الأخبار
2024/5/17
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

الكلمة والسيف بقلم عادل بن مليح الأنصاري

تاريخ النشر : 2010-05-17
الكلمة والسيف .. بقلم عادل بن مليح الأنصاري

فئتان من البشر غيروا وجه العالم بشكل جذري , الأنبياء والقادة , ولكن ثمة فرق في الطريقة التي سلكتها كل فئة , فالأنبياء غيروا وجه العالم بالكلمة والقادة بالسيف .
قبل ظهور الدولة الحديثة بدأت المجتمعات البشرية في التكون والتوجه من الحياة البدائية التي تقوم على الفردية في مواجهة البقاء إلى التكلات الاجتماعية المتعاونة فيما بينها للتغلب على صعوبات هذه الحياة , ثم ظهر الأنبياء والقادة , ليس مهما من ظهر قبل من , ولكن المهم أن هذا العالم كان من الممكن أن يتشكل بوجه غير الذي نعرف لو انفردت فئة من الفئتان بمفاتيح التغيير والتشكيل لوجه المجتمع البشري .

الأنبياء حملوا الكلمة وعاشوا في حدود تلك الكلمة بكل ما تختزنه من معاني نبيلة , فكانت سلوكياتهم أهم عنصر في أدوات قدرتهم على التغيير , كانوا يؤثرون بدء من محيطهم القريب ثم تنطلق كلمتهم للأبعد , ولو قدر لهم أن يمضوا في محاولاتهم إلى ما لا نهاية لربما غطت كلمتهم وجه الأرض , ولو قدر لهم ذلك لكان المجتمع البشري وحدة اجتماعية متجانسة ومتماسكة , حتى لو ظهر من بين شعوب الأرض قادة متمسكين بقدسية الكلمة التي طبعت من قبل الأنبياء فلربما كانوا قادة أشبه بتلاميذ لهم أي قادة يحافظون على الإرث النبوي ويتصرفون في حدود ذلك الإرث .

أما القادة فهم الفئة التي حملت السيف ومهدوا طريق التغيير والتأثير بالدم , ولو أراد الخالق أن يستأثروا بوجه العالم لما خرجت البشرية من بحور الدماء , ولولدت سلطة أو دولة أو أي كيان سياسي في كل شبر من الأرض .

كانت كلمة الأنبياء توحد البشر نحو الاستسلام لرب البشر والسير على منهاج يضعوه بناء على اتصالهم بالله , كانت طريقة إلهية للتعايش بين تلك الأجناس المتنوعة من البشر تحكم حياتهم منذ استيقاظهم من النوم وحتى استسلامهم له أخر النهار , والشرائع السماوية المختلفة حافلة بأنماط السلوك القويم الذي يحول حياة الناس لجنة دنيوية لا توصف .

وعلى النقيض كانت سيوف القادة تنشر الخراب والدمار والموت والخوف , وكانوا لا يتورعون في إدخال شعوبهم ولأعوام طويلة في حروب ودم من أجل غاية ربما تكون أحيانا شخصية أو قائمة على تصرف (سيكيوباتي) بحت , وربما قضى جيل من الشباب أبهى سنوات عمره وهو يقاتل من أجل قضية لا يؤمن بها أو ربما لا يعرفها , قرأت ذات وقت أن أما روسية بكت ابنها الذي مات في حرب عابثة وعندما واساها أحدهم قالت : (كنت أتمنى أن أعرف القضية التي مات ابني من اجلها ) .

إذا هي سيرة طويلة للمجتمع البشري بين الكلمة والسيف , ولكن لمن كانت الغلبة دائما ؟

عند بداية تكون المجتمع البشري ومنذ الأسرة الأولى لأبيهم آدم ولد الموقف الأول بين الكلمة والسيف , فقابيل كان البادئ في فرض رأيه بالسيف وهابيل كان صاحب الكلمة , قال قابيل ( لأقتلنك) وقال هابيل (ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك) ثم يشير هابيل للمنهج الذي يتبعه في إيمانه بقوة كلمته وهو (إني أخاف الله رب العالمين ) , هكذا ولدت المجابهة الأولى بين السيف وبين الكلمة , وربما كانت الغلبة للوهلة الأولى للسيف , وهي غلبة سريعة متسرعة متهورة يحكمها الغضب والحقد , وربما سقطت قوة الكلمة سريعا أمام سطوة السيف , ولكن المجتمع البشري لديه الوقت الكافي لقطف ثمار ونتائج تجاربه , لقد أثبت التاريخ أن النصر السريع ليس دائما نصرا حقيقيا ولكن النصر الحقيقي هو مدى تأثير الموقف أيا كان على المدى الأبعد , فهاهو قابيل وبعد قطف ثمار نصره السريع يقع في دائرة الندم الطويل الذي يسحق في طريقه لذة التفوق الخاطف (قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) .

ربما ورث أبو السيف الأول قابيل جزئية الندم تلك لأحفاده القادة أصحاب السيف , فمثلا عندما وقف نابليون وهو القائد الفرنسي والذي يعد من أكبر حملة السيف في التاريخ على تحطم عساكره في روسيا بردا وجوعا وتمردا شعر عندها بنوع من الندم على تلك المغامرة التي لا مبرر لها والتي راح ضحيتها أكثر من 25 ألف إنسان , وكذلك القائد البشري الكبير هتلر والذي يعد انتحاره نوعا من الندم على عدم انتصاره ونشر سلطته بقوة السيف .

مات الأنبياء وورثوا كلمات تشكل حياة ملايين البشر وتقبع داخل أفئدتهم وتمدهم بأرقى المعاني السامية والطمأنينة النفسية لكل المؤمنين بها , وورثوا نوعا من الوحدة المتجانسة التي تجمع أعراقا وشعوبا مختلفة الأماكن والاتجاهات والأفكار والرؤى والتطلعات ولكن تجمعهم كلمة نبي , هذه الكلمة هي الفيصل إذا ما اختلفوا وهي الملاذ إذا ما تشتت أفكارهم وهي الحصن إذا ما تفرقوا .

إذا ما الذي يؤجج نار الصراعات بين أبناء الكلمة الواحدة ؟

إنها ولا شك سلطة السيف .

ستظل الحياة البشرية تتقاذفها سلطة السيف وسلطة الكلمة , وربما كانت سلطة السيف أقوى وأسرع وأدهى وأمر وتمتلك الرقاب , ولكن من المؤكد أن سلطة الكلمة تقبع في النفوس هادئة تبني بصمت وتمتلك القلوب , ربما نصرها بعيد ومحبط في أزمنتنا الحديثة نوعا ما , ولكن التاريخ لا يُقهر , وكمثال على ذلك تلك الكلمة التي نزلت من الخالق , كلمة واحدة على محمد صلى الله عليه وسلم وهي ( اقرأ ) حملها محمد وجابه سيوف قريش , وكسرى وقيصر ( أعظم قوتان على الأرض ) فانطوت شعوب تلك الحقبة من الزمن تحت لوائها , وإلى أن تقوم الساعة ستظل لتلك الكلمة ( اقرأ ) سحرها الرباني على مختلف المجتمعات البشرية .

وسيظل السيف يفرق , وستظل الكلمة تجمع , هذه سنة الحياة في الأرض منذ أن قالها أبو الكلمة الأول (هابيل) : (ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك) , وسيظل حال البشر مع الكلمة والسيف كما قال تعالى : ( مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ) .

فالسيف يقتل والكلمة تحيي .
وقتل الواحد كقتل الكل .
وإحياء الواحد كإحياء الكل .
ولن يصلح حال البشر إلا بكلمة تحيي الكل .
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف