الأخبار
إعلام إسرائيلي: إسرائيل تستعد لاجتياح رفح "قريباً جداً" وبتنسيق مع واشنطنأبو عبيدة: الاحتلال عالق في غزة ويحاول إيهام العالم بأنه قضى على فصائل المقاومةبعد جنازة السعدني.. نائب مصري يتقدم بتعديل تشريعي لتنظيم تصوير الجنازاتبايدن يعلن استثمار سبعة مليارات دولار في الطاقة الشمسيةوفاة العلامة اليمني الشيخ عبد المجيد الزنداني في تركيامنح الخليجيين تأشيرات شنغن لـ 5 أعوام عند التقديم للمرة الأولىتقرير: إسرائيل تفشل عسكرياً بغزة وتتجه نحو طريق مسدودالخارجية الأمريكية: لا سبيل للقيام بعملية برفح لا تضر بالمدنييننيويورك تايمز: إسرائيل أخفقت وكتائب حماس تحت الأرض وفوقهاحماس تدين تصريحات بلينكن وترفض تحميلها مسؤولية تعطيل الاتفاقمصر تطالب بتحقيق دولي بالمجازر والمقابر الجماعية في قطاع غزةالمراجعة المستقلة للأونروا تخلص إلى أن الوكالة تتبع نهجا حياديا قويامسؤول أممي يدعو للتحقيق باكتشاف مقبرة جماعية في مجمع ناصر الطبي بخانيونسإطلاق مجموعة تنسيق قطاع الإعلام الفلسطينياتفاق على تشكيل هيئة تأسيسية لجمعية الناشرين الفلسطينيين
2024/4/25
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

اول كتاب باللغة العربية عن :مهاتير محمد - ماليزيا

تاريخ النشر : 2003-09-27
الدكتور محاضر محمد.. بعيون عربية وإسلامية
تأليف: الدكتور عبد الرحيم عبد الواحد

اصدار
الأجواء للنشر
الإمارات العربية المتحدة
الطبعة الأولى
أكتوبر 2003
اهداء..
.. إلى المخلصين أصحاب النوايا الصادقة
..إلى زعماء الأمتين العربية والإسلامية
..وإلى القائد الدكتور محاضر محمد

مقدمة
introduction
د. محاضر.. عاقل في زمن الجنون
لكل زمان دولة ورجال، مقولة تاريخية تحمل في طياتها وحروفها الكثير من الدلالات، فلكل وطن فرسانه ورجاله الذين يؤدون واجبهم تجاه شعوبهم وأوطانهم ويواجهون التحديات والصعاب، ويدفعون الغالي والرخيص من أجل النهوض بالوطن وإسعاد الشعوب مهما كلف الأمر من تضحيات. وعند الحديث عن هؤلاء، يبرز دور أحد الذين سطع نجمهم في تاريخ ماليزيا الحديث، إنه الدكتور محاضر محمد رئيس وزراء ماليزيا الذي يغادر منصبه الرسمي مع صدور هذا الكتاب على هامش انعقاد الدورة العاشرة لقمة المؤتمر الإسلامي في العاصمة الماليزية كوالالمبور.
بهامته الشامخة كما هي ماليزيا، وبساطته وتواضعه، يسطر الدكتور محاضر محمد أروع الأمثلة الإنسانية التي جاءت وليدة قناعاته ونظرياته وفلسفته الحياتية، حيث قاد بلاده إلى النهضة والتطور ومن ثم إلى بر الأمان بعد مشوار طويل من التضحيات، فيما سطرت أفكاره ومواقفه سجلاً حافلاً من النظريات التي يستحق عليها التكريم بأنبل الشهادات تقديراً لوفائه لوطنه وشعبه وأمته الإسلامية، كما دوّن برؤيته الثاقبة وحكمته الراسخة، سياسة ماليزيا وحدد أهدافها التي حققت الرخاء والتنمية بعد أزمات ومؤامرات كادت تعصف بإنجازات الشعب الماليزي، كما تحولت في عهده الأحلام إلى حقائق على أرض الواقع بعد ان حمل الأمانة التاريخية، مستعيناً بالمصداقية التي تحكم مشاعره وتحدد سلوكه. إنه مفخرة كل من يعرف دقائق شخصيته وحياته اليومية.
يُوصف الدكتور محاضر بأنه حكيم عاقل في زمن الجنون والخوف على المصالح الشخصية، يُسمي الأشياء بأسمائها، ويضع الأمور في نصابها الصحيح ويعطي القضايا ما تستحقه، فهو قائد ذو ثقافة عالية يعطي دروساً في التاريخ والدين والإنسانية والأخلاق. لم يقل شيئاً يجافي المنطق أو بعيداً عن الواقع، رجل حضارة وفكر وسلام، استطاع جذب انتباه جميع الوطنيين والمحبين للسلام والعقلانيين الباحثين عن مصالح الأمة الإسلامية وسط ركام التخاذل والخنوع والأفواه المغلقة والأيادي المقيدة، ومدافع عنيد وقوي عن الحقوق العربية والإسلامية.
وينظر إلى الدكتور محاضر محمد على أنه باني ماليزيا الحديثة، فمنذ تسلمه المنصب في العام 1981 قاد ثورة إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية وعلمية في ماليزيا ونقلها من دول العالم النامي إلى العالم المتقدم. وكغيره من الزعاماًت التي تركت بصماتها على تاريخ بلادها وامتد تأثيرها إلى محيطها الإقليمي والدولي، يعد محاضر من الشخصيات التي أثارت جدلاً كبيراً، وخاصة الجانب الفكري في شخصيته الإسلامية حتى اعتبره البعض واحداً من الشخصيات التاريخية في العالم المعاصر خلال القرن العشرين.
فقيادة محاضر جاءت في الوقت الذي انحسر فيه انصار الواقعية السياسية بعيداً عن العواطف والمجاملات والزعاماًت الإعلامية، فلم يتوقف عن الدعوة إلى الاصلاح والتطوير بدءاً من أبناء جلدته أفراد شعب الملايو الذين يكنون له كل الاحترام والتقدير بسبب مواقفه التي تتجسد يوماً بعد يوم على أرض الواقع داخل وخارج ماليزيا. كما لم يتوقف عن نقد ورفض التوجهات الغربية وخاصة الأمريكية ومحاولتها فرض سيادتها الاقتصادية على الشعوب الضعيفة والفقيرة بل نصّب نفسه حارساً ومدافعاً عن القضايا العربية والإسلامية في كافة المحافل والمنتديات الإقليمية والدولية أكثر من أصحابها الشرعيين، مما أكسبه احتراماً وتقديراً عبر عنه غالبية قادة وحكام دول العالم.
ويتمتع الدكتور محاضر حسب أغلب الرؤى المحايدة بكاريزما قيادية وسحر شخصي ما جعله شخصية جماهيرية ذات ثقل فكري مرموق ليس في ماليزيا وحدها وإنما على مستوى جنوب شرق آسيا والعالم الإسلامي. ولعل من بين الخصال الحميدة التي كرسها محاضر وستترك أثرها الكبير على مستوى بلاده فضلاً عن الصورة الايجابية التي قدمها من خلال مواقفه قيمة التسامح. فمحاضر رغم التزامه القوى بعقيدته الإسلامية إلا أنه ظل يحرص من موقعه كرئيس حكومة على إشاعة التسامح الديني في ماليزيا تجاه الأقلية غير المسلمة حتى أصبح ينظر إليها على أنها النموذج الإسلامي الوحيد الذي يستحق أن يحتذى. وفي وصف محاضر راح البعض يؤكد أنه يتمتع بقوة شخصيته ونظرة سياسية ثاقبة، وأنه لم يعرف عنه استغلال نفوذه في مراكمة الثروة الشخصية أو فرش الطريق بالذهب للأقارب والمحاسيب، كما نجح في تحاشي التحول إلى رمز لعبادة الفرد وهي الظاهرة التي دمرت الكثير من القادة المسلمين، إضافة إلى اعتباره انموذجاً للقادة المسلمين الذين تجاوزوا مجرد مباشرة الشؤون اليومية إلى تطوير رؤية سياسية استراتيجية.
لقد تخطت ماليزيا التي يُطلق عليها "يابان العالم الإسلامي"، الصعاب بفضل قيادة ابنائها المخلصين، وضربت أروع الأمثلة على الإصرار والتحدي مما جعلها تستحق وبجدارة تقدير واحترام العالم بأسره حكاماً وشعوباً، حيث استطاع ذلك "النمر الآسيوي"، تحقيق نقلة نوعية متميزة في المجالات الصناعية والسياحية والتكنولوجية والطبية والتعليمية حتى وصلت إلى المرتبة الـ 18 على خريطة العالم الاقتصادية فيما بلغت نسبة المتعلمين 93% بعد ان كانت الأمية والجهل والتخلف قبل 35 عاماً إحدى سمات شعب الملايو. وكنتيجة لذلك اعتبرت مثالاً ناجحاً وتجربة أسطورية تنافس مثيلاتها من الدول الصناعة المتقدمة. ومن المؤكد أن لكل تلك الإنجازات أسباباً كامنة وأسراراً قوية تقف خلف ما يمكن أن نسميه النهضة الكبرى لماليزيا المسلمة.
وشكلت مواقف الدكتور محاضر محمد الذي يوصف بأنه صاحب الإرادة القوية والتفسيرات المنطقية، مفتاحاً سحرياً لكشف الأهداف بعيدة المدى للسياسات الغربية والأمريكية تجاه دول جنوب شرق آسيا بل وجمع بين الحضارتين الشرقية والغربية في توافق قلما يوجد في مكان آخر حيث ساهم بدور كبير في تحقيق التعايش بين مختلف الديانات والأعراق التي تتجاوز الخمسين.
ولا نبالغ في القول، إن ملامح الدهشة والإعجاب والتقدير لا تفارق خيال كل من يزور ماليزيا وخاصة من العرب والمسلمين الذين يعتبرون التجربة الماليزية انموذجاً فريداً وسياسة ناجحة بكل المقاييس. لذلك، يجب علينا نحن شعوب العالم الثالث ان نتعلم ونستخلص الدروس والعبر من هذه التجربة لتحقيق رفاهية الأجيال المقبلة من خلال توحيد الجهود والإمكانات ورفض الاستعباد الأجنبي ومحاولاته لتهميش القوى الوطنية والقومية.
ولا يكتمل الحديث عن تجربة الدكتور محاضر التنموية والاقتصادية دون التعرض لقضايا العالم الإسلامي التي شكلت هاجساً كبيراً طوال مشواره السياسي داعياً للوحدة ونبذ الخلافات وتوحيد الصفوف واستغلال الإمكانات والابتعاد عن الصراعات الداخلية، حتى يمكن القول بأن الحديث عن هذا القائد، يعني في حقيقة الأمر إعادة كتابة التاريخ من دون تزييف أو مزايدات. لذلك، السطور التالية لا تعني مجرد السرد النظري التقليدي للأحداث والتصريحات والمواقف بقدر ما ترسم صورة واقعية لأفكار زعيم امتزجت طموحاته وأحلامه بالواقع، فشكلت لوحة رائعة وجسدت أسطورة نادرة لم تكن لترى النور لولا الإرادة الواعية والحريصة على مصالح البلاد والعباد، والتي يمكن وصفها بفلسفة إسلامية على الطريقة الآسيوية.
وقد سألت في لقاء خاص جمعني والدكتور محاضر محمد في كوالالمبور في يناير 2003، لماذا أنت دائم الهجوم الشديد والعنيف على القيادات الغربية وسياستها الخارجية وخاصة الأمريكية، فكان جوابه، شافياً عقلانياً ومنطقياً وواقعياً تمثل في أن: ماليزيا غير مرهونة لقروض ومساعدات أمريكية تجبرها على اتباع السياسة التي تريدها واشنطن، وأن ماليزيا لديها من القدرات التقنية والبشرية بما يؤهلها للاستغناء عن - كرم العون- الأمريكي تحديداً، كما أن واجب الأمانة الدينية التي نتحمل مسؤوليتها أمام الله عز وجل يفرض علينا قول الصراحة والصدق وعدم المواربة والدعوة إلى التوحد وخاصة إن لدى المسلمين من القدرة ما يؤهلهم ليكونوا قوة كبرى لها وزنها السياسي والاقتصادي في العالم وأن يكونوا مشاركين وليسوا متفرجين على ما يحدث على سطح هذا الكوكب.
وأخيراً، لابد من توجيه الشكر والتقدير للكثيرين الذين ساهموا في إنجاز هذا الكتاب، سواء بالدعم المادي والمعنوى أو بتسخيرالإمكانات المختلفة للحصول على المعلومات الخاصة من الإمارات وماليزيا، وأخص بالذكر السيد/داتو سيد حسين الحبشي سفير ماليزيا السابق لدى دولة الإمارات الذي لم يدخر وسعاً في تقديم العون وتوفير المعلومات الخاصة بالدكتور محاضر. كما لا يمكن إغفال الدور الكبير والبارز للسيد / داتو يحيى عبد الجليل الذي كان لجهوده وتوجيهاته ووقته الدور الأهم في خروج هذا العمل إلى النور.
الدكتور عبد الرحيم عبد الواحد
دبي، 10 سبتمبر 2003
الباب الأول
ماليزيا تحت قيادة محاضر محمد
(1981 – 2003)
تمكنت ماليزيا بفضل سياسة أبنائها المخلصين قيادة وشعباً، من تجاوز الصعاب والتغلب على أخطر الأزمات السياسية والاقتصادية وأبرزها الكارثة المالية التي حلت بمنطقة جنوب شرق آسيا عام 1997. وضربت هذه القيادة أروع الأمثلة في التحدي وتجاوز المحن بل وتحقيق الإنجازات في كافة المجالات مما جعلها تستحق وبجدارة تقدير واحترام العالم بأسره حكاماً وشعوباً. وتحظى فلسفة محاضر باحترام وتقديرغالبية القيادات السياسية والشعبية ليس في العالمين العربي والإسلامي فقط بل والعالم أجمع، فهو صاحب تجربة فريدة وفكر ثاقب وطروحات عملية بعيدة النظر ومايسترو قصة النجاح التي شكلت انموذجاً رائداً في العالم الإسلامي ودول العالم الثالث.
ومن القضايا التي ساهمت في تزايد الاحترام الشعبي والرسمي لسياسة محاضر، اهتمامه بمسألتي التعليم والاقتصاد، فمنذ بداية نشاطه السياسي والحزبي كان همه الأول انقاذ شعبه ومواطنيه من مستنقع التخلف والجهل فيما لا يزال يناضل لتحقيق المزيد في هذا المجال وذلك بالرغم من الإنجازات التعليمية التي تحققت بشهادة خبراء عالميين ومن أقواله التي تشهد له في هذا الإطار مقولته خلال حديثه لقناة الجزيرة القطرية:" ورثنا نظامنا التعليمي عن البريطانيين خلال فترة خضوعنا لهم، ولكننا شعرنا ان ذلك لا يلبي طموحاتنا، واننا بحاجة إلى ذوي تعليم أعلى، لذا انفقنا 20% من ميزانيتنا القومية على التعليم، وهي نسبة تزيد على ما ننفقه على الدفاع مثلاً وشجعنا التعليم لدرجة انه كان لدينا 50 ألف طالب يدرس في الخارج في أي وقت من الأوقات ونفس العدد يدرسون في معاهد البلاد العليا، ولكن التأكيد كان على دراسة العلوم والتكنولوجيا والتنمية وليس على مواضيع أدبية مثل التاريخ وما شابه ذلك، التأكيد دوماً كان على بناء القوة العاملة التي نحتاجها لتطوير البلد".
والسؤال الذي لا ينفصل عن تلك الإنجازات، هو كيف استطاعت ماليزيا تحقيق مثل تلك النجاحات فيما فشل الآخرون الذين لم يعانوا مثلما عانته ماليزيا طائفياً وسياسيا واقتصادياً؟ هذا ما ستتناوله الصفحات التالية التي تتحدث عن الأبعاد الداخلية للقيادة "المحاضرية" خلال 22 عاماً من الحكم تبدأ من عام 1981 وتنتهي مع صدور هذا الكتاب العام 2003 الحاسم في تاريخ ماليزيا خلال القرن الحادي والعشرين. لذلك سنبحث الحالة الماليزية تحت قيادة محاضر عبر 9 فصول، يعرض الأول للأسباب التي من أجلها استحق محاضر ثقة شعبه عبر تبيان سياسته الواضحة تجاه قضايا بلاده القومية، وفي الفصل الثاني نبحث في التوجهات التي انتهجها محاضر وتمثلت في الاقتداء بالسياسة اليابانية لبناء دولته ثم يتناول الفصل الثالث مظاهر وأسباب الوحدة التي تتمتع بها ماليزيا، أما الفصل الرابع فيبين أسلوب الخصخصة ودوره في تنمية الاقتصاد الماليزي، ويعرض الفصل الخامس للرؤى والتصورات المستقبلية التي يراها محاضر في بناء ماليزيا الجديدة بحلول عام 2020، وتكمله لذلك يأتي الفصل السادس ليحكي قصة ماليزيا مع التكنولوجيا والمعلومات ودورهما في بناء مستقبل الأجيال المقبلة، ثم يتناول الفصل السابع مزايا التحولات التي عاشتها ماليزيا خلال السنوات الماضية، فيما يحدد الفصل الثامن الأساليب والوسائل التي انتهجتها القيادة الماليزية لمواجهة الأزمات المالية التي تعرضت لها وخاصة عام 1997، وأخيراً يـأتي الفصل التاسع ليشرح فلسفة الدكتور محاضر الاجتماعية والقيم الإسلامية التي حاول جاهداً لتكون الأسس التي يقوم عليها البناء الاقتصادي والاجتماعي للمجتمع الماليزي.

الفصل الأول
سياسة فعالة تستحق الثقة
لم يكن الدكتور محاضر محمد مجرد رقم عادي في المعادلة السياسية والاقتصادية لمنطقة جنوب شرق آسيا، بل عقبة كؤود أمام الأطماع والمخططات الاقتصادية والسياسية الامريكية والأوروبية وخاصة البريطانية التي ساهمت بشكل كبير إبان احتلالها لشبه الجزيرة الماليزية في تهجير العناصر الصينية والهندية باتجاه هذه المنطقة ومنحها الجنسية الماليزية وتمكينها من مفاتيح الاقتصاد والتجارة مقابل حصول شعب الملايو المسلم على حقوق المواطنة. وقد ترتب على ذلك انتشار ظاهرة التفرقة والانحياز الواضح لصالح الصينيين والهنود مما دفع الملايويين لمواجهة الأزمة سلمياً من خلال تنمية الكوادر البشرية وتولي المناصب القيادية والتركيز على الجانب التعليمي.
وبالرغم من التناقضات الواسعة في تركيبتها الدينية والعرقية، تمكنت ماليزيا في عهد الدكتور محاضر محمد من إرساء نظام حكم ديمقراطي مستقر إلى حد بعيد، يتناسب مع متطلبات المرحلة ومقتضيات حماية المصالح الوطنية، وذلك مقارنة بالظروف والمصاعب التي واجهت الحكومة الماليزية على مدى السنوات الماضية وخاصة بعد الأزمات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي ضربت البلاد وأبرزها الكارثة المالية التي عصفت بدول جنوب شرق آسيا عام 1997. كل ذلك ساهم في تكوين الاعتقاد لدى الساسة الأوروبيين بأن التجربة الماليزية نموذج واقعي جدير بالثقة يمكن أن يحتذى.
والدكتور محاضر من رجالات الحكم الذين يمكن أن يطلق عليهم وصف "الفذ الاقتصادي" وأنه صاحب تجربة اقتصادية وتنموية وسياسية واجتماعية ليست ناجحة فقط بل تجسيد حقيقي لأسطورة القيادة والفكر والنظريات البارعة وتشهد له في ذلك ليست فقط هذه السطور بل انجازاته منذ بدايات حياته وحتى اللحظة وأبرزها إخراج بلاده من دوامة بل كارثة اقتصادية محققة لولا عناية الله أولا وتوفيقه ومواقفه التي واجه بها تحديات وانتقادات داخلية وخارجية، والتي من دونها لذهبت ماليزيا بشعبها وانجازاتها ادراج الرياح بلا عودة. ويعبر محاضر عن فلسفته في الحياة بالقول إنه لا يبدي اهتماماً كبيراً بلون القطة سواء كانت بيضاء أو سوداء لأن الأهم من لونها كونها ماهرة في اصطياد الفئران، كما لا يوجد دواء عالمي يعالج مختلف الأمراض والعلل. وانطلاقاً من ذلك كان رأيه أن عملية الاصلاح الشاملة لمنطقة جنوب شرق آسيا تتطلب مئات السياسات والأفكار والأعمال، وليس الاقتصار على صيغة واحدة.
وفي هذا الإطار، بدأت الثقة والطمأنينة تترسخ في أذهان الشعب الماليزي وخاصة الملايويين منهم، بعد أن طرح الدكتور محاضر محمد فلسفته في العديد من القضايا الملحة التي تهم الحياة المستقبلية للشعب الماليزي، ففي مجال توزيع الثروة الوطنية رأي أن أفضل وسيلة للازدهار والرخاء بين أفراد الشعب بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية والدينية هي تقاسم الثروة بالتساوي، بما لا يمس أموال الأغنياء منهم. وفي الوقت نفسه تمحورت فلسفة التعليم عنده في اعتباره السلاح القوى في مواجهة التحديات والأزمات باعتماده على منهجية مدروسة ومحكمة، فمنذ البدايات الأولى لنشاط الدكتور محاضر محمد السياسي والحزبي، كانت مهمة إنقاذ شعبه ومواطنيه من مستنقع التخلف والجهل، الهم الأكبر، فيما لا يزال يناضل من أجل ترسيخ مثل هذه الأهداف القومية حتى تاريخ إعداد هذا الكتاب.
ويبدو أن الدكتور محاضر وبالرغم من الإنجازات التعليمية الرفيعة التي تحققت خلال فترة حكمه والتي يشهد لها خبراء عالميون إضافة إلى ما يؤكده واقع الحال في المجتمع الماليزي حيث لا تتجاوز فيه نسبة الأمية الآن أكثر من 6% فيما كانت في الماضي تبلغ 36% وتبلغ نسبة التعليم في ماليزيا حالياً 93% حيث تحتضن أكثر من 11 جامعة حكومية و 13 جامعة خاصة و 600 كلية حكومية وخاصة ومعاهد تقنية.
ومنذ البداية، لم تكن مهمة محاضر بالأمر السهل، حيث ورث مجتمعاً متعدد الأعراق والثقافات أبرزها المسلمون والصينيون والهنود، فعمل على تحقيق التوازن السكاني والعرقي خاصة في ظل أكثرية من أعراق الملايو دون قوة مؤثرة مما دفع رئيس الوزراء الدكتور محاضر للسعي إلى تعزيز نفوذهم في كافة نواحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية وانقاذهم من البؤس والفقر والتخلف، وفي الوقت نفسه يعتقد بأن التركيبة العرقية والدينية والتزامها بالإسلام باعتباره الدين الرسمي للدولة تلعب الدور البارز في فهم التصورات والممارسات الماليزية في التعامل مع القضايا القومية المصيرية، بل يرى أن الإسلام هو الهوية القومية والسياسية والاجتماعية والثقافية لشعب الملايو.
وخلاصة القول إن الرؤى التي قدمها محاضر من خلال مؤلفاته المختلفة والخاصة بإيجاد الحلول الممكنة والفعالة لمشاكل الشعب الماليزي مقرونة بتطبيقاتها على أرض الواقع، منحته الثقة الجماهيرية من كافة الأعراق الماليزية، فيما أضفت على شخصيته تاثيراً سحرياً وإعجاباً لا حدود له، كما منحته مكانة مرموقة بين أفراد شعبه. ومن الأسباب التي ساهمت في ترسيخ ثقة واحترام الجماهير للدكتور محاضر محمد، انجازاته التي تشهد لها الحياة اليومية في ماليزيا، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، الارتقاء بأبجديات الحياة الاجتماعية وتحقيق النهضة والتنمية الاقتصادية الشاملة للشعب الماليزي، تصحيح المفاهيم الدولية المشوهة التي الصقت بالإسلام والمسلمين، التكامل بين الإسلام والحداثة مع الالتزام بمتطلبات نظرية الفصل بين الدين والدولة، وتطبيق نظرية العدالة الاجتماعية والتعايش السلمي نظرياً وعملياً ودستورياً بين أفراد الشعب الماليزي من الملايويين والصينيين والهنود‏.
ومن الدلائل التي ساهمت في تعزيز ثقة الموطن الماليزي في قيادته، استمرارية التطور والنمو خاصة في قطاع الخدمات الاقتصادية حيث حققت ماليزيا حتى يوليو من 2003 نمواً بنسبة 4.5 % فيما يتوقع نمو الإنتاجية الماليزية بنسبة 2.2% لعام 2003، وفي الوقت نفسه بلغت المرتبة السياحية لماليزيا الثالثة في آسيا حيث ساهم قطاع السياحة بمبلغ 25 مليار رينجكت في الدخل القومي الماليزي خلال عام 2002، وبلغ عدد زوارها 13 مليوناً ومئة ألف سائح من أوروبا وآسيا والشرق الأوسط. من جهة أخرى حققت بتروناس الماليزية للنفط أعلى عائدات في تاريخها بلغت 21 مليارا و428 مليون دولار مقارنة مع 17 مليارا و678 مليون دولار كانت قد حققتها الشركة العام السابق مسجلة بذلك ارتفاعاً بلغت نسبته 21.2%.. كل ذلك غيض من فيض الإنجازات التي لا يتسع المكان لتعدادها في كافة المجالات السياسية والدينية والاقتصادية والاجتماعية.
الفصل الثاني
اليابان.. الاتجاه شرقاً
لم تأت تجربة ماليزيا الحضارية والتكنولوجية والاقتصادية من فراغ بقدر ما هي نتاج جهد ودأب القيادة الماليزية وعلى رأسها الدكتور محاضر محمد، فعلى سبيل المثال لم تدع قيادته التجربة اليابانية على اختلاف مراحلها دون أن تستفيد منها على أكمل وجه وبأدق التفاصيل وفي الوقت نفسه تجنب الوقوع في الأخطاء التي رافقت النهضة الصناعية والتجارية لليابان. إلا أن هذا لا يعني أن ماليزيا اتجهت شرقاً دون البحث عما هو مفيد ومناسب للظروف التي تعيشها ونهضتها الصناعية والتكنولوجية.
ومن الأسباب التي دفعت ماليزيا لاختيار الشرق باتجاه "اليابان وكوريا الجنوبية" كمحطة استراتيجية في خططها التنموية ابتداء من عام 1981 حتى 1991، هو خلق جيل جديد من الشعب الماليزي قادر على مواكبة التطورات الصناعية الحديثة من خلال الالتزام بالأخلاقيات المهنية لقيمة العمل واتباع السياسة المنهجية في التصنيع وإيجاد كفاءات اقتصادية متطورة متميزة وفي الوقت نفسه وضع سياسات مالية ونقدية واقتصادية تراعي خصوصية الظروف الماليزية في كافة المجالات. كل ذلك أمكن تحقيقه من خلال اعتبار اليابان بمثابة "الأب الروحي" لدول جنوب شرق آسيا والمدافع القوى عن حقوقها في مواجهة المواقف الغربية والأمريكية. وبالرغم من الفشل والإنهيار الذين أصابا الحياة الاقتصادية في اليابان خلال حقبة ما يمكن أن نطلق عليها عنق الزجاجة، إلا ان ذلك لم يمنع ماليزيا من التواصل الاقتصادي والتكنولوجي مع اليابان لاعتبارات أهمها أن الأخيرة دولة تعتمد سياسة العمل وفق نظام المؤسسات، مما يؤهلها لتكون المرجعية والمحطة الأساسية. ولا تزال ماليزيا وغيرها من دول المنطقة تثّمن الدور الياباني في دعم سياستها التنموية خاصة عندما قامت طوكيو ببيع عدد كبير من سندات الخزانة الأمريكية المملوكة لها مما ساهم في استقرار قيمة العملات الآسيوية في الوقت الذي تدهور فيه سعر الدولار الأمريكي.
وانقسمت الأهداف التي خطط لها محاضر من وراء سياسة الاتجاه شرقاً إلى قسمين، الأول معنوي والثاني مادي، حيث انحصر الأول في الالتزام الأخلاقي والمهني بقيم العمل الآسيوية مما يستتبعه التفاني والجدية في الأداء المهني وتحقيق التربية النفسية في التعامل مع الجماعة واحترام آراء الغير مع الاحتفاظ بالشخصية المهنية المستقلة. أما الهدف الثاني فيتلخص في تحقيق الطفرة التصنيعية والتكنولوجية مع دخول عام 2020 بحيث تصبح ماليزيا ضمن الدول الصناعية الرائدة في شتى المجالات.
ومن دلالات الاهتمام الماليزي باليابان في التخطيط العملي لمستقبل التطورات الاقتصادية والصناعة تحديداً، تأكيدات محاضر محمد على ضرورة ارتباط بلاده بالتوجهات الإقليمية من خلال توحيد جهود دول المنطقة لمواجهة التكتلات الأخرى المنافسة قائلاً:" أمامنا فرصة لبناء عالم تنعم كل دوله بالرخاء وفي ظل هذا العالم المأمول ستظل هناك قوى كبرى، حيث تبرز دول قوية في آسيا وأفريقيا وستوجد دول صغيرة وأخرى فقيرة ولكن مصدر القوة سيعتمد على الاقتصاد وليس على الجانب العسكري حيث ستحتفظ القوى الأمريكية والأوروبية بمكانتها‏،‏ فيما ستبرقوى آسيوية وأخرى في أمريكا اللاتينية وكل هذه القوى ستعمل أولاً كمحرك وقاطرة لنمو بقية أجزاء العالم والاستثمار في الدول الفقيرة وتوفير الأسواق لمنتجات الاقتصادات الصاعدة‏،‏ ومستقبل آسيا يجب أن يحدده الآسيويون‏،‏ فإذا رغبت آسيا في قبول استمرار السيطرة الكية الأوروبية على العالم، فسوف يخلق ذلك أجواء تلحق الضرر بها‏،‏ أما إذا اصرت على ممارسة دور فعال ملموس في الشؤون الدولية لمواجهة وتصحيح أخطاء السياسات المالية والاقتصادية الأوروبية فسيمكن حينئذ إقامة عالم أكثر عدلاً ومساواة يمكن ان يتعايش فيه القوى والضع في سلام ورخاء"‏.‏
ويذهب محاضر إلى أبعد من ذلك في تبرير الاقتداء بالسياسة اليابانية، حتى أنه يرى في فشل ما كان يطلق عليه "اقتصاد الفقاعة" في إشارة إلى الحالة اليابانية عام 1990، تجربة غنية ودورس عملية رائدة يمكن الاستفادة منها في وضع الخطط المستقبلية للاقتصاد الماليزي وتفادي ما يمكن أن يتبدل على أرض الواقع تحسباً من ظروف طارئة قد تحدث في أي وقت من الأوقات، ويدلل على ذلك بقوله":لقد استمررنا في الاتجاه شرقاً حتى خلال حقبة التسعينيات وسألني الكثيرون لماذا استمرار هذا التوجه، وحجتهم في ذلك هي انه إذا كان من الواضح ان اليابان قد فشلت حيث انهار اقتصادها، فلماذا نستمر نحن في التطلع إلى اليابان لرسم طريقنا؟ من المؤكد أن اليابان تعاني من مشاكل خطيرة وربما تكون قد فشلت في العديد من المجالات غير أنه حتى الفشل يمكن أن يوفر لنا بعض الدروس لنتعلم منها".
ويمكن لأي متابع لأحاديث رئيس الوزراء الماليزي ملاحظة أن محاضر دائم الامتداح للمنظومة الاقتصادية اليابانية باعتبارها كنزاً لا ينضب، معترفاً بقدرتها على رفد التجربة الماليزية بالعديد من التقنيات والابتكارات التي تساهم بشكل أو بآخر في تقدم ورفاهية المجتمع الماليزي حيث يقول في هذا الإطار:"لا يزال هناك الكثير من الأمور التي يمكن أن نتعلمها من اليابان وأنا أعتقد اعتقاداً جازماً بأن اليابان سوف تستمر كقوة اقتصادية رائدة في آسيا في القرن الحادي والعشرين، فالمهارات الاستثنائية والتقنية المتقدمة والآنضباط والنظام وقيم وأخلاقيات العمل جميعها صفات تستحق ان تحتذى ويستفاد منها ولم تؤثر عليها حالة الركود الاقتصادي الطويلة التي تعاني منها اليابان، إن ماليزيا وبقية دول المنطقة في حاجة إلى احياء الاستثمارية اليابانية وسوف يساعدنا ذلك على توفير فرص عمل جديدة وزيادة مداخيل السكان ووضع الاقتصاد على الطريق الصحيح وبوتيرة أسرع مما كنا سنحققه في غياب الدعم الياباني. وبطبيعة الحال فان ذلك سوف يعيد الحيوية إلى الأسواق الآسيوية ويجعلها أكثر استعداداً لتقبل الصناعة اليابانية بعض الأموال التي ظلت الحكومة اليابانية تضخها في اقتصادها عقب انهيار اقتصاد الفقاعة يمكن ضخها في اقتصاديات شرق آسيا التي تعاني من الصعوبات. لقد ساعد المستثمرون اليابانيون في الماضي على تحقيق الرفاهية والازدهار لآسيا والآن حان الوقت للعمل سوياً مرة أخرى لصالح جميع الشعوب".
ولا نبالغ إذا قلنا أن التجربة الصناعية والاقتصادية الماليزية جاءت ثمرة سنوات طويلة من التخطيط والتنفيذ والمتابعة والأهم من ذلك مواجهة التحديات الخارجية، ويؤكد ذلك الدكتور محمد شريف بشير استاذ الاقتصاد بجامعة العلوم الماليزية في مقال له على موقع "اسلام أون لاين" في يوليو 2003 حيث يقول:"لم تكن عملية الاخذ بالتجربة اليابانية تقليداً محضا بل اختياراً وانتقاءً لما يناسب ماليزيا ووضع ذلك في اطاره الصحيح خاصة وان ماليزيا بلد متعدد الأعراق والاديان، وشملت عملية الاستفادة من التجربة اليابانية جوانب نظرية وعملية، وتمثل ذلك في الاستثمار الياباني المباشر حيث تعلمت ماليزيا أفكاراً عملية ووضعتها موضع التنفيذ كسياسات تعبئة المدخرات المحلية والتكوين الرأسمالي لتمويل مشروعات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وقام اليابانيون بتقديم برامج التدريب المهني ثم برامج التدريب الثقافي التي مولت من جانب مؤسسات يابانية لتشجيع الماليزيين في التعرف على الثقافة اليابانية واتاحة الفرصة للماليزيين لدراسة التجربة اليابانية من جوانبها المخلتفة".
وترى القيادة الماليزية أن نجاح سياسة الاتجاه شرقاً لا يقتصر على مجرد الإقتداء بالتجربة اليابانية والكورية الجنوبية عبر استنساخ البرامج والأفكار التي ساهمت في إنجاح هاتين التجربتين، بل يجب الابتكار والإبداع من قبل العناصر والكوادر الماليزية لتنفيذ ما يناسب المجتمع والظروف المحلية بأيدي العمال والفنيين والخبراء الأكفاء في كافة المجالات، بل يذهب محاضر إلى أبعد من ذلك من خلال توسيع الرقعة الجغرافية للاتجاه شرقاً عبر نشرها في كافة دول جنوب شرق آسيا بهدف توحيد البيئة التصنيعية والاستثمارية والتكنولوجية واصباغها كما يقول محاضر بنكهة آسيوية بحتة لها ملامحها وأنماطها الخاصة، ويرى في ذلك أحد العوامل الوحدوية اقتصادياً وتجارياً وثقافياً وسياسياً للمنقطة بأسرها.
ويعتقد محاضر أن سياسة الاتجاه شرقاً لا تزال صالحة للاستخدام رغم اطلاقها قبل أكثر من 20 عاماً وأيضاً على الرغم من الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تواجهها اليابان حالياً. ويبرر تلك السياسة القوة الاقتصادية الأساسية التي يعتمد عليها الاقتصاد الياباني حيث يتجاوز إجمالي الناتج المحلي الياباني عدة مرات إجمالي الناتج المحلي لدول شرق آسيا مجتمعة بما فيها الصين‏، معترفاً بقوة وريادة الاقتصاد الماليزي رغم العقبات التي واجهته خلال السنوات الماضية وقال انها أي اليابان ستظل الرائد والقائد الأساسي للقارة الآسيوية خلال الرن الحالي، وذلك لأسباب أهمها التطور الصناعي والتقني وطبيعة العلاقة بين العنصرين البشري والإمكانيات المادية وسيادة ظاهرة إحترام القيم الأخلاقية للعمل لدى المواطن الياباني. وتتمحور فلسفة محاضر في الاتجاه شرقاً حول السلوكيات المهنية والإخلاص في العمل والآنتماء واحترام القيم الأخلاقية للعمل مما يستتبع بالتالى تنامي المسؤولية المهنية التي تخلق الإبداع والاستمرار في العطاء والسير في الاتجاه الصحيح، فاليابانيون عند محاضر شعب يحرص على تبني وحماية قيم العمل بصورها المختلفة.
وخلاصة القول إن ماليزيا أصبحت قاعدة صناعية أساسية للمنتجات اليابانية التي أغرقت الأسواق ونافست الصناعات الأوروبية باهظة التكاليف، فكانت المصالح مشتركة بين ماليزيا واليابان التي وجدت في الأولى فرصة لاستغلال الأيدي العاملة الرخيصة فيما كانت تهدف ماليزيا للحصول على موطئ قدم في تحقيق نقلة صناعية على المدى الطويل، وفعلاً كان ذلك بفضل سياسة محاضر الذي استطاع أن يقدم نهضة تنموية متميزة اعتمدت الخلط بين التطورات العصرية والقيم الإسلامية الشاملة مع رفض تطبيق المفاهيم التنموية الغربية التي تتماشى وخصوصية الظروف الاقتصادية والاجتماعية والدينية لماليزيا، مع الإيمان بضرورة استنساخ ما يمكن ان يحقق للمجتمع الماليزي التنمية الحقيقية الفعالة، فكانت سياسته الاتجاه شرقاً إلى اليابان. لذلك نجد محاضر دائم التأكيد على الدور المهم الذي تلعبه اليابان في كافة الأزمان ومع جميع التيارات والأجناس حتى في هذه اللحظات التي تجاوزت فيها ماليزيا مراحل التنمة الأساسية قائلا في ندوة عن الإسلام في الامم المتحدة رداً له على أحد الأسئلة:"اعتقد أن اليابان يمكنها أن تلعب دوراً كبيراً ومتوازناً، فهي ليست على خلاف مع العرب وليست على خلاف مع اليهود وليست على خلاف مع أية جهة" .
الفصل الثالث
ماليزيا والوحدة الشاملة
يمكن البدء بالحديث حول تجربة الوحدة الماليزية من حيث أعلان الدكتور محاضر محمد انتهاء مهامه الرسمية بعد 22 عاماً من الحكم، مؤكداً بأن خليفته داتو عبدالله بدوي سيواصل جهوده الهادفة إلى تعزيز الوحدة بين كافة فئات الشعب الماليزي على اختلاف أعراقهم الدينية والطائفية. وفي هذا الإطار، يمكن القول إنه لا يختلف اثنان على أن الزعيم العربي الراحل جمال عبد الناصر هو "أب الوحدة العربية" فيما لا نبالغ في القول إن الدكتور محاضرمحمد هو "أب الوحدة الماليزية". ولم يأت هذا التوصيف من فراغ، بل جاء لأسباب موضوعية وممارسات واقعية اثبتت للقاصي والداني، الرغبة الحقيقية لدى الدكتور محاضر في رؤية ماليزيا موحدة وقوية في كافة المجالات، ومن أجل الوصول إلى هذا الهدف، بذل الغالى والرخيص وواجه الانتقادات اللاذعة تارة والاتهامات بالديكتاتورية و"الفرعنة" تارة أخرى، إلا أن إصراره وإرادته وعزيمته القوبة في تحدي الصعاب كانت أقوى من كل تلك التيارات التي ربما كانت تؤمن بأن محاضر ليس سوى أحد الرموز الوطنية التي ساهمت بدور كبير في التنمية خلال حقبة معينة من تاريخ ماليزيا القديم والحديث.
وقد تمثلت الخطوات الأولى للوحدة الماليزية التي جاء بها الدكتور محاضر، في انتزاع السلطات "البابوية" من سلاطين الولايات المختلفة التي كانت سائدة خلال السنوات الأولى لما بعد الاستقلال، وذلك عبر إجراء تعديلات دستورية جعلت من هؤلاء السلاطين مجرد رموز وطنية بحيث لم يعد من حق السلطان حل البرلمان وتعيين رؤساء الأقاليم، وفي الوقت نفسه احتفاظهم بحقوقهم ومخصصاتهم المالية. وفي هذا الإطار يقول محاضر:"عندما أسترجع اليوم قصة تطور ماليزيا، فإنني أرى أن عام 1969 كان حقيقة عاماً حاسماً ونقطة تحول في تاريخنا القصير كدولة مستقلة. وكانت حوادث الشغب العرقية التي حدثت في كوالالمبور في 13 مايو عام 1969 قد زلزلت القيادة السياسية كما أنها من ناحية البعد الشخصي أدت إلى طردي من الحزب الحاكم - أومنو - ".
ويولي محاضر أولوية كبيرة للوحدة الداخلية في كافة القطاعات عبر السهر على حل المشاكل الداخلية والتنمية الاقتصادية والتكنولوجية والثقافية والحضارية بما يساهم في رفاهية الشعب الماليزي بحيث يكونون مشاركين لا مستخدمين في المجتمع. واستناداً إلى فلسفته الوحدوية، نجده يرى أنها تتطلب تحقيق الانسجام والوحدة الوطنية بين الأعراق والطوائف المتعددة. ولتأكيد ذلك تمكن الدكتور محاضر من تبديد مخاوف الأعراق المختلفة المتمثلة في تهميش دورهم الاقتصادي والاجتماعي في المجتمع الماليزي، وأعلن تبنيه لسياسة التنمية الإسلامية العصرية حيث اضفي الطابع الإسلامي عليها بحيث تسير جنباً إلى جنب مع الأسس التقليدية الاقتصادية والمصرفية الحديثة، وأنشأ البنوك وشركات التأمين الإسلامية عام 1983، بل امتدت تلك السياسة إلى قطاعات التعليم والإعلام وغيرها. وفي هذا الصدد قال محاضر في ندوة عقدت بكولالمبور في 23 يونيو 2001:" أتمنى أن تظل ماليزيا مستقرة وأن تنمو بقوة، أعتقد إنني ارتكبت بعض الأخطاء، ولكن لا يمكن أن أشعر بالندم على القرارات التي اتخذتها بالرغم من انها لم تحظ بالمساندة وأعتقد إنني فعلت هذه الأمور لصالح البلاد وليس لصالحي، لأنني سأرحل على أية حال، إذ لا يمكنني أن أبقى إلى الأبد".
ولتأكيد مصداقيته في إحداث التغييرات باتجاه ما يمكن تسميته "أسلمة التنمية"، أمر الدكتور محاضر بتعديل نصوص قانون العقوبات بما يتماشى والقواعد الشرعية الإسلامية مما أدى على مدى السنوات الماضية إلى اعتبار الثقافة والعلوم الإسلامية إجبارية التدريس في المؤسسات التعليمية. ولاحظ المتابعون للأحداث السياسية في ماليزيا أن الدكتور محاضر ركز منذ توليه السلطة على تكثيف البرامج ذات الصبغة الإسلامية في كافة قطاعات الخدمات بما يحقق الهدف الأسمى الذي يراه وهو تأسيس دولة إسلامية حديثة وموحدة تواكب التطورات والتكنولوجيا والعلوم العصرية، إلا أنه في الوقت نفسه لا يتجاهل المفاهيم الجديدة للمجتمع الرأسمالي المتطور.
وقد كان للخطة "العشرينية 1971 حتى 1990" التي سميت بـ "السياسة الاقتصادية الجديدة"، الدور البارز في تزايد ثقة الشعب الماليزي بقيادته والشعور بتنامي مشاعر الوحدة الحقيقية بين كافة فئات الشعب وخاصة بعد النتائج التي خلفتها الصدامات العنيفة عام 1969 التي اجتاحت ماليزيا وخلفت مئات الضحايا احتجاجاً على ما اُطلق عليه الحقوق الضائعة للمسلمين من الملايويين وسوء أحوالهم الاقتصادية، والتي كادت تطيح بالآمال العريضة لماليزيا الموحدة التي كانت تستحوذ على اهتمام القيادات الحكومية على اختلاف توجهاتها واقطابها. وأشارت الأرقام إلى نجاح تلك السياسة حيث ارتفع نصيب شعب الملايو من الناتج القومي من 24% عام 1970 إلى 30% عام 1990، إضافة إلى الارتقاء بالطبقات المتعلمة من مهندسين وأطباء ومحاسبين من نسبة 5% عام 1970 إلى 29% عام 1990. وعلى أثر هذا النجاح الباهر، تبنى الدكتور محاضر محمد خطة جديدة رأي فيها تماشياً مع الظروف والمستجدات التي شهدتها ماليزيا بعد تطبيق البرنامج الأول، وتتمثل تلك الخطة في زيادة عدد الموظفين العاملين في المؤسسات الحكومة من الملاويين ليحصلوا على نسبه تصل إلى 56%.
وبالرغم من الإنجازات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي حققتها سياسة محاضر على أرض الواقع في ماليزيا، إلا أنه يعترف باخفاقه في تحقيق ما سعى إليه طوال مسيرته السياسية، بشأن النهوض بالعرق الملايوي وخاصة الرغبة في تغيير بعض المفاهيم الاجتماعية والفكرية والثقافية لديهم، وتأسيس كوادر عملية قادرة على تحمل المسؤولية بطريقة أفضل، جاعلاً العرق الصيني المثل الأعلى في هذا المجال حيث كان دائم الاعلان عن أمنيته حتى اللحظات الأخيرة قبل مغادرته سدة رئاسة الوزراء يقول:"أمنيتي أن يتغير أبناء الملايو وأن يصبحوا مثل رفاقهم من ذوي الأصول الصينية" وأكد ذلك ذات مرة في حديث خاص لصحيفة " نيو صنداي تايمز" الماليزية في الذكرى العشرين لتوليه السلطة:"من حيث تطور الثقافة ومن حيث المرونة والمثابرة بين الملايو أعتقد انني لم أحقق الكثير". وأثار حفيظة الكثيرين من أبناء جلدته حينما عقد مقارنة بين شعب الملايو والماليزيين من الأعراق الصينية الذين وصفهم بالمجتهدين والمثابرين في حياتهم متسائلاً: لماذا لا يكون شعب الملايو مثل هؤلاء الصينيين".
واعتذر الدكتور محاضر خلال خطاب ألقاه في 20 يونيو 2002 عن عدم استطاعته تحقيق الأمنيات التي رسمها وخطط لها طوال 22 عاماً من توليه زمام السلطة وأرجع ذلك إلى العقبات التي واجهته لتوفير الأمن الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والتعليمي لشعب الملايو الأصليين، إلا انه كان دائم الإنتقاد للمالاي ووصفهم بالكسالى الباحثين عن الراحة المؤقتة وقال:"إنهم أضاعوا فرصاً منحتها لهم سياسات للتحرك الإيجابي على مدى 33 عاماً"، ولا يتوانى محاضر عن معاتبة ولوم شعبه من الملايو بين الفينة والأخرى قائلاُ:"ماذا يريد الماليزيون أكثر من رفاه اقتصادي واستقرار اجتماعي عام ينعم به الجميع... وإلا يكون الآنهيار والتجزئة مصيرهم ومصير بلادهم".
ولم يخف الدكتور محاضر محمد الحقيقة التي تشير إلى أن المصابين بمرض الإيدز والمتورطين في قضايا المخدرات والاغتصاب والقتل وغيرها من الجرائم، هم من أعراق الملايو، مبدياً دهشته واستغرابه من الأسباب الكامنة وراء ذلك مثيراً تساؤلاً يتمثل في أنه لماذا تقتصر مثل تلك الأفعال الشائنة على الملايو دون غيرهم من الصينين والهنود. إلا أن الحرص الزائد من الدكتور محاضر على الاهتمام والتركيز على أعراق الملايو دون غيرهم أثار حفيظة الصينيين والهنود مما شكل في وقت من الأوقات تهديداً حقيقياً للوحدة والمصالح القومية لماليزيا. وقد دفعه هذا الاهتمام إلى السعي الدائم لتوفير الأمن والأمان السياسي والاقتصادي والاجتماعي لكافة فئات الشعب، في الوقت الذي يواجه فيه حملات متواصلة من الداخل والخارج تصفه بمحاولة الهيمنة عبر التمسك برأيه دون الاعتبار لما تراه المجموعة من حوله سواء من الأحزاب أو أعضاء الحكومة، وكلها تصفه بمحاولة فرض رأيه على الآخرين دون الاكتراث وإبداء الاهتمام بما يراه الآخرون في كافة قطاعات الدولة.
كل تلك المواقف دفعته للدفاع عن نفسه عندما تشتد تلك الاتهامات فيما يتهم الصحافة دائما بأنها وراء مثل تلك الهجمات قائلاً بأنها أي الصحافة هي التي رسخت مثل هذه الصورة في أذهان الناس وتسعى دائماً لإظهاره بمظهر الديكتاتور، ورغم ذلك فهو دائم الحرص على مظاهر الوحدة الوطنية وتماسك الجبهة الداخلية في كافة المناسبات والظروف حماية للحقوق التاريخية والمكتساب القومية والسياسية والاقتصادية للشعب الماليزي الذي سيكون في نهاية المطاف هو المتضرر أو الرابح من كل تلك الصراعات والخلافات الداخلية. بل يعتقد محاضر بأن الكيفية التي تم التعامل بها مع قضية أنور ابراهيم نائب رئيس الوزراء السابق والمعتقل داخل السجن دليل واضح على اهتمامه بمصلحة الوطن وحمايته من التفكك والانهيار بعد سنوات طويلة من النضال والكفاح على كافة المستويات.
ويذهب محاضر إلى أبعد من ذلك، ويؤكد بأنه لا يتدخل في عمل الأجهزة الأمنية والقضائية والشرطية حيث لا يخطط أو يهدف لتهميش خصومه السياسيين ووضعهم خلف الجدران المغلقة وعزلهم عن العالم معتقداً بأن ما حدث لنائبه السابق أنور ابراهيم مجرد إشاعات المقصود منها النيل منه وإنجازاته التي يشهد الجميع داخل وخارج ماليزيا، وقال:"لا صحة لما اُشيع من أن أنور ابراهيم أصبح يتمتع بنفوذ كبير ولهذا سعى للتخلص منه، بل إن أنور اتهم بجريمة أخلاقية وصدر ضده حكم بالسجن بناء على ذلك بعد أن تم توفير كل الضمانات القانونية له ودافع عنه أفضل واشهر المحامين في البلاد في محاكمة استمرت تسعة اشهر"، وأعلن أمام جمهور زاد على الألفين من اتباع الحزب أن:"العداء الموجه لمنظمة الملايو الوطنية من بعض أفراد شعب الملايو هو نتيجة تاثير حزب الإسلام الذي يخلق كراهية شديدة، وأن حزب الإسلام المعارض يكفر أعضاء منظمة الملايو ويقول إن زعماءها جبابرة وقوادون ويستغلون الدين لتحقيق أغراضهم".
ويرى محاضر في رده على الاتهامات التي تنهال عليه ليلاً ونهاراً بشأن الديمقراطية والحريات وحرية الصحافة والتعبير، أن واقع المجتمع الماليزي وتركيبته العرقية والثقافية المعقدة والظروف والأزمات السياسية والاقتصادية التي عاشتها بلاده تفرض عليه من أجل حماية مكتسبات الشعب والأمة ضرورة الضرب بيد من حديد على كل من يحاول المساس بتلك الإنجازات والثروات والتي من أبرزها أن الماليزيين يفتخرون بتعدد دياناتهم وثقافاتهم وأعراقهم، فحرية الدين مكفولة للجميع حوالي 60% يدينون بالإسلام وهو الدين الرسمي و30% يدينون بالمسيحية والبوذية والهندوسية والكنفوشية وغيرها من ديانات الشرق القديمة و57% من تعداد سكان ماليزيا البالغ 24.4 مليون نسمة من الملايو والنسبة الباقية من أندونيسيا وتتوزع على الصينيين والهنود والعرب.

الفصل الرابع
الخصخصة تعزيز للتنمية
يقصد بالخصخصة في المفهوم الاقتصادي الآنتقال الكامل أو الجزئي للملكية العامة أو خدماتها وتفويض مؤسسات القطاع لتولي إدارتها وتصريف شؤونها بطرق مختلفة أبرزها البيع الكامل والتام للأصول الحكومية إلى جهات خاصة تصبح المالكة لتلك الأصول، أما الأسلوب الآخر للخصخصة فيتمثل في توكيل مؤسسات خاصة للقيام بأداء خدمات حكومية للجمهور.
وعلى صعيد الأوضاع في ماليزيا، فقد حققت برامج التنمية التي قادتها حكومة محاضر محمد نقلة نوعية ما جعل منها تجربة ناجحة تضاف إلى إنجازات هذا القائد المتعددة في شتى المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وقد كان لذلك أكبر الأثر في تشجيع عمليات الخصخصة التي خطت خطوات رائدة على الرغم من عمرها الزمني القصير قياساً بدول العالم الأخرى وخاصة شرق القارة الآسيوية وذلك في عام 1982 بحيث طالت العديد من القطاعات الخدمية الرئيسية في ماليزيا مثل الخطوط الجوية الماليزية ومجمع "كلانج" لحاويات السفن. وقد اختارت ماليزيا سياسة فعالة وعملية لتحقيق مهمة الخصخصة مثل عمليات تصفية المؤسسات الحكومية وبيع الأسهم الحكومية ثم تفكيك المؤسسات العامة إلى مؤسسات صغيرة أو دمجها في أخرى أكبر منها.
وقد نجحت ماليزيا في تجاوز ازماتها ومشاكلها الاقتصادية وخاصة عام 1997 حيث اعتبرت بشهادة رجال الاقتصاد والمراقبين المختصين في هذا المجال إحدى الدول القلائل بين دول العالم الثالث التي تمكنت من تحقيق معدلات نمو عالية على مدى العقود الأربعة الأخيرة. فمنذ الاستقلال عن بريطانيا عام 1957 خطت ماليزيا خطوات واسعة على طريق تحقيق النمو الاقتصادي المنشود وهو ما دفع الحكومات المتعاقبة إلى تبني سياسات اقتصادية تهدف بالدرجة الأولى إلى توزيع الدخل على كافة طبقات الشعب، والقضاء على الفقر، وزيادة نسبة التعليم، وكذلك الارتقاء بقطاع الخدمات الصحية.
وقد كان اعتماد الاقتصاد الماليزي بُعيد الاستقلال يتركز على انتاج المطاط والقصدير، إلا أن الفترة بين عامي 1965 و 1984 شهدت تطوراً ملحوظاً على صعيد تنويع مصادر الدخل، حيث أصبح لكل من زيت النخيل والخشب بالإضافة إلى الكاكاو دور كبير في تنويع سلة الصادرات الماليزية. كما شهد القطاع النفطي تطوراً كبيراً في الفترة التي تلت العام 1980 تمثل في وضع ماليزيا على خارطة الدول المصدرة للبترول والغاز الطبيعي.
ونظراً لما تتمتع به ماليزيا من استقرار سياسي وأداء اقتصادي متميز فقد تمكنت من استقطاب العديد من الاستثمارات الأجنبية من كل من الولايات المتحدة واليابان على وجه الخصوص. وقد ساعدت هذه الاستثمارات التي ساهمت في نقل التكنولوجيا على تمكين ماليزيا من إضافة منتجات جديدة إلى قائمة الصادرات لتشمل على الأجهزة الإلكترونية والكهربائية، بالإضافة إلى منتجات صناعة النسيج. وبهذا سجل القطاع الصناعي نمواً كبيراً، حيث ارتفعـت حصـة القطاع الصناعي من إجمالي الناتج القومي من 13.4% العام 1970 لتصل إلى 34% العام 1996.
غير أن السنوات العشرين الأخيرة لم تكن كلها سنوات ازدهار للاقتصاد الماليزي نظراً لارتباطه الوثيق بالاقتصاد الخارجي والمعتمد إلى حد كبير على التصدير. فالركود الاقتصادي الذي أصاب اقتصاديات العالم العام 1981/1982 أدى إلى تخفيض قيمة البضائع الماليزية في السوق العالمية وهو ما أثر سلباً على أداء الاقتصاد الماليزي تمثل في انخفاض معدلات النمو وتناقص في حجم الاستثمارية الأجنبية. كما كان للإنخفاض الحاد في أسعار كل من النفط وزيت النخيل في الفترة 1985/1986 أثر سلبي انعكس على أداء الاقتصاد الماليزي وهو ما أدى إلى انخفاض الناتج القومي بنسبة 11.5% وتراجع متوسط دخل الفرد إلى مستوى 1600 دولار امريكي العام 1986 بعد ان كان 2000 دولار العام 1984.
وكانت ماليزيا من أوائل الدول النامية التي طرقت أبواب خصخصة شركات القطاع العام على نطاق واسع في مطلع عقد الثمانينيات، مما ساهم إلى حد كبير في تخفيض حجم الديون العامة للدولة وفي الوقت نفسه تعزيز ورفع كفاءة ومستويات الأداء العام بحيث أصبحت تلك المؤشرات البداية الطبيعية والانطلاقة القوىة للنمو الاقتصادي الحقيقي الذي سجل معدلات نمو بنسبة 6% في الفترة بين العام 1985 وحتى 1995. وبعد عامين أي خلال الأزمة المالية التي ضربت دول جنوب شرق آسيا، تدهورت الأوضاع الاقتصادية وتراجعت مؤشرات التحسن بل ظهرت السلبيات متمثلة في معدل نمو سلبي -2.4 % فيما انخفضت القيمة الفعلية للعملة الوطنية بنسبة 40%. وظل الوضع على ما عليه حتى جاءت لحظة الحسم التي اتخذتها حكومة محاضر محمد تمثلت في تبني سياسة ترشيد وتخطيط اقتصادية ساهمت في الخروج من الأزمة بأقل الخسائر وبدون الآنصياع للمؤسسات المالية العالمية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، بل وحققت نجاحات فريدة وسجلت معدلات نمو رائعة بلغت 8% وذلك عام 2000.
ومن الظواهر الواضحة التي تحققت في ظل الاستقرار والآنتعاش الاقتصادي الذي أعقب أزمة 1997، تزايد الاهتمام بالخصخصة والقناعة بجدواها في التنمية والرقي بالأوضاع الاقتصادية الاستقرار السياسي وفي هذا الخصوص قال محاضر:" إننا طبّقنا الخصخصة على نطاق واسع جداً انطلاقاً من إيماننا بأن الحكومة ينبغي أن تكون واقعية وعملية في سياستها التنموية، وألا تتردد في تجريب أي انموذج أو تجربة أجنبية أثبتت نجاحاً في بلاد أخرى، وقد قمنا أولا بتحقيق النمو، كما أن بلادنا تنتهج نظام إدارة مالية يتميز بقدر عالٍ من التعقل والكفاءة، ودرجنا على تسديد قروضنا الخارجية كلما كان لدينا موارد مالية فائضة وقد انشأنا سوقاً للأوراق المالية لتمكين الشركات الوطنية من تكوين الرساميل ببساطة كبيرة".
الفصل الخامس
"رؤية عام 2020" واستشراف المستقبل
يتمثل المشروع النموذجي والحضاري الذي أطلقه الدكتور محاضر محمد "رؤية عام 2020"، في جعل ماليزيا دولة صناعية حديثة في كافة القطاعات الحياتية، وذلك بحلول عام 2020، فيما أصبح يُعرف ببرنامج "عشرين على عشرين" أسوه بالقاعدة المتعارف عليها طبياً عند قياس النظر والقول بمعدل "ستة على ستة". وتتطلب تلك الرؤية ضرورة تحديث وتطوير أساليب الحياة اليومية في كافة القطاعات الاقتصادية والتكنولوجية والثقافية والاجتماعية والنفسية والسيكولوجية...الخ. وطبقاً لرؤية الدكتور محاضر محمد، يمكن حصر القضايا المحورية ذات الأولوية التي تتطلب حلولاً عملية بما يساهم في تحقيق البرنامج المنشود والوصول بماليزيا الحديثة إلى بر الأمان ومواجهة التحديات المتزايدة حتى عام 2020، في الأمور التالية:
- ولاء راسخ لدى الشعب تجاه الوطن والمواطنين بما يساهم في إرساء النهضة والثقافة والتحرر.
- سيادة العدالة الاقتصادية وإزالة الفوارق القائمة على أسس عرقية أو دينية.
- سيادة الرفاهية الاقتصادية لكافة الفئات الاجتماعية.
- تعزيز القدرات الذاتية للمجتمع الماليزي وتوفير الثقة الكاملة بقدرته على إنجاز الأفضل داخلياً وخارجياً.
- سيادة الديمقراطية التي تتناسب والتركيبة السكانية للشعب الماليزي.
- مجتمع تحكمه قوة الإرادة والأخلاق الحميدة والقيم.
- الوصول بالمجتمع إلى مرحلة الإبداع والابتكار التقني بما يؤهله لاحتلال مكانة مرموقة على الخريطة التكنولوجية العالمية.
ــ ترسيخ الوحدة الوطنية بين كافة أفراد الشعب الماليزي سياسياً وثقافياً وعرقياً.
وتهدف الخطط المرجوة لـ "رؤية 2020" إلى الوصول لمرحلة متقدمة معينة من تنمية ونمو الاقتصاد الماليزي تصل إلى نحو 7% كمستوى عام لهذا التطور، حيث تشير القرائن والدلائل إلى صحة هذه الفكرة ونجاح تطبيقاتها في مراحلها الأولى حيث حققت معدلات قياسية خلال السنوات الأولى بلغت نحو 8.6 % سنوياً مما يؤكد صحة وسلامة النظرية والتطبيق معا، كما لم يغب عن بال الدكتور محاضر محمد طبقاً لرؤية 2020، الوصول بماليزيا إلى الدولة الإسلامية العصرية.
ومن الملامح التي رسمها الدكتور محاضر في صلب رؤيته، مدينة بوتراجايا العاصمة الإدارية الجديدة المستقبلية لماليزيا والواقعة على بعد 80 كليومتراً شمال كوالا لمبور، التي تعبر في حقيقة الأمر عن طموحات القيادة والشعب معاً، حيث ستحتضن الوزارات والدوائر الحكومية، حيث يبدو البناء الرخامي الهائل المشيد على تلة صناعة عالية تحيط به النوافير المائية الرائعة والاشجار الخضراء التي تحيط بالمبنى من كل حدب وصوب، إضافة إلى مسجد ضخم بني على الطراز الفارسي المغولي، في مواجهة المنطقة السكنية المخصصة لسكن الموظفين والدبلوماسيين وكبار رجالات الدولة. ولا يقف الأمر عند تلك الإبداعات المعمارية، بل يتعداه إلى تحقيق أحلام مشروع الملتميديا كوريدور Multimedia Corridor المتمثل في مدينة سايبرجايا Cyberjaya الصناعية ليكون مركزاً تكنولوجياً عالمياُ يحتضن أبراز شركات العالم في هذا المجال.
ومن جانبنا، نعتقد أن الهدف من بناء هذين المشروعين "بوتراجايا وسايبرجايا" يتمثل في، أولاً: تبديد الشكوك حول نوايا محاضر تجاه شعبه ووطنه من خلال إعلان التحدي الحقيقي لمواكبة التقدم والحضارة وإثبات قدرة ماليزيا وقيادتها وشعبها على أن تحتل بل تنافس الدول المتقدمة في هذا المجال. أما الهدف الثاني فيتمثل في رغبته في الارتقاء بالاسلوب الحكومي في التعامل مع مصالح وقضايا الشعب المختلفة بحيث تختفي المعاملات والملفات الورقية بشكل كامل في الدوائر الحكومية، علاوة على اعتبارها محطة ترفيهية تضم كافة الوسائل الكفيلة بتوفير الاستمتاع والاسترخاء لأفراد الشعب. وبالرغم من تأكد الدكتور محاضرمن وجود العديد من دول العالم الساعية لكي تصبح محطة تكنولوجية عالمية منافسة مثل الهند وتايلاند وسنغافورة، إلا أنه يواصل تحديه ومشواره بأسلوب المنافسة الشريفة، يكون فيها البقاء للأقوي والأنجح وللإبداعات الخلاقة.
وعلى الرغم من المعارضة الشديدة في الداخل والخارج لمثل هذين المشروعين، كما حدث أيضا عند بناء برج بتروناس التوأم أعلى أبراج العالم، فإن الدكتور محاضر يرى فيهما ضرورة عملية وتحدياً لإرادة الشعب الماليزي وقيادته في تحقيق الإنجازات المتميزة والإبداعية، وفي هذا الإطار يقول أحد الدبلوماسيين الغربيين في ماليزيا :"لا شك أن محاضر مقتنع بأهمية أن يضع بلاده على أولى درجات المستقبل قبل أن يترك السلطة. وهو يراهن في خطاه السريعة على أن خليفته لن يستطيع إلا أن يستكمل ما بدأه هو".
وتتضمن رؤية 2020 الكثير من الأفكار والطموحات والخطط التي إذا ما طبقت بشكل جيد ستساهم في تحقيق رفاهية الشعوب وتقدمها في كافة المجالات حيث يقول محاضر:"إن دور الحكومات بالغ الأهمية‏، وأن النجاح يتوقف على إيجاد حكم صالح وإدارة حسنة التنظيم تحدد أهدافاً واضحة"
الفصل السادس
وادي السيليكون الآسيوي
تعيش ماليزيا هذه الأيام على موعد مع المستقبل الباهر وضمن مرحلة مفصلية في تاريخها الحضاري والتكنولوجي حيث تسير عبر نفق شقته أفكار محاضر محمد وتوجيهات حكومته للوصول بماليزيا إلى مصاف الدول المتقدمة وابتكار الجديد دائما على طريق الثورة الرقمية والتكنولوجية التي أصبحت إحدى ملامح الحياة اليومية في ماليزيا، فنجده يجدد الثقة بقدرة بلاده والأمة الإسلامية على تجاوز المحن وتحدي الصعاب والوصول إلى المكانة التي تليق بتاريخ وعراقة أجدادها حيث قال في كلمة له خلال زيارته للعاصمة السورية دمشق في 17 اغسطس 2003 :"إن ماليزيا واثقة بأن الأمة الإسلامية يمكنها أن تكون أقوى قوة في العالم إذا توحدت وأحسنت استخدام ثرواتها ومصادرها المختلفة موضحا بأن على هذه الأمة أن تحتكر العلوم والتكنولوجيا وتكنولوجيا المعلومات حتى تستطيع أن تنافس تقدم الغرب في هذا المجال الحيوي والمهم في هذا العصر".
ومن هذا المنطلق، تبنت ماليزيا العديد من مشروعات التقنية الحديثة بصورة متسارعة وملفتة للنظر ويدعمها محاضر ويحرص على أهميتها في رفد التكنولوجيا الماليزية وآخرها إطلاق ثالث أقمارها الصناعية عام 2004 مخصصاً للقارة الأفريقية في مرحلته الأولى ثم يمتد إلى القارة الأوروبية والشرق الأوسط ويحمل اسم "اس. ام. سات" وهي التجربة الأولى التي تنفذها دولة آسيوية قائلا: "إن تجربتنا في ماليزيا أثبتت الحاجة الماسة لامتلاك وإدارة قمر صناعي خاص بنا، نقوم باستخدامه في البث المعلوماتي والاتصالات لنكون ضامنين للتحكم في مستقبلنا المعلوماتي، ولنضمن أن المحتويات التي يتم إرسالها لا تتعارض مع قيمنا ومبادئنا، وستعمل هذه الخطوة على خلق تقارب بين الدول الأفريقية ودول جنوب شرق آسيا؛ حيث أن القمر الصناعي المذكور من شأنه تحسين اتصالات الهاتف والإنترنت والبث الإذاعي والتلفزيوني للمستخدمين في أفريقيا وأوروبا والشرق الأوسط".
ومن الملامح الواضحة لتميز الحياة التكنولوجية الماليزية، تبدو المفردات المختلفة للثورة الرقمية كمشروعات الاتصالات والمعلومات الرائدة حيث تبنت حكومة محاضر خطة اطلق عليها "الاقتصاد المعرفي" فيما يجسد مشروع "المالتيميديا سوبر كوريدور" طموحات الشعب الماليزي للإرتقاء بالاقتصاد إلى مصاف الدول المتقدمة وتحقيق الرفاهية الاقتصادية والتنمة التكنولوجية وجعل ماليزيا محطة إقليمية وعالمية في مجال صناعة الاتصالات والمعلومات والآنترنت. ويؤكد ذلك ما يراه محاضر في هذا المجال حيث يقول:"إذا كنا جميعا رجال دين فمن سيقوم بتصنيع الطائرات والصواريخ والسيارات وأدوات التكنولوجيا الحديثة فيجب أن يكون هناك علماء في التجارة وفي العلوم التقنية الحديثة وفي كل مجالات المعرفة ولكن على أساس من التعاليم الإسلامية، مؤكداً في الوقت نفسه أن الأشخاص الذين يكتسبون العلم في المجالات الأخرى يجب أيضا أن يكتسبوا قدراً من العلم الديني".
ولم تتوقف طموحات محاضر عند هذا الحد، بل بلغت مرحلة إقامة مدينة ذكية خاصة بالتكنولوجيا خارج العاصمة كوالالمبور والتي أشرنا إليها سابقا وهي "سايبر جايا " حيث ترتبط بشبكة اتصالات ذكية تخدم العاصمة المستقبلية لماليزيا وتضم أضخم الشركات التكنولوجية في العالم. ويرى محاضر في هذه المدينة تمازجاً عصرياً واندماجاً حضارياً بين الإنسان والتكنولوجيا والبيئة. ومن أهم المشروعات التي تحتضها هذه المدينة "جامعة الوسائط المتعددة" التي جاءت تعزيزاً لرفد الحاجات الماليزية بالكفاءات الوطنية، وتدريب أصحاب المعرفة والمطلوبين لمؤسسات تكنولوجيا المعلومات العاملة في هذه المدينة حيث يدرس فيها عشرة الآف طالب وطالبة. إضافة إلى ذلك تمكنت ماليزيا من تأسيس إقامة مجتمع تكنولوجي، بدءاً من قانون التجارة الإلكترونية مروراً بطرق الإثبات والتوقيع الإلكتروني، وقوانين الاتصالات. وقد ساهمت الإمكانيات المتاحة والبنى التحتية ووسائل الاتصالات العصرية بالمدينة في استقطاب العديد من كبرى شركات الاستثمار العالمية العاملة في مجال التكنولوجيا والاتصالات الرقمية.
وفي الوقت نفسه، تقدم ماليزيا الآلات للعديد من الصناعات العالمية الراقية المستوى مثل الأدوات الكهربائية والإلكترونية والأقمار الصناعية وصناعة السيارات وبعض أجزاء الطائرات، فيما بدأت الحكومة بمد كابل بحري لمسافة 28 ألف كيلومتر ليربط بين أوروبا وأفريقيا وآسيا مصنوع من الألياف بتكلفة إجمالية 638 مليون دولار وهو الوحيد من نوعه الذي يربط كليا بين أوروبا وآسيا.
الفصل السابع
التحولات الاقتصادية.. نقلة نوعية

بداية يمكن القول دون نفاق أو محاباة، إن التجربة الماليزية على اختلاف قطاعاتها في مواجهة آثار الأزمة المالية التي ضربت دول جنوب شرق آسيا عام 1997 والتي نالت إعجاب كافة القيادات السياسية في العالم بأسره بما في ذلك المشككون في حقيقتها وواقعها، تمثل رافداً فكرياً جديداً للتعامل مع قضايا يعاني منها الكثيرمن اقتصاديات دول العالم الثالث مثل نقص السيولة والركود واختلال أسعار الصرف‏. لذلك نرى من الإنصاف والمفيد الإشارة في هذا الفصل إلى التحولات الاقتصادية وكيف استطاعت القيادة الماليزية التغلب على المصاعب التي تزامن مع المشكلة المالية وفي الوقت نفسه الخطوات التي ساهمت في إنجاح التجربة على الصعيد الداخلي الماليزي.
تعتبر التحولات الاقتصادية التي عاشتها ماليزيا قبل وبعد الأزمة المالية التي ضربت دول جنوب شرق آسيا عام 1997 تجربة أسطورية وخبرة نادرة في تاريخ الدول بعد صراع مرير مع المؤسسات المالية العالمية بعد أن رفضت كوالالمبور الالتزام بتفصيلات الروشتة الاقتصادية الإصلاحية التي إقترحها صندوق النقد الدولي تحديداً، بل يمكن أن يشكل خط الدفاع الذي رسمته حكومة الدكتور محاضر محمد، منهجاً وأسلوبا استراتيجياً يتم تدريسه في كافة الجامعات والمؤسسات الأكاديمية العالمية وذلك باعتباره أحد الفصول الغنية بالتجارب والأزمات بل والكوارث الاقتصادية التي شهدها العالم في العصر الحديث.
ويكمن سر التجربة الماليزية في كيفية التغلب على الكارثة المالية بأقل الخسائر أو على الأقل العودة إلى ما كانت عليه من إزدهار وتقدم.
ويُجمع المراقبون السياسيون وأبناء الشعب الماليزي على
أن ما تعرضت له منطقة جنوب شرق آسيا في تلك الفترة، لا يخرج عن كونه محاولة أوروبية غربية لضرب النجاح الآسيوي بأسره، ضربة قاضية لا يعود بعدها إلا بطلب المعونات والمساعدات من المؤسسات المالية العالمية، وبالتالى إفساح المجال واسعاً أمام النفوذ والسيطرة الغربية اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً ولغوياً على كافة دول ما يسمى بـ "النمور الآسيوية".
‏‏ ومن أبرز المؤشرات الإيجابية على ملامح وفعالية التحولات والإنجازات في ماليزيا بعد أزمة 1997، التحسن الكبير في أسواق العقارات وارتفاع القيمة الإسمية لأسهم العديد من الشركات والمؤسسات على اختلاف مجالات عملها فيما إستعادت الصادرات مكانتها الرائدة في الوقتلذي تمكنت فيه المؤسسات الحكومية الماليزية من تنفيذ المشروعات الحيوية الضخمة، إضافة إلى ذلك ما تشير إليه الأرقام وتفصيلات ما يحدث على أرض الواقع من عودة الاستثمارات الأجنبية وتزايد حركة أسواق وأسهم المال والعقارات بصورة بارزة خلال السنوات الثلاث الماضية حيث تراجعت نسبه البطالة التي لم تكن موجودة في ماليزيا قبل تفجر الأزمة بعد أن وصلت معدلاتها إلى ‏4.5%‏ من قوة العمل البالغة‏10‏ ملايين مواطن من بين ‏23‏ مليون ماليزي منهم مليون عامل من الدول المجاورة وخاصة أندوني
وبعد النجاحات التي حققتها دول جنوب شرق آسيا في تجازو آثار الأزمة المالية، كان لابد من ضرورة إعادة الحسابات والموازين الاقتصادية، والتركيز على عمليات الإصلاح الاقتصادية الشاملة من خلال بذل المزيد من الجهد والسياسات والأفكار التي تتناسب مع الظروف والتحولات الجديدة. ففي حالة ماليزيا حددت قيادة الدكتور محاضر محمد خطة اقتصادية محكمة تطلبت تبني سياسيات شديدة على بعض الممارسات المالية بما يساهم في تصحيح الأوضاع الداخلية وتمهيد الطريق لإعادة اللحمة والبنى التحتية لمؤسسات الدولة الاقتصادية كان أبرزها التركز على سياسة الرؤية الشاملة وترتيب الأولويات وتحديد الاستراتيجيات من خلال خطط بعيدة المدى، مما ساهم في الارتقاء بالأوضاع الاقتصادية والسياسية والتعليمية لكافة فئات الشعب.
وتلخصت جهود الدكتور محاضر الدؤوبة لترسيخ التحولات الاقتصادية بعد زوال الأزمة المالية في تكثيف عمليات الإصلاح الشاملة على أرض الواقع وذلك بما يتناسب مع كافة متطلبات القطاعات الاقتصادية والمالية ووجد الدكتور محاضر نفسه أمام مفترق طرق أملى عليه ضرورة تنفيذ كافة خطط التحولات الاقتصادية بأمانة ومهنية وصرامة شديدة اعتبرها البعض صورة من صور المساس بحرية الشعب الماليزي على اختلاف طوائفه وأعراقه الدينية، في الوقت الذي كانت تهدف فيه قيادة محاضر من وراء هذا التشدد في التطبيق خلال فترة التحولات إلى تفادي تكرار مأسي الاضطرابات العرقية عام 1969 والكارثة المالية عام 1997، وبالتالى انهيار الدولة الماليزية وضياع الثروات والإنجازات القومية على كافة الصعد بما يعود بماليزيا إلى الوراء مئات السنين، وهذا ما كان ولا يزال يرفضه الدكتور محاضر الذي خاض معركة شرسة ضد تجارة العملة والمضاربين الدوليين بعد أن اتهمهم بالتسبب في الأزمة الآسيوية ملحقين خسائر بلغت حوالي خمسة مليارات دولار‏.
لذلك لابد من الاعتراف بأن تجربة ماليزيا العمرانية والسياحية وخاصة الاقتصادية تستحق البحث والدراسة المعمقة والسبب أنها نهضت من كبوتها وتداعيات الكارثة العنيفة التي تعرض لها اقتصادها عام 1997 والتي كادت أن تدمر الإنجازات والبرامج التنموية التي حرصت الحكومة الماليزية على تنفيذها منذ سنوات عدة. ويشهد على ذلك إعلان المعهد الأمريكي الدولي لتطوير الإدارة في كتابه السنوي بعنوان "المنافسة" إن ماليزيا تمثل ثاني أكبر اقتصاد تنافسي في العالم حيث احتلت أمريكا مركز الصدارة فيما حازت سنغافورة المركز الثالث ولوكسمبورج المركز الرابع، وأبدى ملاحظاته وقال أمام مؤتمر دولي حول تدفق رؤوس الأموال بمدينة لوس أنجلوس:"تعتبر ماليزيا مثالاً جيداً للدولة التي تميز فيها مسؤولوها بالدراية التامة بالتحديات المتمثلة في التغلب على الضغوط الناتجة عن معدلات النمو العالية والاحتفاظ بنظام مالي جيد وسط حركة تدفق كبيرة لرأس المال وسوق منتعش للعقارات والأملاك".
ومن الوسائل التي تبنتها حكومة محاضر لتحقيق هذه التحولات والنهوض من كبوة الأزمة المالية وفي الوقت نفسه المحافطة على الإنجازات التي تحققت بعد ذلك، حيث تم إقرار الكثير من الخطط والبرامج ودقة تنفيذها وتغليب المصلحة القومية على المصالح الفردية، ما طرحه محاضر من خطة خمسية اقتصادية بدأت عام 2001 حتى 2005 تحت شعار "نحو تحقيق تنمية ثابتة وقابلة للتكيف" وتهدف إلى الوصول بالناتج المحلي الإجمالي إلى 7.5% سنوياً، مقابل 4.7%، خلال فترات الخطة السابقة "1996-2000"، وبعد انخفاض متوسط دخل الفرد السنوي في عام 98، عاد ليتوقف عند 13.359 رينجكت"3.515 دولاراً" في عام 2000. وتجسد هذه الخطة جدية التحولات الاقتصادية الوطنية التي اقترحها محاضر للإحلال محل توصيات صندوق النقد الدولي لمساعدة ماليزيا على تجاوز محنتها النقدية، حيث شملت أكثر من 660 صفحة موزعة على 9 استراتيجيات كما ذكرها الدكتور محمد السيد سليم في مقال له عبر موقع "إسلام أون لاين":
أولاً: استمرار النجاح في إدارة الاقتصاد الكلي والسياسيات المالية، بهدف الوصول إلى اقتصاد معلوماتي البنية، مع نسبة تضخم منخفضة بدعم من قوة الطلب والاستثمار الخاص في الاقتصاد المحلي ونمو مستقر للاقتصاد العالمي، للعمل على إيصال متوسط دخل الفرد السنوي إلى 17.779 رينجكتاً ماليزيا " الدولار= 3.80 رينجكات" وخفض نسبة البطالة إلى 2.7% مع انتهاء فترة الخطة عام 2005.
ثانياً: تقوية البرامج التوزيعية للدخل من أجل مشاركة أكثر توازناً بين الجماعات العرقية، وبقاء أهداف الخطط السابقة لعلاج مشكلة الفقر، وخفض معدلات الفقر المدقع إلى أقل من 1% في 2005، وإعادة هيكلة التوزيع الوظيفي بين الأعراق والولايات بهدف بناء مجتمع عادل وموحد.
ثالثاً: تعزيز التنمية المدفوعة بالمزيد من التنافسية، من خلال تحسين مستويات، وأداء العمال والموظفين، ورفع مستوى البحوث والتنمية.
رابعاً: تعزيز التنافسية في القطاعات الاقتصادية الرئيسية مع تزايد حدة المنافسة بين الدول على جذب الاستثمارية وتسويق الإنتاج الصناعي والزراعي والخدمي، فالقطاع الصناعي الذي نما بنسبة 9.1% سنوياً خلال الخطة السابقة، يُتوقَّع أن ينمو بنسبة 8.9% خلال الخطة الثامنة، بسبب النقلة نحو تركيز التقنية وتقليل العمالة، بينما يتوقع أن ينمو قطاعا الخدمات والزراعة بنسبة 7.7% و3% فقط على التوالى.
خامساً: توسيع استخدامات " تقنيات الاتصال المعلوماتي"، وجعل ماليزيا مركزاً إقليميا ودولياً لخدماتها وانتاجها، مع العمل على توفير البيئة الدستورية والقانونية، بهدف تقليل الفارق الرقمي بين الفقراء والأغنياء، وبين القطاعات الاقتصادية، من خلال توسيع البنية التحتية الاتصالية.
سادساً: دعم تنمية الموارد البشرية، من خلال نظام تعليمي وتدريبي فعال، وبناء المزيد من المدارس، مع تطبيق نظام التعليم المركزي ومفهوم المدارس المتكاملة.
سابعاً: تحقيق مفهوم "التنمية المتوازنة والثابتة"، للاستفادة من ثروات البلاد بأقصى درجات الفاعلية والحفاظ على البيئة.
ثامناً: توفير فرص أفضل لجميع الماليزيين، لتحسين مستويات معيشتهم، وتوسيع حصول الطبقة الفقيرة وقسم من الطبقة المتوسطة – وهي الأغلب بين سكان المدن - على فوائد الخدمات العامة "التعليم والاسكان والصحة".
تاسعاً: استمرار التربية على السلوكيات الإيجابية والقيم الأخلاقية في حياة العمل والمعيشة، من خلال المنهاج التعليمي وبرامج خاصة للعاملين في المنظمات والمؤسسات الحكومية ومؤسسات الوعظ والإرشاد الديني ووسائل الإعلام، باعتبار أن وجود المجتمع المنضبط أخلاقياً والسكان المتحلين بقيم ومبادئ المعاملات المستقيمة هو الأساس لنجاح البلاد.
الفصل الثامن
التغلب على الأزمات المالية
احتلت ماليزيا مركزاً مرموقاً على خريطة العالم الاقتصادية وحصلت على المرتبة ‏17 في مجال التجارة الخارجية العالمية‏‏، والرقم ‏43‏ ضمن قائمة المائة دولة الأولى في العالم‏ حيث وصلت معدلات الادخار إلى ‏40%‏ من الناتج المحلي الإجمالي. وبذلك، استطاعت أن توباً فريداً ومتميزاً من الصعب تهميشه والمرور عليه دون تدوين تلك التجربة في مواجهة التحديات والضغوط الدولية ممثلة في البنك وصندوق النقد الدوليين‏،‏ وذلك من خلال تطبيق آليات فعالة ومؤثرة اختلفت عنها في الدول الآسيوية الأخرى في المنطقة التي تعرضت للأزمة
فالقيادة الماليزية انفردت بأسلوب وأداء خاصين لعلاج الأزمة كانا أحد الأسباب النفسية الهامة في التعامل مع المشاكل المستعصية ومنها الشفافية حيث اعترف الدكتور محاضر محمد بتأثير الفساد وانتشاره في بلاده وقال إنه لم يكن شيئاً جديداً على المجتمع الماليزي أو أي مجتمع آخر‏،‏ وإن الفساد لو كان موجوداً في ماليزيا منذ نحو أربعين عاماً‏،‏ فإن الانهيار الاقتصادي كان من الأوجب أن يحدث منذ هذا التاريخ وليس متأخراً في‏1997.‏ وتشير النتائج الأولية للخسائر التي تعرضت لها عملة دول منطقة جنوب شرق آسيا ومنها ماليزيا إلى أنت 40% من قيمتها خلال 6 أشهر فيما فقد "البات" التايلاندي 55% من قيمته والروبية الأندونيسية أكثر من 80%. وأدى ذلك إلى أن القوة الشرائية المفقودة بلغت نحو800 مليار دولار فيما انخفضت معدلات الدخل إلى النصف.
ولعل أحد أسباب نجاح محاضر في كسب حب الشعب هو في التغلب على المصاعب المالية وغير المالية التي واجهت البلاد وقيادة ماليزيا إلى بر الأمان بعد أن كانت مهددة بالزوال نهائياً عن الخارطة الاقتصادية العالمية بعد اجتيازه اختبار التعامل مع الكارثة المالية التي حلت بدول جنوب شرق آسيا عام 1997. فعلى الرغم من إطلاق ماليزيا عدة مشروعات ضخمة للبنى التحتية كلفت مليارات من عملتها الوطنية لم تكن هنالك زيادة ملحوظة في حجم القروض الأجنبية. وبالرغم من الأزمة الاقتصادية فلم تضطر الحكومة لوقف المشروعات الضخمة التي تقدر قيمتها بالمليارات.
وفي اعتقادنا أن الهجوم الذي شنه محاضر على مضاربي العملة وسياسة الصندوق والبنك الدوليين في التعامل مع الأزمة المالية عام 1997، له ما يبرره إذا ما وضعنا في الاعتبار الأهداف التي تسعى إليها تلك الجهات المشبوهة من خلال تجاربها المؤلمة من الدول الفقيرة، بل يمكن القول إن التجربة الماليزية في هذا المجال يمكن أن تكون مدرسة فكرية ومرجعية اقتصادية ناجحة للتعامل مع قضايا مالية واقتصادية في العديد من دول العالم الثالث ومنها الدول الإسلامية والعربية. لذلك نرى بأن الدكتور محاضر استطاع صياغة نظرية دفاعية وهجومية لمواجهة الأزمات الاقتصادية وتحقيق الرفاهية والانتعاش من خلال سياسة الرؤية الثاقبة الشاملة وفي الوقت نفسه وضع الاستقرار الاقتصادي والسياسي ضمن أولوياته القومية، إضافة إلى اتباع منهج الخطط البديلة بعيدة المدى من خلال تحديد الاستراتيجيات وفقا لمتطلبات الحالة الراهنة، ومنها على سبيل المثال رؤية الدكتور محاضر في انتهاج سياسة اقتصاديات السوق الحر فيما تتمكن الدولة من السيطرة والتحكم في الروافد الأساسية للأوضاع الاقتصادية في الدولة.
وما نشاهده على أرض الواقع الآن في ماليزيا من صحوة وانتعاش اقتصادي بعد كارثة كادت أن تدمر الدولة والشعب وتجعلهما في أسفل الهرم الاقتصادي العالمي والاجتماعي، ليس سوى غيض من فيض لجهود الحكومة الماليزية وسياستها بقيادة الدكتور محاضر الذي قاد حرباً ضروساً ضد تجارة العملة والمضاربين الدوليين الذين حققوا أرباحا خيالية بلغت نحو 5 مليارات دولار فيما خسرت دول جنوب شرق آسيا ‏300‏ مليار دولار وقد أدى ذلك إلى ضرورة عدم إبقاء الثروات القومية تحت سيطرة وهيمنة المستثمرين وفي الوقت نفسه تكثيف الجهود للقضاء بشكل نهائي على ار وتجارة العملات.
ومن الأسرار الكامنة وراء نجاح التجربة الماليزية قناعة القيادة بأبعاد ونتائج قبول مساعدات صندوق الدولي المتمثلة في أن تصبح أسيرة التدخل الأجنبي بأشكال متعددة لا تخلو من طابع السيطرة والهيمنة وفرض القرارات بما فيها السياة الوطنية التي تنفرد بأقرارها الحكومة الماليزية دون ضغوط خارجية، وهذا ما ادركت ماليزيا إنه لن يحدث إذا ما قبلت باقتراحات الصندوق الدولي. بعبارة أخرى، يمكن القول إن القيادة الماليزية انموذج يستحق التأمل من قبل المتابعين لشؤون الأسواق المالية الدولية‏،‏ فهي لم ترفض العولمة والرأسمالية رفضاً أيولوجياً‏،‏ وإنما تتحدث عن الرأسمالية المنصفة والعادلة‏، وفي خضم الوقائع والحقائق السالفة الذكر، يمكن تلخيص الدورس والعبر المستفادة من التجربة الماليزية في المجال الاقتصادي في أعقاب أزمة عام 1997، التي رسم سياستها وأشرف على تنفيذها بنفسه خطوة بخطوة ليل ن الدكتور محاضر محمد، حيث يمكننا القول إن النجاحات التي تحققت في هذا المجال ترجع في الأساس لأسباب شتى تأتي في مقدمتها الرغبة في العمل للتغلب على المشكلةً والإرادة الصلبة للقيادة والشعب، والاستفادة من تجارب الآخرين من خلال المتابعة الدقيقة لما يجري على الساحة العالمية في كافة المجالات وخاصة السياسية والاقتصادية.
وأورد محاضر الذي يرفض سياسات الهيمنة الغربية والأمريكية على اقتصاديات المنطقة وذلك منذ بداية الستينيات، مثالاً للسياسات المدمرة التي يهدف صندوق النقد الدولي لتحقيقها، ويتمثل ذلك فيما حدث للأرجنتين حينما أعلنت موافقتها على برامج الإصلاح التي اقترحها الصندوق الدولي وأدى ذلك إلى تدهور عملتها الوطنية بصورة سريعة وذلك بسبب ممارسات مضاربي العملات مما أدى إلى دخولها نفق الإفلاس المالي الذي أدى بدوره إلى زعزعة الاستقرار الداخلي بتفجر صراعات واضطرابات عنف في كافة مناطق الأرجنتين احتجاجاً على السياسة الإصلاحية الحكومية المستندة إلى نصائح الصندوق الدولي. كل ذلك ساهم بشكل كبير في ضعف التأييد الشعبي لتوجهات الحكومة في الأرجنتين.
أما السؤال الذي يطرح نفسه عند الحديث عن أزمة ما كان يعرف بالنمور الآسيوية، هو كيف استطاعت حكومة كوالالمبور الخروج من الأزمة الاقتصادية بأدنى الخسائرالاقتصادية وفي الوقت نفسه تفادي الانهيار الكامل على المدى للطويل للاقتصاد الماليزي؟
للإجابة على هذه التساؤلات لابد من القول إن القضية ليست بالأمر السهل بل من الصعوبة بمكان تصور الأجواء النفسية والاجتماعية علاوة على الوضع الاقتصادي والسياسي في تلك الفترة، بل أيضاً القدرة على استيعاب الدرس بسهولة وبمجرد قراءة سريعة لكتاب أو تقرير خاص بذلك، وإنما المطلوب في إعتقادنا ضرورة التقاء رجال وشخصيات عاشوا التجربة على أرض الواقع بكافة جزئياتها وتفصيلاتها في كافة الزوايا القريبة والبعيدة. ومن هنا نرى أن من أهم أسباب النجاحات ووجهها المشرق في هذا المجال الأسلوب الذي استخدمته ماليزيا في التعامل مع الأزمة منذ بداياتها وحتى الآن.
وفي هذا الإطار لابد من الرجوع لمواقف الرجل الذي استطاع بحكمته التي يشهد لها الجميع العدو قبل الصديق، حيث يفند الدكتور محاضر الهجمات الإعلامية والسياسية الغربية التي تتهم سياسته بالفساد والنزعة الديكتاتورية في الحكم بالقول إنه بالرغم من كل تلك المزاعم حققت ماليزيا نقلات نوعية وإنجازات قياسية في العديد من المجالات الاقتصادية والتجارية بلغت نحو 100 مليار دولار سنوياً وذلك من خلال الإصرار على حل المشاكل الداخلية بالطرق التي تناسب الظروف التي تعيشها بلاده إضافة إلى تنفيذ خطط وبرامج إصلاحية صارمة للنظام المالي والمصرفي ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
- جعل العملة الوطنية "الرينجكت" للمعاملات الداخلية فقط وغير قابلة للتحويل.
إنشاء "مجلس العمل الاقتصادي الوطني" ويعمل تحت الإشراف المباشر للدكتور محاضر ويتولى عمليات تنفيذ الخطوات الإصلاحية المناسبة لمواجهة تلك الأزمة.
إعادة هيكلة‏11‏ بنكاً من بين‏22‏ بنكا
منع تحويل العملة المحلية وتحديد سعر صرف ثابت لها يوازي ‏3.8‏ رينجكت مقابل الدولار الأمريكي ما عدا المطارات والموانئ، فيما تم السماح للتحويلات التجارية الخارجية عن طريق البنوك الماليزية الوطنية.
التروي قبل الإقدام على قرارات اقتصادية خارجية.
إصدار تشريعات للحد من ظاهرة ما كان يعرف بـ "الأموال السريعة" وفرض قيود لمنع الاستثمارية الأجنبية من شراء الشركات الوطنية.
جذب الاستثمارية الأجنبية وخاصة من أمريكا وسنغافورة واليابان.
دعم المشروعات المتضررة بفعل الأزمة من خلال شراء كافة الديون المعدومة.
إعادة هيكلة الديون وتوفير التمويل المناسب للبنوك.
منع اعادة تصدير السندات والأوراق المالية إلى بلدان المنشأ لمدة عام.
وبعد النجاح الذي حققته التجربة الاقتصادية الماليزية، لابد من الإشارة إلى الكيفية التي تمت بها معالجة الأزمة وبالتالي الخروج بعبر ودروس يمكن أن تكون مرجعاً مهما لسياسات دول العالم الثالث التي تشمل الدول العربية والإسلامية ويصبح من المفيد التعرض لأبرز مزايا التجربة الماليزية إنها إعتمدت سياسة طويلة الأجل انطلقت منذ السنوات الأولى للاستقلال عام 1957 بسياسات متعاقبة أهمها:
استراتيجية الإحلال محل الواردات، إذ انتقل الاقتصاد الماليزي من اقتصاد متخلف يعتمد على تصدير السلع الأولية إلى اقتصاد تحتل فيه الصناعة موقعاً متميزاً.
تشجيع الصناعات التصديرية خلال حقبة السبعينيات.
التركيز على التطوير والتحديث التقني، وتنمية رأس المال البشري من خلال تحسين هيكل المهارات لدى قوى العمل الماليزية، وفي الوقت نفسه تحفيز القطاع الخاص للقيام بأفضل الممارسات في عملية التصنيع والتصدير خلال النصف الأول من الثمانينيات.
ومن نافلة القول إن التجربة الماليزية تستحق منا الإسهاب والتفصيل لمعرفة الطريقة التي استخدمها محاضر للتغلب على الأزمات بل المعضلات المالية وتحديداً عام 1997 والنهوض مجدداً وتحقيق التنمية الشاملة التي عملت على رفاهية الشعب الماليزي وتوفير الخدمات اللازمة في كافة القطاعات. فانتقال ماليزيا من بلد يعتمد على الصيد والزراعة إلى دولة تحتل مرتبة رائدة في تصنيع وتصدير المعدات والآلات الكهربائية والإلكترونيات حتى صنفها تقرير التنمية البشرية الصادر عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة لعام 2001 في المرتبة التاسعة ضمن أهم 30 دولة مصدرة للتقنية العالية واحتلت مركزاً متفوقاً عن كل من الصين وإيطاليا والسويد·
وفي تناول أكاديمي لتجربة ماليزيا التنموية حددت الدكتورة نعمت مشهور،أستاذة الاقتصاد الإسلامي في كلية التجارة للبنات بجامعة الأزهر بعض العوامل التي ساهمت في تغلب ماليزيا على مشاكلها المالية ونجاحها في برامج التنمية الاقتصادية وتتمثل في:
1ـ تميز المناخ السياسي لماليزيا بالظروف المناسبة للإسراع بالتنمية الاقتصادية·
2 ـ اتخاذ القرارات دائماً من خلال المفاوضات المستمرة بين الأحزاب السياسية القائمة على أسس عرقية، ما جعل سياسة ماليزيا توصف بأنها تتميز بأنها ديموقراطية في جميع الأحوال·
3 ـ انتهاج ماليزيا سياسة واضحة ضد التفجيرات النووية، وقد أظهرت ذلك في معارضتها الشديدة لتجارب فرنسا النووية، وحملتها التي أثمرت عن توقيع دول جنوب شرق آسيا العشر المشتركة في " تجمع الآسيان" عام 1995 على وثيقة إعلان منطقة جنوب شرق آسيا منطقة خالية من السلاح النووي وقد ساعد هذا الأمر على توجيه التمويل المتاح للتنمية بشكل أساسي بدلاً من الإنفاق على التسلح وأسلحة الدمار الشامل·
4 ـ أصبحت ماليزيا ضمن دول الاقتصاد الخمس الأولى في العالم في مجال قوة الاقتصاد المحلي·
5ـ إنتهجت ماليزيا إستراتيجية تعتمد على الذات بدرجة كبيرة من خلال الاعتماد على سكان البلاد الأصليين الذين يمثلون الأغلبية المسلمة.
6 ـ اهتمام ماليزيا بتحسين المؤشرات الاجتماعية لرأس المال البشري الإسلامي، من خلال تحسين الأحوال المعيشية والتعليمية والصحية للسكان الأصليين، سواء كانوا من أهل البلاد الأصليين أو من المهاجرين إليها من المسلمين الذين ترحب السلطات بتوطينهم.
7 ـ إعتماد ماليزيا بدرجة كبيرة على الموارد الداخلية في توفير رؤوس الأموال اللازمة لتمويل الاستثمارات حيث ارتفاع الادخار المحلي الإجمالي بنسبة 40 % بين سنة 1970 وسنة 1993، كما زاد الاستثمار المحلي الإجمالي بنسبة 50 % خلال الفترة عينها.
ومن جانبه يرى الدكتور محمود عبد الفضيل أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة، إنه إضافة إلى الأسباب السابقة هناك عوامل أخرى ساهمت في نجاح التجربة الماليزية، أوردها فيما يلي:
1 ـ تعامل ماليزيا مع الاستثمار الأجنبي المباشر بحذر حتى منتصف الثمانينيات، ثم السماح له بالدخول ولكن ضمن شروط ألا تنافس السلع التي ينتجها المستثمر الأجنبي الصناعات الوطنية.
2 ـ امتلاك ماليزيا لرؤية مستقبلية للتنمية والنشاط الاقتصادي من خلال خطط خمسية متتابعة ومتكاملة منذ الاستقلال وحتى الآن، بل استعداد ماليزيا المبكر للدخول في القرن الحالي الواحد والعشرين من خلال التخطيط لماليزيا 2020 .
3 ـ التنوع الكبير في البنية الصناعية وتغطيتها لمعظم فروع النشاط الصناعي " الصناعات: الإستهلاكية - الوسيطة - الراسمالية".
وتقول الدكتورة نعمت مشهور:" التنمية في ماليزيا تجربة ناجحة واتفقت إلى حد بعيد مع مبادئ وأسس الاقتصاد الإسلامي، وإن لم يتم الإعلان صراحة عن هذا الآنتماء· فقد إهتمت ماليزيا بتحقيق التنمية الشاملة لكل من المظاهر الاقتصادية والاجتماعية، مع الموازنة بين الأهداف الكمية والأهداف النوعية، مع الاهتمام بهذه الأخيرة"· وتدلل الدكتورة نعمت مشهور على ما ذهبت إليه من خلال ما يلي:
تحقيق العدالة بين المناطق في مجال التنمية المادية، فازدهرت مشروعات البنية الأساسية في جميع الولايات.
وأكبت التنمية الماليزية المبدأ الإسلامي الذي يجعل الإنسان محور النشاط التنموي وأداته، فأكدت تمسكها بالقيم الأخلاقية والعدالة الاجتماعية والمساواة الاقتصادية، مع الاهتمام بتنمية الأغلبية المسلمة لسكان البلاد.
انتهجت ماليزيا استراتيجية الاعتماد على الذات في الاضطلاع بالعبء التنموي، سواء
 
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف