الأخبار
بعد جنازة السعدني.. نائب مصري يتقدم بتعديل تشريعي لتنظيم تصوير الجنازاتبايدن يعلن استثمار سبعة مليارات دولار في الطاقة الشمسيةوفاة العلامة اليمني الشيخ عبد المجيد الزنداني في تركيامنح الخليجيين تأشيرات شنغن لـ 5 أعوام عند التقديم للمرة الأولىتقرير: إسرائيل تفشل عسكريا بغزة وتتجه نحو طريق مسدودالخارجية الأمريكية: لا سبيل للقيام بعملية برفح لا تضر بالمدنييننيويورك تايمز: إسرائيل أخفقت وكتائب حماس تحت الأرض وفوقهاحماس تدين تصريحات بلينكن وترفض تحميلها مسؤولية تعطيل الاتفاقمصر تطالب بتحقيق دولي بالمجازر والمقابر الجماعية في قطاع غزةالمراجعة المستقلة للأونروا تخلص إلى أن الوكالة تتبع نهجا حياديا قويامسؤول أممي يدعو للتحقيق باكتشاف مقبرة جماعية في مجمع ناصر الطبي بخانيونسإطلاق مجموعة تنسيق قطاع الإعلام الفلسطينياتفاق على تشكيل هيئة تأسيسية لجمعية الناشرين الفلسطينيينمسؤولون أميركيون:إسرائيل لم تضع خطة لإجلاء المدنيين من رفح..وحماس ستظلّ قوة بغزة بعد الحربنتنياهو: سنزيد الضغط العسكري والسياسي على حماس خلال الأيام المقبلة
2024/4/23
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

مخيم نهر البارد فضاء للاستثناء بقلم ساري حنفي وإسماعيل الشيخ حسن

تاريخ النشر : 2009-09-06
إعادة إعمار مخيم نهر البارد وحكمه: نموذج "مثالي" للإقصاء
بقلم ساري حنفي وإسماعيل الشيخ حسن


مخيم نهر البارد فضاء للاستثناء
تبدو الاوضاع المحيطة بتدمير مخيم نهر البارد مثيرة للقلق على أكثر من صعيد. فعلى الرغم من تبرؤ اللاجئين العلني من "فتح الاسلام"، ألقت بعض وسائل الاعلام اللوم فيما يتصل بهذه الظاهرة على المخيم وعلى اللاجئين، وذلك من دون إجراء أي تحقيق يتناول مصادر تمويل هذه المجموعة والجهات التي تقف وراءها. وخلال المعركة تم اعتقال لاجئين فلسطينيين في جميع أنحاء لبنان عند الحواجز التي أقامها الجيش أو قوى الأمن الداخلي، وجرى حصار المخيم وإعلانه منطقة حرب، كما منع الجيش دخول مواد للاغاثة، أو دواء، أو الصحافة. وفي حين فضّل اللاجئون في بداية المعركة البقاء في المخيم خشية أن تؤدي مغادرتهم المخيم الى تدميره بالكامل، فإن القصف العشوائي الشديد الذي لم يستثن المنازل والمدارس والمساجد، أجبر السكان في النهاية على إخلائه تماماً. وهذه هي الحادثة الاولى التي يغادر فيها الفلسطينيون مخيماً لهم من دون الدفاع عنه، الامر الذي يؤكد انتفاء الصلة بين اللاجئين الفلسطينيين و"فتح الاسلام". وخلال الأشهر الاربعة التي دارت فيها المعركة، تم تدمير المخيم القديم بالكامل، وصار ركاماً بعد هدم 1700 منزل كان يضمها، هدماً كاملاً. وبعد محاولة للهرب قام بها الناجون من مقاتلي "فتح الاسلام"، أعلن الجيش إنهاء عملياته، وخروجه من المعركة منتصراً على الارهاب العالمي.
ومع أننا نعيش حالياً عصر "الحرب الكونية على الارهاب"، وعلى الرغم من الاوضاع الملتبسة المحيطة باستشهاد جنود الجيش اللبناني غدراً، فإن ثمة ما يدعو الى الشك في أن العرض العشوائي للقوة المفرطة، والذي تجاهل حقوق الانسان والملكية، كان يمكن أن يمارس ضد أي مكان "حضري" لبناني آخر. لكن نظراً الى كون مخيم نهر البارد "فضاء للاستثناء"، أي مستثنى من حماية القانون العام، ويؤوي لاجئين ليسوا بمواطنين، ومحرومين من الحقوق المدنية في لبنان، وتمثّلهم فصائل فلسطينية متناحرة، وتخدمهم وكالة تابعة للأمم المتحدة تفتقر الى التفويض بحمايتهم - فإنه كان في الامكان تدميره بالكامل.
واعتباراً من التاريخ الرسمي لانتهاء القتال في بداية أيلول، وحتى العاشر من تشرين الاول 2007، وُضع مخيم نهر البارد تحت الاشراف الكامل للجيش اللبناني، ولم يُسمح لسكان المخيم بالعودة اليه، ثم عاد بعد ذلك، الآلاف الى المنازل التي تعرضت للحريق والنهب والتخريب المتعمد. ويؤكد الاشخاص الذين قابلناهم، والذين قابلتهم بعثة تقصي الحقائق التابعة لمنظمة العفو الدولية، وجود نمط ممنهج لحرق المنازل ونهبها. كما حملت الكتابات الجدارية العنصرية البذيئة على u]] من بيوت المخيم، أسماء الفرق العسكرية اللبنانية المتعددة (Amnesty International 2006). ويبدو ان عناصر "فتح الاسلام" وبعض سكان المخيم هم من قاموا بأعمال النهب في بداية الامر، لكن الذين تابعوا هذه الاعمال لا بد من أن يكونوا ممن يعتبرون المخيم فضاء للاستثناء وخارج نطاق القانون، يمكن أن يُنهب وأن تُخرَّب الممتلكات فيه عمداً. ولغاية الآن، لم يجر أي تحقيق مستقل، على الرغم من أن منظمة العفو الدولية كتبت بهذا الشأن الى رئيس الحكومة اللبنانية، والى وزارة الدفاع اللبنانية، وطالبت بإجراء تحقيق وبمحاسبة المسؤولين (Amnesty International 2006).
واللافت أنه لم يجر أي نقاش عام في هذا الموضوع المهم. وبما أن المخيم يُعتبر فضاء للاستثناء، فقد شكّل منطقة طوارئ مُنع الشهود من دخولها: فحتى اللحظة لا يُسمح للصحافيين، ولا لمنظمات حقوق الانسان، بدخول المخيم من دون تصريح عسكري خاص. وهذا التعليق للقوانين هو الذي سهّل قيام التخريب المتعمد والنهب، فالسكان الفلسطينيون هم "الانسان المستباح والمُضحى به" (homo sacer، بالمعنى الذي يعطيه جورجيو أغامبن): أناس لا تُخرَّب ممتلكاتهم فحسب، بل تُنهب ايضاً، ومن دون السماح بملاحقة المجرمين.
ويشعر سكان مخيم نهر البارد بأن ما حدث في مخيمهم يمثل جزءاً من مؤامرة مخطط لها ضدهم، فقد قالت الغالبية الساحقة من الاشخاص الذين قابلناهم إنه كان هناك خيارات أخرى لحل مشكلة "فتح الاسلام"، كان من شأنها تفادي تدمير المخيم تدميراً كاملاً. فقد كان في الامكان حل المشكلة من خلال تدخل المقاتلين الفلسطينيين الذين يعرفون جغرافيا المخيم، الامر الذي يجعلهم أكثر كفاdة في هذا النوع من الحروب داخل منطقة كثيفة العمران، وأكثر حساسية إزاء ممتلكات اللاجئين ومبانيهم. أما الخيار الآخر فكان قيام وساطة أكثر فاعلية بين "فتح الاسلام" والجيش اللبناني.


التعاطي مع الحيز:
عملية التخطيط العمراني

استمر وضع الاستثناء وأولوية الأمن في الهيمنة على مشهد ما بعد معركة مخيم نهر البارد، وقد بدا ذلك واضحاً في عملية التخطيط العمراني لإعادة إعمار المخيم. فالهيئة الحكومية الرسمية المسؤولة عن التخطيط في لبنان، هي المديرية العامة للتنظيم المدني، لكن، خلال المناقشات المتعلقة بتطوير المخطط العام، والتي استغرقت عاماً كاملاً، كانت هذه المديرية المذكورة غائبة. والواقع أن الجهة اللبنانية المعنية، التي هيمنت على مشهد التخطيط وعلى المفاوضات، كانت الجيش اللبناني. ويمثل ذلك سابقة خطرة للبنان عامة، وللمخيمات خاصة، وذلك مع تنامي تدخل العنصر العسكري في الشؤون الحكومية المدنية بحجة الدواعي الامنية. إن وجود الجيش كان كفيلاً بإيلاء الأمن الأولوية في المفاوضات الجارية على المخطط التوجيهي العام، ثم تتدخل المديرية العامة للتنظيم المدني في نهاية هذه العملية الطويلة للموافقة رسمياً على المخطط العام.
وعلى رغم المأساة التي تنشأ في أوقات الازمات والحالات الطارئة من هذا النوع، والتي تتفاقم بسبب الفراغ السياسي "الظاهري" في المخيمات الفلسطينية، فإن المأساة، الى جانب ذلك، تتيح الفرصة أمام عدد من الشبكات الاجتماعية، وكذلك أمام الناشطين والحركات السياسية، لتوحيد جهودهم من أجل مواجهة المخاطر التي تواجه جماعة ما، أو مكاناً ما. فعلى المستوى المحلي في المخيم، بدأت المبادرات الشعبية المتعددة، والتي نشأت استجابة لمشكلات معينة محدودة ناجمة عن غياب الحكومة، وعن عدم تأمين الخدمات في المخيم، بتوحيد جهودها ومناقشة ما يمكن، أو يجب عمله، في أثناء سير المعركة وتدمير المخيم.
واللافت في حالة مخيم نهر البارد أن ناشطين وأكاديميين آخرين من مخيمات ومدن وبيئات أخرى، قاموا بتوحيد جهودهم مع المبادرة المحلية. والامر المهم بشكل خاص في هذه الشبكة الممتدة والمتنوعة، هو وجود معماريين ومخططي مدن استفادوا من المعارف التي اكتسبوها من عملهم، ومن دراستهم للسياسات العمرانية المختلفة، ولمشاريع إعادة العمران التي تساعد على تمكين المجموعات، وذلك من أجل وضع استراتيجيات فاعلة في مواجهة مشروع الدولة. وقد أطلقت هذه المبادرة على نفسها اسم "هيئة العمل الاهلي والدراسات لإعادة إعمار مخيم نهر البارد".
من جهة أخرى، أنشئ "برنامج" جديد لتحسين المخيمات التابعة لوكالة الغوث (الأونروا)، وذلك من أجل القيام بدور فاعل في إطلاق إعادة الاعمار والتخطيط العمراني، وهو جهد متواصل حالياً. وقد دعا هذا البرنامج الى مبادرة من منظار مختلف، الامر الذي ساهم في إيجاد مشاركة تامة بين وكالة الغوث وهيئة العمل الأهلي والدراسات، تجمع البعد الشعبي الى الخبرة المهنية. وانطلقت هذه المبادرة على الرغم مما وصفه علماء الاجتماع باختفاء الحيز العام الذي دمره العوز الاقتصادي، واستعمرته وسائل الاعلام، عدا السياق السلطوي العربي. كما تتحدى المبادرة المذكورة ما كان يُعتبر في العقود الماضية سلبية بعض اللاجئين الذين نشأوا على لعب دور الضحية.
ولعل سبب هذه الحماسة التي تجلت بين السكان هو اعتقادهم بوجود بعد سياسي في عملية تدمير مخيم نهر البارد، وفي مخطط الحكومة لإعادة إعماره. وقد ظهر ذلك واضحاً في إعلان عدة سياسيين، في أثناء سير المعركة، مخططات لتحسين المخيم تقوم على مبادئ ومعايير غير مقبولة لدى السكان المحليين. وبعد انتهاء المعركة، اتضح تماماً أن المفهوم العام للمخططات كان يرتكز الى شبكة منطقية من الشوارع العريضة التي تسمح بتطبيق ضوابط أمنية فاعلة، والى إسكان اللاجئين في شقق متماثلة بغض النظر عن أنماط عيشهم وبناهم الاجتماعية السابقة.
في أثناء الشهر الثاني من سير المعركة، قدمت هيئة إعادة إعمار مخيم نهر البارد المسودة الاولى لمبادئ إعادة إعمار المخيم، وكانت هذه نتاج ورشات عمل متعددة مع الاهالي، نظمها متطوعون في هيئة إعادة الإعمار، ونتاج اجتماعات مفتوحة واستطلاع آراء من خلال تعبئة استمارات. وبدأت المسودة بمطالبة الناس بالمشاركة في عملية تقويم مساحات البيوت، وأكدت الحاجة الى وضع خطة إعادة إعمار المنازل المدمرة كما كانت في السابق، الامر الذي يؤمن المحافظة على الوحدات السكنية الفردية، وعلى الاحياء، وطرق السير، والمعالم. وتمثل المطلب السياسي، في ما يتعلق بإعادة بناء المخيم، في أن يعود المكان "مخيماً" - وليس بلدة - أي كمكان إقامة موقت.
كان المطلب المعماري الاساسي يتمثل في الحفاظ على نمط البناء المرتبط بالعائلة الممتدة باعتباره حجر الزاوية في مباني المخيم، أي النموذج الذي يتمكن فيه الجيل الأصغر من البناء فوق منزل الوالدين وتأسيس أسر جديدة. ولم يكن سبب اختيار الإبقاء على هذا النموذج من البناء مقتصراً على الرغبة في الحفاظ على التماسك الاجتماعي للقرية فحسب، بل شمل سهولة التوسع المستقبلي وانخفاض تكلفته ايضاً (ولاسيما في بيئة تضم مجموعة سكانية مهمشة لا يسمح لها القانون بالتملك في لبنان). وفي النهاية، أعدت وكالة الغوث، بالاشتراك مع هيئة إعادة إعمار مخيم نهر البارد، خرائط وقاعدة بيانات بواسطة منظومة المعلومات الجغرافية (GIS)، إذ تم توثيق التفصيلات المكانية وتفصيلات الملكية في ما يخص جميع العائلات في المخيم - وذلك لاستعمال المعلومات قاعدة يتم على أساسها وضع المشروع النهائي لإعادة الإعمار.
لكن اعتماد مبدأ المشاركة لم يكن بالمهمة السهلة، فقد نجمت صعوبات بسبب موقف بعض مسؤولي الحكومة اللبنانية الذين لا يؤمنون بالمشاركة الشعبية الحقيقية، وإنما بالتعاون مع منظمات دولية ورسمية فقط، مثل وكالة الغوث، وكذلك موقف بعض مسؤولي منظمة التحرير الفلسطينية. وقامت وحدة تحسين المخيمات في وكالة الغوث بدور رئيسي في تمكين مشاركة الاهالي، وذلك من خلال المشاركة التامة لهيئة إعادة إعمار مخيم نهر البارد في عملية التصميم والمفاوضات كلها. ووافق رئيس الحكومة في نهاية الامر على الاقتراح الذي قدمته وكالة الغوث وهيئة إعادة إعمار مخيم نهر البارد، نظراً الى اقتراب
الموعد النهائي لمؤتمر فيينا الذي اصر فيه المشاركون – المانحون على تقديم خطة إعادة إعمار جاهزة في المؤتمر.
وكانت المفارقة رؤية المسؤولين الحكوميين اللبنانيين يتباهون بعد ذلك، وأمام المانحين ووسائل الإعلام المحلية، بأهمية مبدأ المشاركة في مشروع إعادة الاعمار، وذلك لادراكهم فائدة هذا الامر في تعزيز صورتهم. لكن المسؤولين لم يتبنوا الموقف ذاته في ما يتعلق بمسائل اخرى بالغة الاهمية، وتتصل باعادة الاعمار، كالحقوق المدنية او شكل الحكم او الامن او الاقتصاد، بل حتى الغاء الحالة العسكرية الموجودة في المخيم بعد اكثر من عامين على اندلاع المعركة. وظل الأمن يمثل العامل الرئيسي الذي اثر في قرارات حكومية عدة تتعلق بمسائل متعددة.


حكم المخيم: الرؤى المتضاربة للادارة المشهد المحلي

لا ريب في ان موضوع "إدارة" المخيمات، او الحكم المحلي فيه، غالباً ما يساء عرضه وفهمه، والسبب في ذلك يعود جزئياً الى ان ممارسات الحكم المحلي تتصف بأنها غير رسمية ومتضاربة ومتغيرة، وهي تتنوع من مخيم الى آخر، لكن يمكن وصفها عامة بأنها تتخذ شكل صورة متعددة الطبقة يقوم فيها العديد من الفاعلين والمجموعات والافراد والفصائل بالمناورة والتنافس، وبتدبير أمور الحياة في المخيم. ومع ان الممارسات المذكورة تبدو عصية على الفهم للمراقب الخارجي – فإنها في واقع الامر تمثل انعكاساً لتعقيد السياسة الفلسطينية والوضع الفلسطيني ومفارقاتهما ومصاعبهما في مخيم حضري للاجئين "موقت ودائم" عمره ستون عاماً. وهذه المقالة لا تسعى لتقديم نظرة عامة وشاملة الى آليات الادارة في المخيم ضمن المشهد السياسي – الاجتماعي التاريخي، وذلك على رغم أهمية هذا الموضوع، بل ان الفكرة المهمة في هذه المقالة هي إظهار تفسير الحكومة لـ"مشكلة" المخيمات، وكيفية التدخل التي اختارتها هذه الحكومة.
ان الفاعلين التقليديين في مخيم نهر البارد هم: لجنة شعبية (مؤلفة من ممثلين عن جميع الفصائل، لكن تاريخياً هم ممثلون عن التحالف الموالي لسوريا): لجان الاحياء؛ مجموعة من الوجهاء؛ بعض المنظمات الاهلية. كما يوجد في المخيم عدة لجان ومبادرات شعبية تتبنى قضايا مثل اعادة الاعمار والدفاع عن الحقوق ومصالح التجار، وقد بدأت تؤدي دورأً اكبر في مشهد المخيم. واظهرت ازمة مخيم نهر البارد ضعف الفصائل الفلسطينية التقليدية في ادارة الأزمات عندما تتصرف بمفردها، في معزل عن القوى الاخرى.
وبدلاً من الاعتماد على الفاعلين المحليين في المخيم، قررت الحكومة اللبنانية تغيير الوضع القائم، وتقديم نموذج جديد لادارة المخيم يقوم حصراً على مبدأ اضطلاع قوى الامن الداخلي بإدارة المخيم وبالمراقبة، وذلك من دون التعاطي مع المشكلات الحقيقية للمخيمات او للفلسطينيين في لبنان. وقام فريق خاص بإعداد وثيقة كي تقدم الى مؤتمر المانحين في فيينا الخاص بمخيم نهر البارد.


"وثيقة فيينا"

شاركت الحكومة اللبنانية جزئياً في تجميع مواد "وثيقة فيينا" وصوغها، وذلك من خلال التعاون مع لجنة الحوار اللبنانية – الفلسطينية ومستشاريها، ومع ما عُرف لاحقاً باسم المكتب الفني (RCC) التابع لمكتب رئيس الحكومة. وتجمع "وثيقة فيينا" بين دراسات فنية عدة كانت قد أعدتها وكالة الغوث، ولجنة اعادة اعمار مخيم نهر البارد، والبرنامج الانمائي التابع للامم المتحدة، والبنك الدولي، وشركة خطيب وعلمي، وذلك بهدف تقديم رؤية موحدة شاملة لإعادة إعمار المخيم، ولتكلفة المشروع. وفي حين اعدت الحكومة اللبنانية الوثيقة، رعى المؤتمر كل من النمسا ولبنان وجامعة الدول العربية ووكالة الغوث والاتحاد الاوروبي.
وعلى الرغم من موافقة الفلسطينيين رسمياً على الوثيقة، فان الممثلين السياسيين الفلسطينيين قاموا بدور رمزي فقط في عملية إعدادها الفعلية، نظراً الى افتقار منظمة التحرير الفلسطينية الى هيئات فنية تستطيع القيام بدراسة كهذه، والمشاركة في وضعها وإعدادها. وقد ملأت هذا الفراغ جزئياً مبادرات متعددة صادرة عن منظمات أهلية فلسطينية، وعن خبراء قاموا بدور فاعل في مع البيانات والضغط من خلال وسائل مختلفة رسمية وغير مباشرة، هذا بالاضافة الى آليات مشاركة متعددة لجأت اليها الأمم المتحدة والوكالات الدولية. اما المضمون السياسي للجزء المتعلق بالأمن والادارة في هذه الوثيقة، فيمثل حالة مغايرة تماماً، اذ أعدت الحكومة ومستشاروها تلك المقاطع بشكل كامل وحصري، وفي غياب اي جهة او مشاركة فلسطينية.
تقترح "وثيقة فيينا": "تأسيس بنية ادارة شفافة وفاعلة في مخيم نهر البارد، ويشمل ذلك تحقيق الأمن وسلطة القانون داخل المخيم من خلال الشرطة المجتمعية (Community Policing)".
وتطالب الوثيقة المانحين بتقديم الامكانات المادية (5 ملايين دولار) من اجل: "التدريب والمساعدة التقنية لقوى الأمن الداخلي (اللبنانية) بهدف إدخال نظم الشرطة المجتمعية الى مخيم نهر البارد".
وتمضي الوثيقة لتبين ان: "تطبيق مبدأ الشرطة المجتمعية داخل بيئة مخيم نهر البارد تستوجب وجود قوى أمن داخلي (لبناني) داخل المخيم تعمل على تقليل المخاوف والحساسيات الموجودة قبل نزاع مخيم نهر البارد وبعده، فهذا النوع من ضبط الامن يشجع على المشاركة وحل النزاعات. وإن هذه التدابير الامنية الخاصة بمخيم نهر البارد متفق عليها مع منظمة التحرير الفلسطينية [...]. وان بناء الثقة بين قوى الامن الداخلي وأهالي مخيم نهر البارد سيشجع اهالي المخيم على ان يكونوا داعمين بشكل افضل ومتشجعين على التبليغ عن مشكلات المخيم والامور الامنية. وسيشارك ضباط الشرطة في نشاطات اجتماعية متعددة (خطط شبابية وبرامج اجتماعية)، لإيجاد علاقات اقوى بأهالي المخيم. فالشراكة الوثيقة بين عناصر قوى الأمن الداخلي وبين المجتمع ستساهم في جعل مخيم نهر البارد بعد إعادة اعماره مكاناً اكثر أماناً، وستشجع على تعميم نموذج ناجح للامن في المخيمات الفلسطينية الاخرى في لبنان. وسيتم تعريف كوادر قوى الأمن الداخلي بالتاريخ السياسي للاجئين الفلسطينيين في لبنان، وسيتم تدريبهم على ان يتفهموا بصورة اعمق الخصوصيات الثقافية والاجتماعية للمجتمع الفلسطيني. كما سيتم تدريب هذه الكوادر على حل النزاعات وعلى مهارات التواصل".
ومع ان المجتمع المدني الفلسطيني راوده الشعور بأن وثيقة كهذه كان يجري اعدادها، فان الوثيقة المذكورة لم تعلن الا قبل ايام قليلة من بداية مؤتمر فيينا، وذلك عندما طُبعت ووزعت على الدول المانحة. وقد اطلعت منظمة التحرير الفلسطينية على الوثيقة في الوقت الذي اطلع عليها المانحون الآخرون. وعلى الرغم من اعتراض منظمة التحرير على مبدأ الشرطة المجتمعية في اجتماع رسمي عُقد مع السفير خليل مكاوي (رئيس لجنة الحوار)، قبل مؤتمر فيينا ببضعة ايام، لم تجر اي تعديلات على الوثيقة. وفي الواقع/ لم يُعرض اي موقف فلسطيني امام الدول المانحة خلال المؤتمر. اما المبلغ المرصود لتمويل تدريب كوادر قوى الأمن الداخلي، والبالغ خمسة ملايين دولار، فقد جرى تأمينه وتحويله الى الحكومة اللبنانية نتيجة "وثيقة فيينا" ومؤتمرها، وبدأ استشاريون للحكومة العمل على الموضوع من دون معرفة أهالي المخيم.


اختزال الحكم بالموضوع الأمني

على الرغم من ايجاز المقطع الخاص بالادارة في "وثيقة فيينا"، فإنه يعكس بوضوح استمرارية وتطور منهجية التعامل مع المخيمات من زاوية امنية. فعندما يكون موضوع الشرطة هو العنوان الفعلي الوحيد في "وثيقة فيينا" الذي يتطرق الى موضوع "الحكم" في المخيم، فإن هذا استكمال لمنهجية اختزال اللاجئين الفلسطينيين الى مشكلة امنية، واعتبار المخيم "جزيرة امنية". فقد وضع صانعو السياسة اللبنانيون ومستشاروهم، ومن دون استشارة الأهالي، التصور الموجود في الوثيقة. وفي حين جرى تسويق الوثيقة تحت شعارات الشراكة والشرطة المجتمعية، فإن المجتمع المحلي كان غائباً عند صوغها، وهذا يتناقض مع تعريف الشرطة المجتمعية، أساساً، كاستراتيجيا وفلسفة لضبط الأمن تقومان على مفهوم فحواه ان تفاعل الاهالي ودعمهم هما المساعد في ضبط الجرائم والتعرف الى المشبوهين، ,في احتجاز المخربين، وفي تبليغ رجال الشرطة ما يحدث من مشكلات. ويفشل هذا المنطق ويصعب تطبيقه عندما يفرض على مجتمع يرفضه لاسباب متعددة ستذكر لاحقاً.
وبينما يكمن مبدأ الشرطة المجتمعية في خطاب تحسين، ثم تمكين أنشطة معينة ومبادرات المواطنة، فإن هناك تناقضاً في تطبيق أنظمة وقوانين وممارسات تعتمد على تطوير مفهوم المواطنة، على مجموعة سكانية من اللاجئين الموقتين الذين تضن عليهم الدولة المضيفة بحقوقهم الاجتماعية الاساسية.
كان لفقرة الادارة في "وثيقة فيينا" ردة فعل سلبية قوية بين أهالي المخيم، وقد توصلنا الى هذه النتيجة من خلال عدد من المقابلات التي اجريناها، بالاضافة الى العريضة المقدمة، مباشرة، الى رئيس الحكومة، فؤاد السنيورة، والتي وقّعها المئات من أهالي مخيم نهر البارد، ونشرت في صحيفتي "الاخبار" و"السفير" بتاريخ 24/1/2009، إذ اعرب الموقعون عن معارضتهم سياسة الحكومة في التعامل مع مخيمهم من منظور امني، وكذلك خطتها المستقبلية لادارة المخيم.
ويمكن القول ان المضامين السياسية للاقتراح الوارد في "وثيقة فيينا" ستلقي بظلها على اي شراكة او نقاش مع المجتمع المحلي يمكن ان يجريا مستقبلاً. فعلى الرغم من الادعاء ان الاقتراح المذكور تم اعداده بالتنسيق مع منظمة التحرير الفلسطينية فإنه لا يوجد في تلك المرحلة اي شراكة حقيقية مع فصائل المنظمة في هذا المشروع، ولا أي تفاهم، ولا أي موافقة عليه.
ان الوثيقة لا تأخذ في الاعتبار الا الحاجات الامنية ووجهة النظر والرؤية اللبنانية، فاللجنة الشعبية عامة، لم تذكر في الاقسام المتعلقة بـ"الحكم" في الوثيقة باعتبارها محاوراً مشاركاً في مسألة الشرطة "المجتمعية"، كما ان الاقتراح يتجاهل بسذاجة المشهد العام السابق للمعركة في مخيم نهر البارد، وهو المشهد الذي يُظهر واقعاً معقداً شديد التنوع من الفاعلية يضم اللجنة الشعبية، والكفاح المسلح، واللجنة الامنية، والفصائل السياسية، ولجان الاحياء، والوجهاء، والنقابات المهنية المتعددة، والمنظمات الأهلية المحلية، وغيرها، الذين يتفاعلون ويتنافسون في ما بينهم بشأن مختلف المسائل التي تلحظ المصلحة العامة للمخيم. وهذا الواقع السابق للمعركة يعكس وجود طاقة ومشاركة في المجال العام تقومان على مشاركة شعبية مكثفة في ادارة شؤون الحياة اليومية.
من المؤكد ان هناك مشكلات لا يستهان بها داخل الادارة المحلية في المخليمات، بما في ذلك النزاعات والممارسات الفاسدة لبعض تلك البنى وتأثيرها السلبي المحتوم في ما يتعلق بمصلحة المخيم، لكن هذا لا يبرر تجاهل الاطر والممارسات السياسية والاجتماعية الموجودة في المخيم.
فإيجاد شراكة فلسطينية – لبنانية حقيقية تقوم على الاحترام وتطوير هذه الأطر والممارسات المحلية في موازاة تطوير آليات واضحة وشفافة للتنسيق مع الجهات اللبنانية، لا يتحقق من خلال تعليم ضباط قوى الأمن الداخلي اللبنانيين "التاريخ السياسي للاجئين الفلسطينيين في لبنان... والخصوصيات الثقافية والاجتماعية للمجتمع الفلسطيني"، كما ورد في "وثيقة فيينا".
إن الأمر الإشكالي هنا هو حصر حاجات "الحكم" (governance) في المخيم ورؤيتها ضمن منظور أمني فقط، وافتراض إمكان تلبية تلك الحاجات بإدخال الشرطة الى المخيم، ذلك بأن هذا الأمر يتجاهل الخطاب المعاصر المتفق عليه عموماً في ما يتعلق بمعنى الحكم الرشيد ومكوناته الأساسية المتعددة من إدارة المكان وتمثيل المجتمع وتنميته وتطويره اقتصادياً. ولا يمكن فصل عملية تطوير الحكم المحلي داخل المخيمات الفلسطينية عن مسألة التعاطي مع الحقوق الفلسطينية ضمن رؤية ومقاربة شاملتين، كما ان الدروس والأدبيات التي تتناول حالة إعادة الاعمار ما بعد الحرب، لا تكف عن ترداد ما تعتقد انه يشكل قواعد اعادة الإعمار الناجحة بعد الحرب، وهذه القواعد هي: (1) اعادة بناء البيئة المكانية، (2) اعادة إقلاع الدورة الاقتصادية، (3) لجان تقصي الحقائق والمصالحة، (4) اقامة حكم رشيد. ولن يتمكن مخيم نهر البارد من التغلب على التحديات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يواجهها في مرحلة ما بعد الحرب، إلا من خلال إجراء مراجعة عامة وشاملة، وعندئذ يمكن وضع أسس علاقة لبنانية – فلسطينية راسخة وحقيقية.
أما على ارض الواقع، فان المقاربة السابقة المرتكزة على مفهوم الأمن، استمرت بعد انتهاء المعركة، وذلك من خلال تدابير متعددة: وجود نقاط تفتيش لا لزوم لها، وجود سلك شائك يحيط بالمخيم، منع السكان الفلسطينيين واللبنا نيين الراغبين في دخول المخيم، من دخوله، قبل الحصول على تصريح عسكري، وجود قواعد عسكرية وبحرية. وقد اصبحت هذه الإجراءات المذكورة سمة مميزة لعملية اعادة الاعمار، فعلى سبيل المثال، أقر مجلس الوزراء إنشاء ثكنة عسكرية عند أطراف المخيم القديم بعد انتهاء المعركة مباشرة، كما أنه أصدر في شباط 2009، مرسوماً آخر يقضي بإنشاء قاعدة بحرية على شاطىء نهر البارد، بالاضافة الى استمرار لجنة الحوار وقوى الأمن الداخلي في ممارسة الضغوط لإنشاء مركز للشرطة داخل المخيم القديم. وفي حين تعارض اللجنة الشعبية المحلية هذا الخيار معارضة عنيفة، تلجأ لجنة الحوار الى الضغط على قيادة منظمة التحرير كي تقبل الأمر.
ومن المهم ان نشير هنا الى أن منظمة التحرير تقبل وجود مركز الشرطة من دون استشارة اللجنة المحلية او مناقشتها في الموضوع. وهذا كله يجري من دون ان تؤخذ في الاعتبار الكثافة العمرانية الشديدة في المخيم، إذ ينحصر 1700 مبنn ضمن مساحة لا تتجاوز 190,000م.م.، وتؤوي ما يزيد على 20,000 لاجىء (أي 1100 شخص في الهكتار – وهي إحدى اعلى الكثافات الحضرية في العالم). وفي حين يبدو خيار إنشاء مركز الشرطة عند اطراف المخيم اكثر مراعاة لمشاعر السكان، فإن الحكومة اللبنانية ولجنة الحوار ترفضان مثل هذا الخيار باستمرار. ويبدو ان الحكومة اللبنانية تعتبر مركز الشرطة بحد ذاته بيانا سياسيا يعلن سيطرتها الجديدة التامة على المخيم، وذلك على الرغم من خبرات الدول المضيفة الأخرى في المنطقة التي تفضل إبقاء مراكز الشرطة عند أطراف المخيمات. ففي عمان مثلا، وبعد إنشاء مراكز شرطة وسط المخيمات وإحراقها مرات عدة، أعادت السلطات إنشاء تلك المراكز عند اطراف المخيمات. وفي حين نستطيع الانشغال، وبكل سهولة، في مناقشة ميزات "الشرطة المجتمعية"، أو عدم إمكان تطبيقها، فإن الموضوع الأول الذي يجب مناقشته هو الوضع الأمني الفعلي داخل مخيم نهر البارد. فاذا كان النقاش هو بشأن الجرائم، فإن هذا المخيم لم يكن يشكل مكاناً مغلقاً موبوءاً بها، إذ كانت هذه تطوق عادة، كما كانت تجري ملاحقة من ينتهك حرمة القانون، وهو ما كان يحفظ السلامة العامة في المخيم. أما اذا كان النقاش متعلقاً بوجود "فتح الاسلام"، فيجب التساؤل عن الأسباب الحقيقية التي حالت بين الأطر الفلسطينية وبين التعامل بحزم مع عناصر هذه الظاهرة، وما هي اسباب فشل قوى الأمن الداخلي والجيش اللبناني في اعتقال مجموعة مسلحة كان القسم الاكبر من مكاتبها وقواعدها ومواقع تدريبها ومنازل عناصرها موجوداً خارج الحدود الرسمية لمخيم نهر البارد، أي على ارض تابعة رسمياً للسلطات اللبنانية؟ فمعظم تلك الابنية، في الحقيقة، كان موجوداً في منطقة مجاورة لمخيم نهر البارد، وبعضها في مركز مدينة طرابلس وعلى أطرافها، مثل ابي سمرا. والهدف هنا ليس القاء المسؤولية على الجهات اللبنانية، وانما الاشارة الى ان ظاهرة "فتح الاسلام"، وكثيرا من الظواهر الاخرى التي تهدد أمن اللبنانيين والفلسطينيين معاً، ليسا مجرد نتاج غياب عناصر ضبط الأمن اللبناني.
القضايا الحقيقية هنا تتصل بطبيعة التنسيق وآلياته بين الاطر الفلسطينية واجهزة الدولة اللبنانية (بشقها المدني وليس العسكري وحده)، وذلك يخص المخيم والمنطقة المجاورة له. فمنذ توقف العمل باتفاقية القاهرة (سنة 1969)، ظلت الشروط المرجعية بين الطرفين غامضة وملتبسة في افضل الاحوال، وصار المخيم فضاء معلقا من الوجهة القانونية، اذ اصبحت المخابرات العسكرية تحكمه باعتبار انه "حالة استثناء".


(جزء متكامل من دراسة أطول
تنشر لاحقا في مجلة
"دراسات فلسطينية")




(ساري حنفي أستاذ مشارك في الجامعة الاميركية في بيروت، وإسماعيل الشيخ حسن مهندس ومخطط عمراني في جامعة لوفان (بلجيكا)، ويعمل ناشطاً في هيئة العمل الاهلي والدراسات لإعادة إعمار مخيم نهر البارد.)
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف