ان قاع جهنم محجوز لاولئك الذين يقفون على الحياد عندما تتعرض القيم للخطر
دانتى
قبل ثلاثين عاما وحينما كنت طالباً جامعياً ، اعتدت ان اتبضع كتبى المفضلة اسبوعياً من مكتبة المثنى في ساحة التحرير في بغداد ، لفت نظرى مجموعة قصصية بعنوان : موت سرير رقم 12 وكانت تلك هي البداية مع قراءة مزمنة لاعمال الكاتب المبدع الراحل غسان كنفاني وحرصت على ان اقرا كل اعماله الادبية حال صدورها عن دار الطليعة وصولها الى مكتبات بغداد.
ساتطرق الان الى قصة موت سرير رقم 12 التى حملت المجموعة القصصية اسمها والتى كانت بداية قراءتى للكاتب غسان كنفاني فموضوعها الاساسى هو شعور االمنفى المعذب الذى ينعطف الى الوراء والذى تعبر عنه كافة الصور من خلال التعلق الاحادى الجانب بالماضى حيث تتطور موضوعة المنفى الاساسية تحت دافع الموت الكاشف عن سر الحياة. يأخذ أحد المرضى بمراقبة مريض آخر يحتضر ، أصله من عُمان ، لا يؤثر وجوده في أحداث القصة، فيشرع المريض الرواي بتكوين فكرة عن حياته.
لقد تخيله منفياً شق طريقه بشجاعة رغم العقبات العديدةن لكن الحياة نبذته بعد اصابته بمرض فتاك. وقد تخيل أيضاً في صندوقه الذى يمسك به على الدوام ثروته:" عباءة بيضاء شفافة مذهبة الاطراف... حلق خزفيّ لأخته سبيكة تزين بها أذنيها ، وزجاجة من عطر قوي، وصرة بيضاء مصرورة على مايسره الله له من نقود" .
يموت العماني، فتنكشف الحقيقة : ان ماكان خيالا كان صورة رومانطقية للحياة ، اذ أن حياة العماني في الواقع أكثر قسوة . فهو يتيم في الكويت بعيداً عن وطنه وأطفاله الخمسة ، بينما يتخيله اللرواي رجلا غادر بلاده ليجمع المال، وليرجع غنيا كي يستحوذ على حبيبته. غير أن ما كان في الصندوق ليس سوى: " مجموعة فواتير بديون الدكان الجديدة للمخازن الموردة وكانت في الظرف صورة قديمة لوجه مليح وجلد ساعة قديم ،وخيط من القنب، وشمعة صغيرة، وبضع روبيات منثورة بين الاوراق".
وهكذا لم يحتو الصندوق على قيمة ثمينة وانما على قيم لحياة الفقر والمنفى الشاقة فالصندوق الخيالى مفعم بالاوهام بينما الصندوق الحقيقى يحتوى على اشياء حزينة للحياة يذوق الفقير مرارتها. اثار الرواى الذى هو مريض ايضا مسالة موت الانسان : فهو يرى ان حياة الشقاء والالم ذات المحتوى المحدد لا تترك سوى اثار عديمة الجدوى كالفواتير والشموع وهذا ما يفكر به: " ان قضية الموت ليست قضية الميت ، انها قضية الباقين.. ان علينا ان ننقل تفكيرنا من نقطة البداية الى نقطة النهاية.يجب ان ينطلق كل تفكير من نقطة الموت."
لقد اعطى الموت في هذه القصة معنى لما يستطيع الرواى معرفته مسبقا فهل من الضرورى ان ننتظر الموت دائما لمعرفة الحياة؟ اذا طبقنا هذه الفكرة على مصير الشعب الفلسطينى نقراها هكذا : يجب ان نفهم حقيقة الشعب الفلسطينى قبل ان يموت. ومع هذا فلم تطرح هذه المسالة عند غسان كنفاني بشكل واضح الا في وقت لاحق ، اذ لا تحمل سوى طابعها الفلسفى القائل: " يجب ان ينطلق كل تفكير من نقطة الموت.
كانت تلك هي بداية اعجابى باعمال الكاتب غسان كنفاني حيث حرصت بعدها على اقتناء مجموعة اعماله الكاملة –بجزئيها الاول والثاني- والمحافظة عليهما وشاءت الاقدار ان تتعرض دارى في بغداد لقصف الطائرات الايرانية في الايام الاولى للحرب عام 1980 وان يخترق جزء مشتعل من صاروخ طائرة ايرانية نافذة غرفة الكتب في الطابق الثاني من الدار وان تحترق مايقارب 5000 كتاب ومجلة تتضمن كتباً عمرها ما يقارب 50 الى 70 عاما ونجا من تلك الكتب القليل مما كان اصلا في الغرف الاخرى ومنها المجموعتين الكاملتين لاعمال الكاتب الراحل غسان كنفاني وأطروحة تقدم بها الباحث افنان القاسم لنيل شهادة الدكتواره من جامعة السوربون عام 1975 باشراف المستشرق اندريه مايكل والتى طبعت عام 1978 ، وكتاب مختارات من الشعر الاميركي لمؤلفه الفريد كريمبورغ والمطبوع عام 1930 في الولايات المتحدة. وبقت هذه الكتب الثلاثة لتشكل نواة مكتبة منزلية من جديد خلال العشرة سنوات الاخرى 1980-1991 .
ربما لم اعد قراءة روايتين كما فعلت مع "ماتبقى لكم-1966
عصام البغدادي -بانكوك
دانتى
قبل ثلاثين عاما وحينما كنت طالباً جامعياً ، اعتدت ان اتبضع كتبى المفضلة اسبوعياً من مكتبة المثنى في ساحة التحرير في بغداد ، لفت نظرى مجموعة قصصية بعنوان : موت سرير رقم 12 وكانت تلك هي البداية مع قراءة مزمنة لاعمال الكاتب المبدع الراحل غسان كنفاني وحرصت على ان اقرا كل اعماله الادبية حال صدورها عن دار الطليعة وصولها الى مكتبات بغداد.
ساتطرق الان الى قصة موت سرير رقم 12 التى حملت المجموعة القصصية اسمها والتى كانت بداية قراءتى للكاتب غسان كنفاني فموضوعها الاساسى هو شعور االمنفى المعذب الذى ينعطف الى الوراء والذى تعبر عنه كافة الصور من خلال التعلق الاحادى الجانب بالماضى حيث تتطور موضوعة المنفى الاساسية تحت دافع الموت الكاشف عن سر الحياة. يأخذ أحد المرضى بمراقبة مريض آخر يحتضر ، أصله من عُمان ، لا يؤثر وجوده في أحداث القصة، فيشرع المريض الرواي بتكوين فكرة عن حياته.
لقد تخيله منفياً شق طريقه بشجاعة رغم العقبات العديدةن لكن الحياة نبذته بعد اصابته بمرض فتاك. وقد تخيل أيضاً في صندوقه الذى يمسك به على الدوام ثروته:" عباءة بيضاء شفافة مذهبة الاطراف... حلق خزفيّ لأخته سبيكة تزين بها أذنيها ، وزجاجة من عطر قوي، وصرة بيضاء مصرورة على مايسره الله له من نقود" .
يموت العماني، فتنكشف الحقيقة : ان ماكان خيالا كان صورة رومانطقية للحياة ، اذ أن حياة العماني في الواقع أكثر قسوة . فهو يتيم في الكويت بعيداً عن وطنه وأطفاله الخمسة ، بينما يتخيله اللرواي رجلا غادر بلاده ليجمع المال، وليرجع غنيا كي يستحوذ على حبيبته. غير أن ما كان في الصندوق ليس سوى: " مجموعة فواتير بديون الدكان الجديدة للمخازن الموردة وكانت في الظرف صورة قديمة لوجه مليح وجلد ساعة قديم ،وخيط من القنب، وشمعة صغيرة، وبضع روبيات منثورة بين الاوراق".
وهكذا لم يحتو الصندوق على قيمة ثمينة وانما على قيم لحياة الفقر والمنفى الشاقة فالصندوق الخيالى مفعم بالاوهام بينما الصندوق الحقيقى يحتوى على اشياء حزينة للحياة يذوق الفقير مرارتها. اثار الرواى الذى هو مريض ايضا مسالة موت الانسان : فهو يرى ان حياة الشقاء والالم ذات المحتوى المحدد لا تترك سوى اثار عديمة الجدوى كالفواتير والشموع وهذا ما يفكر به: " ان قضية الموت ليست قضية الميت ، انها قضية الباقين.. ان علينا ان ننقل تفكيرنا من نقطة البداية الى نقطة النهاية.يجب ان ينطلق كل تفكير من نقطة الموت."
لقد اعطى الموت في هذه القصة معنى لما يستطيع الرواى معرفته مسبقا فهل من الضرورى ان ننتظر الموت دائما لمعرفة الحياة؟ اذا طبقنا هذه الفكرة على مصير الشعب الفلسطينى نقراها هكذا : يجب ان نفهم حقيقة الشعب الفلسطينى قبل ان يموت. ومع هذا فلم تطرح هذه المسالة عند غسان كنفاني بشكل واضح الا في وقت لاحق ، اذ لا تحمل سوى طابعها الفلسفى القائل: " يجب ان ينطلق كل تفكير من نقطة الموت.
كانت تلك هي بداية اعجابى باعمال الكاتب غسان كنفاني حيث حرصت بعدها على اقتناء مجموعة اعماله الكاملة –بجزئيها الاول والثاني- والمحافظة عليهما وشاءت الاقدار ان تتعرض دارى في بغداد لقصف الطائرات الايرانية في الايام الاولى للحرب عام 1980 وان يخترق جزء مشتعل من صاروخ طائرة ايرانية نافذة غرفة الكتب في الطابق الثاني من الدار وان تحترق مايقارب 5000 كتاب ومجلة تتضمن كتباً عمرها ما يقارب 50 الى 70 عاما ونجا من تلك الكتب القليل مما كان اصلا في الغرف الاخرى ومنها المجموعتين الكاملتين لاعمال الكاتب الراحل غسان كنفاني وأطروحة تقدم بها الباحث افنان القاسم لنيل شهادة الدكتواره من جامعة السوربون عام 1975 باشراف المستشرق اندريه مايكل والتى طبعت عام 1978 ، وكتاب مختارات من الشعر الاميركي لمؤلفه الفريد كريمبورغ والمطبوع عام 1930 في الولايات المتحدة. وبقت هذه الكتب الثلاثة لتشكل نواة مكتبة منزلية من جديد خلال العشرة سنوات الاخرى 1980-1991 .
ربما لم اعد قراءة روايتين كما فعلت مع "ماتبقى لكم-1966
عصام البغدادي -بانكوك