الأخبار
2024/5/17
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

حتى أتانا اليقين بقلم عادل بن مليح الأنصاري

تاريخ النشر : 2010-05-19
حتى أتانا اليقين .. بقلم عادل بن مليح الأنصاري

حتى أتانا اليقين ..
هو حديث الموت , ذلك الموقف القريب البعيد , كأننا متيقنين أن هذا الزائر الحتمي يمر على الجميع ليلقي عليهم تحية الحياة الأخيرة وينسانا دوما , عندما تتوجه إلى مناسبة عزاء ربما يصعب عليك أن تتخيل بعض الناس وهم يتوجهون ذات يوم إلى حيث يؤخذ عزاك أنت , نلهث خلف هذه الدنيا الفانية ولا نملك اليقين الكافي باستمرار ثوانيها وأيامها , ربما نظلم , نسرق , نزني , نأكل المال الحرام , تقطع الرحم , وربما نزهق نفوسا بريئة وأخر ما نفكر به هو هذا اليقين .
تخيل لو أن طبيبا أنبأك أنه لم يتبق لك في الحياة غير أيام , وأنت غارق في الحرام , فأي شيء تفكر فيه عندها وترغب في عمله قبل أن تفارق هذه الدنيا , من المؤكد هو إعادة النظر في علاقتك مع الله , تتخلص من ممارسة تلك المحرمات وتوابعها قبل كل شيء ثم تتفرغ لترتيب أمور أسرتك وما يضمن لهم حياة كريمة من بعدك , طبع هذا إذا امتلكت الوقت الكافي لفعل كل هذا , فلو قدر لك أن تمتلك ذلك الوقت فأنت محظوظ وقد منحك الله فرصة نادرة للتوبة ورد المظالم ما أمكن , ولكن هل فكرت لو أن هذا اليقين جاءك بغتة ودون سابق إنذار , ربما تمر أمامك لحظات فقط تتمنى فيها لو أن الله يمنحك ساعات أو أيام لتعيد ترتيب أوراق حياتك , ربما تكون المظالم أثقل من أن تفكر فيها في تلك اللحظات .
لماذا .. نترك هذا الهم والثقل حيث لا وقت ؟
نحن ننسى أمر اليقين ونغرق صباح مساء في ألا يقين .
العجيب والغريب أنه مهما عظمت مظالم بعض الناس وتراكمت ذنوبهم وتضخمت أفعالهم السيئة إلا أنهم لا يفكرون لحظة واحدة في وقت الحساب والجزاء , وربما يسوفون التوبة أو لا يهتمون بما بعد اليقين ومواجهة رب العالمين .
وربما الأعجب والأغرب وما يمكن أن نسميه جبروت البشر , أن تجد من هو في سن لا يفصله بحسابات المنطق عن اليقين إلا لحظات أو أيام , وهو يعرف أن داعي اليقين ربما يزوره فجأة في أي ثانية من ثواني هذه الحياة الفانية , وتجده يعب من المظالم ويوغل في المحرمات واكل مال الناس بالباطل , وربما تكدست لديه المليارات التي جمعها من الغل والربا والسلب المبطن والنهب الخفي والظاهر ويقول هل من مزيد !!!
وكأنه في مأمن عن مكر الله أو خارج دائرة اليقين , هل من الصعب على ذلك العقل البشري أن يمر في خلده أن مساحة حقيرة من هذه الأرض الواسعة تنتظره بظلامها ورطوبتها وعفونتها ودودها وضيقها في أي وقت وفي أي لحظة من لحظاته القليلة الباقية ؟
خسر البيع ..
خسر البيع أيها الغافل الذي ران على قلبك ما أنت فيه .
تلك قسمة ظالمة التي قسمتها بين حياتك القليلة الفانية وبين حياتك الخالدة حيث لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم .
ها أنت بحضرة اليقين , وانقشعت الغمة وتحشرج الصدر , هاك لك بضع ثوان تمتع فيها بذهبك وملياراتك وتفكر , ماذا سينزل معك في حفرتك تلك , مزارعك , مسابحك , طائراتك , حساباتك السرية والعلنية , فتياتك اللاتي يحطنك متبرجات كاسيات عاريات , يخوتك , قصورك , (حرائرك وبدلاتك وبشوتك وعودتك) تذكر وأنت في كامل عافيتك وتمتلك من هذه الدنيا لحظات غالية تمكنك من مراجعة حساباتك مع آخرتك وربك , أنه لن ينزل معك إلا قطعة قماش بيضاء لا تتعدى قيمتها 50 ريالا من كل ذلك الكم الهائل من الحسابات والأرصدة والعقار والأراضي والمزارع والقصور والسيارات الفارهة , ثم يأتيك السؤال المخزي ( ومالك كيف اكتسبته وفيم أنفقته ) .
هل لي بسؤال أيها الغافل عن أمر اليقين :
لمن تركت كل ما جمعت وبكل وسائل الشر ( وهنيئا لمن جمعها حلالا وأنفقها حلالا وبنى أخرته قبل دنياه) , ربما اهتم ورثتك بتقسيمها قبل اهتمامهم بالترحم عليك , وربما تقف بين يدي الله وتتمنى لو عادت بك الحياة لتجمعها بخير وتنفقها بخير لتفوز في هذا الموقف العصيب , عندها تمر دنياك كثوان معدودة أمام ناظريك (كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أوضحاها) , وتقول في نفسك : ماذا لو أنفقتها وأنا في أرذل العمر في وجوه الخير , كم من أسرة كان يمكن أن أوفر لها حياة كريمة , كم من شاب أمنت له عمل وبيت وزوجة , كم من رجل أو امرأة تلقى العلاج بأموالي , وكم وكم وكم .
هل تخيلت عدد الأيدي التي ترتفع صباح مساء لتدعو لك ؟
وهل وصلك في دار اليقين دعاء الأيدي التي تدعوا عليك؟
ربما ينطبق هذا العرض على كل إنسان على وجه الأرض , فقيرهم وغنيهم أنثاهم وذكرهم , شابهم وشيخهم , ولكن أصحاب الثروات ربما أقدر على نماء الرصيد السماوي عبر دعاء المحتاجين ونتاج الأعمال الخيرية وبناء المساكن لهم والمستشفيات ودور العجزة والمعاقين والأيتام , فالصلاة والدعاء والصوم والحج للجميع , ولكن الإنفاق المؤثر في المجتمع للأثرياء وحدهم .

ذات مساء كنت عند أحدهم قبل أن يجري عملية قلب , كان لا يدري هل سيعيش أو يموت بعدها , نظر من نافذة الغرفة فرأى شكلا جماليا في الشارع , كان كثيرا ما يمر عليه عندما كان في أتم صحة وعافية , قال لي : لا أدري بعد ساعات هل مقدر لي أن أرى هذا الشكل مرة أخرى , تحدث معي كيف كان يمر أمامه ولم يخطر بباله يوما أن يراه من نافذة المستشفى يوما وهو على وشك أن يودع الحياة , قال : كم أتمنى أن يأتي يوم و أمر عليه وأتذكر رقدتي هذه وشعوري بدخولي دار اليقين , من المؤكد أنني سأصحح كثيرا من أوضاعي وأعالج أخطائي وأصحح مساري مع ربي وأدخل قبري وألقى ربي بقلب سليم , ثم أردف : هل تعلم أنا مندهش كيف لم تتجلى لي حياتي قبل الآن , الآن أتذكر كل ذنوبي وأخطائي وتقصيري مع ربي , لماذا نسيت ما يجب أن أتيقن منه فقط في هذه الدنيا الفانية ؟ لماذا نسيت (الموت) ؟
هل تعلم كم من عزاء حضرت , وكم من نعش حملت , وكم من ثرثرة حول الموت تشدقت بها , وكم من الحكم والأمثال والعبر سمعت , كلها كانت محض كلام ودخان تبدد قبل أن تتبين معالمه , الآن فقط أحسست بكل ما تحمله تلك المواقف من غصة وإحساس حقيقي بتداعياتها , لماذا , لأنني أضع أقدامي على أولى عتبات اليقين .
لقد مُـنح صديقي هذا فرصة أخرى , ومررت معه عدة مرات أمام ذلك المجسم الجمالي وتذكرنا تلك اللحظات ( أصدقكم القول لقد تغير كثيرا كثيرا من تلك اللحظات , وإن لم يكن بالقدر المثالي , ولكنه تغير حقيقي وجذري ) .

هل يجب أن نقترب من الموت ونلمس أطراف جلبابه لنعرف ما نحن عليه وما يجب أن نفعل , هل هناك ما يضمن تملكنا لفرصة الندم والتغيير والتصرف قبل الوقفة العظيمة ؟

إن الدهشة العنيفة تصيبني عندما أرى أو أسمع أو اقرأ عن أحدهم وهو قد تجاوز السبعين , وقد لمس جلباب الموت مرات ومرات ولا يتوانى بل يحرص على جمع الثروة وتكديسها حيث لا يعلم , وحيث لا يدري كيف تُصرف ومن يصرفها , وربما الأدهى والأمر أنه يعلم أن أعداء الله يتمتعون بها أكثر منه , هناك من بين ظهرانينا أسر لا تجد ما يسد رمقها , وهناك أسر لا تعرف شكل اللحم والفاكهة , وهناك أسر تسكن الصناديق والخيام الممزقة , وهناك أسر لديها أطفال معاقين , وآخرين يتكدسون في غرفة واحدة , هناك شباب وفتيات يحلمون بحياة كريمة , زواج وبيت وأسرة وأطفال , هناك فتيات وشباب وأطفال أيضا يحلمون( بلاب تو وجوال وبلاي ستيشن ) أليس من حقهم ذلك , هناك شاب يتوسد أحزانه عبر ليلة ظلماء يتفجر شبابا وحيوية وتمزقه الأفكار ولا يحلم إلا بزوجة صالحة وشقة غرفتين , وهناك فتاة تعبث بشعرها كل مساء وتنظر لكثبان الظلام , تتقلب شوقا لمعاني الحياة ولا تحلم إلا بذلك الشاب وتلك الغرفتين وطفل تمنحه دفئ صدرها وتسكب علية أبهى مشاعرها , وهناك رب أسرة يحلم أن يدخل على أطفاله بلعب كثيرة , وطعام لذيذ يحلم أن يدخل على زوجته بعقد أو سوار أو فراش جديد وأن يأخذهم مساء الخميس للبحر أو البر ولكنه لا يملك سيارة أليس من حقه أن يحلم بسيارة ؟ .

سنة الحياة أن يكون هناك فقراء وأغنياء , ولكن ألا يستطيع بعض من الأثرياء أن يتخلوا عن جزء يسير من الثروات المكدسة في مصارف الغرب والشرق ليحققوا حلم تلك الفتاة وذلك الشاب وهذا الرجل .

في دار اليقين ستتحول تلك الأرصدة في مصارف الغرب لنار تصهر على الجلود وهذا ليس قولي إنه قول صاحب دار اليقين رب العالمين حيث يقول سبحانه (يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لانفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون ) وما أقربه من يوم لو تأملنا في حياتنا الآن أليس الشهر كالأسبوع والأسبوع كاليوم واليوم كالساعة هل أبالغ في تصوري هذا أليس هذا تصديقا لقوله تعالى (كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أوضحاها ) .
وأيضا في دار اليقين ستتحول تلك الأموال التي غيرت حياة تلك الفتاة وذلك الشاب وهذا الرجل , وربما المئات غيرهم إلى أكف تدعوا لصاحبها ليل نهار فتمهد له طريق الجنة ,

أليس هذا بيع رابح يا أصحاب الثروات .
أليس هذا بيع رابح يا أصحاب الثروات .
أليس هذا بيع رابح يا أصحاب الثروات .
أليس هذا بيع رابح يا أصحاب الثروات .



هي دعوى من دار اليقين وقبل أن تحملنا الأكف إليها , لي , ولك , ولها , أن نرمي حجر الأساس لدار لا نظمأ فيها ولا نضحى , ولا نجوع فيها ولا نعرى , ونبعد عنا وقفة خزي أمام رب العالمين .
ولنتذكر أننا نملك الوقت الآن لتفادي وقتا لا نملكه ونتمنى لو نملك ثانية منه ذات وقت .
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف