صل على النبى فى قلبك يا مؤمن! لنسمع ماركس يتحدث بنفسه فى هذا الموضوع. ولسوف أنقل هنا حرفيا نص ما وجدته فى "Encyclopedia of Marxism" تحت عنوان "Religion"، وهو منقول عن كتاب "Contribution to the Critique of Hegel's Philosophy of Law" لماركس ذاته:"The basis of religious criticism is: Man makes religion, religion does not make man. Religion is the self-consciousness and self-esteem of man who has either not yet found himself or has already lost himself again. But man is no abstract being encamped outside the world. Man is the world of man, the state, society. This state, this society, produce religion, an inverted world-consciousness, because they are an inverted world. Religion is the general theory of that world, its encyclopaedic compendium, its logic in a popular form, its spiritualistic point d'honneur, its enthusiasm, its moral sanction, its solemn complement, its universal source of consolation and justification. It is the fantastic realisation of the human essence because the human essence has no true reality. The struggle against religion is therefore indirectly a fight against the world of which religion is the spiritual aroma. Religious distress is at the same time the expression of real distress and also the protest against real distress. Religion is the sigh of the oppressed creature, the heart of a heartless world, just as it is the spirit of spiritless conditions. It is the opium of the people. To abolish religion as the illusory happiness of the people is to demand their real happiness. The demand to give up illusions about the existing state of affairs is the demand to give up a state of affairs which needs illusions. The criticism of religion is therefore in embryo the criticism of the vale of tears, the halo of which is religion".

وكانت العقيدة الرسمية للاتحاد السوفييتى والدول الشيوعية هى الإلحاد حتى لقد كانوا يدرّسونه فى المدارس كما ندرّس نحن مادة التربية الدينية فى بلادنا، ويحاربون الأديان حربا شعواء، وبخاصة الإسلام. فكيف ينكر الدكتور نصر ما هو معلوم من التاريخ بالضرورة؟ أم إنه العناد والمماراة رغبة فى العناد والمماراة، والسلام؟ أذكر أننى سمعت منذ سنوات طويلة بعض زملائى ممن كانوا يعرفون أبو زيد عن قرب يصفونه بأنه مغرم بالجدال غراما عجيبا، وأنه على استعداد لقضاء الليل كله يجادلك فى أى شىء تحدثه فيه، لا يلين ولا يلتقط أنفاسه، حبا فى الجدال لوجه الجدال. ولكى تكتمل الصورة هأنذا أنقل ما كتبته "الويكيبيديا" عن وضع الإسلام تحت حكم السوفييت، وعنوانه: "الإسلام في الاتحاد السوفيتي"، حتى يتضح الأمر على حقيقته. وقس على ذلك ما كان يلقاه المسلمون فى الدول الشيوعية الأخرى:

"يتكون الاتحاد السوفيتي من 15 جمهورية، منها ست جمهوريات يشكل المسلمون أغلب سكانها، ولقد استولي السوفيات على مساحة 4,538,600 كيلومتر من البلاد الإسلامية، والوحدات السياسية التي استولى عليها السوفيات من الأراضي الإسلامية في قارة آسيا هي: أذربيجان- أوزبكستان- طاجيكستان- تركمانستان- كازاخستان- جورجيا- أرمينيا- والست الأولى ذات أغلبية مسلمة، والأخيرتان كانتا تابعتين لحكم إسلامي خلال فترات مختلفة، وفي قارة أوروبا-داغستان- الشيشان- كبارديا بلغاريا- القرم- ماري وأودمورتيا- تشوفاشيا- تتارية- أورنبرج- بشكيريا- واستينا الشمالية. وقد انخفض عدد المسلمين لعدة أسباب منها، كثرة عدد من أعدموا في الثورة الشيوعية، وطريقة الإحصاء التي أجراها الشيوعيون على أساس القوميات لأعلى أساس الدين، وتهجير المسلمين بصورة إجبارية مما أدي إلى خفض نسبة المسلمين خصوصاً في الجمهوربات الإسلامية بآسيا الوسطى.ولقد مرت على المسلمبن مراحل قاسية في الفترة المحصورة بين سنتي (1336هـ- 1917م) إلى سنة (1350هـ- 1931م)، أثر في حالة المسلمين الديموغرافية، فقتل الروس مئات الألوف من المسلمين الباشكير والقرغيز على أثر ثورتهم بعد عام (1336هـ- 1917م) ومات مليون من المسلمين الكراخ والقرغيز في مجاعات (1340هـ- 1921م)، واستشهد حوالي المليون من مسلمي قزاخستان عندما طبق الشيوعيون مبادئهم على ثروات هذه الجماعات الرعوية، وجاء الروس بمهاجرين جدد إلى المناطق الإسلامية، ويقدر بحوالي 12,792,000 روسي، وسياسة التهجير تهذف إلى استغلال ثروات المناطق الإسلامية بوسط آسيا وخفض نسبة المسلمين، ويقدر عدد المسلمين بحوالي 70 مليون نسمة.

القوميات الإسلامية: ينتمي المسلمون إلى العديد من القوميات التركية وأبرز هذه الجماعات: الأوزبك- التتار- الكازاخ- التركمان- الباشكير- القيرغيز– الكراكلياك– الويغور– البلغار. ومن أبرز الجماعات التي تنتمي إلى القومية الإيرانية: الطاجيك– الأوسيت– الآكراد– الفرس– البلوخ– الطوط والأنغوش. ومن الجماعات القوقازية: التشيش- الشركس- الكبرديون– الأباظ– الأديجا– الشيشان والأبخاز. ويتحدث المسلمون في الاتحاد السوفياتي 13 لغة تركية و8 لغات إيرانية، و15 لغة قوقازية وصينية ومنغولية. ولقد اتبع الروس سياسة تطعيم هذه القوميات بمهاجرين جدد للحد من أغلبيتها الإسلامية، ونجحت في خفض النسبة عن ذي قبل مثلما حدث في جمهورية قراخستان.

سياسة الاستيلاء على الأراضي الإسلامية: بدأت محاولات روسيا في عهد بطرس الأول لضم الأراضي الإسلامية، بدأت كمرحلة أولى منذ (1188هـ- 1714م) حتي سنة (1852م)، ثم حركة الضم الثانية وكانت ضد الخانات وانتهت إمبراطورية بوغز في سنة (1315هـ- 1897م)، وفي أثناء هذه المراحل استولي الروس على القرم سنة (1189هـ- 1783م) واستولوا على قرغيزيا في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي وعلى جبال القوقاز في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي وتم الاستيلاء على منطقة تركستان في أواخر سنة (1292هـ- 1881م). واستولت روسيا القبصرية على المنطقة القوقازية سنة (1280هـ- 1862م) وقد أمضي الروس 182 سنة في إخضاع منطقة التركستان الإسلامية.

في عهد الشيوعين: أخد السوفيات في ابتلاع المناطق الإسلامية الواحدة تلو الأخرى، ففي سنة (1339هـ- 1920م) امتد نفودهم إلى أذربيجان وأصبحت جمهورية اتحادية سنة (1355هـ- 1936م)، وتحولت أوزبكستان إلى جمهورية اتحادية قي سنة (1341هـ- 1924م) وأصبحت طاجيكستان جمهورية اتحادية في سنة (1348هـ- 1929م)، واتحدت تركمانستان في سنة (1343هـ-1924م)، واتحدت كازاخستان في سنة (1339هـ- 1920م)، واتحدت قرغيزيا في سنة (1355هـ- 1936م)، واستولى السوفيات على بشكيريا وتتاريا في سنة (1339 هـ- 1920 م)، وألغوا جمهورية القرم بعد الحرب العالمية الثانية ونقلوا معظم سكانها إلى سيبيريا، وضموا داغستان في سنة (1340هـ- 1921م) تم ذلك في فترة تقدر بحوالي ستة عشرة سنة، بينما استغرق القياصرة 182 سنة ليبسطوا نفودهم على المناطق الإسلامية بوسط آسيا، وقد ثار المسلمون ضد حكم القيصر، ولقد ضم السوفيات مساحة واسعة من الأراضي الإسلامية في وسط آسيا وفي شرقي أوروبا، وبلغت جملتها 4,684,980 كيلومتراً يضاف إلى هذه المساحة مثلها تقريباً في شرقي سيبريا.

سياسة السوفيات في إدارة المناطق الإسلامية: اتبع السوفيات سياسة تجزئة وحدة المسلمين وتفتيتهم إلى قوميات، ودعموا قيام الشعوبية وقضوا على كتابة لغتهم بحروف عربية حتى تقضي على صلتهم بالثرات الإسلامي، ثم اتبعوا نظام التهجير من المناطق الإسلامية حتى يضعفوا من شأن الأغلبية المسلمة ويحولونهم إلى أقلية في عقر دارهم، ولقد شكلت من مناطق الأغلبية المسلمة ست جمهوريات ذات حكم فيدرالى، وفي المناطق الأخرى جمعت المناطق الإسلامية في 11 جمهورية ذات حكم ذاتي 9 منها ملحقة لجمهورية روسيا، واثنتان مع جمهورية جورجيا (أبخازيا وأجاريا)، ثم أعطت للمناطق الأقل أهمية حكما ذاتيا (أديجا والشركس) وألحقتهما بحمهورية روسيا والأوسيت الجنوبية ألحقتها بجمهورية جورجيا، وكل القادة العسكرين، ورؤساء الشرطة والأمن، ومديرو السكك الحديد والبريد والبرق والهاتف ورؤساء المؤسسات الصناعية في آسيا الوسطي روس، ولكل رئيس جمهورية ورئيس وزارة مساعدان من الروس.

الإسلام علي طريقة السوفيات: لايؤمن الشيوعيون بدين، ومن أجل هذا يحاربون الأديان. وفي سنة (1345هـ- 1926م) ألغيت المحاكم الشرعية في المناطق الإسلامية، وفي سنة 1946 منعت جميع الأنشطة الدينية وقبض على مليون ونصف عضو من الحركة الإسلامية، وفي سنة (1347هـ-1351هـ) وسنة (1928م – 1932م) بدأ الروس حملة إغلاق المساجد فأغلقوا وهدموا 10,000 مسجد، وأغلقوا 14,000 مدرسة ابتدائية إسلامية، وبدأت حركة مقاومة من سنة 1936م إلى 1980م وهدفها استعادة الهوية الإسلامية وخصوصاً القومية التركستانية.

التعليم: رسم السوفيات سياسة تعليمية هدفها ثتقيف جيل يدين بالولاء للنظام حتي تتحقق سيادة السوفيات على البلاد الإسلامية، كما يهدف التعليم إلى تبسيط الأيدويولوجية الماركسية حتي يفهمها جميع الناس، وكذلك نشر الثقافة السوفياتية، وكان في روسيا قبل استيلاء الشيوعيين على الحكم 24,321 مدرسة إسلامية ومنذ عام (1347هـ- 1928م) استخدمت الحروف اللاتينية بدلا من الحروف العربية في التعليم داخل المناطق الإسلامية، وبعد أن ساد استخدام الحروف اللاتينية استبدلت بالحروف الروسية منذ سنة (1359هـ- 1938م)وألغيت الكتب الإسلامية التي ترجمتها الشعوب إلى لغاتها وكتبتها بالحروف العربية، وفي سنة (1357) قررت القيادة السوفياتية جعل اللغة الروسية اللغة الرسمية لجميع الشعوب التي تخضع لحكمهم، وسعي السوفيات لتقويتها لتفتيت القومية الواحدة فأصبح بالاتحاد السوفياتي 70 لغة محلية، وأغلق الروس الآف المدارس الابتدائية الإسلامية و500 مدرسة عالية، ولم يبقي إلا مدرسة مي عرب في بخارى ومدرسة مبارك خان في طشقند، وكان في الأراضي الإسلامية قبل سيطرة السوفيات جامعة إسلامية، ومطبعة إسلامية طبعت مليوني كتاب، ومكاتب إسلامية، 23 دارًا للنشر والطباعة، و518 صحيفة إسلامية دورية، و196 مكتبة متخصصة في الإسلاميات، ولاتعترف السلطات السوفياتية بشهادات المعهديين الإسلاميين الموجدين الآن، هذا إلى تحريم تعليم الدين بالمدارس الحكومية واختفاء المدارس الدينية وأصبح المصدر الوحيد لتلقي قواعد الدين الإسلامي ينحصر بالوالدين.

صحوة تعليمية إسلامية: نتيجة للتغير الذي حدث في الاتحاد السوفياتي أخيرا والتسامح مع الأديان تم فتح معهدان إسلاميان في كل من مدينتي ألوفا – في بشكيريا وفي باكو عاصمة أذربيجان، كذلك عقدت دورة لإعداد الأئمة في القوقاز سنة 1989م، وظهرت الدعوة إلى إعادة الكتابة بالحروف العربية في المناطق الإسلامية، كما نشط المسلمون في بناء المدارس الإسلامية في الجمهوريات الإسلامية بوسط آسيا، وبدأت محاولات جلب مطابع بالحروف العربية.

المساجد: كان عدد رجال الدين الإسلامي من أئمة ووعاظ ومقيمي الشعائر في روسيا قبل استيلاء السوفيات على السلطة في سنة (1336هـ-1917م) 45,339. وكان عدد المسلمين 17 مليونا. وقد تم هدم وإغلاق الآف من المساجد خلال حكم الإمبراطورية الروسية أولا ثم خلال حكم الشيوعيين ثانيا.

الإدارة الدينية: يعتبر تشكيل الإدارة الدينية الإسلامية بالاتحاد السوفياتي (سابقاً) تنظيما حكوميا، وهذا التنظيم مرتبط بوزارة الأديان ومقرها موسكو، ويرأس إدارة شؤون المسلمين مفتي، ويمثل باقي المفتين مفوض من مجلس السوفيات في كل جمهورية وممثل عن وزارة الأديان، ويوجد ممثل مقيم في موسكو، ويوجد أربع إدارات للمسلمين بالاتحاد السوفياتي، إدارة مسلمي آسيا الوسطى وقازاخستان ومركزها في طشقند وتتبعها جمهوريات أوزبكستان، وطاجيكستان وقرغيزيا وجمهورية التركمان، وجمهورية قازاخستان، ويتولى الشؤون الدينية في كل جمهورية من الجمهوريات السابقة قاض وهو مسؤول أمام المفتي، وذكر مفتي آسيا الوسطي أن المسلمين قد عادوا لتدوين لغلتهم بالحروف العربية، والإدارة الدينية الإسلامية الثانية هي إدارة مسلمي شمال القوقاز ومركزها في داغستان وتشمل مناطق تشاشن وأوسيني الشمالية، والبلكار وداغستان ومناطق الأوديجا وكارتشاي والشركسى. والإدارة الدينية الثالثة هي إدارة مسلمي القسم الأوروبي وسيبريا ومركزها أوفا في بشكيريا، والإدارة الرابعة لمسلمي ما وراء القوقاز ومقرها باكو عاصمة أذربيجان، وبها الإدارة الخاصة بالمسلمين الشيعة.

كيف يؤدى المسلمون السوفيات شعائر دينهم؟ لقد تعامل السوفيات مع الإسلام في الجمهوريات الإسلامية السوفياتية بعنف منذ أن بسطوا نفوذهم على تلك الأراضي، فلقد بسطت الشرطة يدها على جميع نسخ القرآن الكريم وأحرقتها في الفترة من سنة (1348هـ- 1929م) إلى (1355هـ- 1936م)، ولقد عاون في هذا الجمعيات الإلحادية بالدعاية ضد الإسلام، واستخدمت الحكومة جميع وسائل الإعلام لتحقيق هدفها، ففي عام (1382هـ- 1962م) ألقيت 23 ألف محاضرة في جمهورية أوزبكستان ضد الدين، واستخدمت دور السينما والإذاعات لمحاربة الدين وتشويه صورة المسلمين الذين يذهبون للمساجد أو يصومون رمضان أو يحتفلون بالأعياد الإسلامية وأسس الشيوعيون اتحاد الملحدين منذ سنة 1342 هـ، ومنع الحجاج من الذهاب إلى بيت الله الحرام، وكان عدد الحجاج قبل السوفيات حوالي 35 ألفا، ووصل عددهم في حكم السوفيات 15 أو 20 حاجا. وفي سنوات كثيرة لايصل حجاج من السوفيت. ومنع السوفيات الصلاة والصوم والحج بحجة أن هذا يؤثر على اقتصاد المجتمع السوفياتي، فأصدر رجال الدين فتاوي تنسجم مع أهداف السوفيات ولا يؤثر على الاقتصاد السوفياتي، فقد أباحت للمسلم أن يجمع الصلاة مرة واحدة في اليوم، ويصوم يوما واحدا في رمضان، وقد أصدرت السلطات أمراً بمنع ذبح الأضاحي ولو كانت ملكا خاصا بحجة الأضرار الاقتصادية، اما الحج فقد وضعت معوقات عديدة لعدم تمكين المسلمين من الحج".

ويفهم بكل وضوح مما كتبه أبو زيد فى الفصل الثانى من كتابه: "مفهوم النص" أن الإسلام فى نظره لم ينزل من السماء، بل خلقته الظروف والحاجات الأرضية، وأن محمدا إنما هو امتداد للحنفاء ليس إلا، وأن الدين الذى جاء به ما هو إلا استجابة لحاجات المجتمع العربى مثلما كانت حركة الحنفاء دون زيادة أو نقصان. ولنقرأ نص كلام أبو زيد فى ذلك الفصل، مع ملاحظة أنه لم يخطئ هنا أو فى أى كتاب آخر وقع فى يدى من كتبه فيصلى على النبى عليه السلام، بل نادر جدا أن يقول عنه غير "محمد"، هكذا مجردةً: "لقد كان محمد، المستقبِل الأول للنص ومبلّغه، جزءا من الواقع والمجتمع. كان ابن المجتمع ونتاجه: نشأ فى مكة يتيما، وتربى فى بنى سعد كما كان يتربى أترابه فى البادية. تاجر كما يتاجر أهل مكة. سافر معه وشاركهم حياتهم وهمومهم. وحين أراد بعض الأعراب أن يعاملوه معاملة الملوك بعد البعثة رفض. وحين رأى أعرابيا ترتعد فرائصه وهو يستعد للقائه هدّأ روعه وقال قولته المشهورة: إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة. هذا ما يحكيه التاريخ عن الرجل والإنسان الذى شاء الفكر الدينى السائد قديما وحديثا أن يحوله إلى حقيقة مثالية ذهنية مفارقة للواقع والتاريخ، حقيقة لها وجود سابق على وجودها الإنسانى العيانى المادى. وشاء هذا الفكر فى أشد مزاعمه إنسانية أن يجعل منه إنسانا مغمض العينين معزولا عن المجتمع والواقع، يعيش هموما مفارقة مثالية ذهنية حتى حوله هذا الفكر إلى إنسان خال من كل شروط الإنسانية...

إن الواقع الذى ينتمى إليه محمد ليس بالضرورة هو الواقع السائد المسيطر. فالواقع، أىّ واقع كان، يحتوى فى داخله وفى بنائه الثقافى نمطين من القيم: النمط السائد المسيطر، ونمط القيم النقيض الذى يكون ضعيفا خافت الصوت، لكنه يسعى لمناهضة نمط القيم السائد. وليس هذان النمطان من القيم إلا تعبيرا عن قوى اجتماعية وعن صراعات اقتصادية واجتماعية. لم يكن محمد ينتمى فى هذا الواقع إلى الواقع المسيطر بنمط القيم السائد فيه. لذلك يصدق عليه وصف السيدة خديجة حين كانت تهدئ من روعه بعد التجربة الأولى لعملية الاتصال/ الوحى وما تلاها من خشيته على نفسه أن يكون به مرض أو مس من الشيطان: "كلا. أبشر. والله ما يخزيك الله أبدا. إنك لتصل الرحم، وتَصْدُق الحديث، وتحمل الكَلّ، وتَقْرِى الضيف، وتعين على نوائب الحق". إن هذه الأوصاف كلها أوصاف للأخلاق المتعدية للغير، أى أخلاق التعامل مع البشر فى الواقع اليومى. إن حب الخلاء والتحنث فى غار حراء لم يكن انعزالا عن حركة الناس فى الواقع، وإنما كان طقسا يمارسه آخرون إلى جانب محمد وقبله. هؤلاء الآخرون هم الأحناف...

لم يكن محمد معزولا عن هذه الحركة الفكرية التى لا يمكن أن تقوم على مجرد اللقاء العارض بين مجموعة من الأفراد. (وبعد أن يورد أبو زيد رواية عن لقاء زيد بن عمرو بن نفيل والنبى تظهر تشدده فى النفور من ذبائح الأوثان، فى الوقت الذى لم يكن النبى، حسبما فهم أبو زيد، متشددا كل هذا التشدد، وهو ما أخالفه فيه أشد المخالفة، إذ ليس فى الرواية أن اللحم الذى قُدِّم لزيد كان قد ذبح للأصنام فعلا أو أن النبى هو صاحب الطعام أو أنه أكل منه، يقول:) إن المشكلة (أىْ مشكلة البحث عن السبب فى أن زيدا رفض تناول الطعام، ولم يرفضه النبى عليه السلام) لا تحلها هذه الافتراضات الكثيرة لأنه ليست هناك مشكلة اصلا. لقد كان زيد بن عمرو مبالغا فى مفارقة قومه والبحث عن دين إبراهيم. ومحمد، وإن كان باحثا ايضا عن دين إبراهيم، دين الحنيفية، لم يكن على مثل تشدد زيد وإدانته لواقعه ومجتمعه. (ثم مرة أخرى بعد أن يورد أبو زيد كلاما لزيد بن عمرو يعلن فيه تمسكه دون قومه بدين إبراهيم يقول:) هل كان هذا الشيخ الصارخ فى البرية داعيا إلى دين إبراهيم صوتا فى فلاة أم كان تجسيدا لنزوع ما لاتجاه جديد فى رؤية العالم فى هذه الثقافة؟ وهل كان محمدٌ الإنسانُ ابنُ واقعه ومجتمعه إلا جزءًا من هذا الاتجاه الجديد النقيض للاتجاه السائد فى المجتمع والفكر على السواء؟

لكن لماذا العودة إلى دين إبراهيم؟ ولماذا لم يكن فى اليهودية والمسيحية ما يكفى للإجابة عن هذه الأسئلة الحائرة التى كانت تعذب هؤلاء الأفراد من العرب؟ الحقيقة أن هذه الأسئلة لم تكن مجرد صرخات فى فلاة، بل كانت تجسيدا لنزوع ما لاتجاه جديد فى رؤية العالم وضرورة تغييره. وكانت هذه الأسئلة بمثابة البحث عن "أيديولوجية" للتغيير، ولم يكن لهذا البحث أن يتجاوز الآفاق المعرفية للجماعة التاريخية، وهى آفاق تحكمها طبيعة البنى الاقتصادية والاجتماعية لهذه الجماعة. لقد كان البحث عن دين إبراهيم فى حقيقته بحثا عن الهوية الخاصة للعرب، وهى هوية كانت تهددها مخاطر عدة. أهم هذه المخاطر هو الخطر الاقتصادى النابع من ضيق الموارد الاقتصادية التى تعتمد على المطر والعشب من جهة، وعلى التجارة من جهة أخرى. وقد أوشكت حياة الصراع والتناحر والحروب بين القبائل، وكلها حروب وصراعات ذات جذور اقتصادية، أن تؤدى إلى القضاء على الحياة ذاتها. وزاد من حدة هذه الأزمة واستعار خطرها أن الجزيرة العربية كانت محاصرة بالقوى الأجنبية من كل جانب...

وسط هذه المخاطر كان ثمة إحساس بضرورة التوحد: التوحد على المستوى الداخلى لضمان بقاء الحياة فى هذه الظروف الاقتصادية الخطرة، والتوحد لمواجهة الخطر الخارجى الذى أوشك على القضاء على الهوية. وقد عبر هذا الإحساس الغامض عن نفسه فى مجموعة من التطورات أهمها بالنسبة لتحقيق الهدف الأول تحديد مجموعة من الشهور يحرم فيها القتال. وقد كان ذلك أقرب إلى الاتفاق للحفاظ على وسائل الإنتاج من الدمار الكامل. فكانت التجارة تزدهر فى هذه الشهور، وتقام الأسواق والاحتفالات الدينية. وكثيرا ما كانوا يغيّرون هذه الشهور أو يؤجّلون بعضها بالنسىء، الذى نهى عنه القرآن بعد ذلك، طبقا لمصالح القبيلة ذات السطوة والسيطرة. ولمواجهة الخطر الثانى، خطر العدو الخارجى، فمما له دلالته فى هذا الصدد أن القبائل العربية استطاعت لأول مرة أن تتوحد لمحاربة الفرس وحققت انتصارا عليها فى واقعة ذى قار. وهو انتصار تجاوبت أصداؤه فى أركان الجزيرة العربية كلها، واحتفظ لنا الشعر حتى الآن بهذه الأصداء. وهذه الواقعة تؤكد ذلك الإحساس الغامض بضرورة الوحدة لمواجهة خطر العدو الخارجى.

إذا كانت هذه هى الأخطار فلا بد أن تكون "الأيديولوجية" التى كان يبحث عنها هؤلاء الأفراد من العرب أيديولوجية تحقق الهدفين: مواجهة الصراعات الداخلية وعوامل التفتيت بكل ما يؤدى إليه ذلك من سيطرة الأقوى، ومواجهة الخطر الخارجى المتمثل فى أعداء العرب من الفرس والروم. ومن الطبيعى ألا تحقق المسيحية، وهى أيديولوجية مطروحة، أحد هذين الهدفين، فقد كانت دينا غازيا معتديا، ولم يكن لليهودية أن تجتذب العرب، وقد كان أحبارها يتَعَالَوْن عليهم وينظرون إليهم بوصفهم بدوا رعاة. هذا بالإضافة إلى أن اليهودية دين مغلق عنصرى لا يتقبل الوافدين الجدد. كانت الأيديولوجيتان الدينيتان المطروحتان غير ملائمتين لتحقيق أهداف ذلك الوعى أو الإحساس الغامض الذى كانت تحكمه صرخات هؤلاء المتحنفين أو المتحنثين...

كان البحث عن "دين إبراهيم" إذن بحثا عن دين يحقق للعرب هويتهم من جهة، ويعيد نظيم حياتهم على أسس جديدة من جهة أخرى. وكان الإسلام هو الدين الذى جاء يحقق هذه الأهداف. وليس من قبيل التأويل الأيديولوجى أن نقول إن الإسلام بهذه المثابة، ومن حيث هو دين يرد نفسه للحنيفية ملة إبراهيم، كان تجاوبا مع حاجة الواقع، وهى الحاجة التى عبر عنها الأحناف، وكان محمد واحدا منهم. وليس الحديث إذن عن محمد بوصفه المتلقى الأول للنص حديثا عن متلقٍّ سلبىّ، بل حديث عن إنسان تجسدت فى داخله أحلام الجماعة البشرية التى ينتمى إليها، إنسان لا يمثل ذاتا مستقلة منفصلة عن حركة الواقع، بل إنسان تجسدت فى أعماقه أشواق الواقع وأحلام المستقبل" (ص67- 74).

إن التحليل الماركسى بمفاهيمه ومقولاته ومصطلحاته واضح أشد الوضوح، فالدكتور يعزو كل شىء إلى العوامل الاقتصادية والاجتماعية، ولسانه يلهج بمصطلحات "البنية التحتية" و"وسائل الإنتاج" و"الأيديولوجية"... ولا أظن القارئ محتاجا من هذه الناحية إلى أن أضيف شيئا إلى ما قرأ، فهو مستغن بنفسه عن الشرح والتوضيح. ولكن يمكننا مع ذلك أن نلاحظ خلو كلام الحنفاء من الحديث عن العرب والأخطار التى تتهددهم من الداخل ومن الخارج على السواء، فقد كان كلامهم محصورا فى الوعظ العام وتوجيه الأنظار إلى الدلائل الكونية والدعوة إلى التوحيد، ثم لا شىء آخر، فلا حديث عن صراعات قبلية ولا احتلال حبشى ولا تهديد فارسى أو رومى قط. كما أن القرآن يخلو من هذه الموضوعات. بل إنه لا وجود فيه من أوله إلى آخره للعرب أو حتى لاسمهم، فضلا عن أن يكون لهم على صفحاته أى وضع متميز على الإطلاق. والكلام فيه إنما هو عن البشرية كلها، على عكس العهد القديم مثلا، الذى يدور كله على بنى إسرائيل وكأنهم هم الدنيا بأسرها فلا توجد أمة سواهم. كما تكرر فيه النص على أنه عليه الصلاة والسلام مبعوث إلى العالمين أجمعين فى كل زمان ومكان: "قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ" (الأنعام/ 90)، "وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ" (يوسف/ 104)، "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ" (الأنبياء/ 107)، "تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا" (الفرقان/ 1)، "قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ* إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ" (ص/ 86- 87)، "وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ* وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ" (القلم/ 51- 52)، "إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ" (التكوير/ 27)، "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ" (سبأ/ 28).

وبالمثل نجد فى الحديث هذه النصوص التى تدل بأجلى بيان على أن رسالته صلى الله عليه وسلم هى للناس كافة، وليست للعرب وحدهم كما يزعم الملتاثون الذين فى قلوبهم مرض ويحسبون أنهم قادرون على التخفى بمرضهم، وهيهات: "يا أيها الناس، ألا إن ربكم عز وجل واحد. ألا وإن أباكم واحد. ألا لا فضل لعربي على عجمي. ألا لا فضل لأسود على أحمر إلا بالتقوى. ألا قد بلغت؟ قالوا: نعم. قال: ليبلِّغ الشاهدُ الغائب"، "أُعْطِيتُ خمسا لم يُعْطَهُنّ أحد من الأنبياء قبلي: نُصِرْتُ بالرعب مسيرة شهر، وجُعِلَتْ لي الأرض مسجدا وطَهُورا، وأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فلْيُصَلِّ، وأُحِلَّتْ لي الغنائم، وكان النبي يُبْعَث إلى قومه خاصة، وبُعِثْتُ إلى الناس كافة، وأُعْطِيتُ الشفاعة"، "كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى أبرويز ملك فارس يقول: بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس. سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله. أدعوك بدعاية الله، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة لينذر من كان حَيًّا ويحقَّ القول على الكافرين. أسلم تَسْلَم، فإن أَبَيْتَ فعليك إثم المجوس"، ومن رواية أبى سفيان: "انطلقت في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فينا أنا بالشأم إذ جيء بكتاب من النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل. قال: وكان دحية الكلبي جاء به فدفعه إلى عظيمُ بُصْرَى، فدفعه عظيمُ بُصْرَى إلى هرقل. قال هرقل: هل هنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقالوا: نعم. قال: فدُعِيتُ في نفر من قريش، فدخلنا على هرقل، فأجلسنا بين يديه، فقال: أيكم أقرب نسبا من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: فقلت: أنا. فأجلسوني بين يديه، وأجلسوا أصحابي خلفي، ثم دعا بترجمانه فقال: قل لهم إني سائل هذا عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، فإن كَذَبني فكذِّبوه. قال أبو سفيان: وايم الله لولا أن يُؤْثِروا عليّ الكذب لكذبت. ثم قال لترجمانه: سَلْهُ كيف حَسَبُه فيكم؟ قال: قلت: هو فينا ذو حسب. قال: فهل كان من آبائه مَلِكٌ؟ قال: قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا. قال: أيتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ قال: قلت: بل ضعفاؤهم. قال: يزيدون أو ينقصون؟ قال: قلت: لا بل يزيدون. قال: هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له؟ قال: قلت: لا. قال: فهل قاتلتموه؟ قال: قلت: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قال: قلت: تكون الحرب بينا وبينه سجالا، يصيب منا ونصيب منه. قال: فهل يغدر؟ قال: قلت: لا، ونحن منه في هذه المدة لا ندري ما هو صانع فيها. قال: والله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه. قال: فهل قال هذا القول أحد قبله؟ قلت: لا. ثم قال لترجمانه: قل له: إني سألتك عن حسبه فيكم، فزعمت أنه فيكم ذو حسب. وكذلك الرسل تُبْعَث في أحساب قومها. وسألتك: هل كان في آبائه ملك، فزعمت أن لا، فقلت: لو كان من آبائه ملك قلتُ: رجل يطلب ملك آبائه. وسألتك عن أتباعه: أضعفاؤهم أم أشرافهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم. وهم أتباع الرسل. وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمتَ أنْ لا، فعرفتُ أنه لم يكن ليَدَعَ الكذب على الناس، ثم يذهب فيكذب على الله. وسألتك: هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له؟ فزعمت أنْ لا. وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب. وسألتك: هل يزيدون أم ينقصون؟ فزعمت أنهم يزيدون. وكذلك الإيمان حتى يتم. وسألتك: هل قاتلتموه؟ فزعمت أنكم قاتلتموه، فتكون الحرب بينكم وبينه سجالا، ينال منكم وتنالون منه. وكذلك الرسل تُبْتَلَى، ثم تكون لهم العاقبة. وسألتك: هل يغدر؟ فزعمت أنه لا يغدر. وكذلك الرسل لا تغدر. وسألتك: هل قال أحد هذا القول قبله؟ فزعمت أنْ لا. فقلت: لو كان قال هذا القول أحد قبله، قلت: رجل ائتم بقول قيل قبله. قال: ثم قال: بم يأمركم؟ قال: قلت: يأمرنا بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف. قال: إن يَكُ ما تقول فيه حقا فإنه نبي. وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أَكُ أظنه منكم. ولو أني أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه. ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه. وليبلغن مُلْكُه ما تحت قدمي. قال: ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه، فإذا فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم. سلام على من اتبع الهدى. أما بعد، فاني أدعوك بدعاية الإسلام. أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك اثم الأريسيين. و"يا أهل الكتاب تعالَوْا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله... إلى قوله: اشهدوا بأنا مسلمون". فلما فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده وكثر اللغط، وأمر بنا فأُخْرِجْنا. قال: فقلت لأصحابي حين خرجنا: لقد أمر ابن أبي كبشة. إنه ليخافه ملك بني الأصفر. فما زلت موقنا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيظهر حتى أدخل الله عليَّ الاسلام..."، "ليبلغنّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزا يُعِزّ الله به الإسلام، وذلا يُذِلّ الله به الكفر".

أما تفسير أبو زيد لحركة الحنفاء التى كانت تدعو إلى الرجوع لدين إبراهيم تفسيرا ماركسيا اقتصاديا وقوله إنهم كانوا يعملون على التوحد لمواجهة الأخطار الاقتصادية المبيرة للعرب وما يتصل بهذا من تحديد العرب مجموعة من الشهور يمتنعون فيها عن القتال للحفاظ على وسائل الإنتاج الاقتصادى من الدمار الكامل، مما كان من نتيجته ازدهار التجارة فى هذه الشهور (مفهوم النص/ 73، 74، 79)، فأقل ما يوصف به أنه كلام فارغ. ذلك أن الحنفاء، كما رأينا، لم يكونوا يبحثون عن وحدة عربية، بل كانوا مجرد منكرين للوثنية. وهذه الوثنية، على العكس مما يقوله أبو زيد، كانت توحد العرب على دين واحد. ولم نسمع أن أيا من الحنفاء قد دعا إلى تلك الوحدة الموعومة، بل كان كل ما يصنعونه هو وعظ الناس وعظا عاما ثم لا شىء بعد ذلك. كما أن رحلتى اليمن والشام إنما كانتا تتمان فى الشتاء والصيف (على الترتيب)، ومعروف أن الفصول الأربعة من شتاء وصيف وربيع وخريف إنما تتبع التقويم الشمسى لا القمرى، الذى كانت تجرى عليه العرب فى تنظيم الأشهر الحرم كما هو معلوم. ولا أظننا بحاجة إلى التدليل على أن الشتاء والصيف يستغرقان ستة أشهر باعتبارهما نصف العام، على حين أن الشهور الحرم تستغرق أربعة فقط، علاوة على أن الأشهر الحرام الأربعة ليست متصلة، ومن ثم لم تكن كافية لتأمين الرحلتين على أى وضع حتى لو توافقت وشهور الرحلتين: توافقا دائما (بأن يكون التقويمان واحدا: شمسيا أو قمريا) أو كل عدة عقود. وهو ما يدل على أن كلام الباحث هو كلام منهار بطبيعته. أما الكلأ والماء فلا علاقة لتوفرهما أو لشحهما بحرب أو سلم، أو أشهر حرام أو أشهر حلال، فالأمطار لن تتوقف أو تهطل طبقا للحرب أو السلم وغير ذلك من الأسباب الاجتماعية أو السياسية، بل لأسباب مناخية طبيعية. ولكيلا أترك بابا لعُشّاق المراء أقول إن نصر أبو زيد قد أكد مرارا وتكرارا أن الحنفاء، بما فيهم النبى طبعا، كانوا يبحثون عن دين إبراهيم. فهل كان على "أجندة" إبراهيم (وأرجو أن يتسامح معى القارئ فى استخدام تلك الكلمة الأجنبية هذه المرة من نفسى)،هل كان من "أجندته" توحيد العرب؟ بس خلاص!

ويدعى د. نصر أبو زيد أيضا (ص77 من "مفهوم النص") أن كلمتى "رَبٌّ" (أى الإله) وخَلَق (بمعنى الإيجاد من العدم) كلمتان قرآنيتان جديدتان، إذ كان معنى "الرب" قبلا هو صاحب الشىء، ومعنى "خَََلََق" هو صمم الشىء وقدّره قبل تنفيذه لا أوجده من عدم بعد أن لم يكن موجودا. وهذا غير صحيح، فكلمة "رب" فى الشعر الجاهلى موجودة بهذا المعنى، كقول الأسود بن يعفر النهشلى:

أقول لما أتاني هُلْكُ سيدنا * لا يبعد الله رب الناس مسروقا

وقول الفِنْد الزّمّانى:

فَاخْسَأَوا لَيسَ لَكُم بَيتٌ عَلى * مِثلِنا اللَهُ لَهُ رَبٌّ وَجارُ

وقول حاتم الطائى:

سَقى اللَهُ رَبُّ الناسِ سَحّا وَديمَةً * جَنوبَ السَراةِ مِن مَآبٍ إِلى زُغَر

وزيد بن عمرو بن نُفَيْل:

أَرَبّا واحِدا أَم أَلفَ رَبٍّ * أَدينُ إِذا تَقَسَّمَتِ الأُمورُ

وقول شتيم بن خويلد الفزارى:

لا يُبْعِدِ اللَهُ رَبُّ العِبا دِ وَالمِلحِ ما وَلَدَت خالِدَه

وقول عبد بن مالك النعمان:

يا رَبُّ أنتَ على الأنام مُسَلِّطٌ * لو شئْتَ أضحَوْا هامِدينَ جُمودا

وقول عروة بن الورد:

قَليلٌ ذَنبُهُ وَالذَنبُ جَمٌّ * وَلَكِن لِلغِنى رَبٌّ غَفورُ

وقول لقيط بن شيبان:

إِذا ما اِمرؤٌ أَهَدى لِمَيتٍ تَحِيَّةً * فَحَيّاكَ رَبُّ الناسِ عَنّي أَدهَمُ

وقول ميثاء المجاشعية:

يا ربّ ربَّ البيت والحـُجّاجِ

وفى القرآن الكريم: "ولئن سالتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله"، وقد تكررت مرات، مما يدل على أنهم كانوا يعرفون أن "خلق" تعنى أوجد من العدم وأنها، بهذا المعنى، خاصة بالله سبحانه: "وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ" (العنكبوت/ 61)، "وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ" (لقمان/ 25)، "وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ" (الزمر/ 28)، "وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ" (الزخرف/ 9). وكان زيد بن عمرو يعيب على قريش ذبائحهم ويقول: الشاة خلقها الله وأنزل من السماء ماءً وأنبت لها من الأرض نباتا ثم تذبحونها على غير اسم الله! إنكارا لذلك وإعظاما له".

وفى شعر الجاهلية ورد هذا الفعل بهذا المعنى كقول حذيفة الهذلى:

أَلا يا فَتىً ما نازَلَ القَومَ واحِدا * بِنَعمانَ لَم يُخلَق ضَعيفا مُثَبَّرا

وقول عدى بن زيد:

أَلا مَن مُبلِغُ النُعمانِ عَنّي * عَلانِيَةً فَقَد ذَهَبَ السِرارُ

بِأَنَّ المَرءَ لَم يُخلَق حَديدًا * وَلا هَضبا تَرَقّاهُ الوَبارُ

وقول قس بن ساعدة الإيادى:

الحَمدُ لِلَّهِ الَّذي * لَم يَخلُقِ الخَلقَ عَبَثْ

وفى ذات الكتاب نراه ينفى أن يكون للقرآن وجود فى اللوح المحفوظ طبقا لما جاء فى سورة "البروج": "بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)". صحيح أن بعض علمائنا القدامى قد تجاوزوا حدود العقل البشرى حين قالوا إن كل حرف من القرآن فى ذلك اللوح يمائل فى الضخامة جبل قاف، مما أعطى د. نصر الفرصة كى يسخر من الفكرة كلها، وكان عليه أن يميز بين ما قاله القرآن فى هذا الموضوع وما قاله أولئك العلماء، الذين هم فى نهاية المطاف بشر، فكلامهم مجرد اجتهاد لا يلزمنا أن نخر عليه موافقين بالضرورة. وما داموا لم يَرَوْا ذلك اللوح المحفوظ، وما دام القرآن قد سكت عن هذا التفصيل، وسكت عنه الرسول، فلماذا يقحمون أنفسهم فى أمر من أمور الغيب الذى لا نعلمه نحن ولا هم؟ يقول الدكتور: "ولا شك أن هذه الزيادات والإضافات قد ساهمت مع ما سبقت الإشارة إليه من تصورِ وجودٍ خطىٍّ سابقٍ للنص فى اللوح المحفوظ، كل حرف بقدر جبل قاف، فى تكريس تصور للنص يتباعد به عن الواقع الذى أنتجه، والثقافة التى تشكل من خلالها إلى هذا التصور الذى يجعل النص معطًى سابقًًا كاملاً مكتملا فُرِض على الواقع بقوة إلهية لا قِبَل للبشر بها. وكان من شأن هذا التصور أن يؤدى إلى عزل النص عن حركة الواقع تدريجيا، وذلك بتحويله من نص لغوى دالّ إلى مجرد شىء مقدس، إلى مصحف يستمد قداسته من مجرد وجوده تمثيلا لأصله القديم الماثل فى عالم الأرواح والمثل" (ص76).

وهذا الكلام يتعارض تعارضا مع القرآن وحديثه عن اللوح المحفوظ. والواقع أن د. نصر قد تورط بهذه الطريقة فيما أخذه على بعض العلماء القدامى، إذ أقحم نفسه هو أيضا فيما لا قِبَل له ولا لنا به، وإلا فهل اطلع سيادته على الغيب وتحقق من أن القرآن لا يقول الحق وأنه لا وجود لذلك اللوح المحفوظ فى الواقع؟ وعلى أية حال فلا مشكلة بتاتا فى هذا اللوح المحفوظ، إذ هو سبحانه فوق الزمان والمكان، بل هو خالقهما، فكيف يقيدانه عز وجل؟ وإذا كنا نحن نعيش داخل هذين القفصين فإن الله سبحانه متعالٍ عليهما لأنه خالقهما، فليس هناك بالنسبة له قبلٌ ولا بَعْدٌ. والقول بأن القرآن منتج ثقافى كلام غير مقبول، فنحن لسنا فى مصنع ينتج النصوص الدينية، بل هو كلامه عز وجل. فالقرآن، وإن ظهر لنا فى التاريخ تدريجيا، ليس كذلك بالنسبة إلى الله، وإلا كنا قد حولناه سبحانه وتعالى بهذه الطريقة إلى بشر محصور فى الزمان والمكان لا يظهر أى شىء من الأشياء له إلا قليلا قليلا مع مرور الوقت، إلى أن يتم تشكيله فيراه كاملا لأول مرة مثلنا بالضبط. فهل هذا مما يليق به سبحانه، وهو الأزلى الأبدى الذى لا تحد وجوده ولا علمه ولا قدرته ولا إرادته أية حدود، زمانية كانت هذه الحدود أو مكانية أو... أو...؟ ولقد كان القدماء، ولا نزال نحن أيضا كلنا، اللهم إلا نصر أبو زيد وأمثاله، نؤمن باللوح المحفوظ ولا نرى القرآن منتجا ثقافيا، بل نؤمن بأنه كلام الله، نزل من السماء على الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، ومع هذا فلم يحوله القدماء إلى شىء يتبركون به، وكفى، بل وضعوه موضع التنفيذ من أول وهلة، فكانت تلك الانبعاثة الحضارية التى ليس لها مثيل فى التاريخ، مما يكذّب كل ما قاله د. نصر تكذيبا. ثم فلنفترض أن العرب قد رفضوا القرآن الكريم ولم يؤمن به أحد منهم البتة، أيتصور الكاتب أنه ما كان ليكون للقرآن وجود؟ ألن تنزل الآيات حينئذ على النبى عليه السلام رغم ذلك فتكون حجة على الكافرين؟ وهل سيكون القرآن عندئذ قد فُرِض على الواقع بقوة إلهية؟ إن هذا إنما يكون لو أن الله عز فى علاه أكره الناس على الإيمان بكتابه دون أن يقتنعوا بصحته وبصدق النبى الذى أتاهم به، وهو ما لم يقع، وما كان ليقع، إذ ليس من مبادئ الإسلام فرض الإيمان على أحد، بل من شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر.

أما فيما يتعلق بما قاله د. نصر أبو زيد عن الإمام الشافعى فى الطبعة الأولى من كتابه عن ذلك الإمام الجليل من أنه كان يتعاون مع الأمويين وأنه قد تولى عملا لهم فى اليمن، مما جعله أضحوكة الكتاب والنقاد المحققين ووضعه عن حق فى مرمى سهامهم، فقد عاد إلى تناول هذا الموضوع فى كتابه: "التفكير فى زمن التكفير" (ط2/ مكتبة مدبولى/ 1995م/ ص171) قائلا بمداورته المعهودة: "ولعل هذا يضطرنا للرد على الضجة الإعلامية الزائفة التى وجدت فى خطإ طباعى فى الكتاب نكتة تقيم الدنيا ولا تقعدها حيث تحولت كلمة "العلويين" إلى "الأمويين" فى صفحة كاملة. ورغم أن هذا خطأ لا يقع فيه تلميذ بليد كما أقر الجميع ورغم أن الصفحة التالية لصفحة الأخطاء تلك تتحدث عن نفور الشافعى من النظام العباسى، خاصة من المأمون، فإن ذلك لم يلفت النظر لأن العين الناظرة لا تقرأ ولا تفهم بل تتصيد. ولم يتنبه المهاجمون إلى أن هذا الخطأ الطباعى المصوَّب فى ثبت التصويبات فى آخر الكتاب لم يتوقف عند إمامهم الأعظم عبد الصبور شاهين لأن النسخة التى كانت بين يديه كانت مصححة باليد علاوة على ثبت التصويبات فى آخر الكتاب.

تنبه بلتاجى وأشار إليه لا على أنه خطأ طباعى بل على أنه "جهل" من الباحث. وقامت جريدة "الشعب" بدور "الطبال" فى الزفة، وعنها نقل مصطفى محمود وعنه نقل محمد الغزالى... وهلم جرا. ثم كانت ثالثة الأثافى "محمد جلال كشك"، الذى راح على مدى خمس مقالات فى "أكتوبر" يعيد ويزيد، ويرغى ويزبد، ويؤلب العامة والخاصة رحمه الله وغفر له. وكان ذلك كله دليلا على إفلاس المتهجمين ودلالة على قدر عقولهم وقدراتهم. هكذا صار هذا الخطأ الطباعى دليلا على تدنى المستوى العلمى للباحث وهبوطه بحيث صار قرار الجامعة بعدم الترقية قرارا صائبا حكيما فى نظر الحكماء من المتاجرين بالإسلام.

ليست ميول الشافعى للعلويين سرا من الأسرار، وليس انحيازه للقرشية والعروبة مما يقدح فى شخص الإمام، لكن المؤكد أن ذلك كله يمثل عناصر "أيديولوجية" فى الخطاب تحتاج للتحليل كشفًا عن بنية هذا الخطاب لإعادة زرعه فى التاريخ بعد أن انفصل عنه، واكتسب بعض الملامح الإطلاقية والقداسة. والدلائل التى يقدمها الكتاب من داخل خطاب الشافعى تتجاوز مسألة قبوله للعمل، بل وسعيه إليه، مع بعض الولاة ممن لهم توجهات قويبة من توجهات الإمام. والمعروف أن الدولة العباسية تقاربت مع العلويين فى مرحلة نشأتها وتثبيت أركانها، وذلك على أساس الانتساب المشترك إلى "البيت النبوى"، فلم يكن الأمر يحتاج لقيام دولة "علوية" لكى يقبل الإمام العمل فيها كما توهم المرحوم جلال كشك. والدلائل التى يقدمها الكتاب على انحيازه الشافعى للقرشية والعروبة عموما عديدة..." (ص171- 172).

هذا ما قاله نصر أبو زيد. وقبل أن أبدأ التعليق على هذا الكلام أود أن ألفت النظر إلى أن الطبعة الأولى من كتابه عن الإمام الشافعى، وهى أمامى الآن، تخلو تماما من أية تصويبات على عكس ما يقول د. نصر. والآن علينا أن نرجع إلى ما كان قد كتبه فى الكتاب المذكور فى طبعته الأولى. فماذا قال؟ لنقرأ معا: "لكن أهم صور التعبير عن انحياز الشافعى للقرشية أنه الفقيه الوحيد من فقهاء عصره الذى تعاون مع الأمويين مختارا راضيا، خاصة بعد وفاة استاذه الإمام مالك بن أنس (179هـ)، الذى كان له من الأمويين موقف مشهود بسبب فتواه بفساد بيعة المكره وطلاقه. وموقف الإمام أبى حنيفة (150هـ) الرافض لأدنى صور التعاون معهم رغم سجنه وتعذيبه يكشف إلى أى حد بلغ رفض الفقهاء لعصبية ذلك النظام ولممارساته القمعية ضد جماهير المسلمين إلا أن يكونوا من مؤيديه وأنصاره بشكل مباشر. سعى الشافعى، على عكس سلفه أبو حنيفة وأستاذه مالك، إلى العمل مع الأمويين، فانتهز فرصة قدوم والى اليمن إلى الحجاز وجعل بعض القرشيين يتوسطون له عنده ليلحقه بعمل، فأخذه الوالى معه وولاه عملا بنجران. وإذا كان موقف مالك وأبى حنيفة من النظام العباسى لم يختلف كثيرا عن موقفهم من الأمويين فإن الشافعى كره منهم تخليهم عن "العروبة"، التى كانت سمة بارزة للنظام الأموى، واستنادهم إلى "الفارسية"، الأمر الذى يبرز لنا النزوع العصبى عند الإمام ويفسر لنا الدفاع السابق عن نقاء النص، ونقاء اللسان العربى من ثم، من آفة الدخيل الوافد من الألفاظ. ومما له دلالة فى هذا الصدد أن رحيل الشافعى إلى مصر تلا استيلاء المأمون على السلطة بعد صراعه الدامى مع أخيه الأمين، وهو الصراع الذى وجدت فيه الشعوبية الثقافية والفكرية تعبيرها العسكرى. تولى المأمون السلطة سنة 198هـ، ورحل الشافعى إلى مصر سنة 199هـ، وكان اختيار مصر بالذات لأن واليها فى ذلك الوقت كان قرشيا هاشميا" (الإمام الشافعى وتأسيس الأيديولوجية الوسطية/ ط1/ دار سينا للنشر/ 1992م/ 16- 17).

ولسوف نأخذ بعذر نصر أبو زيد ونستبدل كلمة "العلويين" بـ"الأمويين" لنرى كيف تستقيم الأمور: "لكن أهم صور التعبير عن انحياز الشافعى للقرشية أنه الفقيه الوحيد من فقهاء عصره الذى تعاون مع العلويين مختارا راضيا، خاصة بعد وفاة استاذه الإمام مالك بن أنس (179هـ)، الذى كان له من العلويين موقف مشهود بسبب فتواه بفساد بيعة المكره وطلاقه. وموقف الإمام أبى حنيفة (150هـ) الرافض لأدنى صور التعاون معهم رغم سجنه وتعذيبه يكشف إلى أى حد بلغ رفض الفقهاء لعصبية ذلك النظام ولممارساته القمعية ضد جماهير المسلمين إلا أن يكونوا من مؤيديه وأنصاره بشكل مباشر. سعى الشافعى، على عكس سلفه أبى حنيفة وأستاذه مالك، إلى العمل مع العلويين، فانتهز فرصة قدوم والى اليمن إلى الحجاز وجعل بعض القرشيين يتوسطون له عنده ليلحقه بعمل، فأخذه الوالى معه وولاه عملا بنجران. وإذا كان موقف مالك وأبى حنيفة من النظام العباسى لم يختلف كثيرا عن موقفهم من العلويين فإن الشافعى كره منهم تخليهم عن "العروبة"، التى كانت سمة بارزة للنظام العلوى، واستنادهم إلى "الفارسية"، الأمر الذى يبرز لنا النزوع العصبى عند الإمام ويفسر لنا الدفاع السابق عن نقاء النص، ونقاء اللسان العربى من ثم، من آفة الدخيل الوافد من الألفاظ. ومما له دلالة فى هذا الصدد أن رحيل الشافعى إلى مصر تلا استيلاء المأمون على السلطة بعد صراعه الدامى مع أخيه الأمين، وهو الصراع الذى وجدت فيه الشعوبية الثقافية والفكرية تعبيرها العسكرى. تولى المأمون السلطة سنة 198هـ، ورحل الشافعى إلى مصر سنة 199هـ، وكان اختيار مصر بالذات لأن واليها فى ذلك الوقت كان قرشيا هاشميا".

وهذه هى ملاحظاتنا على النص بعد تغييره على النحو الذى يريده نصر أبو زيد ليخرج من الورطة العلمية المخزية: ترى متى كان لمالك بن أنس فتوى ضد العلويين تتعلق بفساد بيعة المكره وطلاقه؟ فليدلنا عليها أحد. ثم كيف يغضب العلويون من مثل هذه الفتوى، وهى لا تضرهم فى شىء، إذ لم يكن لهم سلطان البتة: لا سلطان قائم على الإكراه ولا سلطان مستند إلى الشورى؟ بالعكس لقد كانت مثل هذه الفتوى فى مصلحتهم لأن كثيرا من المسلمين كانوا يتعلقون بالعلويين، لكنهم يخشون من إبداء مشاعرهم ومواقفهم تجاههم كما هو معروف. كذلك هل كان للعلويين سلطان فى اليمن جعل الشافعى يوسط أحدهم كى يعينوه فى منصب فى دولتهم هناك؟ طبعا لا. إذن فلا يمكن أن يكون الأمر سهوا كما يزعم الدكتور نصر. ويقول النص أيضا بعد تغييره إلى الوضع الذى يريده نصر أبو زيد: "وإذا كان موقف مالك وأبى حنيفة من النظام العباسى لم يختلف كثيرا عن موقفهم من العلويين فإن الشافعى كره منهم تخليهم عن "العروبة"، التى كانت سمة بارزة للنظام العلوى". ومعنى هذا أن العلويين كان لهم نظام كما يقول النص بكل وضوح. أى أنهم كانوا فى عصر الشافعى ذوى سلطان ودولة، وهو كلام متهافت لا يمكن أن يستقيم ولو لفيمتو ثانية. وفوق ذلك فالذين كانوا يتجهون اتجاها عروبيا ثم جاء العباسيون بعدهم فقربوا الفرس منهم وتوارت العروبة فى عهدهم تدريجيا إنما هم الأمويون، وهذا معروف لا نكران له ولا مراء فيه.

على أننا لن نكتفى بذلك فحسب، بل سوف نضيف إلى ذلك إيراد النص كما أصلحه الدكتور نصر أبو زيد فى الطبعة الثانية لنرى كيف أصلحه، وهل أصلحه طبقا لما ادعى أنه كان عليه فى الأصل أو لا. وهذا كلامه فى هذا الموضوع فى الطبعة الثانية التى صدرت سنة 1996م: "لكن أهم صور التعبير عن انحياز الشافعى للقرشية أنه الوحيد من فقهاء عصره الذى تعاون مع السلطة السياسية مختارا راضيا، خاصة بعد وفاة أستاذه الإمام مالك بن أنس (179هـ)، الذى كان له من الأمويين موقف مشهود بسبب فتواه بفساد بيعة المكره وطلاقه. وموقف الإمام أبى حنيفة (150هـ) الرافض لأدنى صور التعاون معهم رغم سجنه وتعذيبه يكشف إلى أى حد بلغ رفض الفقهاء لعصبية ذلك النظام ولممارساته القمعية ضد جماهير المسلمين إلا أن يكونوا من مؤيديه وأنصاره بشكل مباشر. سعى الشافعى، على عكس سلفه أبى حنيفة واستاذه مالك إلى العمل مع الحكام، فانتهز فرصة قدوم والى اليمن إلى الحجاز وجعل بعض القرشيين يتوسطون له عنده ليلحقه بعمل، فأخذه الوالى معه وولاه عملا بنجران. وإذا كان موقف مالك وأبى حنيفة من النظام العباسى لم يختلف كثيرا عن موقفهم من الأمويين فإن الشافعى تعاون معهم، وإن كره منهم تخليهم عن "العروبة"، التى كانت سمة بارزة للنظام الأموى، واستنادهم إلى الفارسية، الأمر الذى يبرز لنا النزوع العصبى عند الإمام ويفسر لنا الدفاع السابق عن نقاء النص، ونقاء اللسان من ثم، من آفة الدخيل الوافد من الألفاظ. ومما له دلالة فى هذا الصدد أن رحيل الشافعى إلى مصر تلا استيلاء المأمون على السلطة بعد صراعه الدامى مع أخيه الأمين، وهو الصراع الذى وجدت فيه الشعوبية الثقافية والفكرية تعبيرها العسكرى. تولى المأمون السلطة سنة 198هـ، ورحل الشافعى إلى مصر سنة 199هـ، وكان اختيار مصر بالذات لأن واليها فى ذلك الوقت كان قرشيا هاشميا".

وهنا نلاحظ ما يقوله نصر أبو زيد من أن "أهم صور التعبير عن انحياز الشافعى للقرشية أنه الوحيد من فقهاء عصره الذى تعاون مع السلطة السياسية مختارا راضيا، خاصة بعد وفاة أستاذه الإمام مالك بن أنس"، مستبدلا "السلطة السياسية" بـ"الأمويين". ومعنى هذا أن زعمه أنه فى كل مرة يستعمل فيها كلمة "الأمويين" إنما كان يقصد "العلويين" هو زعم كاذب، وإلا فلماذا لم يقل إنه الوحيد من فقهاء عصره الذى تعاون مع العلويين؟ لقد قال بدلا من ذلك إنه الوحيد الذى تعاون مع السلطة السياسية، ومعروف أن العلويين فى ذلك الوقت لم يكن لهم سلطة سياسية بتاتا. فما معنى ذلك سوى أن الرجل يقول أى كلام، والسلام؟ كما نراه يضع العباسيين فى بعض مواضع النص إزاء الأمويين لا إزاء العلويين طبقا لما كان ينبغى أن يفعل حسب كلامه. وفوق هذا فما زال نصر أبو زيد يقول إن لمالك بن أنس من الأمويين موقفا مشهودا بسبب فتواه بفساد بيعة المكره وطلاقه، علاوة على تأكيده أن الإمام أبى حنيفة كان رافضا لأدنى صور التعاون معهم رغم سجنه وتعذيبه. وهذا وذاك غير صحيحين، إذ إن هذين الأمرين قد تما فى عصر العباسيين لا الأمويين، وهو ما لا يجهله أحد ممن له أدنى صلة بالتاريخ الإسلامى. فأما فتوى مالك فمتعلقة بخروج محمد بن عبد الله المعروف بـ"النفس الزكية" على أبي جعفر المنصور، وأما سجن أبى حنيفة وتعذيبه فلأنه رفض تولى منصب القضاء لذلك الخليفة. والسبب فى وقوع كل هذه الأخطاء من نصر أبو زيد ابتداء وبعد التصحيح هو أن الأمر مضطرب لديه أشد الاضطراب، ومن ثم لم يتمكن من إحكام التصحيح الذى اقترحه هو لا سواه، فعدل كلمة أو كلمتين، ولم يستطع أن يبصر الاضطراب فى فكرته كلها فترك كثيرا من الآثار التى تدل على هذا الاضطراب. ثم إن ربط أبو زيد بين ذلك وبين أموية الشافعى المزعومة، إذ كان الأمويون ينزعون منزعا عروبيا على عكس العباسيين، الذين اعتمدوا فى نجاح ثورتهم ضد الأمويين على الفرس، إنما يدل على أن أبوزيد يقصد فعلا الأمويين، ولم يكن الأمر سهوا منه أو غلطة مطبعية من الناسخ كما زعم، وبخاصة أن كلمتى "الأمويين" و"العلويين" متباعدتان لا يمكن أن يخلط الناسخ بينهما أبدا.

ولكى تكتمل الصورة سوف أنقل هنا ما قاله محمد جلال كشك رحمه الله عن هذا الموضوع فى المناظرة التى تمت بينه وبين الدكتور نصر أبو زيد فى إحدى الفضائيات الأمريكية والتى توفى بأزمة قلبية أثناءها. قال كشك موجها كلامه للمذيع، وأنا أنقل هذا الكلام عن موقع كشك نفسه الذى أنشأه باسمه المهندس محمد إلهامى: "الدكتور أبو زيد تقدم للترقية لدرجة أستاذ بكتابين وعدة أبحاث. من هذين الكتابين كتاب صغير عن الإمام الشافعي ودوره في إثبات الوسطية. وهذا الكتاب قائم على فكرة أن الإمام الشافعي متعصب للعروبة وللقرشيين، وقال: إن أهم ما يؤكد تعصب الشافعي للعروبة أنه تعاون مع الأمويين وألح حتى عينه الأمويون واليا على نجران. عُرِض الكتاب على لجنة الترقية: البعض وافق، والبعض اعترض علي ترقيته. عُرِض الأمر على مجلس الجامعة، وهناك أستاذ مثقف رفع صباعه وقال: "يا جماعة، الإمام الشافعي اتولد بعد 18 سنة من زوال الدولة الأموية". أنا لم أصدق، فاشتريت الكتاب ووجدت أن الدكتور قال فعلا بتعامل الإمام الشافعي مع الأمويين في الصفحة 16 وأنهم عينوه واليا علي نجران. واستدل بنصٍّ زوره علي أبو زهرة علي تعصب الشافعي للقرشيين". وعندما رد المذيع قائلا: "أستاذ جلال، أنا أخشي أن تدخل في تفاصيل أكاديمية،. فلنبق في صلب الموضوع، وهو قضية التطليق" أجابه كشك بقوله: "أنا قلت إن هذه القضية تشوّش على القضية الأساسية، وهي جهل عضو في هيئة التدريس بإحدي الجامعات المصرية ولجوئه إلي التزوير إثباتا لآرائه. ده عامل زي واحد يضبطه الكمساري بينشل في الأتوبيس أو يرتكب فعلاً فاضحا، فيضرب الكمساري بالقلم ويتهمه بسب الحكومة للخروج من المأزق". ثم أضاف بعد قليل قوله: "بقي لنا ستة شهور، والدكتور أبو زيد لم يقل لنا كلمة واحدة عن هذا الخطأ الفاحش. كيف يصح لأستاذ جامعي أن يؤلف بحثا يدور حول فكرة تعاون الإمام الشافعي مع الأمويين، ويستدل من هذا التعاون علي عدة نتائج، ثم يثبت أن الإمام الشافعي وُلِد بعد انتهاء الأموية بأكثر من 18 عاما؟ هل تقبل الجامعات الأمريكية أن تمنح طالبا شهادة جامعية إذا قدم بحثا يثبت فيه تعاون جورج واشنجتون مثلا مع الاستعمار الفرنسي للعلاقات التي كانت تربط واشنجتون بنابليون؟ هل يمكن منحه أي درجة علمية؟" فكان جواب المذيع: لا طبعا".

ومما يدل على أن الأمر يرجع إلى عيب فى علم الدكتور نصر لا إلى سهو عارض عنده أنه أيضا ينسب ترك الشافعى للعراق إلى مصر أيام المأمون إلى اتجاه المأمون إلى الاعتزال وفرضه على الضمائر، على حين كان الشافعى ينفر من هذا الاتجاه، وهو كلام أقرب إلى الهزل والكاريكاتير منه إلى العلم وجِدّه، فقد مات الشافعى عام 204هـ، بينما أظهر المأمون القول بخلق القرآن سنة 212 هـ كما يقول ابن الأثير فى حوادث تلك السنة فى كتابه: "الكامل"، وإن لم يفرض عقيدة الاعتزال مذهبا رسميا للدولة لتبدأ بذلك المحنة المعروفة إلا عام 318هـ، أى بعد ذلك بأربعة عشر عاما كما كتب ابن الأثير أيضا فى حوادث ذلك العام! فكيف يعلل باحث يتشح بوشاح العلم حدثا بحدث آخر لم يقع إلا بعد وقوع الحدث الأول بأعوام؟ إنه بذلك يضع العربة أمام الحصان على عكس ما يريد الله وما يقول به العقل والمنطق. وسلم لى على العلمية والموضوعية والخيبة القوية (وانظر كذلك ترجمة المأمون فى كتاب صلاح الدين الصفدى: "الوافى بالوفيات"، وفى "نهاية الأرب فى فنون الأدب" للنويرى فى حوادث 218هـ، وكلام المستشرق البريطانى وليم موير (William Muir) فى الفصل الذى عقده للخليفة المأمون فى كتابه: "The Caliphate: Its Rise, Decline, and Fall" حيث تناول محنة خلق القرآن فى عهده بدءا من إعلانه فى 212هـ موقفه المساند للمعتزلة، ثم عمله بعد ذلك بست سنين على فرض هذا المذهب على العلماء، وكذلك "عصر المأمون" للدكتور أحمد فريد رفاعى/ مطبعة دار الكتب المصرية/ 1346هـ- 1927م/ 1/ 396- 397، وتقرير د. مصطفى الشكعة الخاص ببحث "الإمام الشافعى وتأسيس الأيدلوجية الوسطية" للدكتور نصر أبو زيد، والمنشور فى كتاب د. عبد الصبور شاهين: "قضية أبو زيد وانحسار العلمانية فى جامعة القاهرة"/ دار الاعتصام/ 45).

كذلك نرى د. أبو زيد ينسب عبد الله بن العباس رضى الله عنه إلى التابعين، إذ يقول بالحرف عن موقف بعض علماء القرآن الذين ينكرون أن يكون فى كتاب الله أية ألفاظ أعجمية: "وهذا هو اتجاه كثير من مفسرى التابعين، وعلى رأسهم عبد الله بن عباس، الذى عاصر النبى ودعا له بالفقه فى الدين وبعلم التأويل" (ص12 من الطبعة الأولى من كتاب "الإمام الشافعى وتأسيس الأيديولوجية الوسطية"). أما كيف يكون الشخص تابعيا، وفى ذات الوقت معاصرا للرسول عليه الصلاة والسلام، فأمر لا يجوز فى عقولنا نحن الدارسين المتواضعين، لكنه يجوز جدا جدا فى عقول العباقرة الذين يشبههم بعض الملاحيس بابن رشد ولا أدرى مَنْ أيضا من مفكرى أوربا فى عصر النهضة. والحمد لله أن قال الدكتور نصر إن النبى عليه السلام دعا لابن عمه بعلم "التأويل" لا بعلم "الهرمنيوطيقا" على عادة المتحذلقين الذين ينفرون من كلمة "عقيدة" أو "مذهب" وينسبون الشافعى رضى الله عنه إلى "الأيديولوجيات"، ويرمون د. شوقى ضيف بالرجعية والانغلاق والجهل بالهرمنيوطيقا والهارمونيكا والشيكابيكا الأنتيكة. دُقِّى يا مَزّيكة! إى والله: "الأيدلوجيات" بفجاجتها التى لا تتلاءم أبدا والشافعى وأمثاله، وكأنهم بعض ماركسيى عصرنا الضائعين الحقراء. وهو ما يذكرنى بالنكتة التى تقول إن امرأة فقيرة من قاع المجتمع كتب الله لها أن تتزوج رجلا من علية القوم هيأ لها عيشة مرفهة واشترى لها سيارة فخمة تركبها وتتنقل بها هنا وهناك حسبما تشاء. وذات عصرية كانت تتنزه على شاطئ النيل فرأت بائع ترمس يقف بجوار عربته، فما كان منها إلا أن أوقفت سيارتها وأشارت إلى الترمس قائلة للبائع فى اندهاشِ مَنْ يرى الترمس للمرة الأولى فى حياته: مِنْ فَدْلك أَعْتِنى بخمسة ساغ بعضا من هَزِهِ الزراير السَّفْراء التى على العربة".

ومن غرائب ما قاله نصر أبو زيد كذلك إنكاره التام الذى لا مثنوية فيه أن تكون الوسطية سمة من سمات الثقافة الإسلامية وزعمه أنها، متمثلةً فى فكر الشافعى والأشعرى والغزالى، كل فى ميدانه، إنما ترجع إلى ظروف العصر آنذاك، وأنه لو كانت الظروف قد اختلفت لتغيرت تلك الوسطية ولم يكن لها وجود (انظر ص5- 6 من كتاب "الإمام الشافعى وتأسيس الأيديولوجية الوسطية"). أى أن الوسطية ليست جوهر ثقافة الإسلام. ومعنى هذا أنه ينكر ما جاء فى القرآن والحديث من أن المسلمين أمةٌ وسطٌ، إذ قال سبحانه وتعالى: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا" (البقرة/ 143)، وجاء فى أحاديث المصطفى عليه السلام: "يُدْعَى نوح يوم القيامة، فيقول: لبيك وسعديك يا رب. فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم. فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير. فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته. فيشهدون أنه قد بلغ. "ويكون الرسول عليكم شهيدا". فذلك قوله جل ذكره: "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا". والوسط العدل"، "يجيء النبي ومعه الرجلان، ويجيء النبي ومعه الثلاثة، وأكثر من ذلك وأقل، فيقال له: هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم. فيُدْعَى قومه، فيقال: هل بلغكم؟ فيقولون: لا. فيقال: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته. فتُدْعَى أمة محمد، فيقال: هل بلغ هذا؟ فيقولون: نعم. فيقول: وما علمكم بذلك؟ فيقولون: أخبرنا نبينا بذلك أن الرسل قد بلغوا، فصدقناه. قال: فذلكم قوله تعالى: وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا".

ولنفترض رغم ذلك كله أن الوسطية من صنع الشافعى والأشعرى والغزالى، فكيف تقبلتها الأمة ورضيت واستمسكت واتخذتها منهجا إلا أن يكون ذلك المنهج هو المنهج المناسب لها؟ وإلا فهل ضرب هؤلاء العلماء الثلاثة الأمة على يديها وأكرهوها على اعتناق هذه الوسطية وإيثارها على غيرها من المناهج؟ على أن نصر أبو زيد لا يكتفى بهذا الذى قاله على ما فيه من عُرٍّ واضطراب فكر، ولا يرضيه أبدا أن تكون أمة الإسلام أمة وسطا، بل يقول إنه لا بد من نزع لباس القداسة عن هذه الوسطية، وهو ما حاول فعله فى ذلك الكتاب. وليس لهذا كله من دلالة إلا أنه يريد اتخاذ التطرف سبيلا، إذ ليس لكراهية الوسطية والعمل على نزع لباس القداسة عنها إلا أن كارهها يؤثر سبيل التطرف عليها. أم ترى لكلامه معنى آخر غير هذا؟ وفى لسان الضاد يرتبط الوسط بالخير واليمن والشرف والتفوق. جاء فى "أساس البلاغة" للزمخشرى: "ومن المجاز: هو وسطٌ في قومه، وسطةٌ ووسيطٌ فيهم. وقد وَسُطَ وساطة. وقوم وسطٌ وأوساط: خيار. "وكذلك جعلناكم أُمّةً وَسَطًا". وقال زهير:

هُمُ وسطٌ يرضى الأنام بحكمهم * إذا نزلت إحدى الليالي بمُعْظِمِ

وهو من واسطة قومه، وهو أوسط قومه حسبًا. واكتريت من أعرابيّ، فقال لي: أعطني من سِطَاتِهِنّه. أراد: من خيار الدنانير". وهناك "الوسط الذهبى: Golden mean" فى الديانة الكونفوشيوسية والفلسفة الأرسططاليسية. بل إن الحياة كلها قائمة على التوازن والاعتدال، أى الوسطية. ترى ألم يسمع أبو زيد بالحكمة القائلة: "خير الأمور الوسط"؟

وما دمنا مع الشافعى رضى الله عنه فمن المناسب أن نشير إلى حملة أبو زيد على ذلك الإمام جَرّاء تأكيده أن القرآن ليس هو المعنى وحده، بل يشمل اللفظ والمعنى جميعا، وإيجابه من ثم قراءة الفاتحة فى الصلاة بالعربية حتى على الأعاجم، على عكس أبى حنيفة، الذى يجيز لهم قراءتها مترجمة إلى لغتهم حتى لو كانوا يستطيعون أداءها بالعربية، وإن قال بكراهية ترجمتها فى هذه الحالة الأخيرة فقط، وهو ما يعنى أن الصلاة رغم ذلك صحيحة. ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يأخذ أبو زيد على الشافعى رضى الله عنه اشتراطه أن تُقْرَأ "الفاتحة" بذات الترتيب الذى نزلت به فلا تقدَّم آية أو تؤخَّر عن موضعها الذى هى عليه فى المصحف (انظر ص18- 20 من كتابه عن الإمام الشافعى/ ط1). والواقع أن موقف الشافعى هو الموقف الصواب لأن القرآن قد وصف نفسه مرارا بأنه عربى، ولو كان المعنى وحده هو المقصود بالقرآن لما قال ذلك، إذ المعروف أن جنسية أية لغة إنما تتعلق بالألفاظ لا بالمعانى. وعلى هذا فعندما يقول القرآن عن نفسه إنه عربى فالمقصود أن ألفاظه وتركيباته وتعبيراته عربية. ولا أدرى لماذا يناصر أبو زيد بكل قواه الصلاة بهذه الطريقة الخواجاتى. إن المسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها، عربا كانوا أو غير عرب، يؤدون صلواتهم كلها تكبيرا وتحميدا وتسميعا وتسبيحا وقرآنا، لا فاتحة فقط، باللغة العربية، لغة القرآن، ولم يشكُ له أحد منهم صعوبة الأمر. بل إن حَفَظَة القرآن الذين لا يعرفون العربية من الشعوب الأعجمية ليُعَدّون بالملايين. وهذا أمر معروف، فكيف يفترض مفترض أن أحدا من المسلمين يصعب، ولا نقول: يستحيل، عليه أن يحفظ آيات "الفاتحة" السبع على قصرها وسهولتها وبساطتها البالغة؟ نعم، إن الله سبحانه وتعالى ليس عربيا، وسوف تصل إليه صلواتنا سواء أكانت بالعربية أم بلغة الإسبرانتو، إلا أن الأمر لا ينبغى أن يُنْظَر إليه على هذه الشاكلة، بل على أساس دلالة الأمور. فكيف مثلا يكون شكل الصلاة، وكل مصلٍّ فى الصف يرطن بلغته القومية؟ أترانا فى مسجد أم فى برج بابل، الذى يذكر العهد القديم أن الألسنة قد تبلبلت فيه؟ وأين معانى الوحدة التى ينبغى أن تسود بين المسلمين، وكل منهم يصلى بلغة تحتلف عن لغة الآخرين، وكأن كلا منهم قد أعطى ظهره لإخوانه وراح فى وادٍ غير الوادى؟ لقد نزل القرآن باللغة العربية ووصفه الله بالعروبة، فينبغى من ثم أن نقرأه فى صلاتنا بلغته التى نزل بها، وإلا ما كان الذى نقرؤه قرآنا، بل ترجمة للقرآن. ونحن لسنا فى معرض ترجمة للقرآن بل فى معرض قراءة له. ترى كيف يسهل على الأعجمى أن يترك دين قومه وعقائدهم وتشريعاتهم وأسلوبهم فى الأكل والشرب واللبس والمسكن والطهارة، ثم يعجز عن أن يحفظ الفاتحة، تلك السورة التى لا يأخذ حفظها منه أكثر من عدة دقائق؟ أما ضيق أبو زيد باشتراط الشافعى قراءة السورة بذات الترتيب الذى نزلت وقُيِّدَتْ به فى المصحف فلست أفهم سره. أهى معاندة والسلام؟ وكيف يا ترى يحب د. نصر أن نرتب له آيات تلك السورة؟ أم إن كل ما يريده هو أن يكون لها ترتيب مخالف للترتيب الذى أنزله الله سبحانه على نبيه بها؟ بالله عليك أيها القارئ هل تراه يصح أن يقرأ أحدهم "الفاتحة" هكذا مثلا: "صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)"؟ ألن تقول من فورك: أىّ خَبَلٍ هذا؟ ذلك أننا لسنا فى سيرك للألعاب البهلوانية، بل فى صلاة نقف فيها أمام الله فى خشوع وإخبات تامين. و"الفاتحة"، كأى نص لغوى، ليست مجرد ألفاظ وعبارات والسلام، بل ألفاظ وعبارات مرتبة على نحو معين، ولو رتبناها بطريقة أخرى لكان لها معنى مختلف قليلا أو كثيرا، وربما لم يكن لها معنى مفهوم البتة. ونحن إنما نقف أمام الله لنقول له كلاما عاقلا لا رُقًى هزليةً تبعث على الضحك. ومقام الألوهية لدى المؤمن أكبر وأجل وأعظم وأمجد من أن نصيخ فيه السمع إلى تُرّهات أبو زيد، حتى لو كان أبو زيد الهلالى سلامة. فما بالك، وهو أبو زيد نصر حامد؟ حسبنا الله ونعم الوكيل. وصدق من قال: الجنون فنون".

ومن أفانين أبو زيد العجيبة، وما أكثرها ، أنه يرتب على قول الشافعى باتساع العربية حتى لا يحيط بها سوى نبىٍّ القول بأن تفسير القرآن إذن غير ممكن لأن القرآن صورة مصغرة للعربية كما يقول (ص11- 12 من كتابه عن الإمام الشافعى). ولا أدرى من أين أتى بهذا الهراء. فأولا من قال إن القرآن صورة مصغرة للعربية؟ بل كيف يكون صورة مصغرة منها أصلا؟ هل القرآن صورة "أربعة فى خمسة" مثلا من اللغة بحجمها الطبيعى؟ إن القرآن لا يحوى من ألفاظ اللغة وعباراتها إلا جزءا محدودا جدا. وأى كتاب مهما كان حجمه لا يمكن أن يستوعب اللغة. بل إن المعاجم المبسوطة ذاتها لا تستوعب اللغة. بل إننا لو جمعنا المعاجم كلها ما غطت جميع ألفاظ اللغة وعباراتها، على الأقل لأن اللغة تتسع كل يوم بما يستجد بها من كلمات وتعبيرات لم يكن السابقون يعرفون عنها شيئا. وعلى كل حال فلو صح ما قاله أبو زيد من أن القرآن صورة مصغرة للغة لصدق هذا على كل كتاب، إذ الألفاظ والعبارات محدودة العدد فى أى كتاب بالنسبة إلى محيط اللغة الزخار. كذلك لم يحدث أن قال أحد من العلماء بعدم إمكان تفسير القرآن، فضلا عن أن عدد كتب التفسير الهائل يدل على نقيض ما يهرف به نصر أبو زيد. بل إن معظم كتب التفسير، كأى شىء آخر فى الحضارة العربية الإسلامية، قد ألفها غير عرب بحكم قلة عدد العرب فى الأمة. ثم إن أبو زيد، بعد كل هذه الضجة المصمة والمماراة المزهقة للأنفاس، يعود (ص22) فيقول بصعوبة الأمر فقط لا باستحالته، وعلى غير العربى وحده لا على العربى أيضا، وهو ما يكذبه الواقع والتاريخ حسبما أشرنا قبيل قليل. وهكذا يراوغنا الدكتور أبو زيد من صفحة إلى صفحة، وكأنك يا أبا زيد ما غزوت! ثم هو فى نهاية المطاف يفشل فشلا ذريعا.

وهو يزعم أيضا (ص15 من الكتاب السابق) أن قول الشافعى بنقاء القرآن من أية ألفاظ أعجمية إنما يمثل انحيازا أيديولجيا للقرشية التى بدأت يوم السقيفة. ترى ما علاقة ما قاله الشافعى، وهو خاص بـ"اللغات الأعجمية"، بما يقوله نصر أبو زيد مما يتعلق بـ"اللهجة القرشية"؟ ألا إن هذا لَخَلْطٌ شنيع. كما نراه يربط أيضا بين ذلك وبين أموية الشافعى المزعومة، إذ كان الأمويون ينزعون منزعا عروبيا على عكس العباسيين، الذين اعتمدوا فى نجاح ثورتهم ضد الأمويين على الفرس. وقد تبين أن ما قاله د. نصر عن ميول الشافعى نحو الأمويين وتعاونه معهم وتوليه عملا لهم بنجران إنما هو سمادير لا يفهمها العقلاء، فضلا عن العلماء، فلا داعى إذن لفتح هذا الجرح القديم. ثم أترى الشافعى، لو كانت ميوله عباسية، يقول بوجود ألفاظ أعجمية فى القرآن؟ فلماذا؟ هل العباسيون أعاجم، والأمويون هم وحدهم العرب؟ ألا يرى القارئ معى كيف يتخبط الرجل فى أفكاره وآرائه؟

وبهذه المناسبة فليس فى قول الشافعى بأن الخلافة ينبغى أن تكون فى قريش ما يؤخَذ عليه رضى الله عنه لأن المعروف أن قريشا فى ذلك الوقت كانت هى زعيمة العرب بسبب البيت الحرام الذى يقصدونه من كل أرجاء البلاد ويوقرون قريشا لقيامها على حفظه والقيام عليه، فضلا عن أن النبى صلى الله عليه وسلم منهم وأنهم هم أول من تلقى القرآن. ولو كانت المسألة مسألة عصبية لكان الشافعى رضى الله عنه قد قال إن الخلافة ينبغى أن تكون فى بنى هاشم، إذ هو هاشمى. فقوله بقرشية الخلافة معناه أنه لا يرى توارثها فى بنى هاشم، وهو موقف تقدمى عظيم لو عقلنا مرامى الكلام. ولقد اتهمه نصر أبو زيد أنه كان ضالعا مع العلويين، وذلك حين أراد أن يتخلص من المأزق الذى أوقعه فيه جهله فذكر عمالته للأمويين. فقوله رغم هذا إن الخلافة قرشية لا هاشمية ولا علوية معناه أنه كان فقيها عظيما لا تتدخل العصبيات القبلية فى أحكامه الفقهية. وهذا مثل قيام الجامعة العربية فى القاهرة دون بقية العواصم العربية. وإذا كان الأمر قد شذ فانتقلت الجامعة إلى تونس أثناء مقاطعة العرب لمصر بسبب زيارة السادات لإسرائيل وعقده معها صلحا فالمعروف أنه ما إن انتهت تلك المقاطعة بعد وفاة السادات حتى عادت الجامعة إلى مستقرها فى القاهرة. وحين كان الإعلام المصرى فى المقدمة كان العرب لا يعدلون بالإعلام المصرى أى إعلام آخر، أما بعدما تفوقت قناة "الجزيرة" عليه فقد انتقل العرب، ومعهم المصريون أيضا، إلى متابعة تلك القناة. وهكذا الحال مع قرشية الخلافة، إذ انتقلت الخلافة بعد هذا إلى الأتراك حين تخلى العرب، قرشيين وغير قرشيين، عن واجبهم نحو الإسلام. وقد درج المسلمون منذ عشرات السنين على المناداة باسم صلاح الدين الكردى دون أى قرشى، بَلْهَ دون أى عربى، يتمنَّوْنَ لو عاد فخلصهم من الهوان الذى هم فيه. والآن يعلقون آمالهم بأردوغان التركى، إذ نظروا حولهم فوجدوا جميع الزعماء العرب منبطحين أذلاء، فرَجَوْا أن يكون أحسن منهم، وانتظروا حصول الخير على يديه.
 
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف