الأخبار
ارتفاع درجات الحرارة يفاقم معاناة النازحين في غزة ويزيد من البؤس اليوميالأمم المتحدة: إزالة الركام من قطاع غزة قد تستغرق 14 عاماًتصاعد الاحتجاجات الطلابية في الجامعات الأميركية ضد الحرب الإسرائيلية على غزةتفاصيل المقترح المصري الجديد بشأن صفقة التبادل ووقف إطلاق النار بغزةإعلام إسرائيلي: إسرائيل تستعد لاجتياح رفح "قريباً جداً" وبتنسيق مع واشنطنأبو عبيدة: الاحتلال عالق في غزة ويحاول إيهام العالم بأنه قضى على فصائل المقاومةبعد جنازة السعدني.. نائب مصري يتقدم بتعديل تشريعي لتنظيم تصوير الجنازاتبايدن يعلن استثمار سبعة مليارات دولار في الطاقة الشمسيةوفاة العلامة اليمني الشيخ عبد المجيد الزنداني في تركيامنح الخليجيين تأشيرات شنغن لـ 5 أعوام عند التقديم للمرة الأولىتقرير: إسرائيل تفشل عسكرياً بغزة وتتجه نحو طريق مسدودالخارجية الأمريكية: لا سبيل للقيام بعملية برفح لا تضر بالمدنييننيويورك تايمز: إسرائيل أخفقت وكتائب حماس تحت الأرض وفوقهاحماس تدين تصريحات بلينكن وترفض تحميلها مسؤولية تعطيل الاتفاقمصر تطالب بتحقيق دولي بالمجازر والمقابر الجماعية في قطاع غزة
2024/4/27
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

الزهد والإسراف في العمارة بقلم:د.علي ثويني

تاريخ النشر : 2006-09-28
الزهد والإسراف في العمارة

د.علي ثويني

معمار وباحث عراقي

ثمة تأيض وتمثيل ومشيمية بين المنتج الإبداعي الإنساني والفكر المحرك له سواء ديني أم فلسفي، فما تصنعه اليدين مصدرها وعي وقناعات ونوازع ذهنية ،يكمن ورائها هواجس وبواطن نفس بشرية لايعلم كنهها إلا بارئها، ويحاول العلم الحديث سبر أغوارها، ولايستكثر علينا المتعصبون للحداثة تلك الوشائج ، حينما يعلموا أن (جاك دريدا) "اليهودي الفرنسي-الجزائري"،الذي أنتج الفكر التفكيكي الحداثي، قد أصطحب المعماريين الى مشروع متنزه لا فاييت في باريس ليملي عليهم نظريته،و ليجسدوها سطوح وفضاءات وجماليات معمارية، وليؤكد مشيمية الفلسفة والمنتج الإبداعي في كل زمان ومكان.

الممارسة الأخلاقية هاجس إجتماعي- ديني ، وإحدى سمات تلك الممارسة هو "الزهد" ،من ضمن منظومة الأخلاقيات التي (تممها) الدين الحنيف .والزهد يعني التواضع و الوسطية والابتعاد عن الغلو و الإسراف كمنهج أخلاقي إسلامي . وبقى هذا المبدأ صنوا للمنهج القويم للإيمان و وجد تباعا "مثل حال كل التوجهات الفكرية" صداه في العمران والعمارة .

والزهد (Ascetisme) في اللغة يعني (الإعراض عن الشيء لاستقلاله واحتقاره وارتفاع الهمة عنه) كما ذكر ذلك ابن رجب( ) ،أو يرد ضد الرغبة وليس عدمها باطلاق، ومنه قولهم زهيد للقليل دون المعدوم ..ويقال "خذ زهد ما يكفيك أي قدر ما يكفيك" وبذلك فالزهد هو القليل ،ورجل زهيد الآكل قليله ( ) . وورد المعنى في الذكر الحكيم (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنْ الزَّاهِدِينَ) ( ). وورد في الحديث النبوي الشريف بما يحدد تلك الصفة والمفهوم: (الزهاد في الدنيا ليست بتحريم الحلال ولا إضاعة المال ولكن الزهادة في الدنيا أن لا تكون بما في يديك أوثق مما في يد الله، وأن تكون في ثواب المصيبة إذ أنت أصبت بها أرغب فيها لو أنها بقيت لك) وقال الرسول الكريم أيضا (أزهد في الدنيا يحبك الله ، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس) ( ).

وقد رسم الإمام علي بن أبي طالب خطابا أخلاقيا زاهدا من خلال حالتين : (الإعتدال في العيش دون الحرمان من الطيبات وهذه لعامة الناس، وإختيار الفقر والحرمان للأئمة) ( ) . أو قوله بما ورد في (مرآة الزمان) لسبط بن الجوزي :(على أئمة الحق أن يتأسسوا بأضعف رعيتهم حالا في الأكل واللباس ولا يتميزون عنهم بشيء) ( ). والزهد لدى الإمام أبى الحسن يهدف إلى إقامة مجتمع المتقين المثالي، وحدد تلك الفلسفة في خطابه إلى محمد بن أبي بكر والي مصر: (أن المتقين حازوا عاجل الخير وآجله،وشاركوا أهل الدنيا في دنياهم،ولم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم، أباح لهم الله الدنيا ما كفاهم به وأغناهم..سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت،وأكلوها بأفضل ما أكلت،أصابوا لذة الدنيا مع أهل الدنيا، وهم غدا جيران الله يتمنون عليه فيعطيهم ما يتمنون،لا ترد لهم دعوة،ولا ينقص لهم نصيب من اللذة،فإلى هذا يا عباد الله ليشتاق من كان له عقل، ويعمل له بتقوى الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله) ( ).

وأورد الطبري عن الخليفة عمر بن الخطاب(رض) قوله عن الحاكم:(أن لايركب الوالي برذونا ولايأكل نقيا ولايلبس رقيقا ولايتخذ بابا دون حاجات الناس.) ( ) والبرذون هو من وسائل النقل المقتناة من خاصة الناس وعليائهم. وورد عن عمر بما يخص أمور تفصيلية في البناء في قوله لسعد بن ابي وقاص عند توليه على الكوفة: (إياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس) .

وورد أقوال وآراء في الزهد لدى العلماء في التراث الإسلامي كما قال الفضيل بن عياض الفقيه المغربي (الزهد هو الرضا عن الله) ( ) وقال أيضا : جعل الله الشر كله في بيت ، وجعل مفتاحه حب الدنيا ، جعل الخير كله في بيت ، و جعل مفتاحه الزهد .و قال سفيان الثوري (161هـ-777م) (الزهد في الدنيا قصر الأمل ليس بأكل الغليظ ولا بلبس العباء). ومن بواكير الفكر الصوفي في الإسلام نذكر ما قاله الحسن البصري (ت.110هـ-728م): (الزاهد الذي رأى أحد قال هو أفضل مني) ( ).وجاء في الأخبار أن سال رجل الحسن البصري عن سر زهده في الدنيا فأجابه : (إنها اربعة أشياء علمت أن رزقي لا يأخذه غيري فأطمئن قلبي وعلمت أن عملي لا يقوم به غيري فاشتغلت به وحدي وعلمت أن الله مطلع علي فأستحييت أن يراني على معصية وعلمت أن الموت ينتظرني فأعددت الزاد للقاء ربي) . وسئل الجنيد البغدادي عن الزهد فقال : خلو اليد من الملك ، و القلب من التتبع. و قال الصوفي بشر الحافي : الزهد ملك لا يسكن إلا في قلب خال ، وقال الصوفي البغدادي السري : مارست كل شيء من أمر الزهد ، فنلت منه ما أريد إلا الزهد في الناس ، فإني لم أبلغه و لم أطقه .و قال يحيى بن معاذ : لايبلغ أحد حقيقة الزهد حتى يكون فيه ثلاث خصال : عمل بلا علاقة ، وقول بلا طمع ، و عز بلا رياسة. وقال الشيخ السلفي أحمد أبن تيمية ( لايحصل الأخلاق إلا الزهد ،ولا زهد إلا بتقوى، والتقوى متابعة الأمر والنهي) ( ).

ومن مرادفات الزهد التقشف وهو أكثر من الزهد في مرتبة اللارغبة.ويرد كذلك مفهومي "الحرص" أو "الإقتصاد" اللتان يعنيان الوسطية في الصرف والتصرف . ويذكر إبن خلدون في تاريخة رسالة طاهر بن الحسين الى ولده عبدالله حين ولاه المأمون الرقة ومصر ومابينهما، حيث يذكر: )وعليك بالإقتصاد في الأمور كلها، فليس شئ ابين نفعا ولا أجمع فضلا منه ،والقصد داعية الى الرشد ،والرشد دليل على التوفيق، والتوفيق قائد الى السعادة ،وقوام الدين والسنة الهادية بالإقتصاد، وكذا في دنياك كلها) ( ).

وعكس الزهد يرد الإسراف أو التبذير ترد كثير من التفاسير في اللغه والفقه الإسلامي ومنها يقول الجرجاني بان الإسراف: (هو إنفاق المال الكثيرفي الغرض الخسيس), وفي موضع آخر يقول الإسراف هو : (صرف الشئ زائدا على ما ينبغي، وبخلاف التبذير،لإانه صرف الشئ فيما لاينبغي ). وعرف التبذير إبن العربي قائلا: (أنه تجاوز الحد المباح الى المحضور)، وقال عن التبذير : (هو منعه من حقه ووضعه في غير حقه، بمعنى الإسراف) ( ).

وللنصوص الداعية للزهد تفسير فلسفي تنعكس من شعور المؤمن بالهوة السحيقة بين سمو الآخرة وحقارة الحياة الدنيا كما أسلفنا في رسالة الإمام علي بن أبي طالب.ويمكن ان يكون هذا سببا كافيا لأن تعلن جل الأديان كفاحها ضد الجميل لحدسها بأن ذلك الجميل يقيد الناس بالدنيا ويطمعهم بمتعتها الموجودة في الملبس والمأكل والأهم في العمارة التي هي خير محل لتفريغ حالة العافية التي تكتنف الإنسان وبذلك جاء الدين والفن الديني والعمارة الدينية موجبا على الناس خشية الخالق الضابط لتلك الجدلية.وبالرغم من ذلك فأن الديانات تعلن عدائها ضمنا للجميل لكنها لم تعلن عدائها "للسامي" الذي يعاضد الممارسة الأخلاقية في العقائد لما لها من تداخل مع الغيبيات التي تثنينا عن الإتيان بالقبائح. وكان من وراءعدم القطيعة مع "السامي" من تاثير عاطفي على الناس ،حينما يترك لديهم دهشة ،ويوقظ فيهم الحماس من خلال الهيبة التي يفرضها على المتلقي فيشعر بعدم قدرته على المقارنه مع الظواهر الأخرى.

ينطبق هذا الأمر على جل الأديان ويستثنا منها الإسلام الذي يأمن بالجمال الموضوعي كما وارد في الحديث(الله جميل ويحب الجمال) ( ). لقد وردت ممارسات هذا المذهب الصوفي في الأديان البوذية والمسيحية والمانوية قبل ورودها في الإسلام ،ومن الجدير ذكره أن اليهودية بنيت على مبادئ تجارية غير داعية للزهد أساسا، واعتباره بابا للإيمان الصحيح ،وسمة مشتركة لجمهور المؤمنين، كمطلب لبناء الحياة الروحية المثلى . وقد وصل البعض من النصارى الى قناعات في ممارسة الرهبنة والتبتل والإعراض عن ملذات الدنيا في المأكل والملبس والفرج . ولكن الإسلام ا لم يقر ذلك المبدئ ،وللمصطفى العربي حديث يستهجن فيه تلك الممارسة.وبالرغم من المنطلقات الصريحة في التسامح مع متطلبات النفس بالتلذذ المقنن ،فقد شذ عن ذلك وبالغ كثيرا وتمادى رهط كبير من طبقة رجال الدين ،وجل الملوك وبطاناتهم الذين وجدوا لهم في التمتع بملذات الدنيا، مخرجا فقهيا تفسيريا من ضمن النصوص المتسامحة.

الزهد و العمارة

وردتنا أخبار العمائر الإسلامية الزاهدة الأولى، التي أقامها المسلمون في صدر الإسلام ابتداء من مسجد المدينة ،مع حجراته الجانبية الذي أشاده الرسول الكريم بيده من مادة الطين وسقفة بجذوع النخيل وسعفه مثل أي دار للعامة .وقد مكث فيه حتى توفاه الله فدفن في إحدى حجراته .وجاءت الأخبار في حديث أبن السائب عن الإمام الحسن قال : (كنت أدخل بيوت أزواج –صلى الله عليه وسلم- في خلافة عثمان رضي الله عنه فأتناول سقفها بيدي) . وبذلك تكرست القدوة الأخلاقية للبناء الذي مارسه الخلفاء الراشدين من بعد الرسول والمتجسد بجلاء في تعاليم الخليفة عمر بن الخطاب الذي حض على هذا المنحى لدى اختطاطه الأمصار مثل الكوفة والبصرة والفسطاط أو إعادة هيكلة المدن المشادة من الأزمنة السابقة للإسلام مثلما حدث في القدس والمدائن ودمشق.

ويعزي البعض أن هذا الزهد المعماري متأت من بيئة الصحراء الفقيرة التي ورد الإسلام من ثناياها ، أو ربما عقلية أهلها القنوعين المؤثرين البساطة و الدعة وشظف العيش. ولكن فاتهم في ذلك التعليمة الواردة في المنظومة الأخلاقية للإسلام والتي وردت في الذكر الحكيم "إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا" ( ) وذلك النعت ترك أثره في بواطن العقلية الإسلامية، وكانت للقدوة الحسنة أثرها في ذلك. ويعرف الجميع سيرة الخليفة عمر الذي آثر القيلولة تحت ظلال إحدى نخيل المدينة عندما أتاه رسول ملك الروم فنعتوا له مكانه، فتعجب من عدم وجود قصر يؤم هذا (السلطان) بحسب العقلية التي ألفها .وجاء في ذكر الزهاد من الصحابة ممن أثبتوا بسيرهم سمو العقيدة المسيرة لسجاياهم ،ومنهم عبد الله بن عمر وسلمان الفارسي وعمر بن عبد العزيز وأبو ذر الغفاري الذي نقل عن أخباره بأن زوجه لم تجد ما تكفنه به بعد وفاته،وهو صاحب الرسول الكريم.

ومن الجدير ملاحظته في أيامنا أن الإسلام أتى بحلول اقتصادية ذات روح إنسانية تحكمها الشريعة وضوابط العقيدة،وكرس الإسلام التكافل الاجتماعي والروح التعاونية بين عناصرة ،وحدد أولويات وآليات منهجية لذلك. ولم يلغي الإسلام الطبقات الاجتماعية،على عكس ما يذهب إليه البعض اليوم ، وأعتبر أن وجود الفوارق في الرزق بين البشر من حكم الله في خلقه،الهدف منه تكريس روح الطموح وحافزالسعي نحو تحسين المستوى المعاشي للبشر. وورد في الذكر الحكيم (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُون) َ ( ) . ولكن لم يصاحب إقرار الإسلام بالطبقات الاجتماعية ،وبالتفاوت الطبقي ،أي إقرار بالممارسة الشاذة عن الزهد والتعقل في الإسراف ،والتواضع ويشمل ذلك حتى أصحاب الأموال الذي رفض لهم ممارسة كنزها. وقد ورد في الذكر الحكيم نقدا لاذعا لمن يسلك منهم ذلك المنهج اللاأخلاقي في الممارسة المعمارية :( وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ . وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ. وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ) ( ). ويمكن اعتبار الغناء المادي بالمفهوم الإسلامي امتحان أخلاقي للإيمان ،أكثر من كونه مدعاة للتفاخر والخيلاء الذي هو إحدى صفات أهل البادية ،والذي نجد له ممارسة حتى في أيامنا هذه .ويرد في قوله تعالى (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) ( ). وإذ نلاحظ بما يخص الممارسة المعمارية في المجتمعات الإسلامية بأن هيئة البيوت ، فضاءاتها وملكاتها المساحية والتقنية ،لا تحمل تلك الفوارق الطبقية الشاسعة ، مثلما هو عليه في المجتمعات والثقافات الأخرى. ويكمن كبير الفرق في الجانب التزويقي والجمالي، والتجهيزي للبيوت.

وورد في تاريخ (أبن خلدون) (1333-1408) ما يعتبر سابقة في ملاحظة الشرخ الذي أوجده الغلو في الإسراف على البنيان ،مقارنا مع سيرة الخليفة الراشد عمر بين الخطاب قائلا:(وكان الدين أو الأمر مانعا من المغالاة في البنيان والإسراف فيه في غير القصد، كما عهد لهم عمر بن الخطاب حين أستأذنوه بناء الكوفة بالحجارة ،وقد وقع الحريق في القصب الذي كانوا بنوا به من قبل،فقال:افعلوا ولا يزيدن أحد على ثلاث أبيات.ولا تطاولوا في البنيان ،وألزموا والسنة تلزمكم الدولة). ويرد في نفس السياق أن أمر عمر الناس أن لا يرفعوا بنيانا فوق (القدر) ،فسألوه الناس وما القدر فقال (وإلا يقربكم من السرف ويخرجكم عن القصد ) ( ) . وقد أعتقد إبن خلدون أن نزعة الإسراف والترف في البنيان وردت الى العرب من الفرس والقبط والنبط والروم ،ونسى بأنه حالة متجذرة في السجية البشرية ،ويدخل ضمن باب غريزة التملك.

ويمكن إعتبار ابن قتيبة من أوائل من دعى الى (النورم) في العمارة، حيث وصف الدار بالقميص، فحيث يخاط القميص حسب مقاس صاحبه، كذلك يبنى البيت حسب مقياس ساكنه، وبهذا يُعَدُّ ابن قتيبة أول من تحدث عن المقياس الإنسانيScale Human في العمارة الإسلامية ،وهو منحى للزهد في جوهره ،تواجد بقوة في حداثة عمارة القرن العشرين ( ).

ولم يعمر ذلك المنحى الزاهد طويلا ، فبعيد عصر الخلفاء الراشدون التي اضطلع فيها الخليفة عمر بن الخطاب(رض) بمنهجية العمران والعمارة والخليفة علي بن أبي طالب(رض) ، بالمنهج الثقافي والجمالي والفني. حيث نقل بعدها بني أمية عاصمة الدولة إلى دمشق ثم أثروا حياة الترف وتأثروا بطابع الحياة البيزنطية المتماشية مع هذا المنحى ثم اتخذوا مما يناسبهم من العمارة السورية-البيزنطية منهجا للخيلاء وممارسة ملذات العيش .ويقال عن (الوليد بن عبدالملك) الأموي أنه أنفق جباية الضرائب على الأراضي الشامية لمدة سبع سنوات لبناء المسجد الكبير في دمشق . وبذلك انحرفوا بالسير الزاهد المرسوم من قبل السلف .

وعلى عكس تلك النزعة فقد ورد في ممارسة الزهد من أخبار الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز أنه أستكثر البذخ الذي إشيد به مسجد دمشق الجامع ،حيث نقل عن صفوان بن صالح قال (سمعت عمر بن عبد العزيز، وذكر مسجد دمشق ، فقال رأيت أموالا أنفقت في غير حقها ، فأنا مستدرك ما استدركت منها ، فراده إلى بيت المال : أعمد إلى ذلك الفسيفساء و الرخام ،فأقلعه وأطينه ، وأنزع تلك السلاسل وأجعل مكانها حبالا ، وأنزع تلك البطائن . وأبيع جميع ذلك) .

وخلف العباسيون الأمويين ، و ساروا على نفس النهج وزادوا فيه حينما تأثروا بالحياة الساسانية والعمارة الصرحية العراقية ،كما هي صريحة في عمائر سامراء الباقية. وبذلك غيروا في جوهر الحياة الإسلامية ونقلوها إلى روح جديدة من البذخ والأبهة والخيلاء ،غير المشابهة لما كان سائدا خلال سنين الإسلام الأولى، ولاسيما فيما يتعلق بمتاع الدنيا من الملبس والمأكل وأنعكس صريحا خلال العمارة والفنون .

الزهد والتصوف

ثمة تداخل بين الزهد والتصوف وأقترن أحدهما بالآخر، ولو أن الحركتين (الزهاد والصوفية) ظهرتا مترادفتين، لكن الأولى اضمحلت و اختفت ومكثت الثانية حتى اليوم.لقد تداعى شيوع البهرج ولذة العيش والترف المبالغ الى ردة فعل سلبية في نفوس بعض المؤمنين ، آثر البعض على أثرها الانقطاع بعيدا عن مجرى هذا السيل الجارف ،بما يشبه الاعتزال والوحدة ،أو الانقطاع عن الدنيا والإعراض عن ملذاتها .وقد لقى الأمر صداه في بعض النفوس الذين شكلوا الرعيل الأول لحركة التصوف في الإسلام. ثم أتخذت هذه الحركة منهجاً و منحا فكرياً تطبيقياً أصولياً بحتاً ،باحثين عن جذور النقاء الروحي.وهي نزعة لها جذور في الثابت الثقافي المحلي للبيئة العراقية نجد تلميحات صريحة لها في نصوص ملحمة كلكامش السومرية. وقد اعتبر المتصوفة الرسول الكريم أول من مارس الصوفية وأعتبر لجوءه لغار حراء تجسيد لحالة الإنقطاع التي يسعون لممارستها وتبريرها .وهكذا أمست سيرته الشريفة والممارسات الزاهدة في العمارة التي طبقها في مسجده، منهاجا أخلاقيا لمبانيهم .

وجذوة النفس نحو النقاء والبساطة ودحض البهرج الدنيوي و مؤآثرة التقوى والتقشف والزهد والأعراض عن الثروة والجاه في الفكر الصوفي، هي حالة تجسد الرغبة في إيجاد الصلة بين الخالق والمخلوق والانطلاق الروحي إلى الأعلى. و لهذه الفلسفة جذور فكرية سابقة للفكر الإسلامي تأثر بها من قبيل العرفانية(الغنوصية) البابلية( )، والنصرانية والمانوية ( ) ثم التأثيرات الهندية والبوذية وربما الثيوصوفية اليونانية. لقد وردت في البوذية وبنفس الصيغة ،حتى أن الشخص المنتسب الى جماعتها ينعت باسم (بونز Bonz ) التي تعني (الفقير) بالعربية او(الدرويش) بالتركية،أو كما في المسيحية بصيغة الرهبان والنساك والمتقشفين المنقطعين عن الدنيا.

وتكرست تلك النزعة الى الزهد و التواضع قد تجسدت في بناءات الديار ولاسيما (الزوايا) التي هي دور متعددة الوظائف جمعت بين العبادة والإقامة والإنتاج والمرابطة، وأستعملت كذلك كمحطات لتوقف القوافل العابرة (خانات أو قوافل). وهنا نرصد قرب الحلول المعمارية للدير المسيحي (المانستير) مع (الزوايا) الصوفية. و كان يؤمها الشيوخ (المرابطون) ومريدوهم (الطلبة ) ولاسيما في الجبال و الصحارى والثغور وتخومها .ونجد خير الأمثلة موجودة في الصحراء الكبرى في المغرب الإسلامي .ونجد صورا لها في الجزائر من خلال لوحات الانطباعي الفرنسي (ن . ديني) ( ).

واحتفظت الصوفية بتسمية المرابطة وليس صفتها ، و نظام دار الصوفية الذي أمسى زاوية في المغرب و خانقاه أو التكية في المشرق العثماني ، مأخوذ أصلا من الربط حيث كان يؤهل فيها المرابط دينياً وروحياً بجانب التدريب العسكري تماشياً مع قوله تعالى (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ( ) وظهر الرباط قبل الزاوية و مسقطها المعماري لا يختلف عن مسقط المدرسة إلا انه في بعض الأحيان تعمل فيه الخلوات على حدة لغرض الانقطاع، والتعبد في جناح منفصل وذلك إذا اجتمعت المدرسة والخانقاه في مجمع واحد.

و الخانقاة كلمة فارسية مركبة (خا- نكاه) ومعناها "دار التعبد" .وقد أقيمت أول خانقاه في الإسلام عام( 405 هـ – 1010 م) إلا انه قبل ذلك بكثير أقام زيد بن صبرة في البصرة في عهد الخليفة عثمان بن عفان أول مسكن لأقامة بعض المسلمين بغرض التفرغ للعبادة. ولا يعرف الشكل الأول لهذه المباني التي انتشرت بعد ذلك عبر العالم الإسلامي. وفي النصف الأول للقرن الخامس الهجري- الحادي عشر الميلادي، ألحْق المدفن ببناء الخانقاه، و انشأ السلاجقة مجموعة من الخوانق في الموصل ومدن سوريا. وقد أدى ارتباط التصوف مع المذهب الشافعي ثم بالمذهب الحنفي الى الانتشار السريع خارج إيران التي وجد التشيع فيها مكانا راسخا، ولم تعد مرتبطة بالتشيع بعدها،وأصبحت مثل التشيع محل هجوم الفكر السلفي،وانتشرت في الجناح الغربي للعالم الإسلامي(ذو الغالبية المالكية) أكثر من مشرقه.

لقد اتخذت العمارة الصوفية ولاسيما في خانقاوات المولوية التابعة لطريقة المولى جلال الدين الرومي( ) في قونية في آسيا الصغرى ،الطرازان التركيان السلجوقي ثم العثماني .وبعد المولوية أنتشرت الطرق البكداشية( ) والدمرداشية( ) التي اتسع نطاقها في آسيا الوسطي إلى البلقان،وأمتدت حتى وصلت السودان ومصر. وتلك المباني تأثرت بطرز العمارة التركية التي جاءت بالبناء الصرحي والمغالاة في الزخرف والألوان والتغطية بالقاشاني والقباب الباسقة المخروطية ، وبذلك تقّربت الى عمارة السلاطين وبذخها، ولاسيما بعد أن اتخذت الطريقة البكداشية منهجا للجيش الانكشاري الساند لعرش السلطان العثماني وغزواته . أما من الناحية المنهجية فقد انحرفت الصوفية عن المبدأ الذي وجدت بسببه و اتخذت منحاً جديداً مرتبطاً بالمعجزات والكرامات وخوارق الأمور والتي وجدت هواها لدى نفوس العامة الباحثة عن ملموس الظواهر الإيمانية.

و أقيمت هكذا القبور الصرحية للأولياء ، و أمها العامة للتبرك بها ،أو تيمناً بحمايتها لهم ولمدنهم وحقولهم وبذلك أخذت عمارة الصوفية تتجه نحو العناية بالقبور وعمارتها.ويجدر ذكر حقيقة أن انتشار الطرقية وفكر التصوف "الجديد" قد تزامن بشكل عجيب مع بواكير حقبة التخلف في كل مناحي الحياة الإسلامية منذ القرن العاشر الهجري -السادس عشر الميلادي.ولم تعد الصوفية اليوم دعوة للزهد في الدنيا والانقطاع عن ملذاتها وتكرس حالة من القطيعة مع بهرجها ولاسيما في العمارة ، بقدر ما أمست حالة روحانية وطقوس مجردة وتجمعات فرقية ،تمارس العبادات على طريقتها.

الزهد و الحداثة المعمارية

وفي استيضاح الصفات الزاهدة المنعكسة في مرآة العمارة ،نجد أجلى صورها في البساطة والمباشرة التي تضطلع بموقع الجوهر والدستور . وولوجاً إلى معرفة صفة البساطة والتبسيط الذي كان إحدى الثوابت الأساسية في عمارة المسلمين وحاد يوماً عنها السلاطين و حافظت على ديمومتها العمارة الشعبية والذي اكسبها صفة "الثابت الثقافي" بسبب الاتجاه المباشر لهدف العمارة المتمثل في وظيفية و(مباشرية) نحو الهدف إلى الفضاء المعماري المستخدم، ومثالنا الأجدر في ذلك المسجد الذي جاء ليحقق وظيفة روحية وثقافية واجتماعية البسها المسلمون ببناء يفي بالحاجة ولم تعر أي أهمية لكيفية ما ستكون عليه هيئتها الخارجية.

وفي تقصي كنه البساطة من الناحية الفلسفية والعملية التي ظهرت في العمارة الخارجية والداخلية الإسلامية.نجد أن ممارسة (الإختزال) الوارد في العمارة الحديثة ، لم تكن تعني بأي حال من الأحوال الاختزال لذلك الفضاء في جوانبه الكمية المجردة ،بل تشتمل على مجمل الأحاسيس والانطباعات التي تتولد عن حالة التكامل المتزن بين عناصر البنية الكلية لذلك الفضاء ،الذي يخدم الحياة الاجتماعية الإسلامية .ويكون ذلك إنعكاسا لقوله تعالى (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) ( ). وهذا هو الميزان والمقاس بين التبذير والتقتير الذي أنعكس كمبدأ من مبادئ العمارة، السارية في كل مكان وزمان.

إن الوصول إلى نقطة التوازن هذه والتوقف عندها في نتاجات العمارة والفنون والآداب هي من سجايا البراعة والإبداع والتحكم الرفيع في الإيقاع والتأثير على أحاسيس المتلقي للفعل الإبداعي وان تحقيق ذلك التوازن بين طرفي المعادلة (الأكثر أو الأقل) من اعقد التحديات التي تجابه المعماري أو الفنان أو الأديب.وأسلوب البساطة أو السهولة في هذا الإطار المتوازن لا يعني الرخص أو الوفر،سهل المنال في العملية التصميمية .والمبنى البسيط في شكله يكون نتيجة دراسة طويلة وليست اعتباطية متسرعة. وتتأتى البساطة هنا من تأثيره على استعمال وتنظيم حياة مستعمليه،وتأثيره على تسهيل فهمه وإدراكه بالنظر. كما هو الخطاب الإسلامي العام الذي ورد سهل الفهم والإفهام ويعتمد على آليات بسيطة في شرحه.

والتبسيط عملية فحص وتجريد و اختزال لكل ما هو زائد وكل مال ليس له ضرورة وأساسا من التواجد،وما يعتبر عبئا على كفاءة المبنى. وهذه العملية لا تظهر للرائي العادي ،ولا يدركها إلا الخبير المتفقه ،واسع الأفق ،و يتميز بكونه مرهفا لإدراك الجمال من "النوع الفكري" ،المحسوس ،وليس من النوع الملموس المدرك بالحواس. أما صيغة التبسيط الواردة في تيار "العمارة العالمية" المعاصر فهو ليس إلا إتباع لقواعد واستخدام لأشكال تم تبسيطها وأصبحت ممكنة الاستعمال ذات ثلاثة أبعاد كأنها تماثيل أو ثنائية الأبعاد كأنها لوحات فنية ( ).

وفي السياق الجمالي نجد أن للجمال ثلاث صيغ إحداها حسي بما تلمسه الحواس وجمال عاطفي يتعلق بالذكريات ،وسالف الصلات، وجمال فكري وهو يتكرس بعد مراحل كبيرة من التقدم والرقي العقلي و الثقافي.ويدعى كذلك (الجمال التجريدي) وهو أقرب أنواع الجمال إلى النوع "الوظيفي" التي وجدت لها تيارا عريضا في عمارة القرن العشرين . ويتداخل ذلك الجمال مع مفهوم (المتقشفون) في العمارة، وهم المتمسكون بوجهة النظر الفكرية وحدها ويسقطونها عادة على الاعتبارات الأخرى غير الفكرية،ويخرجها من الموضوع.وهذا الجنوح إلى الجمال لا يتواجد في ذهن المتفرج السلبي (passive)، ولا يتكشف لذوي العقل العلمي المحض،وبذلك يكون الإعجاب بالشيء وحده ولذاته وكنهاية في حد ذاته إعجابا تجريديا منزها من الغرض والفائدة ،أي مبرر أخر،وبذلك يتضمن الشكل لدى عشاق هذا الجمال درجة من السمو النوعي ويترادف الشكل مع الجمال نفسه( ).

وقد أدى التعلق بهذا النوع من الجمال (الزاهد) إلى مشاكل فلسفية في الحضارات المادية ،ومنها الحضارة المعاصرة ،عندما وضعت مبادئ جامدة في النسب والتناظر والانسجام الشكلي وغيرها من المبادئ التصميمية في العمارة، أرادوا أن يفرضوها على أذواق الناس . ثم تصاعد ذلك إلى حالة من اليأس من الموضوع بمجمله ،الذي أعتبر الجمال مسألة فردية محضة. وهكذا خالفوا موضوع (الجمال الزاهد) الذي أتى به الفكر الروحاني في الإسلام ،الذي ربط الجمال بصانعه ولم يحدد له أشكال قسرية بعينها. وبذلك وجد حلا لذلك اللغط القائم بين مرامي كل من المعماريين الأكاديميين الذين يسعون لمقاييس ثابتة وشاملة والفلاسفة اللذين يبحثون عن الحق المطلق والعلميين الذين يريدون ترتيب الأشياء عقليا حتى يتم استيعابها والإلمام بها كلية، في الذهن والذاكرة.

ولهذا المستوى الرفيع من الشعور بالجمال ومفهوم البساطة نجد في أيامنا هذه صدى في نفوس جل التيارات الفنية والمعمارية الحديثة ، والتي كانت رائديتها تعود إلى العمارة الإسلامية الأولى.وهذا يرجعنا الى التمحيص في كنه العمارة، مستعينين بالتعريف الذي ذكره الدكتور عرفان سامي عن العمارة بأنها : (الفن العلمي لاقامة أبنية تتوفر فيها عناصر المتانة والمنفعة والاقتصاد وتفي حاجات الناس المادية والنفسية والروحية في حدود أوسع الإمكانيات وبأحسن الوسائل المتوفرة في العصر التي تكون فيه) .وهذا ما يطابق المنهج الذي اتخذته عمارة المسلمين.

ومنذ بداية القرن وبظهور التيارات المعمارية العالمية في القرن العشرين حيث نجد تيار (النقائيين Purists ) قد أثرت في العمارة الأوربية.و انبرى من هذا التيار المعمار (أدولف لوس) ( )، ناقدا حالة الزخرف في العمائر وذلك عام 1908 خلال مقال كتبه تحت عنوان (الزخرف والجريمة)، وتطرف في أحكامه حيث أعتبر الزخرف من علامات الهمجية أو التردي الآثم، أو متنفسا للكبت( ). و بعد أن هذبت تلك الفكرة المتطرفة في أحكامها، حيث ظهرت في مدرستين منها وهي مدرسة المعمار (ليكوربوزييه) ( ) و (ميس فان دروه)( ) اللتين أخذتا شوطا كبيرا في هوى رهط واسع من المعماريين في العالم وجوهرهما يكرس الاختزال والتقشف في المفردات المعمارية والذي يضيف إليه غنى كما قال ليكوربوزييه (Less is more ) بالرغم من أن بعض المعماريين قد وسموا هذا المنحى الاختزالي الذي يولد السأم (Less is bore ) كما قال فنتوري ،وهو من رواد "ما بعد الحداثة". ويقول ليكوربوزييه في ذلك :(تتولد العاطفة من النظام التشكيلي الذي ينشر تأثيره على كل جزء من أجزاء التكوين ..من الوحدة في الفكرة تمتد من وحدة المواد المستعملة إلى وحدة خطوط التسوية العامة ..من الوحدة في الهدف ..من ذلك العزم الذي لا يتزعزع للوصول إلى غاية النقاء وغاية الوضوح وغاية الاقتصاد ).

ويمكن هنا رصد الفرق بين الزهد الإسلامي في العمارة والزهد الذي دعى له بعض رواد عمارة القرن العشرين بأن الثاني جاء مقتصرا على الزخرفية في العمارة والدعوة الى النزعة (الاختزالية)، دون المساس بالجانب الصرحي والمبالغات في الفضاءات والبذخ في مواد المواد و البهرج والإثارة في عناصرها ،مما يجعل هذا الزهد ناقصا أو شكلا دون محتوى أو ظاهرا دون باطنا. وهو ما يخالف الزهد الإسلامي الذي دعى إلى"شمولية زاهدة"، في مجالات الحياة والعمارة التي كانت على العموم الصورة التي تعكس إيقاعها.

إن إدراك المفهومين-الاقتصاد والتبذير - المتناقضين يلتقيان في نقطة ذروة يتحقق عندها الكمال والتجاوب بين المكونات وعند هذه النقطة يجب أن تتوقف الإضافة إذ عندها تتحقق أسمى درجات الغنى والثراء علي صعيد الوظيفة أو الشكل . وهذا ما يتجلى في كثير من الأعمال العمرانية والمعمارية العربية. ولدينا في عمارة الصحراء الضاربة،ونموذجيتها في عمارة مدائن وادي (مزاب) في الصحراء الجزائرية ، من جذورها القديمة ،التي استطاعت أن تحافظ على بساطتها من التأثيرات الخارجية بسبب انعزالها والتي أحدثت اكبر الأثر في نفوس معماريي "البساطة" ومنهم ليكوربوزييه الذي نهل من عمارتها الشيء الكثير.وهذا للأسف لم يمس مشاعر معماريينا المحدثين الذين حاكوا الجانب الصرحي للعمارة متأثرين بعمارة الغرب ومنبهرين بها ،وبالرغم من وجود بعض المدارس العالمية الداعية إلى عكس ذلك كما هو حاصل في فكر المعماريين الفنلنديين والمدرسة الاسكندنافية مثل (الفار آلتو ) ( ) الذين رسموا خطهم البسيط المتواضع المتناغم مع الخطاب الأخلاقي العمومي والعقلية الشعبية دون الإفراط في العاطفة إليها، والتي مازالت رافضة لعمارة البذخ .و توجه جل اهتمامهم لتطوير نوعية وكفاءة مواد البناء وتكنولوجيا البناء الذي يوفر السرعة والسهولة والاقتصاد في التنفيذ. وقد وجهت انتقادات شعبية حادة لمركز التجارة العالمي في مركز مدينة ستوكهولم عاصمة السويد وكان مما رددوه العامة في ذلك بأنها " هنا السويد وليس الخليج العربي! "…إنها لحقاً مفارقة تستأهل التوقف عندها والمعاينة ، فيخال المرء فيها أن البساطة الواردة في جوهر الإسلام ومنهجه الأخلاقي وعمارته قد ظهرت هنا وليس من بؤرته المحمدية في الجزيرة العربية .
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف